(في دلالة الأصوات في العربيّة)

استكمالا ًلما بدأتُ به ووعدتُ ،أذكرُ هنا شيئاً من المظاهر الصّوتية البديعة التي تستوقفُ المتبصِّرَ فيها لما لها من جميل التفسير،وحسن التعليل،إذ تنزلُ من نفسك منزلا ًترتاحُ له ،وتطرَبُ به.

من هذه المظاهر مراعاة ُالحال في إطلاق الأصوات على الأسماء؛فكثيراً ما نسمعُ كلمة ً ذاتَ وقع ٍ قويٍّ في جرسها فنشعر للوهلة الأولى بشيءٍ من معنى هذه الكلمة قد دلّ عليها جرسُ حروفها،فكلمة ٌمثل (صخر) تدلّ في حال من الأحوال على معنى القوة والصّلابة،هذا المعنى ساهم في رسمه وإيحائه أصواتُ هذه الكلمة،فالصّاد
ـ حسبَ علم الأصوات العربيّة ـ حرفٌ شديدٌ مجهورٌ صفيريّ،هذه المعاني لهذا الحرف مستمدّة ٌمن وصف خروجها من جهاز النطق ،فالحرفُ المجهورُ يخرج ُمن جهاز النطق بعد حبس الهواء ثمّ إطلاقه وفق مجرى معيَّن فيخرج هذا الحرفُ شديداً في نطقه.
على أيّة حال لا أريدُ أن أذهبَ أبعدَ من هذا لأنّ بحثَ الأصوات طويلٌ ولسْنا في صدده هنا،ما يهمّنا أن نقولَ إنّ الأصوات لها دلالاتٌ تساهمُ في إيحاء المعنى الذي تحمله الكلمة.

أنتقلُ إلى مسألةٍ أخرى كان قد سألني عنها أخٌ كريمٌ من أصدقاء المربد،وهي موضوع مراعاة الأصوات مقتضى الحال؛ولتوضيح هذه الفكرة يذكر ابنُ جني في الخصائص(1) ما يلي نصُّه:(إنّ كثيراً من هذه اللغة وجدته مضاهياً بأجراس حروفه أصواتَ الأفعال التي عبّر بها عنها؛ألا تراهم قالوا "قضم " في اليابس،و "خضم" في الرّطْب؛وذلك لقوّة القاف وضعف الخاء،فجعلوا الصّوتَ الأقوى للفعل الأقوى،والصّوتَ الأضعفَ للفعل الأضعف.وكذلك قالوا :صرَّ الجندبُ،فكرّروا الرّاءَ لما هناك من استطالة صوته"أي تتابعه في استمرار"،وقالوا:صَرْصَرَ البازي،فقطّعوه؛لما هناك من تقطيع صوته...).

ويستوقفني في قول ابن ِ جني أمران:
الأوّلُ: ينطوي على كلمة "كثيراً" في بداية قوله،وهذا يعني أنّ الأمرَ لا يشملُ كلّ الكلمات،ولو كان كذلك لأمكن من وضع نظرية ثابتة تأخذ في اعتبارها عند وضع الكلمات رؤية ً مطردة،وهذا ما لم يحصلْ،لأنّ مسألة وجود هذه الدّلالة في الإيقاع الصّوتيّ للكلمات هي نابعة من إحساس العربيّ بأنّ هذا المُستثقل يُنفـَرُ منه،وهذا الخفيفُ على اللسان يُحتفى به.

الثاني: يقوم على حكاية أصوات المسموعات،فمصدرُ (صرّ و صَرْصَرَ)هو من طبيعة خروج الصّوت من الحيوان،فمعروفٌ أنّ الجندب ـ الصّرصارـ صوته يصفر بالصّادّ والرّاء،ولأنّ تصويته يكون في استمرار لم يجدِ العربيُّ بدّاً من إطلاق صرّ متصلاً كاتصال التصويت الأساسي للصّرصار.ومع البازي ـ والطيرُ الجارحُ المعروف ـ يكون الأمرُ بالعكس..وهلمّ جرّاً.
لعلّني في هذه الكلمات قد وُفّقتُ لتوضيح ما سألني عنه الأخُ الكريمُ الذي أكرّر شكري وتقديري له.
والسلامُ عليكم ورحمة الله وبركاته.





(1):الخصائص:ابن جني ـ تحقيق د.عبد الحميد هنداوي ـ الجزء الأوّل ـ دار الكتب العلمية ـ ط 2 /2003/ بيروت ـ ص 112