الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 19

الموضوع: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد

  1. #1 النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19

    النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد
    الدار بوضع اليد
    ..............
    في آخر زيارة لقريتك (قرية «السلام») التي لم تكن مُسالمةً أبداً معك، قالت سميرة، وهي تحرص على أن تبدو أساورها من يديْها السمينتيْن:
    ـ الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
    وقالت وهي تبتسم:
    ـ لو أنصفتَ لتركتَ نصيبَك في الدار لي!
    ـ نصيبي؟
    أول مرة ترى ـ يا أستاذ حسني ـ امرأةً في «السلام» تُطالب بنصيبها في دار أبيها!
    .. وجاءك الحاج محروس خطّاب الذي يقول عن والدتك إنها عمته ليراودك على بيْعِ بيتك .. وليتفق معك على قتلك! .. فهل تبيع البيت الذي بنيْته من ثلاثة أعوام مع والدك طوبةً طوبةً؟!! .. قبل أن يموت بشهرين.
    جاء إليْكَ محروس الأصفر ـ كما يسميه أبناء قريتك .. ـ فلم يجدك قد عدت من مدرسة الأمة الإعدادية بالزقازيق، التي تُدرِّسُ فيها الرياضيات، فاستعار كرسيا من «سمسم» الساعاتي الملاصق لشقتك التي استأجرتها من الباطن ـ وجلس أمام البيت!
    حينما رآك الأصفر اعتدل واقفاً، وقال:
    ـ أنا منتظرك من ساعة يا أستاذ حسني!
    أنت لا تحب هذا الرجل .. رغم أنه من جيل أبيك، وأنت من جيل ابنه «بدران» الذي رسب عاميْن في الصف الأول الثانوي، فالتحق بالكُتَّاب العسكري، وكرر مسيرة أبيه الذي لم يتخطّ الشهادة الابتدائية في الأزهر الشريف .. لكنه عمل بعد ذلك «مُحفظا للقرآن الكريم» بمعهد الفتيات بالقرية!
    قلت وأنت روحك في أنفك:
    ـ خير .. إن شاء الله يا حاج محروس!
    وكأنك تقول له بالعربي الفصيح: لا يأتي من ورائك خير أبداً يا حاج محروس!
    بنتك سمية ذات الأربعة عشر شهراً مريضة من خمسة أيام، كانت كالوردة تملأ حياتك بهجة، لكن الساقيْن كفتا عن الحركة، والدكتور جودة عمار طبيب الأعصاب الشهير بالزقازيق .. قال لك أمس في جرأة يُحسَدُ عليها: لا أمل في الشفاء! ولكن من الممكن أن يأتي العلاج الطبيعي معها ببعض الثمار، فتستطيع أن تتحرك على كرسي ذي عجلات وتخدم نفسها بعد مدة من العلاج قد تطول أو تقصر!
    قلتَ في حزن:
    ـ هل ستعيشُ سميةُ عرجاءَ مشلولةً؟!
    قال الحاج محروس الأصفر:
    ـ أخواتك بعن البيت! ولم يبق إلا أنت!
    ـ أي بيت؟
    ـ بيتكم في «السلام».
    ابتلعْتَ ريقك وقلتَ في غضب تُحاول أن تكتمه:
    ـ كيف بعن .. وعقد ملكية البيْت معي؟!!
    ـ أنت متعود على ألاعيب أخواتك البنات، اللاتي تركت لهن القرية، وأقمتَ في البندر.
    ـ لمن بعن؟!
    ـ فهيمة باعت لسميرة، وحمدية لسوسن.
    أنت وسميرة وفهيمة من أم، وحمدية وسوسن شقيقتان!
    أخليتَ في وجهك مكاناً للغضب:
    ـ وكيف صار شكلُ البيت؟
    ـ كما هو !!
    ـ كيف؟!
    ـ أنت تعرف أن البيت واسع .. مبني على قيراط ونصف، ويمكن تقسيمه!
    وجدك تبصق في منديلك الورقي بصوتٍ عالٍ، فأضاف وعيناه في الأرض:
    ـ سوسن أخذت الحجرتين الشرقيتين والزريبة، وفتحتْ لهما باباً في الجهة البحرية.
    ـ وسميرة؟!
    ـ سميرة تقيم في البيت كما تعلم!
    خرجت منك ضحكة مجروحة! .. وتذكرتَ أنها قالت لك بلهجةٍ سوقيةٍ حينما طلبتَ منها الخروج من البيت:
    ـ نعم يا حبيبي؟ .. لن أخرج أبداً .. الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
    رآك الأصفر مشغولاً فأضاف، وكأنه يذكِّرك ما نسيت:
    ـ أنتم إخوة من أم واحدة، هي عمتي «خديجة» رحمها الله.
    وعاد يؤكِّد على كل حرف:
    ـ قفا أنت وفهيمة بجوار سميرة، حتى تستريح عمتي «خديجة» في قبرها!..
    وسكت هنيهة فبل أن يسأل:
    ـ ما رأيك؟ ..
    لم ترد، كانت الأشباح تتراقص أمام عينيك، ولوْ كانت سميرة وفهيمة أمامك لقتلتهما في الحال!
    عاد يتحدث في كلمات متقطعة:
    ـ سميرة تقيم في البيت كما تعلم من سنتين!
    ـ أنا الذي سمحت لها بالإقامة في البيت بعد أن انعزل زوجها عن أسرته .. وليتني ما فعلت ...
    تذكّرت أنك تركتَ البيْتَ بعد أن تزوّجت بستة أشهر، حينما نقلتَ إلى مدرسة الأمة بالزقازيق، فكان من الأسهل لك أن تنتقل إلى ديرب نجم، وتسافر يومياً إلى الزقازيق، بدلاً من أن تبقى في «السلام».
    توقفت عن الكلام، فزاغت عيناه، وهو يرى أن مهمته المقدسة في إخراجك من البلد لم تتم!
    وجد عينيك محمرّتين، فقال:
    ـ أستاذ حسني .. هل أجيء لك مرة أخرى؟ .. هل جئتُ لك في وقتٍ غيرِ مناسب؟
    قلتَ في غلظة:
    ـ البنت التي لم تتم عاماً ونصف عام مشلولة.
    قال في إشفاق حقيقي:
    ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. لم أعلم .. كان الله بعونك .. متى تم ذلك؟
    ـ من خمسة أيام.
    ـ ربنا يشفيها!
    ـ لكن الساقيْن كفتا عن الحركة!
    ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. يمكنني أن أمر عليك في يومٍ آخر.
    وأدار ظهره ومشى عدة خطوات، لكنه عاد:
    ـ أستاذ حسني .. ليتك تذهب ببنتك للدكتور أسامة علوان في القصر العيني .. فهو أستاذ كبير في الأعصاب .. سأرسل لك ورقة بعنوانه حينما أعود للسلام .. ذهبتُ له عدة مرات مع بعض المرضى من أقاربنا.
    ـ لا ترسل، فأنا معي عنوانه، وسأذهب له غداً.
    ـ بالتأكيد؟
    ـ نعم، لقد طلبتُ إجازة من المدرسة لآخذ البنت وأذهب له.
    قال بصوت منخفض، قبل أن يُدير رأسه للطريق الذي سيسلكه عائداً دون أن يخلع جذرك من القرية:
    ـ أنا آسف يا أستاذ حسني .. أنت تعرف أنني أقف مع سميرة بنت عمتي .. ويهمني أمرُها.
    قلتَ له والقرف يُضمِّخُ كلماتك:
    ـ أنا أيضاً ابن عمتك يا حاج محروس!
    لم تحب أن تتجادلَ معه، وانطلقتَ للشقة التي يستأجرها زميل لك سافر إلى ليبيا بعشرة جنيهات، واستأجرتَ حجرتيْن منها بأربعة جنيهات، بعد أن كدّس أثاثه في حجرتين من الشقة وأغلقهما!
    لحقك الحاج الأصفر وقال:
    ـ أريد كوب ماء .. حلقي جف من الحزن على ابنتك الصغيرة .. أريد أن أراها أيضاً لأطمئن عليها.
    ورفع يده متمتماً بصوت دعاءٍ خفيض: «ربنا يشفيها».
    ـ سمية ليست موجودة .. هي وأمها عند حماتي .. لأن البنت لا تجعل أمها تنام في الليل!
    ـ أشربُ ماءً إذن .. وأجلس معك خمس دقائق!
    دخلتَ الشقة وأنتَ متعب يتبعك الحاج محروس الأصفر بخطواته الدؤوب .. وجدتَ المذياع مفتوحاً على إذاعة القرآن الكريم .. يبدو أن زوجتك نسيته مفتوحاً حينما خرجت بعدك تحملُ البنت إلى شقةِ أمها ثم تذهب لمدرسة التجارة الثانوية للبنات التي تعملُ مدرسة لمادة المُحاسبة بها ..
    يا كم تعبتَ يا حسني من الساقية التي تدورُ فيها كالثور!
    تخرج كل صباح في السابعة إلا ربعاً من ديرب نجم لتذهب إلى مدرستك في الزقازيق التي تبعد عشرين كيلاً عن ديرب نجم .. وتدريسك في الزقازيق حرمك من الدروس الخصوصية في مادة الرياضيات .. فلم تشعر بوفرة أبداً رغم أنك مدرس من أربعة أعوام .. الثلاجة عطلانة من أسبوعين، والبنت مريضة، لا شك أنك ستستدين خمسة عشر جنيها لتكون معك وأنت ذاهب للطبيب غداً .. رحماك يا رب!
    أجلستَ الأصفر في الصالون، وأحضرتَ له كوب ماء من الصنبور.
    خلع حذاءه، وتنحنح:
    ـ ليتك تعمل خيراً .. وتبيع نصيبك لسميرة يا أستاذ حسني!
    تفلت يساراً على الأرض في قرف حتى يحس بجرمه في حقك. لماذا يريد هذا الرجل أن يخلعك من القرية؟ .. ابتسمت له ابتسامة صفراء كلقبه الذي يحمله على كتفيه:
    ـ أنت يا حاج محروس تريد أن تقتلع جذوري من السلام .. ما مصلحتك في ذلك؟
    قال في وقاحة:
    ـ سميرة ابنتي وابنتك!
    ـ هي ليست ابنتي .. هي أكبر مني بعاميْن .. وحينما طلبتُ خروجها من البيت في آخر زيارة ردَّتْ بوقاحة، وقالت:
    ـ الدار بوضع اليد، ولن أخرج منها.
    قال متراجعاً:
    ـ فهيمة شقيقتكما الكبرى باعت نصيبها لسميرة .. بع لها أنت الآخر .. أنت ابن حلال!
    وكأنك ستكون ابن حرام إذا لم تبع لسميرة!
    نطقتَ في استسلام، وكأنك ترفع الراية البيضاء:
    ـ هذه أول مرة في قرية السلام يخرج الرجل من دار أبيه لتقيم فيها البنت!
    لم يعلق على ذلك، بل قال وكأنه يلقي حجراً:
    ـ هل قلتُ لك السعر؟!
    ـ لا .. للأسف.
    ـ أنت ستأخذ مائة وستين جنيها، فقد قدرنا السدس بثمانين جنيهاً، وأنت لك السدسان.
    قلتَ وأنت تتثاءب وتخلع رجليك، وتمدهما على المنضدة أمامك، ولا تأبه بنظراته الغامضة التي لا تكشف عن معنى!:
    ـ موافق يا حاج محروس .. لكن لتتذكر دائماً أنك أنت الذي خلعتني من القرية!
    قال في برودة يُحسد عليها:
    ـ أنت تقيم في البندر .. وتعمل في الزقازيق .. وإقامة سميرة في البيت أفضل من إغلاقه! .. حينما تجيء للقرية في عيد أو عزاء ستجد الدار مفتوحة!
    أضاف وهو ينظر إلى النافذة:
    ـ هل تجيء إليْنا غداً بعد أن تعود بالبنت ـ شفاها الله ـ من القاهرة لنكتب العقد؟!
    قلتَ في ضعفٍ وانكسارِ من يفقد بيته للأبد:
    ـ على بركة الله .. سأجيء يوم الجمعة في العاشرة صباحاً لأوقع لك العقد، بعد أن آخذ النقود على داير المليم الواحد.
    ابتسم، وهو يحس بنشوة انتصار:
    ـ كنتُ أقول دائماً إن الأستاذ حسني ابنُ حلال .. وسيبيع نصيبه في البيت لشقيقته سميرة!
    لم تعقب، فأضاف:
    ـ نصلي الجمعة معاً، ثم نتناول الغداء في بيتنا.
    وقال كأنه يذكرك بصديق عزيز:
    ـ بدران يسلم عليك .. هو في إجازة الآن!
    قلتَ بصوتٍ لا أثر للمجاملة فيه:
    ـ بل أُصلي في ديرب نجم، لأن زميلاً لي من القناطر سيزورني، ويُصلي معي الجمعة.
    وكأنك نسيت شيئاً عظيماً، ذكرك به:
    ـ بدران يهديك السلام.
    ـ بلغه تحياتي واعتذاري عن الصلاة والغداء عندكم.
    لم يُبدِ تصميماً على دعوته للغداء!!
    واستأذن محروسُ الأصفر منصرفاً، وهو يحس أنه قام بدور بطولي من أجل سميرة بنت عمته خديجة وزوجها صبري الذي يعمل في ليبيا ويُرسل لها النقود لتشتري نصيب كل أخوتها في دار أبيها لابنهما هيثم، وبنتهما الرضيعة شريهان .. وكأنك يا حسني لستَ ابنَ عمته!
    أغلقتَ المذياع .. ووضعت مخدة تحت رأسك .. على كنبة الصالون.
    وحاولتَ أن تنام!!

