( 63 ) أحزان الأعوام العشرة
1-صفحة أولى :
عاتبَني قلبُكِ
طوّقَني حبُّكِ
ألقيْتِ بكارةَ قلبِكِ في الماءِ الآسِنِ ، فارْتَدَّ البصرُ كليلا ، فأخذتُكِ في منتصَفِ الدّهشةِ ، وركِبْنا ظهْرَ جواديْنِ نحيليْنِ ، مشينا بيْنَ ضِفافٍ وإوَزٍّ ونخيلٍ ، كانَ الشفقُ الأحمرُ يُلقي بنداوتِهِ الطّللِيَّةِ في فتحةِ صدرِكِ ، وأيائلُ تمرحُ في جنبيْنا ، وهمزْتُ جوادَكِ فتساقطَ رُمّانُكِ في كفَّيَّ شهيًّا ، تذكُرُ إذْ طارَدَنا الليْلُ ، وكنا نركُضُ خلفَ يمامٍ .. ملأ الصوتُ فضاءَ القلبِ ، وكنتُ أُداعبُ قطّتكِ النائمةَ على الصَّدْرِ .. الماءُ الآسِنُ يتفجَّرُ في أوردتي ، ونبيذُكِ في العُنقودِ مُضاعٌ ، لي ليْلٌ ، لي شوْقٌ ، لي جُرْحٌ مُرْتابٌ في الصَّدْرِ وحظٌّ عاثِرْ
…
ألقيْتِ بكارةَ جسمِكِ في مائي الدّافقِ ، فاهتزّ القلبانِ ، وغنَّتْ في الأيْكِ قطاةُ
واحْتشَدتْ في الأُفْقِ فراشاتُ !
2-تجليات ليلية :
أُعانِقُ خيماتِ شعرِكِ
.. هذا الدّمُ الملَكيُّ
يفيضُ على وجنتيْكِ
فأمسِكُ غُدرانَ طيني عنِ البوْحِ لكْ
*
أقولُ : خُذيني
إلى قَمَرٍ في السماءِ البعيدَهْ
ولا تُوصِدي البابَ دوني
ولا تحجبي الضَّوءَ قبلَ انبثاقِ القصيدهْ
بأرضي العنيدهْ !
3-هيّا .. خُذيني :
.. وأصحابيَ البُلْهُ ..
ينتظرونَ ربيعاً من القطْرِ ،
دوراً من الوشْيِ
ينتحبونَ طويلاً
إذا فاجأَ القلبَ قوْسٌ من النَّكْبةِ السّالِفَهْ
.. فأدخلُ بوّابةَ الرُّوحِ
أهتِكُ ستْرَ التَّهتُّكِ
أرقُبُ ريحاً من البَلَدِ الطيِّبِ:
انتشِروا في الصَّحارى
يُؤازرُكمْ سرُّ أحمدَ ،
طيْفٌ من النُّورِ
تأخُذُني رعْشَةٌ واجِفَهْ
هاجسٌ يعتريني
.. شميمٌ من الجنةِ الْتفْتحُ القلْبَ
.. هيّا خُذيني ..
4-السراب :
إلامَ الحزنُ يرْمينـــا بنـابِ
وروحي ما دَهاها منْ خَرابِ ؟
وكنتَ تسوقُ لي لفْظاً جميـلاً
فيعْلو بي إلى قممِ السَّحــابِ
وتهْديني شَرابَ الوَصْلِ أغْفو
فلا أرنو لطعْنــاتِ الحِرابِ
*
أَأُبْصِـرُ خلْفَ هذا النَّهْرِ سُمَّا
قديماً في الثَّنايـا والإهـابِ
ولفْظاً شِيبَ بالمكْرِ امْتطتْـهُ
صوارِفُهُ ، وخودعَ بالسَّرابِ ؟
*
دموعُكَ لمْ تكُنْ يوْماً كتابي
فهـلْ يُجْدي بكاؤكِ بالعـذابِ
سنـابلُ صيْفِنا ترْثي لصَبٍّ
مـع الأيّامِ يقْضي في اغْتـرابِ
وأعْرافُ الصَّبابةِ في المـآقي
وأحْــداقي تُبَـاغَتُ بالضَّبابِ
ونَصْلُكِ في الْحَشا قلْ كيف أصحو
على لـذْعاتِ قحْطٍ في الرُّضابِ
ووجْهُكِ في المـرايا نصْفُ بدْرٍ
معَ الأطيــافِ يحْلُمُ بالمـآبِ
كزنْبَقةٍ تُعانِقُ صمْـــتَ قلْبٍ
وخوْفي لا يُبدِّدُهُ اكتئــــابي
*
شموسي في الفَضا .. تبكي غِياباً
يُعلِّقُني بأوْهـــــامٍ عَذابِ !
