أين تجري معركة العرب الأعظم؟

شبكة البصرة

صلاح المختار
من المؤسف ان بعض العرب يفكر بقلبه عند تعامله مع احداث السياسة وليس بعقله فيقع في فخ التضليل او الضياع في ازقة جهل ما يختار، والمثال الاوضح على هذه الحالة هو كيفية فهم بعض النخب او الشخصيات العربية، غير العراقية، لما يجري في الوطن العربي من احداث، حيث نراه يفكر بقلبه عند تعامله مع القضايا المتعددة للأمة العربية، فيصبح صيداً سهلاً لمن يخطط للدعاية المعادية. إن الانتقال المفاجئ، بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان في تموز الماضي، من اولوية دعم المقاومة العراقية الى انزال مرتبتها الى (مجرد حرب طائفية)! وتركيز الدعم على شقيقتيها المقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية والتعامل معهما على انهما الامل في حسم الصراع مع التحالف الامريكي - الصهيوني، يمثل قمة هذا الانموذج الخاطئ في التفكير لدى هذا البعض. كيف تَبَدَّى ذلك في الواقع؟

هناك عدة مظاهر لهذا الخلل في الفهم وابرزها التناسي شبه الكامل للمقاومة العراقية لدرجة اهمال حتى ذكرها عند تنظيم المظاهرات والاحتفالات لدعم المقاومة في لبنان وفلسطين!! وعند الحديث عن المقاومة العراقية توصف بأنها (اصبحت حربا اهلية طائفية مؤسفة)! بل ان البعض في الاعلام وصل انحرافه عن جادة الصواب حد ترديد توصيف لا يخدم إلا الاحتلال ومن يشارك فيه وهو القول بأن لبنان والسودان ربما سيواجهان حالة (تعريق) وضعهما، اي انهما سيواجهان مشكلة التفتت الطائفي مثلما يفترضون انه يقع في العراق.

قبل عام كان البعض يحذر من لبننة العراق، اي جعله مثل لبنان من حيث العوامل المتحكمة في تطوره وهي الطائفية السياسية، اما الآن فقد اصبح البعض يشبه لبنان بحالة مفترضة خطأً في العراق! فهل تحول العراق فجأة ليصبح انموذجاً للتفتيت؟ وهل تغير لبنان وتجاوز التقليد الاعرق فيه وهو الطائفية السياسية ليشبه بعراق افتراضي ؟ وفي ضوء هذه المظاهر رأينا كثيرين يرون ان الحسم في معارك العرب سيقع في ساحة لبنان وليس في العراق! وهكذا اوصل هذا البعض للنهاية الطبيعية التي رسم له ان يسير اليها بتأثير الجهل، او التفكير بالقلب وليس بالعقل. من هنا فإن الضرورة تقتضي ان نوضح هذه المسألة ونزيل الالتباسات لنتجنب الوقوع في فخ اعداء الامة العربية المتعددين.



حرب طائفية ام حرب تحرير؟
لقد انطلقت المقاومة العراقية اساساً لطرد الاحتلال وتصاعدت وتفولذت قواعدها استناداً الى هذه الطبيعة التحررية الوطنية. كما انها كسبت دعم الرأي العام العربي وأحيت لديه الآمال في النصر على اعداء الامة العربية بعد ان تمكنت من تحويل الاحتلال الامريكي من حالة الهجوم الى حالة الدفاع ثم وضعته امام هزيمة محققه قبل ان يكتمل عام على بدء المقاومة العراقية. لقد أذهلت المقاومة العراقية العالم كله لأنها، اولا، المقاومة الوحيدة في العالم التي قامت دون دعم خارجي ولأنها، ثانيا، المقاومة الوحيدة في العالم التي انطلقت فور احتلال بغداد وبصورة شاملة اي على شكل حرب تحرير كبرى تخوضها كتائب مسلحة تضم مئات والاف العراقيين بعكس حروب التحرير الاخرى دون استثناء والتي كانت تبدأ بانفار قليلة ثم تتسع تدريجياً، ولأنها، ثالثا، المقاومة الوحيدة في العالم التي لم تتعرض لانتكاسات وهزائم مع ان الانتكاسات العسكرية جزء طبيعي من حالة الحرب.