    الرياض 30/3/2005م
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    عرض موجز لموت زرقاء اليمامة
    ........................................

    هل مازلت تذكر زميلتك حياة؟
    اليوم يمر ثمانيةٌ وعشرون عاماً على رحيلها..
    كان أبوها يلقننا مادة التاريخ في تجرد وإخلاص، وبصوته المبحوح يطلب منا ونحن وقوف في طابور الصباح في المدرسة الثانوية المشتركة أن نكون رجالاً، ولا ننظر إلى العناكب التي سدَّت عليْنا الأفق بعد هزيمة يونيو 67، وأن الانتصار قادمٌ .. قادمٌ!
    يقول لنا ذلك في خطبته الأسبوعية التي يُلقيها صباح كل أحد، وقد اختار يوم الأحد لأنه يوم السوق الذي يُقام في مدينتنا الصغيرة، ويفد الفلاحون من قرى المركز للبيع والشراء لما يحتاجونه لمدة أسبوع .. اختار هذا اليوم ليُلقي خطبته في طابور الصباح من الإذاعة المدرسية لعل أحداً يسمعها خارج أسوار المدرسة فيفيد منها؛ فتكون الفائدة مزدوجة من الخطبة: داخل المدرسة، وخارجها!
    كان يقول: إن المدرسة مركزُ إشعاع في البيئة.
    وكان يدرِّس التاريخ وكأنه يدرس تلاميذه قصة عشقه!
    ...
    رأى اليهود وهم يستحمون في القناة، فلم يأبه!، وقال: سنراهم قريباً يندحرون!
    ورأى الأريكة المريحة وهي تتهاوى تحت مقعدة السلطان الكهل، فلم يحفل، وقال: مصر ولادة!
    ورأى من يسرقون في بداية عهد الانفتاح السعيد «وكان حياة قد رحلت، وبدأ يفقد نور عينه اليمنى»، فقال: عابرون .. لكن عليْنا أن نتصدّى لهم .. ونقف في وجه شرههم.
    ...
    ماذا فعلت بك الحياة يا أبا «حياة»؟.
    حينما ماتت ابنته «حياة» .. في 15 مايو 1971م، يوم «ثورة التصحيح» المباركة التي قادها السادات، ونحن في نهاية السنة الثالثة من دراستنا الجامعية (وقد كانت زميلتي في المدرسة الثانوية المشتركة التي كان أبوها يُلقننا التاريخ!، كما كانت زميلتي في قسم التاريخ بجامعة القاهرة) ... هتف الأستاذ ونحن على رأس المقبرة نواريها التراب:
    ـ أين ذهبتِ وتركتنا يا حياة؟
    .. ورأى الآفاق مترامية كجراحه التي لا تبرأ!
    قتلتها سيارة طائشة في ميدان رمسيس وهي في طريق العودة إلى القرية، بعد أن انتهت امتحاناتنا، وكانت أمها قد ماتت قبلها بعامين ونصف أثر دخولها الجامعة.
    كنتُ بجوارها ساعة الوفاة!
    حاولنا إنقاذها، ولكنها ماتت قبل أن تصل إلى مستشفى «الجلاء» المُجاور لميدان رمسيس.
    لم يعد أستاذنا يتكلم، بعد موت «حياة»، وقد كان متحدثاً جميلاً ومشرقاً.
    كان يردد دائما، أمامي:
    ـ لا أدري لمَ لمْ تعطِ الحياةُ فرصتها لحياة؟! .. هل لأن القبح والدمامة صارت لهما الغلبة في الحياة؟ .. أم أن في اختفائها إشارة لاختفاء العقل والمنطق من حياتنا؟!
    التحقنا أنا وهي بقسم التاريخ، لنكمل مسيرة والدها الذي انشغل بالتدريس ولم يؤلف إلا كتاباً واحداً عن «تاريخ العسكرية المصرية» من عهد مينا موحد القطرين إلى قيام ثورة 1952م.
    ...
    كنتِ ـ يا حياةُ ـ قادرةً على الرؤية البصيرة .. مثل زرقاء اليمامة، لكنك لم تتنبهي في تلك الأيام لمقاطع الهزيمة التي يمتلئ بها كتاب راهننا!
    هل كنتِ تخافين أن ترديك الكلماتُ الجاهلةُ الفاجرةُ في بركةٍ من الأسى الدائم ... فطال صمتُك وأنت المتحدثة .. واكتفيْتِ بصحف الحائط التي كنتِ تصدرينها في الجامعة؟ ..
    لماذا توقفتِ بعد عدة أعداد .. وآثرتِ الصمت الدائم؟!
    وكنتِ لا تتحدثين إلا في الجلسات الصغيرة التي تضمنا مع والدك، أو في قاعة الدرس.
    كنتِ تبصرين النصر قادماً، وتبصرين بعده أثرياء الحرب (الذين أسميناهم بعد الانفتاح السعيد ـ بعد رحيلك ـ «القطط السمان»)، وكنت تُشيرين إلى اختفاء الطبقة الوسطى، بعد مجيء أثرياء الحرب الذين لا يملكون قيماً، أو إرادةً لنهضة البلد!
    كنتِ الأولى عليْنا في السنوات الثلاث، التي عشتِ فيها معنا في دراستنا الجامعية .. بعد النكسة القاتلة.
    وكنت تُحاولين أن تظهري أمام زملائك وزميلاتك مرحةً في ذلك الزمان (رغم الحزن البادي في ملامح وجهك) .. وكنتِ بين حين وآخر تلعبين كرة السلة مع فريق بنات الكلية، وتُدمنين قراءة المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله.
    ..
    زرتُ أباكِ أمس .. عشية الذكري الثامنة والعشرين لصعود روحك الحرة إلى بارئها .. فلاحظتُ بعضَ التجاعيد حول عينيكِ في الصورة المعلقة على الحائط.
    ربما من آثار التراب، فلا يد تمرُّ على الصورة لتجليها.
    ورأيت عيني أستاذنا حجرين لا يُشعان، وفمه صامتاً لا ينطق!
    وعلى الحائط صورتكِ أنت فقط، مع بعض صور زعماء مصر السابقين: أحمد عرابي، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وسعد زغلول، ومصطفى النحاس، وجمال عبد الناصر!
    تكلمي يا حياة!
    لماذا صمتُك مطبق، ونظراتُك ساهمة لا تغادر أفق الحجرة!
    ولماذا يمنعني صمتي وحزني ـ بعد مرور ثماتيةٍ وعشرين عاماً ـ عن أفق التحديق والبوحِ، لتتكلمي ..
    هلْ تسمعينَ كلمات زميلك القديم؟ .. الذي كان يعتز بك، لكنه لم يُعبر عن هذا الإعزاز خوفاً من صرامة أبيك!
    وظل يؤجل إعلان الحب إلى ما بعد التخرج .. توطئة للخطبة والزواج .. فلم يقل لك أبداً الكلمة التي كنتِ تشعرين بها، وتعرفينها معرفتك به: أحبك!.
    .. اتركي عبراتك إذنْ، واتركي كتب عبد الحليم عبد الله .. وافتحي أبوابك للريح، واسمعي النبض القديم في صدرِ زميلك، وهو يُدمدمُ، وغادري الإطار الخشبي المترب!
    هاأنذا في التاسعة والأربعين .. لم أتزوج بعد!
    وأظنُّ أن شوقَ أبيك يتوق إلى كلمة واحدة منك، تُضيء أيامه القادمة! ..
    تكلمي، فكلام المنفلوطي ومحمد عبد الحليم عبد الله لن يجيب على أسئلة الواقع الذي يُحاصرنا من كل جانب!
    وزميلك (هل قلتُ حبيبك؟) الذي لم يكن يعبأ بالمنفلوطي وعبراته .. ومحمد عبد الحليم عبد الله وقصصه القصيرة ورواياته، أصبح مكترثاً بهما، مطيلاً النظر في آثارهما .. ويحفظ بعض الفقر والمقاطع من كلامهما! .. ألم تعجبي بهما أنت .. فكيف لا يحملهما في العينين؟
    تكلمي، بمثل كلامَكِ القديم الذي يرن صداه في أذنيَّ، والذي لم يصدأ بعد!
    ...
    تكلمي .. فزرقاء اليمامة صارت ـ بموتك ـ صامتة!!.. ولم تعد ترى الأشجار وهي تسير في طرقنا التي صارت معتمة!
    الرياض 15/5/1997م
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    امرأة وعصافير
    .................

    1-أحمد راسم كمال:
    الصمتُ خليلك .. تقدّم أيها الرسام الشاعر المولع بالسكون خطوةً إلى الأمام .. أو خطوتين إلى الخلف.
    سيان.
    فالليل الصامت صديقك .. وأنت تُقلِّب صورتها الملونة بين يديك (رغم أنك تزوّجتها في زمن الأبيض والأسود) .. نظرتُها تؤرقك .. بسمتُها تؤرقك .. فتحة صدرها تؤرقك .. وضحكةُ سعيد نعمان صاخبةٌ في أذنيْك! .. تقتلك .. تُذكِّرُكَ بخيانتها .. ووجوبِ قتلِها .. وبسمتها المُراوغة التي تُشبه الرصاصة تخترقُ تجاويف عظامك!
    تُحاول أن تدفنها برفق .. لا .. اقتلْها برفق في ذروة مجد حبك لها!
    هل كانت أختها العانس سعاد وراء زواجها من سعيد، حيثُ تقطن في شقة واسعة من بيته الكبير؟!!
    هل تزوّجته برضاها أم أن الأمر كان مؤامرة؟
    لماذا عدتَ إليها إذنْ؟
    لكن هل يُعطيك حبُّها المجنون لك حق التساؤل؟
    طلقتَها عشرةَ أعوام .. تلك التي أمضيتها في الجزائر!
    وعندما عدت .. وجدتها في انتظارك .. بعد أن تزوجت من التاجر سعيد نعمان، وأنجبت منه ابنتيْن!
    طلقتها بإرادتك .. فتزوّجها سعيد، ثم طلقها .. وتزوّجتها ثانية!
    لماذا تشك في عاطفتها تجاهك الآن .. يكفيها أنها تخلص في تربية ولدك وابنتيْه!
    أصيب طليقها سعيد بجلطةٍ مساء أمس!
    هلْ تقتلُها لأنك ظننتَ أنها تبكي حينما سمعت خبر إصابتِه؟!
    حينما اقتربتَ منها لم تجد دموعاً، وإنما كان وجهها عابقاً بالسكينة!
    قالتْ:
    ـ طلبتُ الطلاق منه رغم أنه كان ودوداً معي .. لم يؤذ سمعي بكلمة واحدة طوال زواجنا سبعة أعوام!
    ـ إذن .. لماذا تزوّجته في البداية؟
    ـ لأنك طلقتني وذهبت إلى الجزائر وأنا ابنة خمس وعشرين سنة .. وأصررتَ على ألا تعود من الجزائر إلا بعد عشرة أعوام، فتزوّجتهُ خوفاً من الفتنة!
    ـ ولماذا عدتِ لي بعد عودتي؟
    قالت وهي تتنهّد:
    ـ لأني للأسف أحبك!
    تنهّدتَ:
    ـ لا أتصوَّرُ ذلك!
    أضافت وهي تنظر إلى الناحية الأخرى .. حيثُ صورتها التي رسمتُها بريشتي وفازت بجوائز في عدة معارض:
    ـ هل تنسى حبنا القديم وزواجنا ثلاثة أعوام .. هل تنسى أنك أبو محمود؟
    ...
    ليلة الأمس قلتَ لها وأنتَ تحملُ في يدك تذكرة السفر:
    ـ سأرسمك بعد عودتي من بيروت في لوحة جميلة أسميها "حوار العصافير".‏
    تأملتَ في الضوء الشاحب صور العصافير التي رسمتَها في لوحاتك الأخيرة، أبصرتْكَ وأنت تتأملُ قالتْ إنها وجدتها عصافير بائسة تبعث الحزن .. وتستدر الشفقة في القلب!
    بكيْتَ.
    ...
    لماذا تُصر في لوحتيْك الأخيرتين على أن ترسم وجهاً يُشبه وجهها في حديقةٍ .. والعصافيرَ ترسمها حزينةً مؤرَّقَةً .. لماذا تصرُّ على أن تذبح عصفورتك دون ذنب جنته؟!
    سأُشارك في معرض فني في بيروت هذه المرة!‏
    لا يتطلّب ذلك تطليقة جديدة مني!
    فليتأجل مشروع القتل بعد عودتي.
    لأُفكرْ في روية هناك، فربما أصلُ إلى حل!
    ربما بزغت فكرة جديدة في مخيلتي عن سبب بكائها على إصابة زوجها السابق!
    ....
    قال لي الناقد التشكيلي صابر جودة أمسِ إن لوحاتك معتمة، وصورة زوجتك تحتل خلفية لوحاتك .. خطوطك تكشف عن حزن كبير يجتاحك! .. وفي لوحاتك الأخيرة تتجبر ريشتك على المخلوقات الضعيفة! كأنك تُبارك الجبروت والقوة، وتحتفي بالغربان والخفافيش!!
    حملتُ حقيبتي متوسطة الحجم، نظرتُ في المرآة، عبستُ، ابتسمتُ راضياً عن فكرتي الجديدة .. تأجيل القتل عشرة أيام! ..
    أصبحتُ أرسم كثيراً .. رسمتُ في السنتين الأخيرتين نحو خمس وستين لوحة! أبدعتُ عددا كبيراً من اللوحات يماثل ما رسمتُه في عشرين عاماً من حياتي السالفة .. التي كانت بلا أحلام أو مُفاجآت تقريباً!
    قلتُ في صوتٍ جاف، حاولْتُ أن يكون حنوناً:
    ـ سأعود لك يا مريم .. ونفكر في الأمر بهدوء.
    ـ أي أمر؟!!
    ـ مستقبلنا.
    قالتْ كأنها تقذفني بحجر، دون أن تغيِّر نبرتها الحنون:
    ـ هل أنت مجنون؟!
    قلتُ في آلية:
    ـ مقبولة منك!
    قالتْ وكأنها غيرُ متأثرةٍ بما أفكرُ فيه:
    ـ باق ثلاث ساعات على السفر!
    نظرتُ في الساعة لأتأكّد مما تقول.
    قالت في صوت يمتلئ بالحزن:
    ـ متى تعود؟
    ـ بعد أسبوع .. أو عشرة أيام على الأكثر.
    بلعتُ ريقي:
    ـ أين الولد والبنتان؟
    ـ لم يعودوا من المدارس بعد ..
    ـ لأغير ملابسي .. إذن!
    اتجهتُ إلى حجرة النوم، وأشرتُ بيدي لتلحقني .. وجدت كلماتي مبعثرةً على الأرض .. حاولتُ أن أجمع شتاتها .. أضمها بحنان .. لكني لم أستطع!
    حجم التعاسة الذي تُفجره الكلمات كان كالفخاخ المنصوبة التي جعلتها تقع على وجهها وهي تتذكر أوقات التعاسة المتكررة معي .. جرعات الألم التي فجرتُها كان من الصعب أن تتقبلها!
    أُخفت وجهها بين يديْها .. وانخرطت في البكاء!