أكنتَ الشُّهْدَ أمْ سُمًّا زُعــافاً
أكنتَ المـوْتَ يعصِفُ بالعُبابِ ؟
طقوسُ الحزنِ في صُبْحٍ مُعـادٍ
أتخطـفُ صبْوتي وأقـولُ ما بي ؟
وأقرأُ هانئاً أطْيـــافَ قلْبٍ
وفاتحــةُ الحِدادِ .. تدُقُّ بابي ؟ !
5-صحوة أخرى :
*قولي : غيومُكِ لمْ تُلامسْ عُشبَها المُصفرَّ في ثَبَجِ المسافاتِ التي تفْتَرُّ عنْ روحٍ تُقارفُ بوْحَها الدَّفّاقَ في ليْلِ الهزيمةِ والسُّقوطْ .
*هذا صباحُ الحزنِ يأخذُني إلى دَرَكِ المفازاتِ التي ضلَّتْ بها تلكَ الخيولُ اليعربيَّةُ ، هلْ تريْنَ خِيانتي للعُشْبِ ، والأسماكُ تفضحُ ما تُخبِّئُهُ العواصفُ والرُّعودُ فلا تؤرجحُك الخيوطْ .
*هذا قِطافُ الوقتِ بيْنَ يديْكِ ، زنبقةُ الخروجِ تُراوِدُ المكْلومَ عنْ جُرْحِ المنافي ، والسؤالُ يغوصُ في الجرحينِ : "كمْ يمضي بنا هذا المَلالُ " ، وأنتِ في رَهَقِ البشارةِ تشهدينَ : "شوارعُ النسيانِ ترفعُ رايةَ العِصيانِ ، تزْخرُ بالقنوطْ !
6-ذهول :
العاشقانِ الصَّـابرانْ يتأمّلانِ ويـذهـلان
وتغيمُ في العينِ الرُّؤى يتناوحــانِ ويبْكيانْ
في القلْبِ رُبعُ حقيقةٍ وعلى الحوائطِ دمْعتانْ
النَّايُ يحْكي ذاهِــلاً ما لمْ تقُلْهُ المٌقْلتــانْ !
هلْ تقدرٌ الكلماتُ أنْ تهبَ الخُطا نبْضَ الأمانْ
تُعطي الفــؤادَ يقينَهُ في الحبِّ والغَدِ والأمانْ
*
بيني وبيْنَكِ خُطْوتـانْ بيْني وبيْنَكِ فجْوتـانْ !
عيْناكِ بالـدَّمِ تذْرفانْ والخطْوُ مشْلولٌ جبـانْ
ماذا أرى ؟ عيناكِ بالـ ألمِ الدَّفينِ تُصَرِّحــانْ
7-القنوط :
قلتُ لكمْ :
إنَّني لسْتُ ..
لا .. لا
تُفاجئُني بالدّخولِ المُباغِتِ
لا .. لستَ أنتَ
فكيفَ تُضيءُ الكتاباتُ رغمَ رحيلكَ عنِّي
وكيفَ ستُنْشِئُ ذاكرةً للحكاياتِ ..
تدخلُ غمْغماتِ التمنِّي
8-يمشي ، يُرافقُهُ الصمتُ ! :
يمشي وحيداً يُرلفقُهُ الصَّمتُ
في حُلْكةِ الدَّهشةِ الدّاجِنهْ
حواليْهِ :
برْدٌ ،
وثلْجٌ ، وحزنٌ ثقيلٌ
وبعضُ بقايا من الحُلْمِ ،
والرّعشةِ الواهِنَهْ
يُخبِّئُ في معطفيْهِ الصَّواري
وأشواقَهُ ،
والربيعَ الجميلْ
*
قصائدُهُ ذاهِلَهْ
هوادِجُ أشعارِهِ مُثقَلَهْ
بِحُداءِ الرحيلْ
حبيبتُهُ نائمَهْ
في البَهاءِ الظَّليلْ
فيا وجْهَها الطللِيِّ أجِبْني
ويا أيُّها الصمتُ دعْني
وإلاّ
فصَبْرٌ جميلْ !