بفضل هذه السمات الفريدة للمقاومة العراقية نجحت في اعادة تشكيل السايكولوجيا العربية بوضعها على قاعدة الأمل ونزعها من خندق اليأس. تلك الصورة استمرت خارج العراق حتى مطلع عام 2006م حينما فجرت قبة الامام علي الهادي في سامراء، نتيجة تعاون امريكي – ايراني، فبدأت حملة اعلامية تضليليه شاملة كزرع فكرة خاطئة وهي ان حرباً طائفية قد اشتعلت وحلّت محل حرب التحرير، ونتيجة لحرمان المقاومة العراقية من المنابر الاعلامية الجماهيرية كالفضائيات فإن فكرة الحرب الطائفية انتشرت وتقبلها البعض. ولمعرفة خطورة هذا الوصف للمقاومة العراقية يجب ان نطرح سؤالا مهما وهو : هل توجد حرب طائفية في العراق؟ ان وجود حرب طائفية يتطلب عدة شروط معروفة في مقدمتها ان القتال يجري بين كتل جماهيرية من طائفتين تتقاتلان، بعفوية او بتخطيط. كما ان القتال يجب ان يؤدي الى فرز طائفي حاد يسقط امكانية التعايش بين الطائفتين. هذان الشرطان هما جوهر واساس قيام حرب طائفية، فهل هما متوفران في العراق ؟ بالطبع كلا اذ لا يوجد قتال بين طائفتين يخاض من قبل كتل جماهيرية ابداً، والموجود هو ان عصابات سرية ملثمة او مموهة الهوية تقوم باختطاف المواطنين سنة وشيعة، ويقترن ذلك غالباً بطلب فدية مالية ثم قتل هؤلاء. لم يحصل ابدا ان شنت جماهير شيعية أو سنية هجمات ضد بعضها البعض بل كل ما حدث هو من عمل عصابات سياسية او اجرامية توجهها امريكا واوكان مازال أيران أخطرها ما تقوم به وزارة الداخلية والحرس الوطني والجيش وهي تنظيمات انشأها الاحتلال وتألفت من كتل صفوية او مرتزقة وهؤلاء لا يمثلون لا طائفة من الطوائف ولا ديناً من الاديان، بل يمثلون انفسهم كمرتزقة او افراد عصابات اجرامية او عملاء تحركهم مخابرات دولية واقليمية.

اما الفرز الطائفي ونسف الجسور بين السنة والشيعة فلم يحدث لعدة اسباب، في مقدمتها ان كل العراقيين يعرفون ان جرائم القتل على الهوية لم تقم بها عناصر سنية او شيعية انما قام بها الاحتلال والصفوية البشمركة الكردية، لذلك بقي الشعب العراقي واحداً ومتألفا وبقيت صلات الرحم تربط الشيعي بالسني رغم ان عمليات التهجير التي قامت وتقوم بها عصابات صفوية، وبالاخص فيلق بدر وفيلق الصدر، كانت قاسية وخطيرة جداً. اما العامل الاكثر اهمية في اثبات عدم وجود حرب أهلية فهو تشكيل المقاومة العراقية فهي لا تمثل طائفة معينة، كما تروج امريكا وايران، بل هي تضم الشيعة والسنة والعرب والاكراد والمسيحيين والمسلمين. وهذه الحقيقة هي التي تفسر ظاهرة عدم تراجع اوضعف المقاومة العراقية رغم كل ما تعرضت له من مجازر بشعة، سواء تلك التي ارتكبها الاحتلال او حلفاؤه خصوصاً الصفويين، بل انها تتسع وتتقدم وتزيل كافة العقبات وتسقط كافة المؤامرات الى درجة انها وضعت امريكا -اعظم قوة استعمارية في التاريخ- في زاوية واحدة وقاتلة وهي زاوية الهزيمة الحاسمة. فهل كان يمكن للمقاومة ان تنتصر لو ان مايدور في العراق هو صراع طائفي ؟