    2-سعيد نعمان:
    لم أكن قد رأيْتُها منذ خمسة عشر عاماً .. رفضتني أمها حينذاك دون مبرر .. هي حاصلة على بكالوريوس التجارة، وتعمل في مجلس المدينة، وراتبُها عشرون جنيهاً .. وأنا من كبار تُجار طنطا .. وأكسب في اليوم الواحد عشرة أضعاف راتبها.
    لعلَّ أمها ظنت أنني غير متعلم!
    قلتُ لأمها مائة مرة، إنني متخرج من كلية الحقوق بجامعة القاهرة التي تخرج فيها الكثير من الوزراء قبل الثورة وبعدها!
    حينما رأيتُها منذ ثمانية أعوام أبعدتُ الصحيفة القريبة من أرنبة أنفي وتنبّهتُ! .. هذا صوتُ مريم .. وهذه رائحة عطرها!
    لم تكن تضع عطراً معتاداً أو رخيصاً مثل غيرها من القرويات؛ فأبوها شيخ القرية وأول متعلم في هذه القرية التي أخرجت بعد ذلك ـ بفعل الثورة ومجانية التعليم ـ المئات من الموظفين المرموقين والصغار!
    حينما مرت عليَّ أختها سعاد بعد يوميْن تدفعُ إيجار الشقة ـ التي تسكنُها في عمارتي الأولى ـ سألتُها عن مريم، فقالت: إنها مطلقة، ومعها ولد عمره ثلاثة أعوام!
    بُعث الحبُّ القديم في صدري، فقلت سأحاول من جديد!
    أذكر أنني رأيْتُ طليقها ذات مرة يسير معها، فتعجّبت!
    مريم .. لا أحلى ولا أجمل!
    وطليقها .. رأس صغيرُ حليق، كأنه رأس هدهد .. وساقان عجفاوان كأنهما ساقا ماعز .. وعينان غائرتان كأنهما كهف قديم يوشك أن يتوارى بفعل الزمن وعوامل التعرية.
    أهذا يا مريم من فضِّلْتِهِ عليَّ؟!
    طلبتُ من أختها سعاد أن تكلمها بشأني، فأنا لم أتزوّج بعد .. وبعد أخذٍ وردٍّ تزوّجتني، وعشنا معاً أحلى أيامنا!
    ...
    لا أدري كيف دخل الشيطانُ بيننا، فطلقتُها ليعيدها أحمد راسم لعصمتِه من جديد؟
    الحمدُ لله أن اجتزتَ الجلطة التي فاجأتني من يوميْن.
    أحياناً أسألُ نفسي .. هل أسأتُ إلى مريم؟
    أردُّ على نفسي:
    ـ لم أسئ إليها .. وحاشاي أن أفعل ذلك .. فالذي يحب شخصاً لا يقدر على الإساءة إليه!
    قال لي أحد أصدقائي: إن زوجها يُعاني من اضطرابات نفسية نشأت في الفترة التي أمضاها في الجزائر بعد إقصاء الإسلاميين ومطاردتهم؛ فقد كان يعملُ في إحدى الصحف التابعة للعسكر، وعاش سبع سنوات يخشى الاغتيال والتصفية.
    وأضاف وهو يذبحُني:
    ـ وأنه في ذات نوبة جنون قد يقتل مريم!

    3-سعاد جبر:
    مازال بأذنيكِ يا مريمُ نقيق الضفدع الذي رحل ذات صباحٍ باكر إلى أرضٍ بعيدةٍ، تمتلئ بالطحالب .. ولم يعدْ أبداً! .. عاد جسماً دونَ روح .. ثم اختطفك منا!
    أمام بابك البحري بعضُ الأصداف تتناثر في الرمالِ المحاذيةِ لأشجار التوت الصغيرة التي غرستُها أمام بيتِك قبل أن أبتعد عن حياتك وأراقبكِ من بعيد.
    هاهي اشتدّ عودها، وتصل إلى أسفل شرفتك العالية!
    تتدثّرين بالريح وبأردية غبار.
    تسعلينَ .. ألمك يخرجُ من أحشائك!
    ثمة كلب عمره عامان .. يرقدُ تحت شرفتك، يؤلمه استيقاظك الدائم!
    يطلُّ وجهُ الأب من السطحِ إلى غرفتك ـ التي كانت دافئة ـ فتختفي ملامحك، وتتشنج كحتك، وترتفعُ حرارةُ صغيرتك .. فتنضحين رأسها بقطرات ماء!
    ها أنتِ ـ يا مريمُ ـ تحملين في يديْك أغصانَ شتاء لا يُنبئ بربيعٍ قادم!
    كم كنتِ تولعين بالليلِ المحموم، وبالأرديةِ القصيرةِ الملونة التي تكشفُ للمواسمِ عن خصوبةٍ جميلة.
    كلما رأيتُك كنتُ أتذكر وصف تشيكوف لبطلته «ماشا»: «كانت بالضبط تملك هذا الجمال الذي يُدخل تمليه في قلبك، من حيث لا تعلم، الثقة بأنك ترى ملامح سوية، وأن الشعر، والأنف، والعينين، والفم، والعنق، والصدر .. وكل حركات هذا الجسد الشاب قد اتحدت كلها في نغمة هارمونية متكاملة، لم تُخطئ الطبيعة فيها خطأ صغيراً واحداً».
    كأنه كان يرسمك أنت!
    ها هو طليقك السابق «أحمد راسم» يعودُ مستبقاً خفافيش الليل، وفي يده زنبقة مسمومة، وأنت تحلمين بالطيور الخضر، وبالزنابقِ المائيةِ الملونة.
    إنني أرى في يديه كأس السم .. ألا ترينه؟!
    إنه يتقطرُ في دمع عينيكِ .. المنهمرِ دائماً.
    تغوصين في شقتك الأنيقة الواسعة في نهر رمادٍ يتضمّخُ بالقهر، فتختفي صورتُك في نهْرِ بكاء، خلف صوره البراقةِ اللامعة .. تتمنين أن تجتازيه ذات ضحي .. مازالت ملامحُه لا تبين!!

    4-مريم جبر:
    سافر أحمد راسم إلى بيروت أمس.
    تأكدتْ أن الساعة تقترب من العاشرة صباحاً.
    هذا هو موعد استيقاظي اليومي.
    حجرة نوم فاخرة .. عدة مناظر لعصافير في مناقيرها أغصان زيتون.
    قميص نوم شفاف يُظهر مفاتن جسدي الذي يبدو أنه سيشيخ قبل الأوان!
    على المنضدة المجاورة للمرآة الكبيرة صورتي وأنا واضعة وجهي بين كفيَّ.
    يدخل عصفور صغير من النافذة الزجاجية نصف المفتوحة التي تُغطيها الستائر السميكة.
    تتبعه أسراب من العصافير ذات الأجنحة الصغيرة الملونة .. تطير في سماء الحجرة.
    أعقدُ يديَّ على صدري، وأُغمض عينيَّ.
    حينما رأيتُ الغراب يعودُ ثانيةً، ويفرد جناحيه الكبيرين على حافة الشباك الزجاجي أحسسْتُ بدوارٍ مُباغت!.
    تعبث يداي في مفاتيح المسجل وأنا أدير شريط أغنية فايزة أحمد، التي يُحبُّ راسم سماعها:
    «يا أمه القمر ع الباب»!
    أصابعي مرتبكة .. والمسجل صامت!
    ـ لماذا لا يُغني؟!!
    أُفلح أخيراً في تشغيل المسجل!
    يضحك الغراب الواقف على حديد النافذة في الخارج ممّا يرى ويسمع.
    تُفاجئني برودة مباغتة!
    أتمدد تحت اللحاف، ... والعصافير لا تكف عن التحليق في سماء الحجرة التي يفترسها ظلُّ جناحيْ الغراب.
    أزمُّ شفتيَّ.
    أغلقُ المسجل .. وأغمضُ عينيَّ .. أُغطِّي وجهي باللحاف الوردي..
    هل اختفى ظلُّ جناحي الغرابِ مؤقتاً؟! ..
    العصافيرُ مدَّتْ مناقيرها .. أخذت تنقر وجهي .. تُغلقُ المسجِّلَ لأستكملَ سماع أغنيتها!

    ديرب نجم 26/8/2005م
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    قبل السقوط
    .................

    هل شاهدتني في الليل، وآخر فرع من شجرة التوت يهوي
    وأنت يا زوجي ـ الغيور ـ ترفع يدك المتثائبة لتُثبِّت الفرع في الشجرة حتى لا يهوي، وقد ختم على فمك وعينيك النعاسُ!
    هاهو أخوك الشاب يعدني أن يقطف الثمرة التي حرّمها الزوجُ على نفسه .. مادام يُدمن الغياب، حتى لو كان حاضراً!
    ...
    ـ مرة أخرى .. يا من اسمك زوجي .. أيها الرجل الخرتيت، تريدُني مرةً أخرى أن أسقط .. وأنا على شفا الموت ..
    تريدني أنا المريضة بالكبد أن أخطئ!؟
    .. اترك لي لحظةً أعي فيها .. كمْ عاينْتُ قبري في هذه الدنيا القاسية، وتزوجتك ـ أنا غير المحظوظة ـ أيها الرجل الفظ، الذي لا يحبُّ غيرَ نفسه!
    لماذا جئت بأخيك يسكن معنا في هذه الشقة الصغيرة؟
    هل كل ميزتها أنها بجوار جامعة القاهرة؟
    يُمكنك أن تعطيه بضعة جنيهات ليسكن في المدينة الجامعية، أو أن يعيش مع زميل له في سكن خاص .. الكثير من الطلاب يفعلون ذلك!
    ...
    لماذا ترجمني بأحجار كلماتك دائماً
    وأنت مُعلَّقٌ في سارية الضياء
    لا تُخطئ .. ، ولا تتعثَّرْ .. ، ولا تحيض ..
    ولن تكون عقيماً أبداً ..
    ***
    دعْني أمضغُ وهْمي ، وأرقص .. ميتةً في عالم الأحياءْ!
    وقُل لي .. ـ الآن! ـ حكايات الحب والعطاء التي لم تقلها لي ولم تفعلها طوال عُمرك .. حتى لا يخطفني الموت قبل أن تصل إلى المياه والثمر، و ترى النجوم والقمر!
    ...
    يا للخيبة! أنتَ لم تعرف إلا ظلمة الليل، ولم تعشْ إلا بيْنَ الجمادِ والحُفر .. ولم تر إلا الحجر الجامد ..
    الذي لم تستطع أن تُفجِّر منه عيونَ الماء!!

    الرياض 31/5/2005م
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ليلة هند الأخيرة
    .....................