9-أحزان الأعوام العشرة :
بعدَ مرورِ الأعوامِ العشرةِ مازالتْ صبْوتُها في القلبِ ، ومازالَ الصوتُ الفضِّيُّ يرنُّ بأُذنيَّ ، ويسألُني عنْ سببِ شرودي : (أكتبُ فوقَ الجدرانِ : "ظلامُ الليلِ الحالكِ لنْ يُبعِدَني عنْكِ") ، وأكتبُ فوقَ الطُّرقاتِ : "أعيشُ جنونَ هواكِ ، ولا أخشى ـ بلْ أهوى ـ الموْتَ ، فقدْ يُبعِدُني عنْ أحزاني ، قدْ يُدنيني منك".
بقعُ الدَّمِ تطفو فوقَ العيْنيْنِ ،
دموعٌ فوقَ الخدَّيْنِ ،
وصوْتُ نشيجِكِ يعْلو "إنّي أرثي نفسي" .. فدعيني أكتُبْ عنْ عصفورٍ غابَ عن الأيْكةِ زمناً
ـ افتحْ عيْنيْكَ ، وعِشْ حرماني
ـ أنتَ النهرُ العذبُ … فهلْ يحتملُ النهرُ قليلاً منْ أدْراني ؟
…
أتجودُ الأيامُ وتمنحُنا الأمنَ فلا نُبصِرُ أشباحَ الخوْفِ تُزمجرُ في الطرقِ الوعرةِ (ذاتُ الصوتِ الفضِّيِّ تعودُ ، أُحسُّ كأنّي طفلٌ ألهو في طُرُقِ النشوةِ ، وسمائي لا حدَّ لها) ، كانتْ تلبسُ ثوباُ أبيضَ ( هذا وجهُكِ يأْسِرُني ، وعروسي منْ عشرةِ أعْوامٍ تضحكُ ، تغزلُ ثوبَ الماءِ الدّافِقِ للعُرْسِ) .. تعاليْ تتداخلُ في الذّاكرةِ الصورُ : الصحراءُ ، القلبانِ ، القوْسُ ، ابنُ الخطّابِ ، سِماطٌ يمتلئُ بلحْمٍ مشويٍّ في عامِ القحْطِ ، أهذا عامُ الحزنِ ؟ رعاةُ البقَرِ يجيئونَ ، هنودٌ حُمْرٌ ، أفراسٌ تعْبُرُ نهْراً ، معركةٌ فاصِلةٌ ، موسى يعبُرُ أعوامَ التِّيهِ ، وإسرائيلُ التَهمَتْ لُبنانَ ، التهمَتْ تُفّاحةَ بيرتَ ، و"بدْرٌ" تتلاشى في "كأسِ العالمِ" . في "الأندلسِ المفقودِ" ليالي النشوةِ تتْرى ، فازتْ إيطالْيا / باوْلو روسِّي ـ معشوقِ النسوةِ ، "رمضانُ" يضيعُ ، وشارونُ يُضاجعُ بيروت ، و"ياسرُ" يخرجُ ، "حاوي" ينتحِرُ ، ونحنُ نُصفِّقُ للأهدافِ النّاريَّةِ إذْ تقتحِمُ المرْمى !!
…
بُقَعُ الزَّيْتِ على الماءِ تُسمِّمُ موْردَنا العذْبَ ، الوجهُ الأخضرُ يسألُ : "أين سنسكنُ يا أيوبُ ؟" .. ويضحكُ : "عُشُّ العصفورةِ يكفينا" .
(سخِرتُ ) : "هذا في أُغنيةٍ تترَدَّدُ في المذياعِ كثيراً"
مشِيا متَّحديْنِ ، ومُمْتزِجيْنْ
بحَثا في الحاراتٍ المُكْتظَّةِ بالرَّوْثِ ، وبالأطفالِ ،
وبالجوعِ المارِدِ
عنْ عُشٍّ للعصفوريْنْ
عاصِفةٌ في الأُفْقِ تُباعِدُ ما بيْنَ الرُّوحيْنْ !
ديرب نجم 5/7/1982