عندما يكتب المثقف عن هموم الامة يكتب بمنظق الجامع الذي يتفهم كل الاراء و يحاول توحيدها و التركيز على ما يجمعها لا على ما يفرقها و هي الرسالة السامية و فهمي هويدي و هو احد اكبر المفكرين الاسلاميين لا يشذ عن هذا الهدف و هنا في هاته المقالة يعالج المسألة الامازيغية بكل موضوعية و منطق.

بقلم: فهمي هويدي



(نقلا عن الشرق الأوسط ليوم الاثنين 18 جوان 2001



اللهم يا لطيف، نسألك اللطف في ما جرت به المقادر، فلا تفرق بيننا وبين اخواننا البرابر، هذا الدعاء كان يتوجه به المغاربة الى الله، مرددين كلمة يا لطيف آلاف المرات، في عهد الحماية الفرنسية، عقب صدور الظهير البربري عام 1830، وقد اختاروا لدعائهم يوم 16 مايو (أيار)، موعد صدوره، حيث كانوا في ذلك اليوم يتحلقون في المساجد بعد صلاة العصر، ويبتهلون الى الله ان ينقذ بلادهم من تلك الفتنة، ولان الفرنسيين اعتبروا الحلقات التي كانت تنعقد لترديد ذلك الدعاء من قبيل التعبئة المضادة، فانهم أصدروا قراراً بحظرها.
يعكس الدعاء جزع المسلمين من تلك الفرقة المشؤومة، التي تشق صف المسلمين وتوقع بين العرب والبربر، ثم ان الواقعة دالة على أمرين آخرين، أولهما ان المشكلة قديمة وليست مستحدثة هذه الأيام، وثانيهما وهو الأهم ان الفرنسيين طرف فيها، وليسوا بعيدين عنها بحال، بل انهم حريصون على ابقائها واذكائها.
لو خيرنا هذه الأيام لما كان أمامنا على البعد إلا ان نتحلق في المساجد لنردد دعاء اخوتنا المغاربة، سائلين الله ان يشمل بلطفه شعب الجزائر، وان يجنبهم شرور الفتنة التي لاحت على أكثر من صعيد حتى الآن، والتي نتمنى ألا تمتد شرارتها الى أية أقطار أخرى في المغرب العربي.
بشكل مواز فنحن مطالبون بأن نتعامل مع المشهد بوعي صحيح، يضع المسألة في إطارها ويساعدنا على أن نستخلص عبرتها، ذلك ان من أخطر مشكلاتنا المعاصرة اننا نواجه أزمات كثيرة، تستغرقنا طويلا وندفع لقاءها ثمناً باهظاً، لكننا نظل غير قادرين على التشخيص الصحيح لتلك الأزمات، علماً أن ذلك لو تم، لوفر لنا وقتاً وجهداً ولجنبنا ويلات كثيرة، ولعل مشكلة التطرف والإرهاب هي أقرب نموذج يخطر على البال في هذا الصدد، إذ اننا لم نتفق بعد على تشخيص موضوعي لجذور الظاهرة، ولماذا تظهر في بلد من دون آخر، وفي زمن من دون آخر، وهل هي مسؤولية جماعات بذاتها، أم انها نتاج ملابسات سياسية واجتماعية، اتسمت بالحدة والقسوة، فكان الحصاد من جنس الغرس.
أرجو ألا نكرر الخطأ ذاته في التعامل مع المسألة الامازيغية، فنلجأ الى التحليلات المسطحة والكسولة، التي تنحي باللائمة دائماً على القوى الأجنبية والعناصر المقدسة، وتبرئ ما هو قائم من المسؤولية.
نعم القوى الأجنبية لها دورها في زرع الفتنة بين البربر والعرب في المغرب العربي وفي الجزائر خاصة، وفرنسا هي الراعي الرسمي والتاريخي لتلك الفتنة، منذ ارسلت الآباء البيض الى منطقة القبائل في عشرينيات القرن الماضي وحتى انشأت الاكاديمية البربرية في باريس عام 67، بعد استقلال الجزائر.