    نظرة حزينة تبدو في عيْنيْها، ترنو إلى ممدوح بحقد وكراهية .. يستبقها الحزن في ولوج دوائر مغلقة.
    لحظات شاحبة تكتنفها .. تحوطها أكثر من علامة تعجُّب، لا تدري سبباً لها!
    تكاد رأسها لا تستقر على إحساس واحد!
    تعبث أصابعُها بشعر رأسها .. أسود وناعم .. لكنها تحس به إحساساً مُغايراً الآن فقد تخللته بعض الشعيرات البيض .. لم تضع الصبغة منذ عشرين يوماً .. كأن شعرها صار عارها .. أحست كأنه أسلاك هاتف عانت في العراء طويلاً من الصدأ والمطر وبيض الذباب!
    هل هذا شعرك الجميل الذي كنت ترينه فخرك وسر جمالك؟
    تحسُّ بصداعٍ يكاد يفلق رأسها، وبنهر ألمٍ يتدفّق في عينها اليسرى.
    سترك يا كريم!!
    هل من حقي أن أبحث عن الستر الآن؟!!
    نظرت في المرآة فوجدت عينيها ملتهبتيْن!
    أجّلت الرحيل إلى القرية، حيث الدار الكبيرة التي تعيش فيها أرملة أخيها إلى صباح الغد.
    أرادت أن تُحدِّث ممدوحاً عن نفسها، وعن شوقها إلى العودة إلى القرية التي تركتها من ثلاثة عشر عاماً، وتلاشت في المدينة الكبيرة .. أرادت أن تكلمه لأول مرة .. ليتعرّف على مشاعرها .. مرة واحدةً .. لكنها أبعدت الفكرة، وقالت: ما فائدة المعرفة؟
    ضحكت هند ضحكة ميتة الروح!.
    كيف يكون الآخر جحيمك، وكيف تكون الكلمة سيفاً تقتل وتسفك الدماء؟! .. هاهي أختها قالت لها أمس في لحظة غضب، عندما زارتها، لتجلس معها ومع ابنيها فترةً تنعم فيها بالدفء العائلي:
    ـ ظللتِ طول عمرك ساقطة وسافلةً، فهل تتوبين الآن قبل أن تموتي .. فيقبل اللهُ توبتك؟!
    كانتا فرعي شجرة، وافترقتا!
    تعلمت «عائشة»، وحصلت على بكالوريوس تجارة، وتزوجت وأنجبت ولديْن: أحدهما في الصف السادس الابتدائي والثاني في الرابع.
    أورقت شجرتُها ..
    أما شجرة «هند» فلم تثمر إلا الشوك والحنظل!
    أين الحب والتآزر والرحمة بينهما؟
    الكلمات تنفذ في أعماقها كالخنجر.
    هاهو ممدوح ينام سعيداً بفتوِّته المهراقة على فراشه الوثير.
    هل تذكِّره ببداية السقوط؟.
    قال لها ممدوح (في سخرية ذات صباح):
    ـ ما هذا الذي تفعلين يا هند؟! .. أراك تُصلين؟!
    لماذا يخشى هذا الخرتيت من صلاتها المتقطعة، وهي لا تكاد تصلي إلا الصبح والعشاء؟!! ..
    فلتعذرني يا ممدوح .. لم أشعر بالسقوط إلا أمس بعد كلام شقيقتي!
    كأننا لا نسقط إلا إذا عرف الناس سقوطنا!
    ضحكت عليَّ ـ يا أستاذ ممدوح ـ أول مرة .. وقلت سأتزوجك، زواجاً كزواج الناس، ولكنه بلا عقد ولا شهود ولا ولي! .. يكفي أنني أحبك وأنت تحبينني .. الزواج اختيار، بعد حب .. أليس كذلك؟
    أخي الوحيد اعتبرني ميتة .. لأني تزوجتُ بدون علمه! كيف لو عرف أني أعيش مع ممدوح بلا زواج؟! .. ليتني رأيته قبل موته في حادث مروري منذ شهرين!
    مرت السنوات معك يا ممدوح! .. الأولى والثانية والثالثة ... والثالثة عشرة!
    تعبتِ من العدِّ يا هند!
    هل كان هذا الزواج (أو بالأصح هذا السقوط) من مصلحتك ومصلحتي؟! .. أم كان وبالاً عليَّ وعليك؟!!
    الثانية هي الإجابة الصحيحة بكلِّ تأكيد!
    هاأنت مفصول من عملك منذ شهرٍ تقريباً!
    اتهمك السادات ـ وأنت الأستاذ بكلية الزراعة ـ أنك من رموز الفساد الجامعي، اتهمك بإفساد الطلاب، وأخرجك إلى وظيفة إدارية بوزارة الزراعة.
    .. أليس من الأفضل أن تصدق معي مرة واحدةً؟!.
    هل نحن زوجان؟ .. وإذا كنا زوجين فلماذا أصررت على عدم الإنجاب مني؟ .. ولماذا صار زواجنا عقيماً بلا ثمرات؟
    لقد قتلتني يا ممدوح بكلماتك:
    ـ أنت مازلت مراهقة يا هند! .. وماذا تريدين من الزواج أكثر مما نحن عليه الآن؟ .. ألا يكفي أننا نعيش معاً من ثلاثة عشر عاماً؟
    ـ إننا نعيش هكذا من عام 67.. بلا عقد ولا شهود!
    ـ ألسنا متزوجين؟
    ـ نعم .. زواج بلا وثيقة زواج، ولا شهود، ولا فرح!
    أخلى للتعجب مكاناً في تعابير وجهه السمين الأسمر المجعّد:
    ـ لقد فرحنا بما فيه الكفاية، طوال عقد ونصف من السنوات الجميلة!
    ـ لم أفرح أبداً.
    ـ أية أفكار مجنونة تُطاردك الآن يا هند؟!
    ـ أنا أقترب الآن من السادسة والثلاثين! .. ولم أنجب بعد .. وأريد أن يكون زواجاً شرعيا لأنجب طفلاً!
    ـ ماذا تقصدين؟
    ـ أن نذهب إلى المأذون .. بحضور أختي عائشة، وأن نكتب وثيقة أدعها عندها!
    قال في ثورة حاول أن يداريها:
    ـ هل جُننتِ؟
    ردت بشدة:
    ـ وهل الذي يُطالب بالشرع مجنون؟
    قال وهو يمزج كلامه بسخرية مرة:
    ـ أنت بعدُ مازلتِ صغيرة؟
    قالت كأنها تتوسل:
    ـ أريد الستر يا ممدوح .. وأن نعيش مثل الناس .. عيشة يرضاها الله ورسوله .. فربما تُغفر لنا خطايانا، ولو كانت مثل زبد البحر!
    ـ الناس متخلفون يا هند! .. وقلت لك قبل أن نعيش معاً: سارتر يعيش مع رفيقته بلا زواج!
    ـ أذكر .. قلت لي هذا في مارس 67 قبل الهزيمة!
    ـ حينما زار مصر زيارة رسمية مع عشيقته سيمون دي بوفوار .. والجميع يعرفون ذلك!
    نعم، وهو ذلك الوقت التعيس الذي عشنا فيه معاً في شقة واحدة بلا زواج!
    ـ ماذا تقصد بالجميع؟
    ـ الذين دعوْه من المسؤولين وصناع القرار، والذين احتفوْا به من القراء!!
    ـ وما علاقتنا بسارتر؟!
    ـ ألسنا مثقفين كبيريْن مثلهما يا هند، ونقرأ أعمالهما بلذة وجنون، وكنا ممّن حضر محاضراتهما حينما كنا ندرس أنا وأنت في باريس في أوائل الستينيات؟!
    قالت في نفسها:
    ـ النقاش غير مجد معك .. وأنت يجب أن تموت بيديَّ .. هذه هي العدالة المطلقة.
    انفعل لما سمع جملتها الأخيرة .. قال:
    ـ أية عدالة مطلقة يا هند؟!
    ـ ...
    صرخ في وجهها:
    ـ أنتِ لست أكثر من طفلة صغيرة لم تفهمي الوجودية التي ظللنا طوال عمرنا نبحث عنها، وندرسها، ونطبقها.
    وكأنه يُخاطب نفسه:
    ـ هل هذه هند .. التي كنتُ أشعر معها بالسعادة طوال ثلاثة عشر عاماً؟!

    إنها تشعر بعذاب لم تجربه من قبل.
    يكاد يقتلها السؤال:
    ـ كيف عشتُ معه كل هذه السنوات بلا عقد زواج؟ ..
    هل أصبحتِ بلا دين يا هند؟!! .. هل عشت معه كل هذه السنوات عاهرة؟! .. ألا تخشين سخط الله وعذابه؟! .. وكيف عشتِ في هذه الغيبوبة مع هذا المجرم كل هذه السنوات؟
    لماذا لم تُراجعي نفسك من قبل وأنت أستاذة الفلسفة في الجامعة؟، ولماذا مشيت وراء هذا الكلب العاهر؟! .. لقد كفرت بالوجودية وكفرت بماركس، لكن كفرك بهما جاء متأخراً .. كان ينبغي أن تُراجعي نفسك بعد علاقتك الآثمة به بثلاثة أشهر، وليس ثلاثة عشر عاماً .. منذ ضُربتْ الطائرات في صباح الخامس من يونيو الحزين وهي رابضة في المطارات! ولم تقم بطلعة واحدة. فلماذا تعيشين السقوط مع ممدوح؟!
    .. نسيتِ الصلاة كل هذه السنوات، ثم عدت لتتذكّريها في فرضيْن فقط: الصبح والعشاء؟!!
    تكاد رأسها تنفجر!
    تعرّفت عليه في باريس في أوائل الستينيات .. فأحببته .. وكانت حياتي غير الطبيعية معه سلسلة من العذاب والإخفاق، تتخللها لحظات من المتعة التي يعقبها العذاب.
    إنه شيطان كبير.
    هل هو الذي كان وراء تركي العرض الذي قدمته لي جامعة السربون للعمل بها .. والتحاقي بجماعات التمرد التي سارت وراء سارتر كالقطيع؟
    ابتسمت ابتسامة حزينة، وهي تقول لنفسها:
    ـ إن الله غفور رحيم.
    أخلت للشوق مكاناً في قلبها:
    ـ هل يُقَدَّر لي أن أتوب .. وأن أُواظب على الصلاة .. وأذهب إلى الأراضي الحجازية لأحج أو أعتمر؟!!
    ....
    .. في الصباح تسرب خط من الدماء من تحت الباب، وعلى باب الشقة كانت أصابع يد هند الخمس المضمّخة بالدم مازالت معلقة!
    وعندما فاحت بعد يوميْن رائحة ممدوح النتنة، اتجهت هند إلى نقطة الشرطة في قريتها .. لتعترف بكل شيء!

    الرياض 12/3/2006م
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    بعد فوات الوقت!
    ......................

    لم تجد علياء في عينيها دموعاً لتبكي زوجة خالها عندما ماتت!
    فحينما ذهبت «علياء» إلى القاهرة، بعد وفاة أمها ـ هي وأختها «عبير» ـ لتُقيما مع خالهما «محمود» المهندس الزراعي، والمشرف بمصنع العطور بالطالبية، أثناء دراستهما الجامعية .. رأت علياء في «امتثال» زوجة خالها امرأةً فظةً غليظةً، ولم تكن عبير ترى ذلك، فسكنت علياء في المدينة الجامعية لتهرب من جحيم بيت خالها .. بينما لاذت عبير بزوجة خالها، وعاشتا معاً سعيدتيْن!
    ـ هل كان الخطأ فيَّ أم في عبير أم في امتثال ـ زوجة خالنا ـ التي كانت لا تنزل لأمي من «زور»؟!
    سؤال كان يُفجر رأس علياء، لكنها لم تجد له إجابة!
    مرت سنوات ... وتقابل الجميع في مأتم زوجة الخال، وهي مناسبة من المناسبات التي تجمع أفراد الأسرة، وسمعت علياء من خالتها:
    ـ أنت تشبهين أمك ـ وقد كانت أمك أجمل فتاة في القرية ـ بينما أختك علياء تُشبه خالها محموداً!.
    وأضافت الخالة:
    ـ هل تعرفين أن أمك هي التي اختارت زميلتها «امتثال» الموظفة في السجل المدني زوجةً لخالك محمود، ومن يومها انقطع الودُّ بينهما؟
    وضحكتا ..
    وعرفت علياء في ذلك الوقت الإجابة عن سؤالها القديم!.

    ديرب نجم 22/7/1999م
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    ما أجملها!‏
    .............