أين تقع المعركة الحاسمة؟

بعد ان فندنا ودحضنا الفكرة المضللة التي تقول بأن ما يجري في العراق هو حرب طائفية، واثبتنا انها كانت ومازالت حرب تحرير وطنية عظمى، ناتي الآن الى ما ترتب على ترويج هذه الدعاية السوداء وهو تحويل انظار العرب من ساحة معركة العراق الى ساحتين اخريتين لا يمكن للحسم فيهما ان يحدث وهما ساحة لبنان وساحة فلسطين. بفضل هذا التضليل الاعلامي، من جهة، والاشتعال المتعمد لجبهة لبنان بقرار امريكي ايراني، من جهة ثانية، حول الكثير من الناس انظارهم إلى لبنان واشتعلت في نفوسهم آمال مشروعة في أن مقاومة لبنان هي الامل وليس مقاومة العراق! ومع كل تقديرنا واحترامنا ودعمنا للمقاومة اللبنانية، رغم كل مالدينا من اعتراضات على امور معروفة، فإن الحقيقة الموضوعية تقول وتؤكد أن حسم قضية الامة العربية المركزية وهي قضية الصراع مع الصهيونية حول فلسطين وما تفرع عنها (حرب العراق) سيتم في ساحة الصراع المركزي وهي العراق.

اسمحوا لي ان اشرح هذه النقطة الاستراتيحية البحتة. اذا بحثنا الآن في امكانات المقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية والمقاومة العراقية وحدود تحركها واهدافها، نخرج باستنتاج صحيح وواضح وهو ان الحد الاقصى لاهداف حماس وفتح في فلسطين هو دولة ضمن حدود 1967م اي الضفة والقطاع، وهي لذلك دويلة لا تشكل اكثر من 20٪ من ارض فلسطين المحتلة، والسبب هو ان توازن القوى بين الشعب الفلسطيني ومقاومته من جهة والكيان الصهيوني وداعميه، وفي مقدمتهم امريكا، من جهة ثانية، لا يسمح موضوعيا باكثر من قبول دولة فلسطينية مقزمة. اما في لبنان فإن الطموحات اقل بكثير فحزب الله رسمياً لا يريد اكثر من استعادة مزارع شبعا، وقال أمينه العام صراحة، بعد العدوان على لبنان، بأن حزبه لم يقل انه يريد تحرير فلسطين من جبهة لبنان. اذن في جبهتي لبنان وفلسطين تفرض الظروف الموضوعية العمل من اجل اهداف متواضعة لا تمثل طموحات العرب وحقوقهم الشرعية في فلسطين، والتي تمثلت في الهدف الاصلي الذي نشأت فتح وحماس على أساسه، وهو (تحرير فلسطين من البحر الى النهر)، والاهداف المتواضعة هي دولة فلسطينية مقزمة، واستعادة مزارع شبعا في لبنان. والسؤال الجوهري هو: ما هو التغيير الذي سيحدثه انشاء دولة فلسطينية او استعادة مزارع شبعا؟

لن يحدث تغيير جوهري على الواقع، وانما سيتم ضمن هذا الواقع، وطبقاً لقواعده واشتراطاته، وهي اشتراطات صهيونية – امريكية. هنا يظهر تواضع اهداف النضال الفلسطيني واللبناني الحالي.

ولكن اذا تناولنا المقاومة العراقية فإننا نصل الى نتائج مختلفة جذرياً، فالصراع الدائر في العراق هو بين (الرأس) اي مصدر القوة الاساسي، و هو امريكا، التي تشكل الحاضنة الرئيسية لاسرائيل، ومصدر قوتها، ودرعها الواقي والضمانة الاساسية لتحويل اية هزيمة لاسرائيل امام العرب، سواء كانت جزئية كعبور قناة السويس في حرب اكتوبر عام 1973م، او كلية، كما يطمح العرب، الى نصر اسرائيلي من خلال امدادها بكل ما يمكنها من تغيير تراجعها او هزيمتها. في عام 1973م حررت سوريا الجولان وعبر الجيش المصري القناة، وبذلك وضعت اسرائيل امام هزيمة محققة، بدليل ان الاوامر قد صدرت للقوة النووية الاسرائيلية للاستعداد للجوء الى الخيار النووي، لكن الجسر الجوي الامريكي انقذ اسرائيل ومكنها من تحويل الهزيمة الاولية الى نصر بإعادة احتلال الجولان وتطويق الجيش المصري بعد احداث ثغرة الدفر سوار.

