القرط الضائع والقرآن

التقدم الحضاري المعاصر شمل جميع مناحي الحياة بكل أبعادها وأعماقها ، وما يبدعه العلماء المعاصرون في عقد من السنين يعدل ما كان يقدمه علماء الكون جميعاً في قرن كامل أو يزيد.

هذا التقدم الهائل في الأمور جعل العلماء ـ مثلاً ـ يرسلون مركبة في الفضاء تنزل على سطح القمر، وتسير عليه، وتأخذ منه كمية من التراب والحجارة والصخور للدراسة والتحليل، وتصور سطحه بكل دقة وتفصيل.
ومركبة أخرى تحمل أجهزة رصد وتصوير، تنطلق من قاعدتها الأرضية إلى آفاق الفضاء، فتتجاوز الأرض والمشتري والمريخ وأورانوس ونبتون، وتقطع آلاف الملايين من الكيلومترات في السماء، وترسل على الدوام صوراً لكل ما تمر عليه من نجوم وكواكب وأجرام سماوية، وإذا حدث خلل أو عطل في جزء من أجزائها أصلح الإنسان العالم هذا الخلل وهو قاعد على كرسيه في القاعدة الأرضية ، وأعادها إلى ما كانت عليه من انتظام عمل ، ودقة تصوير ، وإرسال صور ، واستمرارية في الانطلاق .
لقد صار من السهل أن يصدق الناس أن كثيراً من الطائرات تسير بدون ربان أو قبطان ، وأنها تنطلق في السماء صعداً ، أو تهبط في المطارات بأوامر من ( كومبيوتر ) ووفق برنامج مرسوم فيه لها ، ويتم ذلك الصعود والهبوط دون أن يشعر الركاب المسافرون عليها بأدنى تغيير أو اضطراب .
والأقمار الصناعية اليوم ، والتي صارت بالعشرات ، تقوم بمهماتها المرسومة لها على خير وجه ، منها ما خصص لتجسس الدول بعضها على بعض ، ومنها لنقل الإشارات التلفزيونية من بلد إلى بلد ، ومن قارة إلى أخرى ، ومنها لنقل المكالمات الهاتفية عبر العالم ، ومنها ومنها ..حتى لقد حدثونا أن آلات التجسس والتصوير في بعضها قادرة على تصوير كل شيء في الكرة الأرضية بكل دقة ووضوح ، وقد تلتقط محادثة بين رجلين يتحدثان تحت ظل شجرة في بستان ، وتصور ما يأكلان أو يشربان.
صار من الممكن ، بل من السهل ، أن ترفع سماعة الهاتف ، وتدير القرص ، وتتحدث وأنت في بيروت مع أخيك أو صديقك أو شريكك في شيكاغو أو في طوكيو أو في ساحل العاج ، فتسمع صوته في الطرف الثاني ، وقد يتاح لك ببعض الأجهزة أن تراه ، بل يمكنك أن ترسل له خطاباً وصوراً وعقوداً ووثائق عبر ( الفاكس ) فيتسلمها فوراً ،ويطلع عليها ، أو يوقعها ، ويعيدها إليك في المكالمة ذاتها .
والتقدم الطبي كاد يبلغ ما كنا نظنه مستحيلاً ، فلقد غدت عمليات نقل القلب أو الكلية أو الكبد أو العين من إنسان إلى آخر أمراً عادياً مكروراً ، يجري في مختلف غرف الجراحة في المستشفيات الراقية في معظم بلاد العالم .
تلك هي لمحة موجزة عن بعض الحضارة الحديثة أردنا بها أن نسأل : ما موقف القرآن الكريم من هذه الحضارة وهذا التقدم المخيف ؟ ايعارضه ويقف في وجهه ، أم يتجنب مواجهته ولا يبالي به ، أم يماشيه ويسانده ويدعمه ويشد من أزره؟
إن الجواب ليس بالسهل ، فللقرآن وللدين الإسلامي بعامة أسس ثابتة مكينة لا يجوز التعدي عليها أو إغفالها . أولها : وحدانية الله ، ثم العبادات المفروضة والمعدودة من دعائم الإسلام ، ثم المعاملات الشرعية التي فصلها الكتاب المبين ، وبينتها السنة النبوية ، وأسهب في شرحها علماء الفقه والأصول والتشريع ، وأخيراً : الأسس الأخلاقية في السلوك الإنساني في مختلف الظروف والأحوال ومع مختلف الناس الآخرين.