    هذا أول عيد فطر يقضيه في قريته بعد رحيل زوجته التي لم تكن تطيق مجرد ذكر اسم القرية!
    أصبح «عدلي منصور» يقسم وقته بالعدل بين المنصورة (التي كان يعمل فيها وكيلاً لوزارة الزراعة) وقريته.
    منذ ستة أشهر ماتت زوجته «آمال» التي لم يُعقِّب منها، فقرّر أن يعيد اتصاله بقريته.
    كانت المرحومة تكره القرية، التي تمتلئ بالحفاء والبعوض، ولا تسمع فيها شيئاً «يسر القلب»، وتكره أخته الوحيدة «أم العز»، لأنها تحرضه على الزواج ـ قبل أن يمر العمر ـ لإنجاب وريث؛ يحمل اسم العائلة، ويرث الفدادين العشرة التي ورثها «عدلي» عن والده!
    عاش مع المرحومة ثمانيةً وعشرين عاماً .. لم يكن يأخذ عليها إلا كراهيتها لقريته!
    صلى العيد في المسجد وعاد إلى بيته القريب.
    اكتشف وهو يُصافح الرجال بعد الصلاة أنه لا يعرف إلا القليل منهم، وأن الكثير من أبناء جيله، قد ذهبوا للعمل في الخارج، أو رحلوا من هذه الدنيا!
    ظلَّ البيتُ مهجوراً ثمانيةً وعشرين عاماً .. أخيراً أحضر بعض الأثاث من الفيلا التي بناها في المنصورة إلى بيته في القرية، وصار يتردّد عليه .. في الأعياد المواسم والمناسبات الاجتماعية التي كان لا يحرص عليها أيام زوجته!
    يُهاتف شقيقته «أم العز» وهو في المنصورة، فترسل ابنتها الموظفة بإدارة التربية والتعليم ـ والتي لم تتزوّج بعد ـ لتُجري لمسات على البيت قبل أن يجيء خالها وكيل الوزارة.
    أربع حجرات واسعة يحتويها البيت، وحظيرة، ودورة مياه.
    لا ينقصه ـ هو والبيت ـ كما تقول «أم العز» إلا امرأة تعتني بهما، وتُنجب له «الوريث»!
    جلس وحيداً في الحجرة البحرية .. ورأى عصافير تتقافز فوق الشجرة العجوز التي زرعها والده أمام البيت منذ ثلاثين عاماً .. وفكر .. من الغد سيهتم ببعض الأشجار في حديقته الصغيرة التي زرعها ابن أخته.
    لا أحد يمرُّ عليه .. أو يجلس معه.
    بلمحة عابرة تذكّر أن هناك في البيت المقابل امرأة!
    إنها «وردة»، ابنةُ خاله.
    ما أجملها!
    كانت القرية لا تعرفُ بنتاً أجمل منها.
    كانت أجمل البنات الست في فصلنا في المدرسة الابتدائية .. أيام الأستاذ صابر عبد الحميد رحمة الله عليه!
    كانت في مثل عمره، لكنها لم تُكمل تعليمها، لأنها تزوجت ابن عمها في الرابعة عشرة، وأنجبت له خمسة أولاد!
    زوجها ـ ناظر المدرسة الثانوية السابق ـ مات من خمسة أعوامٍ تقريباً.
    حدّث «عدلي» نفسه:
    ـ إن «وردة» لن تنجب لك الوريث .. هي في الرابعة والستين، مثلك تماماً .. ابنها الصغير «عامر» في السنة الأولى بكلية الصيدلة!
    ـ أولاد «وردة» تزوجوا جميعاً ولم يبق إلا «عامر»، وأصبحت المرأة وحيدة .. يمكنك أن تزورها بين الفينة والأخرى .. وتسترجعان ذكريات أيام الطفولة!
    ـ أنت لن تتزوّجها! .. استشرها في أن تبحث لك عن امرأة في الخامسة والثلاثين .. لا يهم إن كانت بكراً أم عزبا!
    ـ وما الضير في الزواج منها إذا كانت مازالت جميلة؟
    ...
    شرب كوب الشاي في ثلاث جرعات .. اكتشف أنه بارد فقد أعدته «عايدة» ابنة أخته قبل صلاة العيد ..
    في دقائق زار أخته وبعض الأقارب ليتخلّص من جملة واجبات أول أيام العيد .. ثم اتجه إلى بيت «وردة».
    اكتشف أنها وحدها في البيت.
    اقترب منها، صافحها.. قدّمت له بعض البسكويت والشاي. أضاءت الحجرة فاكتشف أنها بلا رقبة تقريباً، أصبحت بدينة جدا، غير قادرة على الحركة. وعرف أن ابنة جارتها هي التي أعدّت الشاي!
    رحبت به ترحيباً حارا .. ولم تُنزل عينيها عن وجهه.
    زمن؟!
    هل يُكلمها عن رغبته في الزواج من امرأة متوسطة العمر؟
    رأى أن أسنانها قد سقطت جميعاً، وحدّثته عن مرض السكر الذي أصابها، وكاد أن يضطرها إلى بتر رجلها اليمنى، ولكن الله ستر!
    وحدّثته عن عقوق الأولاد، وأن أزواجهم أخذنهم إلى البلاد البعيدة ..
    حاول النهوض فلم يستطع، أحس بثقل رجليه .. استأذنها في الرحيل، أمسكت يده وهي تُحاول الوقوف .. والبسمة تغمر وجهها.
    عثرت رجله .. فوقع أمامها على الأرض .. وتعجّب عندما وجد أخته «أم العز» تُمسك يده محاولةً إقالته من عثرته!...‏
    الرياض 1/10/2004م


    رد مع اقتباس  
     

  8. #8 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    نوال تقرأ الحقول
    (قصة من التغريبة اليمانية)
    ..................................

    دارت الطرق المتعرجة نحو الشمس، ولم تُدرك الشمس ولا القمر .. هاهي «نوال» تقتربُ من الخامسة والأربعين .. ولم تحمل في أحشائها ثمرة! .. "يا لخسرانها في يقظتها وفي منامها!".
    توشك فترة الخصوبة أن تمضي، وتترك خلفها الجفاف والعقم!
    درست نوال حتى الثالثة في مدرسة المعلمين في قريتها، ثم تركت الدراسة لتتزوّج ابن خالتها، وهي في السادسة عشرة، وترحل معه إلى قريته البعيدة.
    كان هذا من تسعٍ وعشرين سنة!
    كانت متمردةً على الناس والحياة في أرضِ بيت الفقيه، فرفضتْ ابن عمها وتزوجتْك يا عبد الولي، وعاشتْ معك في الوصاب السافل بناحية ذمار، حيثُ الجبال المتراصة، يسكبُ عليها الغروبُ صفرة الشفق، والسحب المعتمة تتراكض في حيوية لافتة .. تعد بالأمطار!
    لكنك تتركُها وهي الغريبة وحيدةً خلف البقرةِ والمحراث، تشق الخط المعتم .. تنتظر هطول الأمطار لتنبت البذور التي وضعتها بيديها المخضبتيْن! .. تتركُها وتعملُ حارساً لمبنى في صنعاء، وتعودُ كلَّ شهرٍ لتقضي معها ليلةً أو ليلتين!
    تعدُّ «نوال» الأيامَ والليالي يوماً فيوماً.. وليلةً فليلةً ..
    كيف لا؟ .. والحلم الأجمل .. لا يكتمل إلا مع بزوغ فجرك وعودتك البهية.
    تحلمُ دائماً بالخضرة الوارفة ..
    وهي تتأمل البذور الصغيرة النابتة، في قطعة أرضك الصغيرة التي ترعاها في غيابك .. وجدت زوجاً من حمام يناغي أحدهما الآخر، وعلى جنبات الأرض وجدت ابنيهما الصغيريْن يُمدان منقاريْهما ينتظران الطعام من أبويهما، اللذيْن يبتعدان وراء حقل الذرة .. في ثنية مجاورة، ويتقافزان والحب والغناء واضحان في هديلهما!
    متى يجيء الغد؟!
    متى تُشرق شمسُك في أرضي يا عبد الولي ولا تغيب؟!!
    متى نتقافز مثل فرخي حمام؟!!

    الرياض 31/5/2005م
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    أزمة مُخرج
    .............

    حاول «فاروق منير» أن يخرجني من حالة الصمت التي أعيشها منذ عامين، هو مدير إدارة النصوص بالمسرح القومي. كنا زملاء في المرحلة الثانوية، وذبحنا سكين الهزيمة، فبدأ بكتابة الأشعار المتمردة، الرافضة للهزيمة، وأذكر أن إحدى الصحف رفضت نشر قصيدة مبكرة له كتبها عام 1968م، وهو في الثامنة عشرة، ومازلتُ أذكر وجهه المملوء فرحا وهو يقول لي مطلع قصيدته التي رفضتْها الرقابة:
    كيف تكون الكلمة سيفاً
    يهوي بالأعماق
    كيف تكون الكلمة سهماً
    وأنا أوقفُه قائلاً:
    أريد أن أصير مخرجاً وأقدم لك مسرحية من إخراجي!
    ...
    وهاهو الزمن قد مرَّ ..
    صرتُ مخرجاً شهيراً أقدَّم متطلبات السوق في المسرح التجاري، ومسرح الدولة .. أنا الذي أنفقت عليَّ الدولة أموالاً طائلة لأتعلم حرفة الإخراج في موسكو على يديْ أشهر المخرجين.
    صرتُ ـ أنا سامي الإمام ـ مخرجاً محترفا، أقدم مسرحياتي بلغة مسرحية عالية الإبهار.
    قال لي «فاروق منير» إنه يريد أن يراني، بعد أن صار شاعراً مشهوراً، وقدّم له المسرح القومي ثلاث مسرحيات شعرية، وصار له عمود يومي في واحدةٍ من أكبر الصحف انتشاراً.
    هاتفني أمس وسألني لماذا أنت متوقف عن الإخراج، فأخبرته أنني أُعاني من أزمة ..
    ـ نفسية؟
    ـ .. لا
    ـ .. أزمة موقف؟
    ـ .. ربما! ..
    إنني أراجع قناعاتي السياسية والمبدئية وما أقدمه من مسرحيات تُدغدغ العواطف ..
    قال إنه سيقدم لي نصا لأخرجه في مسرح الدولة.
    زارني في بيتي في الثالثة بعد الظهر.
    أعطاني نصه، وقال إنه عن صراع الطبقات، من خلال تقديم المتصوفة «رابعة العدوية»؟
    فقلتُ مستغرباً:
    ـ هل يُمكن أن تُمثِّل رابعة العدوية صراع الطبقات؟ .. وكيف يُمكن أن نجد هذا في النص؟
    قال ضاحكاً:
    ـ إنها تنتقد القطط السمان، والوجهاء الذين يدَّعون التديِّن، ويمسكون السبح في أيديهم، لتزداد مكتسباتهم، وتروج تجارتهم، وتتضاعف استثماراتهم.
    قلتُ حائراً:
    ـ إذن كيف سأقوم بإخراج مسرحية تحملُ مثل هذه الكلمات على مسرح الدولة؟
    قال:
    ـ نحن الذين نختار نصوص مسرح الدولة، ثم لا تنس أن مسرح الدولة ـ في ظل هامش الحرية المُتاح ولطبيعة المسرح ورمزيته ـ أكثر جرأة من المسرح التجاري، الآن.
    قلت:
    ـ الموضوع ـ موضوع تقديم شخصية متصوفة ـ ليس من الموضوعات المثيرة، ليتك ناقشت في نصك قضية الحرية، أو انفراد أمريكا بحكم العالم منذ زوال الاتحاد السوفيتي، أو العولمة، أو صراع الحضارات .. أو غيرها من الموضوعات من خلال مسرحيات تشتبك مع الواقع لا من خلال أقنعة!
    ـ هل تنسى أن صلاح عبد الصبور قدم صورة للصراع بين السلطة والمثقفين من خلال شخصية متصوفة، في منتصف الستينيات من القرن الماضي هي شخصية «الحلاج»؟!
    قلتُ ضاحكاً:
    ـ ألا تعرف؟ .. الزمانُ اختلف!
    قال في بلاهة:
    ـ أجل! .. ماذا تقول؟
    قلبتُ في الأوراق التي بين يديَّ، وتوقفتُ كمن لسعه عقرب:
    ـ قل لي يا فاروق .. ماذا تعني بقولك: صوفية .. نورانية؟
    قال ضاحكاً:
    ـ إنك متوقف منذ عامين عن الإخراج (وحرص على أن يُداعبني) يبدو أنك أصبحتَ لا تقرأُ أيها المخرج القدير!، وأصبحت لا تفهم شيئاً في غير الفن الذي تعرفه .. المسرح .. هذه من مصطلحات الصوفية، وأنا قلت لك أمس أن نصي عن صراع الطبقات وفيه صراع بين درويش فقير يحبُّ رابعة وثري غبي، لا ينحازُ للفقراء، بل يستعديهم بمسلكه الاستفزازي!!.
    قلتُ:
    ـ أنا أرفضُ التصوفُ كما رفضتُ الماركسية!.
    قال لي:
    ـ أنت مخرج، تقدم نصا.. ما علاقة قناعاتك وفكرك بما تُخرجُه؟
    قلتُ وقد ضقتُ به ذرعاً:
    ـ أنا لست «بوتيكاً»، أو صاحب معرض للأفكار على خشبة المسرح.
    هزَّ رأسه مستفسراً، وعيناه تستوضحان ما أقول، فقلتُ بصوتٍ هادئٍ أجتهد أن تكون نبرتُهُ واضحة:
    ـ لستُ يا صاحبي محلَّ بقالة.. إنما أنا مخرج له فكره.
    صمتنا، وأعدت تقليب الأوراق:
    ـ أنت تقول في بداية المشهد الخامس، على لسان الثري:
    نحن وضعنا للعامة والغوغاء الترياق
    في قالب دين يعتنقونه
    في بضعة أبطالٍ مهووسين
    يعتقدون بمنزلةٍ ساميةٍ لهمو
    .. فهلْ كان الثري أيام رابعة من الشيوعيين؟
    لم يُجب، فأضفتُ في نبرات حادة:
    ـ لا يُمكن أن يُقدِّم سامي الإمام هذا القول في مسرحية تحملُ اسمه!
    ـ هذا ليس كلامك، إنه كلام البطل .. لماذا تتكلم كلاماً غريباً يظن من يسمعه أن من يقوله لا يمكن أن يكون سامي الإمام المتخرج من أهم أكاديميات الاتحاد السوفيتي السابق؟
    وأضاف ضاحكاً:
    ـ هل تخاف سطوة الأصوليين من أصحاب السلاسل والجنازير؟
    قلتُ في حسم:
    ـ فلتعذرني يا فاروق. إنني لا أستطيع أن أخرج مثل هذا النص، فمازالت فيّ بقيّة من تلك الأرضِ الطينيةِ، من القرية التي مازال أبي يخطو فوقَ ثراها، ويصومُ رمضان والستة البيض.. ويُصلي في أعماق الليل، ويصلي الفجر جماعةً، ويحج، ويعتمر.
    قام وهو يصرخ ويقذفُ كلماته كالرصاص الطائش في كل جانب:
    ـ هلْ يجرفُك سيلُ الجبن الذي يعتري حياتنا؟ .. هل تخافُ سطوة الأصوليين؟ .. ما هذا الذي أسمع؟ .. هل المخرجُ التقدميُّ الكبير هو الذي يقول مثل هذا الكلام؟
    .. ألقى كل ما بنفسه من شوائب وأحجار وصَمَتَ، فشددتُه وأجلستُه، وأضفتُ:
    مازال أبي .. والد سامي الإمام يؤمنُ بالله .. ومازالت أمي مؤمنة بالله ورسوله! اعذرني يا فاروق، فقد زلّت بالقدم النعلُ ذات مرة! فلماذا ترفُضُ أنت أن أخرج من الحفرة؟
    قال وهو يرسم ابتسامة صفراء على شفتيه:
    ـ تهمني هذه المسرحية، وكنتُ أتمنّى أن تخرجها.
    قلتُ ضاحكاً:
    ـ إنك تهمك الكتابة والشهرة فقط. وإني تصطرعُ الأفكارُ برأسي كالطوفان!
    قال:
    ـ ماذا تقول؟!
    حدّقتُ في عينيه قائلاً:
    ـ .. لا أستطيع أن أخرج هذا النص، حتى لو جلستُ عاميْن آخرين بدون عمل!
    الرياض 1/12/2004م
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    رباب
    .....