اذن دحر اسرائيل عسكرياً غير ممكن بوجود اصل بقاء اسرائيل وهو امريكا والغرب، ولهذا فكل المعارك مع اسرائيل ومهما كانت مهمة وخطيرة تستبطن في احشائها حقيقة مرة، وهي انها معارك مع فرع او مع ذيل الافعى وليس مع الافعى التي يوجد رأسها في واشنطن. من هنا نرى القيمة الاستراتيجية لحرب تحرير العراق، فما يجري في العراق هو ان رأس القوة الاسرائيلية ومصدرها اوقع في فخ العراق القاتل، بل واوصل الى الهزيمة المحققة التي نراها الآن، وحينما نهزم امريكا في العراق، فإن هذا التحول الاستراتيجي سينعكس اول ما ينعكس على الفرع والامتداد، وهو اسرائيل. ما معنى هذه الحقيقة البسيطة ؟ انها تعني ان معارك لبنان وفلسطين ومهما بلغت حدتها فإنها معارك تتم في بيئة الأمر الواقع وطبقاً لقوانينه الاساسية، اما معارك العراق فإنها تجري في بيئة معادية للامر الواقع وتقوم بتهشيمه وتدميره، وتبني واقعاً جديداً عماده تحرير العراق رغم انف امريكا ومن يسندها، فتمهد الطريق الحتمي لتحرير فلسطين من البحر الى النهر، وليس الضفة الغربية وغزة فقط، وتعيد للبنان ليس مزارع شبعا فقط، بل كل قرى وبلدات لبنان التي احتلتها اسرائيل.

بالحاق الهزيمة بأمريكا في العراق يخلق العراق المقاوم واقعاً اقليمياً وعالمياً جديداً مختلفاً كلياً عمّا نراه الآن سمته الاساسية هو نهضة العرب واستعادتهم لكافة حقوقهم سلماً او حرباً، لأن الافعى تعرضت لسحق رأسها، أوعلى الأقل إلحاق الأذى به بحيث يجعل التفكر بتكرار اي عمل استعماري آخر بعد ما رأته في العراق مستبعدا. وتلك من اهم الاستنتاجات التي توصلت اليها نخب امريكا.



لا تقعوا في فخ التضليل

في ضوء ماتقدم فإن التفكير بالعقل وليس بالقلب يسمح للانسان بأن يتعامل مع الواقع العربي وفقاً للحقائق الموضوعية، وليس طبقاً لتأثيرات الاعلام الغربي - الصهيوني – الايراني، وأول ما يسمح بالوصول اليه هو حقيقة ان معركة الحسم الاعظم عالمياً وعربياً تجري الآن في العراق وليس في فلسطين او لبنان او السودان. ويترتب على هذه الحقيقة امر بالغ الاهمية وهو ان معايير الخطأ والصواب استراتيجياً وتكتيكياً تتلخص في مدى الاقتراب او الابتعاد عن المقاومة العراقية، فما دامت هي العامل الاساسي المقرر لمجرى التطور الاستراتيجي، فإن الضرورات الاستراتيجية تقتضي الانسجام مع المقاومة العراقية والتعاون معها من قبل مقاومة لبنان ومقاومة فلسطين، والاعتراف بأنها ام المقاومات العربية.

ان من يريد الانتصار في فلسطين ولبنان والسودان عليه اولاً ان يركز بصره على العراق، وان يقدم دعمه لمقاومته لأنها هي، وليس غيرها، من بطح امريكا ومرغ انفها في الوحل وهي، وليس غيرها، من يمسك بمفاتيح جنة الانتصار العربي وجحيم الهزيمة الامريكية - الصهيونية – الايرانية. والحكمة التي نستخلصها ممّا تقدم هي اننا لا يجوز ان نفكر بقلبنا في السياسة ولا بعقلنا في الحب.