بعبارة ثانية : الإسلام يماشي كل حضارة ترفع من قيمة الإنسان ، وتعلي قدره ، وتصون كرامته ، وتحفظ عقيدته ، وتجل إنسانيته ، ولا تفرق بينه وبين سواه في الجنس أو اللون أو الموقع الجغرافي ،أما ما عدا ذلك فتحاربه ، فهي ضد كل ما يسيء إلى الفرد أو الجماعة ،وما يفسد على الإنسان عقيدته أو أخلاقه أو سلوكه ، أو يهبط به إلى ما دون المرتبة الإنسانية التي أرادها له الخالق العظيم القائل : ( ولقد كَرَّمْنا بني آدم ) .
والآن ، وبعد استعراض بعض آلاء الحضارة المعاصرة ، وبعد تفجر التكنولوجيا ، وشمولها لمعظم الأجهزة الحديثة ، نقول بكل هدوء واطمئنان : إن هذا التقدم الهائل أتاح للعلماء المسلمين المعاصرين أن يفسروا كثيراً من آيات القرآن تفسيراً يتفق ومعطيات العصر ، ويختلف اختلافاً كبيراً عن تفسسير القدماء ، ويروا فيه إعجازاً جديداً ، لم يقف عليه العلماء السابقون .
وأضرب على ذلك مثلاً واحداً :
أشرطة التسجيل اليوم وأشرطة الفيديو ، وأفلام التصوير ، تكون مصنوعة من ( بلاستيك ) ممغنط ، وقد تصنع من معدن الكروم . والعجيب أن هذه الأشرطة والأجهزة تصور كل شيء بألوانه الطبيعية ، وبحركاته وسكناته ، وتسجل الصوت وكل صغيرة وكبيرة في عالم الإنسان أو في عالم سواه .
ومن طرائف تسجيلات ( الفيديو ) أنه كان في إحدى المدن العربية عرس ، وكانت النساء مجتمعات في ( دار الأفراح ) يغنين ويرقصن فرحات ، وكانت هناك عدة آلات فيديو تصور تصويراً آلياً الحفل كله ... وما هي إلا ساعة من زمن حتى صاحت إحدى النساء ( حلقة أذني ) وكانت هذه (الفردة من الحلق ) من ألماس غال جداً .. فلقد سقطت هذه الفردة من أذنها أثناء رقصها وراحت هي وأخواتها وأهلوها وصواحبها يفتشن عن هذه ( الفردة ) في أرض الدار ، وعلى الكراسي ، ويسألن كل امرأة حاضرة أن تفتش معهن ، وعبثاً كان عملهن وتفتيشهن ، وظل الحلق مفقوداً ، ولم يعرف أحد أين اختفت تلك ( الفردة ) .
وفي اليوم التالي ، وبينما كان أهل العروس يتفرجون على شريط الفيديو الذي صور عليه العرس في ( دار الأفراح ) لفت نظرهم فلانة من الناس ، تنظر إلى ( فردة الحلق ) الساقطة على الأرض ، ثم تميل قليلاً قليلاً نحوها ، وتمد يدها إليها ، وتلتقطها ، وتدسها في صدرها بســرعة البرق .. وأعاد أهل الشريط هذا المنظر مرة بعد مرة ، وتأكدوا من شخصية سارقة الحلق ، فدعوها بعد أيام قليلة إلى زيارتهم ، فلبت هذه الدعوة ، وجاؤوا بسيرة الحلق المفقود ، وأبدوا استغرابهم من ضياعه ، رغم أن جميع النساء في العرس اشـتركن في التفتيش عنه ، وسايرتهم هذه بحديثهم ، وتعجبت مثلهم من فقده ، وأبدت أسفها على ضياعه ، وأردفت بكلام قاس على من سرقته ، ثم زادت الكلام عن تدني النفوس ، وانحطاط الأخلاق ، وشيوع الخيانة ، وما إلى ذلك ..