    (1)
    قطعةُ السكرِ التي تذوبُ سريعاً ـ ولا تترك بعدها إلا الحرقة والمرارة ـ تجربةٌ أولى تُشعلُ الجمرَ في ذاكرةِ المؤرَّقِ بغيابٍ وعذاباتٍ:
    أنا العشرينيُّ وربابُ أبناءُ قريةٍ نائيةٍ واحدةٍ.
    يدثِّرُنا الفقرُ بعباءتهِ المثقوبة، ويُغطينا الحلمُ بخيمتِه المزركشة الفضفاضة.
    هانحن في بداية العام الثالث من دراستنا الجامعية في كلية الهندسة.
    نلتقي بين حين وآخر..
    نقطعُ جسْر الفقْر بتشابكاتِ الأصابعِ.
    ونحلمُ ببناء مساكن آدمية بعد أن تختفي عشوائيات «عُلب الصفيح» التي خرجنا منها!
    حاولْتُ أن أحذرَ نفسي من أطرافِها المسكونةِ بالحبِّ والعذابِ والتمرُّدِ الجميل، أوْ أتجنبها؛ لكنها أقنعتْني أن الليْلَ للحلم، ولأطيافِ البحْرِ وعرائسِهِ المسكونة بالترقبِ لطفولةٍ ثانية، وبدايةٍ جديدةٍ، نحن ـ وأبناء جيلنا ـ قادرون على صنعها.
    أتذكَّرُ الدقائقَ الفارة، وهي تلفظ الأنفاسَ.
    وحدي ورباب ـ هل قلتُ عبلةَ؟ ـ في كتب التاريخِ، والشعر، والعشق!
    لم تمنعنا الدراسةُ العلمية من أن نكون فارسيْن مُبحريْن في قراءة الشعر والفلسفة والحلم بالغد الجميل.
    صرختْ ذات مرة، وكنّا واقفيْن في محطة مصر ننتظر القطار الذي سيحملنا إلى الزقازيق في نهاية أسبوع:
    ـ رباب .. لا تناسب مساكن علب الصفيح!
    ضحكتُ:
    ـ اقترحي اسماً آخر.
    قالت وعيناها تبرقان بوميض غريب:
    ـ عبلة!
    ضحكتُ من كلِّ قلبي، وأنا أردد مستغرباً:
    ـ عبلة؟!!
    ـ أجل!
    قلتُ مبتسماً:
    ـ امسحي إذن عبد الستار.
    وهي تجاريني:
    ـ بم أناديك؟
    ـ عنترة!
    ...
    نجترحُ الحلمَ، ونصنعُ سفائنه!
    في كتبِ هذا الليلِ أستنطقُ تذكارات طفولتي، والسكرُ في الفمِ النّائمِ، وأمي تحكي لي ما فعله السلطان فيمن اقتحم خلوة حريمه!
    قلتُ وأنا أعاني من زحامِ الحافلة:
    ـ مسي جبهتي بيسارك، التي بجانبي.
    ـ .. أنت محموم!
    (2)
    أفقتُ من نوْمٍ طويلٍ في عيادةِ طبيبٍ جارٍ لنا، لأكتشف موتَ رباب، بعد أن ضربتْنا سيارةٌ مجنونة، ونحنُ نسيرُ مُتشابكي الأيدي في ظهيرةٍ يومٍ صائفٍ مجنون.
    قالت أمي في ثبات أحسدها عليه:
    ـ رباب ماتتْ .. لمْ تتحمّل الصدمة.
    صرخْتُ:
    ـ ربابُ لم تمتْ!
    هلْ كانتْ أمك تُحبها أم تكرهها؟
    سؤال لا يؤرقك!
    لكن الذي سيؤرقك طويلاً .. هو غياب رباب!
    (3)
    في حكاياتي المُقبلة، سأتكئ على التاريخ، لأثبتَ أن الفقير يُمكنه أن يُقابل السلطان، ويقول له ما لا يُحب سماعه؟
    فعنترةُ يحتوي عبلة في أضلعه!
    وعبدُ الستار ماتَ يوم أن ماتتْ رباب!
    ...
    رأيتُ فيما يرى النائم أنهم قادوني إلى سراي النيابة: قلتُ لهم إن هذا النص .. (الذي أكتبه عن تجليات فمِ المُغنِّيةِ رباب وعجائب شدوه) أكثرُ منْ معجزةٍ، لأنه يجعل القرية النائيةَ المُغَيَّبةَ تولد من جديد، فوقَ الكراسي العالية، التي لا يصلُ إليها أحد! وأن الأولاد الحفاةُ العراةُ يُمكنهم أن يكونوا اللاعب الأول ـ الذي يملك كل أوراق اللعبة! ـ في منطقة المساجلة!
    ـ ماذا تعرف عن رباب؟
    ـ شاعرة من قريتي!
    ـ ماذا تحفظ من أشعارها؟
    ـ أحفظها، وأعرف خرائطها، لكني لا أحفظ أشعارها.
    ـ أغانيها مسجلة عندنا، فلماذا تنفي معرفتك بأغانيها؟
    ـ لماذا تسألونني إذن؟
    ـ إنها تُهاجم الجميع في أغانٍ ثوريةٍ بذيئة.
    ـ إنها تُغني للحياة وللمستقبل .. ولم أسمعها تُهاجمْ أحداً.
    ـ من الذي قتلها؟
    ـ لم يقتلها أحد .. لأن الجميع يحبها .. حتى الأشجار والعصافير.
    (4)
    سأخبركم ـ بلا فخرٍ!! ـ أنني أحكم الطوق حول رقاب الذين يريدون غياب رباب!
    ولن أجعل الحمى تدخل بيتي، أو الوهم يخترقُ جدرانَ حبي للجميلة، ولنْ يحتويَها الغيابُ!
    رغم الثقل الذي أشعر به في جسدي وفي أطرافي!
    ...
    وإذا كان الفجر مظلماً في الدروبِ
    فبإمكان غنائها أن يضيء طرقاتكم!
    ولا مانع ـ في فعلِ الغناءِ الجميلِ ـ من أن تجعل الفيلم الصامتَ فصيحاً، مُفجِّراً طاقاتِ شعوركمْ، محققاً أمانيكم ومكبوتَ ضمائركم!
    ألا يكفيكم أن تروْا بسمة رباب؟!!
    ألا يكفيكم أن تسمعوا غناءَ رباب؟!!
    (5)
    فتحتُ الكراسةَ التي أكتبُ فيها خواطري فصرخت أمي:
    ـ هل مازلت تقرأ شعر رباب؟! ..
    أجبتُ ضاحكاً:
    ـ ربابُ لا تكتبُ شعراً .. هذا شعري.
    وقرأت:
    ربـاب
    يا من تقفين في آخر الطريق، وتُنادين
    ـ لست وحدك هناك أيتها الحبيبة القديمةُ!
    ...
    أنا أوقن أن بجانبي ألف نخلة
    ترتفع فوق وجع السنين الطويلة!
    وتناجيني من خلال حزنها
    لغيابك
    ...
    الشطآن المراوغة تتراجع تحت قدميَّ
    وألف وردة تشتعلُ نارها في شراييني
    فالرباب ما مات لحنها!
    ...
    (قلَّبتُ صفحات الكراسة، وفزعت أمي:
    ـ كأنه لا يكتب إلا لها!.
    (6)
    تلك الحياةُ الصامتةُ.
    تلك البهجةُ المكبوتةُ في عيونكم.
    لا تنبئُ عن حبِّ رباب!
    أخبرتني أختي الصغيرةُ (سُها ) أنها رأتها في شاشة الأخبار ـ قبلَ عرضِ الفيلم، وكانتْ واقفةً مع فارسٍ، لا يُشبهُ أحداً من الناس!
    كأنَّه رجلٌ سماوي.
    وأن النخاس أخذ يقلبها، ويُعري أطرافاً من ثوبها!
    و...
    لا تُكملي فريتَكَ يا سُها، فلن أُصدِّقكَ!
    فربابُ ..
    لا تُباعُ ـ أو تُعرضُ ـ في سوقٍ للرقيق،
    فلماذا .. أيُّها المتقولون .. تتربصون بسيدةِ نصوصي التي تقولون عنها إنها ماتتْ غيلةً؟
    وأنا ..؟
    لا أبصرُ القضبان
    حول خطواتي..
    أو في رحابةِ أفقي،
    أو عائقةً عنْ قدومِ فجري بعودة «رباب»؟!!

    ديرب نجم 26/8/2003م
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    حزن لا يموت!
    ..................