لقد عمل الفرنسيون على تثبيت أقدامهم في الجزائر عبر كسب ود منطقة القبائل، التي كثفوا من بعثاتهم إليها، سواء لتعليم الفرنسية أو للتنصير، وهذه البعثات ظلت تروج لكراهية العرب والتمرد على الاسلام وللزعم بأن البربر جرمان هاجروا من أوروبا، ومن ثم فهم أقرب الى الفرنسيين والاوروبيين عامة منهم الى بقية الجزائريين.
من ناحية أخرى، فان العقل الاستعماري الفرنسي استخدم الورقة البربرية لشق الصف الوطني الجزائري، ففي أواخر الاربعينيات ادرك الوالي الفرنسي الأسبق بالجزائر شاتينيون ان قوة حزب الشعب الجزائري تهدد المخططات التي تستهدف فرنسة الجزائر، فقرر تدميره من الداخل عبر بث النزعة البربرية في صفوفه، بواسطة عملائه، الذين نجحوا في تشكيل تنظيم باسم حزب الشعب البربري، غير ان القيادة الوطنية لحزب الشعب الحقيقي قامت بتصفية اولئك العملاء، ووأدت الفتنة في مهدها. وكان واضحاً من شواهد عديدة ان الذين يُستخدمون لاذكاء تلك الفتنة هم من الشيوعيين الذين انخلعوا من مشاعر الولاء للاسلام والعروبة، ومن ثم كان من السهل تجنيدهم لتغذية النزعة البربرية والدعوة الى مخاصمة الاسلام والعروبة ونبذهما معاً.
لقد أوفى الباحثون الجزائريون مسألة الرعاية الفرنسية للنزعة البربرية حقها، وأخص بالذكر منهم الدكتور عثمان سعدي في كتابه «الامازيغ عرب عاربة»، والدكتور احمد بن نعمان في كتابه «فرنسا والاطروحة البربرية في الجزائر».
غير اننا اذا وقفنا عند ادانة الدور الفرنسي في اذكاء الفتنة، فاننا سنكون كمن توقف عند عبارة لا تقربوا الصلاة، فذلك الدور سبب أول حقاً، لكنه ليس سبباً أوحد، وكون العبث بورقة البربر امرا حاصلا منذ العشرينيات والثلاثينيات، فمن حقنا ـ وواجبنا ـ أن نتساءل: لماذا تنفجر المسألة في أوقات بذاتها، ولماذا تهدأ في ظروف أخرى.
اذا استخدمنا فكرة المفكر والفيلسوف الجزائري مالك بن نبي التي تحدث فيها عن الاستعمار والقابلية للاستعمار، فانني ادعو أيضاً الى التفرقة بين محاولة الفتنة وبين القابلية للافتتان، فالمحاولة قام بها الفرنسيون لا ريب، واستخدموا لأجلها نفرا من الغلاة، سواء كانوا باحثين كارهين للعرب والاسلام، أم شباناً مندفعين ومتطرفين بطبيعة السن وحكمها.
لكن السؤال الذي ينبغي ان نتصارح بالاجابة عنه هو: ما هي الظروف التي توافرت حتى مكنت للفتنة جواً مواتياً فجر المشاعر على النحو الذي تابعناه في التقارير الصحفية ورأينا صوره على شاشات التلفزيون.
ازعم ان ثمة أسبابا ثلاثة اسهمت في اشاعة القابلية للافتتان، هي:
أولا: تقليص دور الجامع الاسلامي في الخطاب السياسي الجزائري، ذلك ان الاسلام ظل على مدار التاريخ هو الوعاء الذي جمع مختلف الشعوب والقبائل التي دخلت في دين الله، ومنذ ضمت خلية الاسلام الأولى بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، فان المجتمع الاسلامي ظل على مدى تاريخه متمثلا النموذج، فتساوى الناس فيه تحت راية الاسلام الذي صار القاسم المشترك الأعظم بينهم، وتفاضلوا في ما بينهم بالتقوى والعمل الصالح، وبهذا الطرح جرى احترام هوية كل أحد، باعتبار ان الكرامة حق إنسي بنص القرآن، لكن العصبية العرقية اعتبرت من سمات الجاهلية المنكرة.