وما هي إلا دقائق حتى وضع أهل العرس شريط الفيديو بحجة الرغبة في استعادة رؤية ليلة الفرح ، وحين عرض الفيلم صورة الضيفة الحاضرة وصورتها وهي تنظر إلى فردة الحلق الساقطة أولاً ، وصـورتها وهي تلتقطها ، ثم وهي تدسها في صدرها ، اضطربت ، وامتقع لونها ، واستعادت إحداهن هذا المشهد ، فأعيد مرات متكررة ، وفي كل مرة تظهر الضيفة وهي تدس ( الفردة ) في صدرها ، وأخيراً قالت : صحيح أني وجدتها ، لكن احتفظت بها لأردها إليكم ، ولقد التقطتها وخبأتها خشية أن تدوس عليها إحدى الراقصات ، أو تسرقها سارقة ..
وطبيعي في مثل هذه الحال أن يمتقع لونها ، ويضطرب لسانها ، ويسوَدَّ وجهها ، وترتجف جميع أطرافها ، وتزداد خفقات قلبها ، ويتلعثم لسانها .. فلقد أدينت ، وقبض عليها بالجرم المشهود ــ كما يقولون ــ وهل تستطيع أن تنكر أو تجحد وجود الحلقة كما أنكرتها وجحدتها ليلة العرس في ( دار الأفراح ) ؟
الصورة والصوت والتسجيل على شريط الفيديو هي التي فضحتها على رؤوس الأشهاد . ويخيل إلينا أنها ودت أن لو انشقت الأرض وبلعتها قبل أن تفضح هذه الفضيحة ، كما أنها لعنت في ضميرها الفيديو والتصوير ومن اخترعهما ، ولعنت الليلة التي جاءت بها إلى العرس ، والساعة التي دعيت فيها إلى منزل هذه الأسرة ، فلقد سجلوا بآلاتهم عنوان سرقتها وخيانتها وكذبها وإنكارها وكل سوء فيها .
وبعد، أفلم تقــرب إلينا هذه لبقصة ما يفعله الـمَـلَـكـان على أكـتافنا ، ( الرقيب والعتيد ) أو لم نؤمن بأن في إمكان الله أن يجعل أيدينا وأرجلنا وعيوننا وآذاننا وجلدة بَشَرَتِنا آلات رصد وتصوير وتسجيل ، تشهد علينا ، يوم الحساب ، إذا أنكرنا الذنب ، وجحدنا الإثم ؟
هذا الإنجاز الحضاري جعلنا نقف إجلالاً وإكباراً وخشوعاً أمام هذا القرآن الكريم الذي أعلمنا بأن ما يعمله الإنسان مسجل عليه بالصوت والصورة ، وأن القرآن سبق التكنولوجيا المعاصرة في هذا الأمر ، وأن الحضارة الحديثة فسرت لنا إمكانية حفظ الصوت والصورة وكل تسجيل إلى آماد بعيدة ..
لنقرأْ قوله تعالى في سورة فُصِّلَتْ : ( ويومَ يُحشَرُ أعداءُ الله إلى النارِ فهم يُوزَعون . حتى إذا ما جاؤوها شَهِدَ عليهم سـمعُهم وأبصارُهم وجلودُهم بما كانوا يعملون . وقالوا لجلودهم : لِمَ شهدتم علينا ؟ قالوا : أنطَقَنا الـلّــهُ الذي أنطق كلَّ شيءٍ ، وهو خلَقَكم أولَ مرة ، وإليه تُرجَعون . وما كنتم تَسْـتَتِرون أن يشهدَ عليكم سـمْعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم ، ولكنْ ظَـنَـنْـتُـمْ أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون ) . وفي سورة ياسين : ( اليومَ نَختِمُ على أفواههم ، وتُكلمنا أيديهم ، وتشهدُ أرجلهم بما كانوا يَكسبون ) .
إن الإنسان استطاع أن يحفظ على شريط بلاستيكي ممغنط صورة إنسان وصوته وحركته ، أفليس الله بقادر على أن يجعل يد الإنسان ورجله وجلده تصور حركة صاحبها ، وتنطق بما كان يفعل ، وتعيد الصورة والصوت يوم الحساب الأكبر، ويوم يطلب الله منها أن تشهد على صاحبها ما كان يعمله في دنياه، وهو يستتر عن أعين الناس، ظناً أن عمله ذهب في طيات النسيان، وأنه نجا من الحساب، واستخفى الاستخفاء العظيم؟؟
حلب: 9 المحرم 1418هـ
16 أيار 1997م
أ.د. بكري شيخ أمين
العنوان:
الهاتف الجوال 664752 94 00963
هاتف المكتب 2224266 21 00963
ص .ب : 13003 حلب ـ سورية