    (1)
    لأيام حنينك .. التي فارقتْها الشمسُ اللاهبةُ سأودعُ ساعات الدعة، وسأكتبُ أحرفي المجنونةَ على بابك .. وأسألُك: لِمَ لمْ تسمعي صدى نداءاتي الأخيرة .. ودعائي أن يجعلك اللهُ تعالى من نصيبي؟
    كم بدت النجومُ قصية حينما صممتِ على الرحيل ..
    هل أقول: وتحطّمت آمالي؟
    لا أجرؤ على قول ذلك، فأنا ـ للأسفِ ـ مازلتُ أعيشُ، وأُهاتف أمي وشقيقتي مرتين أسبوعيا، وأسألُ عن أحوالِ أقاربي وقريتي؟!
    هاهي أشرعتُك تبحرُ متعجلةً نحو البعيدِ .. المجهول، وبقسوةٍ لم أتخيلها ..
    لماذا رحلت يا نبوية وتركت أشلاء فارس تبحث عنك كيْ تعيدي إليها الحياة كما فعلت جدتك «إيزيس» ذات يوم!
    لماذا رحلتِ ولم تسمعي قصائدي المرهقة بالحنين، الحالمة ـ كقلبي ـ دواماً بكلمة منك .. تعيدُ الحياةَ لهذه الجثةِ الساكنة؟!!
    أطفأتِ ـ بيديْكِ ـ شمعتي الساهرة!
    (2)
    أخذتُ أرضي وصفصافتي وعصافيري .. تحت جلدي، وقبعْتُ مقنَّعاً بالفضاء الأبيض الفاتر في هذه المدينة الجميلة التي تستلقي في حضن البحر هاربةً من أضلاع الصحراء!
    أجلسُ خلف الكرسي الوثير .. وأمامي حاسوب أدون عليه أرقام الصادر والوارد، وأُحصِّل المبالغ المستحقة لهذه المؤسسة التجارية ذات المسؤولية المحدودة التي أعملُ بها، والتي يمتلكها شيخٌ نقي ضرير، ويُشرفُ عليها أخوه الأستاذُ الجامعي، الذي يثق بي كثيرا.. وأرجو أن تكون ثقته في محلها!
    لم تعد لديَّ أجنحة كي أحلق بها، ولم أعد أستظل بصفصافةٍ أو أشع في بهاء، ولم أعد أكتب شعراً، منذ تركت «نبوية»، وغادرتني أحصنة شعري التي لا تصهل!
    أتركتُها أنا .. أمْ هي التي تركتْني؟
    استقرَّ والدها التاجر الكبير في الإسكندرية التي ضاعت فيها، فلم أستطع أن أراها أو أجلس إليها!
    لعلها رحبت بهذا الانتقال؛ فلم تكن أختي فريال تحبها.. وظنت نبوية أنها ستقف في طريق زواجي منها!
    أصبحتُ ـ بعد رحيلها ـ أوقنُ أن الجفافَ يسودُ الأرض، وأن السماء لم تعد تمطر.. والخراب ينشر أجنحته السوداء في كل مكان من أرض الله!
    لم أعد أشعر بنبض ما أكتبُه من خواطر، فما أكتبه هو هوامش ـ لا أكثر ولا أقل ـ على كتاب رحيل نبوية .. أو كتاب الغياب!
    ...
    لكني ـ مع ذلك ـ ظللتُ أكتبُ .. حتى لا أنسى صبوات النرجس، وموسيقا حياة الروح!
    (3)
    قلتِ لي ذات مساءٍ، والشمسُ الغاربةُ تدفع شعاعاً قانياً من خلفِ الغيوم ليسكبَ في قلبي الفزعَ على مشهدِ مأتمِ الجمال الوحشيِّ:
    ـ في مقلتيِّ ضياء طفوليٌّ قديمٌ ينبئُ عن حرماني!
    وأنتِ وردةٌ حمراءُ أعلقها في «شم النسيم» على عروةِ قلبي، المُباغَتِ دائماً بحرابِ الفقْدِ والثكل!!
    لماذا اختفتْ ملامحُ وجهك الطفولي اللامع .. خلف شرفةِ الغيابِ .. فما لي أبصرهاَ ـ على الرغم من ذلك ـ حقل أنجم خرساءَ في سمائي المعتمة؟
    أتذكرين ريشتي التي رسمتك ذات مساءٍ صافٍ على قبةِ السماء، وحثت خطاها القصيرة، نحو مروجك السماوية .. يا ذات العينين العسليتيْنِ المثقلتين بالوجوم؟!
    وأنتِ تقولين: رسمك أحسنُ من شعرك.
    ـ كان جبران رساماً أيضاً.
    تضحكين:
    ـ أيهما أسبق عندك .. الرسم أم الكتابة؟
    ـ رسم الإنسانُ الأول على جدر الكهوف قبل أن يخط قصيدة أو حكمةً!
    رحلتِ ..
    منذ كمْ تركتني؟ .. عشرة أعوام؟
    قابلتُك وأنت في السنة النهائية من دراستك الجامعية في ملتقى صيفي للطلاب، وكنتُ قد تخرّجتُ من عاميْن!
    ذهبتُ لزيارة صديق في معسكر أبي بكر الصديق، فوجدتك هناك!
    وأنا أُطالعُ الآنَ خطابك الوحيد .. يحدثني عن نزوة حنانك الساخر، وعن عينيك الحالمتين. ويحدثني بصيف بديعٍ قريبٍ نزق .. نقضيه في غفوة من زماننا المخاتل .. وتغنين فيه أغنيات الحب لطفلكِ (هلْ مازلْتُ طفلاً؟) الذي لا يكبر أبداً.
    وأتساءل:
    أهجرتِني إذنْ، وأنا في الرابعة والعشرين.. فمن سيؤنس وحدتي ـ في أيام العمر القادم المملة ـ بعد فراقك المباغت؟!.. ومتى سيدخل طيفُكِ حجرتي أعلا السطوح؟ .. طيفك الذي يرجُّ أضلعي، ويطوي أيام الغربة بحنينٍ دافق .. إلى قريتنا (التي لم تعد قريتك) البعيدة .. البعيدةِ .. البعيدة؟
    ومن الذي سيُفاجئ طريقي .. بخطوات غير مُراقَبة .. ويمدُّ يده البيضاء لألثمها وأنا مُغيَّبٌ، بين حلمي .. وواقعي؟!
    (4)
    لماذا ذهبتُ إلى البحرِ ـ بحر الدمام ـ في اليومِ الثالثِ من أيام عيد الفطر؟
    أكان لا بد أن أذهب إلى البحر .. وأنا الذي لا أغادر الشركة إلا للنوم، وقبل النوم أقرأ رواية أو أشاهد بعض برامج الفضائيات؟ .. أو أكتب سطوراً مما أظنه شعراً؟
    رأيتُ «نبوية» على البحر، تضحك بقلبٍ ممتلئ بالبهجة (أم هكذا صوّرتْ لي هواجسي؟) وأولادها، ينطقون لهجة الخليج في تمكن، ويلعبون ويجرون في حبور وضوضاء.
    كانت تجلس بجواري على الشاطئ، في هذه الحديقة المترامية، وكنت أنا والمهندس النوبي سعيد ـ جاري في السكن ـ نلعب الدومينو، ويحاول كل منا أن يكسب الدور، وضحكاتنا العالية ترج المكان!
    تشاغلتُ برهةً بتأمُّل خطواتها، وهي تتحرك لتجلس على السور الواطئ الذي يفصل الحديقة عن البحر!
    ...
    وسعيد يضحك:
    ـ لن أتركك تهزمني، لو اضطررتُ أن ألعب حتى الفجر .. فسألعب.
    وأضاف:
    ـ غداً الخميس .. إجازة في البلدية.
    أضفتُ وأنا ابتسمُ، مشجعاً له:
    ـ عليَّ أن أفتح مكتب المؤسسة في السابعة والنصف.
    (5)
    اتركي لي في القلبِ جذوةً صغيرةً .. صغيرةً .. من نار العشق .. تضئُ طريقي الدّامسَ، وتعاليْ معي .. نجلس على العشبِ في قصْرِ مسحور، نقرأُ أشعار طاغورَ .. وتغنين لي أغنية فايزة أحمد الأخيرة!.. ونلقي الصحف الكاذبةَ بعيداً، بكلِّ ما تقدرُ أيدينا .. حتى لا تلوث أصابعنا (التي تكادُ تنْدى) بحبرها الأسودِ الخبيثِ.
    تضحكين:
    ـ الصحفُ لم تعد تلوثُ الأيدي، فقد مات العرَّابُ الكاذبُ ربُّ الجنود .. بعدَ رحلتِهِ الأخيرةِ / غيْرِ المقدَّسةَ!!، وتركنا للفجيعةِ، وللحقيقة الوحيدةِ ..
    ـ ماذا تقولين؟
    لا تردين على سؤالي، وتُكملين:
    ـ تركنا كالفئران، أو قل أسرى في أيدي الغربان!!!
    (6)
    هاهي أخيراً «نبوية»، يا الله!
    لم أجدها للمرة الثانية على شاطئ الإسكندرية، ووجدتُها على شاطئ الدمّام!
    تزوجتْ من خليجي، وتركتني!
    كسبتُ الدورَ من سعيد، وتأكدت خسارتي في «نبوية»!! ..
    زوجها فتى .. في نحو الأربعين، خفيض الصوت، له لحية خفيفة، ويداعب أطفاله في حنو بالغ، ويتكلم كثيراً في هاتفه الجوال .. يبدو من منظره وكلامه أن صاحب مؤسسة تجارية، كالمؤسسة التي أعملُ بها.
    لماذا جئتُ الليلةَ إلى البحر؟
    (7)
    لا أذكرُ خطواتي الأولى معها!
    لا أدري كيف تعرّفتُ عليها.. أو كيف اكتشفتُ أنها جارتي، وأنا في الرابعة عشرة؟!
    كنتُ صبياً، لي الأمسياتُ التي أنطلقُ فيها كالفراشة أغني، تُدغدغُ الأغنياتُ مشاعري فأطير بعيداً عن قيدي الزمان والمكان، وكانت جميلةً جميلةً .. وكان فمُها عصافيرَ تغردُ، وكانت وردةً حمراءَ في العيون، مُبهجة!
    تمنيتُ لو تصمت الأغنية الكسول التي تتردد بجانب شجرة الصفصاف، في مذياعٍ خشبي كبير ـ حينما مرّت ـ وأنا مستلق على تل صغير بالفضاء، أُذاكرُ ما قاله أبو ماضي، عن الحجر الصغير، والأستاذ يُهددنا بأننا سنرسب في امتحانات الثانوية العامة ـ التي لا ترحم ـ إذا لم نحفظ النصوصَ جيداً ..، كنتُ في الصفِّ الثالثِ الثانوي، وكانتْ تصغُرني بعامين. وأختي فريال التي لم تتعلّم تراها قطةً لها أنياب!!
    قطة لها أنياب؟!
    .. ماذا تقولين يا فريال؟ .. أنت لا تعرفين القطط، ولا تحبين الفراشات أو الورود!
    كان الضوءُ البعيدُ للعصفورة الملونة .. يتجلى في هالةٍ شبه رماديةٍ صغيرةٍ كافيةٍ أن تحيطَ بالرأس والعنق، وتُحدد ملامح الصدر الصغير المكتنز .. فتبدو كأميرة منحدرةٍ من سلالةِ ملوكٍ من قرونٍ سالفة أراهم في الصور الملونة في الروايات المترجمة!
    لماذا ترك أبوها ـ تاجر الألبان ـ القرية، وهاجر لبعض الوقت إلى المنصورة فدمياط ثم إلى الإسكندرية؟
    أكان متعثرا في تجارته ولا يريد من البلاد أن تفرح في فشله؟ .. أمْ كان ناجحاً وينتقل من نجاح إلى نجاح؟
    أصغرت القرية عن أن تحتوي آماله ونشاطه؟ وهو الرجل الذي له زوجة ثرية .. وبنت ولد؟!
    على شاطئ الترعة المتخم بالزرقةِ .. بين النوم واليقظة، وحيثُ لا يُطالع أبي دفاتري .. كتبتُ قصيدتي الأولى، وكان صوتُ العصفورةِ الوحيدة هو القوةُ الحقيقية التي يمُكنها أن تجعلني أحلم وأغني .. خلف الجدران الطينية هناك .. حيثُ تزهرُ أشجارُ القطن، وتجري مياه الينابيع، وتجلسُ أمام صنبور بجانب باب الدار الكبيرة، وترشني بقطر الندى كلما مررتُ!
    كنا يوم أربعاء في قرية منسية من قرى الشرقية!
    وها نحن في يوم أربعاء بعد سبع عشرة سنة في الدمّام .. وفي ثالث أيام عيد الفطر .. في أرض بعيدة!
    ما أسرع ما يمر الزمان!
    ...
    (8)
    لماذا تحوطك الغمامات وأنتِ ـ في جلستك البهيجة ـ محاصرةٌ بأحاديثِ العابراتِ عن حزنكِ، وعن جمالِك البهيج الذي يُدير الرؤوس!
    لتنتش أرضٌ أنت تجلسين عليها، ولينتش كرسيٌّ أنيق، ومقابضُ ذهبية ولأنتش أنا المأخوذُ ببهائك ولأسرف في الفخر، لأنني كان لديَّ فسحةٌ من الوقْتِ لأراكِ وأنتِ جالسةٌ تطالعين مجلةً ملوّنةً لا تتحدّثُ بالطبعِ، عن إسرائيلَ، وحرب الاستنزافِ، والقائد الكهل، الذي يريد أن يبسط سلطته المتآكلة على ثلة أصحابه الكهول بفعلِ الوقتِ، والهزيمة!
    قبل آخر لقاء في معسكر أبي بكر الصديق .. كان يُرافقني ابنُ خالتي العائدَ منهزماًَ من حرب الساعاتِ الست، وكانت ضاربةُ الرملِ تُغريه بزواج ابنتها القبيحةِ (الغولة)، وكانتْ طيورٌ متوحشة تقرعُ الكؤوسَ في صباحٍ معتمٍ!، تركني أمام المعسكر وأنا أثرثرٌِ:
    تعاليْ أيتُها الطواويسُ المهزومةُ، تعالَ يا إوزٌّ، يا بطُُّ، لنحتف ٍجميعاً بالهزيمةِ .. برجالِ الهزيمةِ، ولندحرج مآتمنا في رمالِ الشرقِ، ونأخذ أقمارَ البراري في أحضاننا.. ولنكتب قصائد الهجاء في كلِّ نجمٍ محاربٍ، لم يصُن مفارق سيناء، أو «شرم الشيخ» و«دير سانت كاترين».. حتى لو استمطر سحائب النصر الغائب بهمهةِ العرَّابِ الكاذبِ..، وحاول أن يُطلع في سمائنا أقمارَه العجيبةَ السوداءْ!!
    أيها الشعرُ .. يا جناحَ الطائر البحريِّ المسافر إلى البعيد ..
    خذ شوقي إلى سريرها الغافي في مروج النور ..
    ورش أطيافاً من نورٍ، وصلاةٍ
    على هدبها الغافي ..
    وتعال .. صف لي ضجعتها الأخيرة!
    ...
    أيتُها الفرسةُ الصاهلةُ! كمْ يعذبني صمتك
    وأنتِ كم صهلتِ .. وصهلْتِ .. بين مروج ربيعي الأجرد، قبل أن يُقدمَ الغربانُ بنجمتهم السداسية وسوالفهم الطويلةِ السوداءِ القبيحة!
    تتكدّرين؟
    سأذكرك دائماً
    ...
    لأجلسْ على الصخورْ
    ولأتِهْ بحبك .. الذي كان ملاذي
    في الشارع المهجور
    بين أقراني!!
    وعلى أطيافِ سهدي
    وسأحاولُ ـ أنا مالكُ بن الريب ـ أن أكتب المرثية الأخيرة
    لقلبك المفطور!!
    (9)
    «نبوية» تخرجت، وتزوجت، وأنجبت ..
    وأنا وحيد، بلا أب!!
    فقد رحل أبي قبل أن أتزوج!!
    .. ولي أم عطوف، تحنو عليَّ، وتدعو لي، وتقول لي دائماً إن «نبوية» ليست آخر الدنيا!
    .. ولي أخت عانس (هل قلتُ من قبل إن اسمها «فريال»؟) في الأربعين لم تتزوج، وتهوى اصطياد اليمام والعصافير، وتحب قتل الفراشات واغتيال الورود!
    يا لدورات الزمن!!
    لم أكن أدري عن «أربعاء الرماد» هذا ـ بالدمام ـ الذي فتق جراحي!.
    وكأن المُغني الكهل الضرير ـ الجالسَ في طرفِ الحديقةِ ـ يجلد إحساس الشاعر القديم بقوله:
    «إن الزمان هو الزمان دائماً
    وإن المكان هو المكان الدائم والوحيد
    وإن ما هو فعلي هو فعلي لمرة واحدة فقط
    ولمكان واحد فقط» !!