إضعاف الرابطة الاسلامية أدى الى تآكل الوشيجة الاساسية التي جمعت العرب والبربر، رغم انهما قاتلا معاً تحت راية الاسلام دفاعاً عن استقلال الجزائر، ولم يستنكف البربر أن التحقوا بالعروبة من باب اللسان حين كانت الوشيجة قائمة، وهو وضع اختلف في السنوات الأخيرة، سواء من جراء جهود العلمنة (اللائكية) التي سعت الى تهميش دور الدين، ومن جراء عمليات تشويه الاسلام التي اسهمت فيها أطراف عدة، تراوحت بين أفعال المجموعات الإرهابية أو التعبئة الاعلامية المضادة.
وفي ظل ذلك الاضعاف، وانحلال الرابطة الاسلامية شيئاً فشيئاً، برز الانتماء العرقي، وجاز للامازيغ ان يقولوا: اذا كان الاسلام الذي يجمعنا قد تراجع، فلنا أن نحتمي بوشيجة العرق الباقية بديلا عنه، ولنكن امازيغ قبل أي شيء آخر.
ثانياً: تراجع قيمة المشاركة السياسية في الجزائر، فمن التراجعات الأخرى التي أصابت قيم الديمقراطية وتجليات المجتمع المدني، ان المشاركة السياسية، حين تتم بنزاهة وشفافية، تتيح للجميع ان يعيشوا هموم الوطن وان يعبروا عنها، وان يسعوا معاً الى علاجها، فالمشاركة تضع الناس في إطار الحلم الواحد، الذي يستهدف النهوض بالمجتمع بكل مكوناته، ولكن غيابها يدفع كل طرف لان يعيش حلمه الخاص، وبدلا من ان يجد مكانه تحت المظلة الكبيرة للوطن، يضطر في غياب تلك المظلة أو اجتزائها ان يحتمي بمظلة أخرى خاصة، مثل العشيرة أو القبيلة أو الطائفة.
حين ضربت التجربة الديمقراطية في الجزائر، وحين سعى نفر من الناس الى احتكار السلطة، والى اقامة ديمقراطية ملفقة ومزورة، ادركت الجماعات المكونة للوطن انها ليست شريكة في بنائه أو صنع مقدراته، لم يعد هناك حلم مشترك تسعى الوطنية لتحقيقه والدفاع عنه، فانفصلت قاطرات الركب عن المقطورة واحدة تلو الأخرى، وجاز للامازيغ ان يقولوا: لماذا ننشغل بهم الجزائر اذا لم نكن شركاء في حمله، واستطاب غيرنا ان ينفرد بالقرار فيه؟
ثالثاً: نمو التيارات الفرنكفونية في الجزائر، وهي التيارات التي تحتل مواقع مهمة للغاية على صعيد الاعلام والاقتصاد والسياسة، والفرنكفونية في ابسط تعريفاتها هي دعوة للالتحاق بفرنسا، ولا تعنى كثيراً بالانتماء الاسلامي او العربي، وانما ترى النموذج الحضاري موجودا هناك على الضفة الأخرى، وهذا التيار غير المكترث والمستهجن احياناً، لاسلامية الجزائر وعروبتها، حين تمكن وترك بصماته القوية على الواقع الجزائري، فانه فتح الطريق تلقائياً لنمو الامازيغية، وقوى من ساعدها، حيث قبلة الاثنتين واحدة، والملتقى للنهائي واحد، وان اختلفت المسالك والدروب.
لا ازعم ان هذا التحليل يحرر المسألة الامازيغية تماماً، لكن أتمنى أن يكون حافزاً لمواصلة المناقشة حولها، أملا ان يؤدي ذلك الى ادراك افضل للقضية، والى انحياز حاسم الى صف الجزائر الديمقراطية، المعتزة باسلامها، وبابنائها جميعاً، عرباً وامازيغ.
أختم بدعاء الساعة: اللهم يا لطيف، نسألك اللطف في ما جرت به المقادر، فلا تفرق بيننا وبين اخواننا البرابر.. آمين.