    ديرب نجم 24/8/2005م
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12 رد: النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    المشاركات
    1,123
    معدل تقييم المستوى
    19
    زيــــــــــــــــــارة
    ...................

    القرية تمجني وكل من فيها لا يريد رؤيتي.
    فكيف أذهب إلى القرية؟
    كيف أذهب إلى القرية وأبي وأمي قد ماتا معاً في حادث مروري منذ سنوات طوال (لم أزر القرية من يومها)، وشقيقي الوحيد «بهاء» ترك القرية ليعيش في إيطاليا مع المرأة الإيطالية التي أحبها وتزوجها، وترك بلاده من أجلها؟
    فلأذهب إلى الطبيب النفسي «صفوت عيسى» الذي عرفته زميلاً لي في معهد حلوان الاشتراكي في «سنوات النضال»، قبل هزيمة يونيو 1967م، وأتحدّث معه بعض الوقت.
    كان أيامها ما يزال نائباً في مستشفى القصر العيني.
    وهو الآن أستاذ كبير في طب القصر العيني؛ تستضيفه الفضائيّات، والمجلات الطبية، ويُدلي برأيه الطبي في الكثير من الصحف التي تطلع عليها، وأحيانا ما يتحدّث في بعض قضايا المجتمع؛ كالإصلاح، والفقر، وقضايا التعليم.
    مازالت أتمنّى أن يسمعني!
    ...
    ابتسم ابتسامة مشجعة، قبل أن أتكلم!
    الاسم: سُها، غيّرته من سناء علي خليل إلى سها، أليس ذلك أفضل يا دكتور؟!.
    العمر: ألف عام في التيه، وممارسة الخطيئة، بلا لذة. وكأني أعذب نفسي!
    الهواية: قراءة الشعر، والاطلاع على بعض ما تنشره الصحف النسائية التي تهتم بقضايا المرأة من قضايا الجريمة، والاستماع إلى الفضائيات ومشاهدة ما تقدمه من أفلام قديمة .. أبيض وأسود .. لا أحب الأحاديث الطويلة .. كم أتمنى ألا يزيد البرنامج ـ أي برنامج عن نصف ساعة.
    الملل؟ .. هو ما يقتلني، بل هو الذي دفعني لأجيء وأتحدث معك!
    هل تذكر أنك عرضت عليَّ ذات يومٍ الزواج، فقلت لك: إني تزوّجتُ القضية! قضايا مصر وأفريقيا ودول العالم الثالث؟
    أية لوثة أصابتْ عقلي يا صفوتْ؟
    هل ساءتك أحوالي؟
    هل تريد أن تسألني عن صحتي؟
    القوام: القوام؟!
    .. هل أبقت فيَّ الأيام قواماً؟
    هاأنت تراني طويلة، وبيضاء، وملفوفة، وكأني ابنة باشا، مع أني ابنة لفلاح متواضع كان يملك أربعةً وعشرين قيراطاً (أي فداناً لا غير) في إحدى القرى المنسية من شمال محافظة الشرقية، ها هو تركها ومات من ثلاثة أعوام في حادث مروري، وبموته ودَّعتُ القرية، ولم أعد أطيق السير في الطريق الموصلة لها!
    بيتنا؟ .. لم يعد لي بيت في القرية، فقد تركه أخي هو والأرض لأبناء عمي، وتزوّج من امرأة عرفها في فندق كان يعمل فيه في شرم الشيخ. سحرته، فترك وظيفته، وسحبته وراءها إلى إيطاليا.
    لا .. لم آخذ ميراثي في الأرض .. الأرض لله.
    كأنك تقول أين صدر سناء الذي اشتهرت بجماله؟
    صدري كان مكتنزاً .. وهاهو قد بدأ يترهّل تحت وقع سنابك خيل الزمن، وكأنها خيول المغول التي لا ترحم!

    سألني صفوت الآخر «صفوت نعمان» ذات صباح أسود جنائزي (ورحلاتي تتوقّف في شقته مرتين أسبوعيا، حتى بعد أن مرّت «سنوات النضال» ـ بحلوها ومرها ـ وصار رئيساً لمجلس إدارة مصنع رأسمالي (لا أعرف أسماء أصحابه، ولا جنسياتهم، فهو من المصانع عابرة القارات!!)
    تسألني وأنت خائف من ردي:
    ـ لماذا لم تتزوّجي يا سُها؟
    وضعتُ ابتسامة شبه ميتة ألِفتُ رسمها على وجهي كلما قابلتُ صفوت الآخر:
    ـ هل تنوي أن تتزوّجني يا باشا؟
    .. وكأنما لدغته عقرب:
    ـ وهل من الممكن أن أتزوّج في هذه السن؟!
    ... وكأن عينيه تقولان:
    «وهل أتزوّج داعرة مثلك؟!!»
    فهل ينسى هو ورفاقه أنهم هم الذين صنعوا مني هذه الدّاعرة؟! وهم الذين لوّثوا هذه القروية الغريرة .. التي كانت ذات يومٍ جميلة؟!!
    ـ لم تدع لي الأيام فرصة أن أتخذ قراراً مثل هذا!

    سألني الطبيب النفسي «صفوت عيسى» ـ دون أن ينطق ـ كيف كانت الرحلة من القرية إلى المدينة .. إلى ذلك الحي الراقي من المدينة وكأنها رحلة ألف عام من المعاناة الدائمة والألم؟
    نظر إليَّ كأنما يكتشف للمرة الألف مناطق اللذة الرخاميّة، التي يستعذبها الساقطون من أمثال صفوت نعمان بعد أن أطال من قبل التأمل في أجزاء نساء أخريات لا تُضاهيها حلاوةً وتمرداً ..
    ـ من أنتِ منهما: سناء علي خليل أم سُها؟
    ـ سُها!
    وكأن الطبيب قد بوغت بإجابة لا يبحث عنها، ولا ينتظرها:
    ـ لا أسألك عن الاسم .. ولكنَّ ما أقصده ..
    ـ ماذا؟
    ... غيَّر اتجاه الكلام بعد أن أحس سفالة السؤال:
    ـ كيف تركك صفوت ـ معذرةً ـ ولم يتزوّجك؟
    وهو يُنزل عينيه إلى أسفل:
    ـ حينما رفضتِ عرضي للزواج .. عرفتُ من البعض أنك على علاقة به!
    رفع عينيه، وأضاف ضاحكاً:
    ـ كيف ترك كلَّ هذا الجمال؟
    إن عيني الطبيب تقولان: كيف يتركك وهو الذوّاقةُ الخبير بأجساد النساء؟!
    لاحظتُ أن شعره يميل إلى البياض، قلتُ كأني تمزح:
    ـ أظن أنني رأيتُك منذ عشرة أعوام، يا دكتور صفوت .. كان شعرك فاحماً.
    قال ضاحكاً، وقد استهوته المزحة:
    ـ لم أرك يا سناء ـ آسف يا سُها ـ .. منذ ثلاثين عاماً .. هل مازلتِ تذكرين اللقاءَ الأول؟ في معهد الشباب الاشتراكي بحلوان في أواخر الستينيّات، في تلك الفترة السوداء التي أعقبت هزيمة يونيو 1967م.
    صححتُ له:
    ـ بل رأيتُك قبل الهزيمة بفترة بسيطة ..
    أغمض عينيه:
    ـ كنتُ حديثَ التخرج من كلية الطب، فقد تخرجت في عام 1965م وكانت لي أحلام في السفر إلى أمريكا، أجهضتها ظروف تلك الأيام. ووجدتني أقرب إلى البعثة للاتحاد السوفيتي من أمريكا. لماذا أذهب إلى أمريكا وهي التي تدعم إسرائيل على اغتصاب فلسطين، وهي التي ضربت بلدي؟ بل كانت هزيمتنا بسبب دعمها لإسرائيل. هكذا قالوا لي في إدارة البعثات وقتها.
    ويقطع روايتَه:
    ـ هل تذكرين؟
    ويزفر ضاحكاً:
    ـ اتجهت إلى الاشتراكية، ثم تبيّن فيما بعد أنها كذبة كبرى!
    غامت الرؤى في عينيه، وصمت، وهو يزفر بحسرة:
    ـ سقطنا جميعا في الفخاخ التي كانت منصوبة لنا بلا رحمة! .. نحن والاتحاد السوفيتي!
    أدار رأسهُ وهو يضحك:
    ـ تستطيعين أن تقولي إنني الآن من التيار الإسلامي، وإن كنتُ لم أنضم إلى حزبٍ أو جماعة!
    قال وهو يُغمض عينيه:
    ـ الإسلام هو الحل .. فيه الحل لكل مشاكل البشر وليس المسلمين فحسب.
    وجدني صامتة، فأضاف في نبرات واضحة:
    ـ ما رأيك يا سُها؟
    ـ انتفضتْ:
    ـ أنا زميلتك سناء علي خليل!، لكن الناس يعرفونني باسم: سُها! .. اسم من ضرورات المرحلة يا دكتور .. وأنت ناديتني باسم سناء من قليل!
    ابتسم:
    ـ لقد كبرنا .. يا سناء! أنا في الثامنة والخمسين الآن .. أنا من مواليد 1943م، وأظن أنك تصغرينني بعدة أعوام .. ثلاثة مثلاً؟
    لم أُجب.
    ضرب المكتب بيده وهو يخلي للبسمةِ مكاناً:
    ـ رحلة طويلة .. من النشأة في قلاع الإقطاع بأنشاص .. بمحافظة الشرقية حيث أرض الملك .. وأبي وأعمامي أجراء في أرضه .. إلى الحلم بإنجازات الثورة .. التي وعدنا بها جمال عبد الناصر .. وغناها عبد الحليم حافظ وصلاح جاهين في «بستان الاشتراكية»، ثم التفوق .. ومنظمة الشباب ومعهد حلوان الاشتراكي .. وذهابي إلى روسيا لاستكمال دراساتي، والتحول هناك عن طب المجتمع إلى الطب النفسي .. لمحاولة التخفيف عن أوجاع الناس الذين قتلتهم هزيمة 67.
    أغمض عينيه، كأنه يريد أن ينسى:
    ـ رحلة صعبة!!.
    زفر:
    ـ يا الله حسن الختام .. أحاول أن أنسى تلك الفترة من حياتي!
    رأيته وهو ينظر إلى الجهة الأخرى .. ويُخرج منديلاً ورقيا، ويبصق في قرف!
    ......
    لأغير الموضوع .. سألتُه:
    ـ كيف حال أسرتك .. أقصد زوجتك وأولادك؟
    ابتسم:
    ـ أمضيتُ حياتي وحيداً .. أبي ترك لي ستة أولاد وبنتين. أكملتُ بعده رحلتي معهم .. تزوّجوا جميعاً، وعملوا في وظائف حكومية، وسافر بعضهم للعمل في الخارج: في ليبيا والعراق والسعودية .. وبقيت أنا، أقضي خمسة أيام في القاهرة مع أصدقائي من المرضى .. ويومين في أنشاص .. أزور أقاربي، وأشارك أهل القرية في الأفراح والعزاء ..
    استمرّ في الحديث ..
    .. وكان عليَّ أن أستمعَ له، لأنسى وحدتي والكثير من جراحي، وأجعل سها المأزومة تنسى تلك الأيامَ التي تُطاردها .. وتنكأ جراحها، وأُساعدها على أن تقذف ذلك الماضي الحزين القاتل الذي يُطاردها في صحيفة الزبالة التي بجانبه!!
    الرياض 24/2/2006م
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. النص الكامل لمجموعة «عندما تكلم عبد الله الصامت!» لحسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 12/09/2008, 07:50 PM
  2. النص الكامل لمجموعة «أحلام البنت الحلوة» لحسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 28/02/2008, 06:21 AM
  3. النص الكامل لديوان «الحلم والأسوار» لحسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 23/12/2007, 10:56 AM
  4. النص الكامل لمجموعة «الدار بوضع اليد!» لحسين علي محمد
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 16
    آخر مشاركة: 23/04/2007, 11:36 PM
  5. الدار بوضع اليد!-د.حسين علي محمد-قصة الأسبوع الرابع من شهر فبراير.
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 30/01/2007, 04:21 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •