اسم الكتاب
البحر المحيطالمؤلف
بدر الدين بن محمد بهادر الزركشيالمذهب
---الموضوع
أصول الفقهعدد الأجزاء
ثمانية أجزاءدار النشر
دار الكتبيرقم الطبعةط1سنة النشر1414هـ/1994م
اخترت لكم منه معاني الأدوات
الفاء : وهي للترتيب وزيادة , وهي التعقيب أي : أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن , وهو معنى قولهم : إنها تدل على الترتيب بلا مهلة أي : في عقبه ولهذا قال المحققون منهم : إن معناها التفرق على مواصلة . وهذه العبارة تحكى عن الزجاج وأخذها ابن جني في لمعه " . ومعنى التفرق أنها ليست للجمع كالواو , ومعنى على مواصلة أي : أن الثاني لما كان يلي الأول من غير فاصل زماني كان مواصلا له . واستدل الفارسي في " الإيضاح " على ذلك بوقوعها في جواب الشرط , نحو إن دخلت الدار فأنت طالق . يريد أن الجواب يلي الشرط عقبه بلا مهلة . وأما قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } قال الهروي وغيره معناه قرب هلاكها . وقال المتأخرون : أي أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا , وفيه نظر من جهة علم الكلام . وقيل : لما كان مجيء البأس مجهولا عند الناس قدر كالعدم , ولما حصل الهلاك اعتقدوا وجوده فحسن دخول الفاء . وقيل : ليست عاطفة , وإنما هي سببية , والفاء السببية لا يشترط فيها التعقيب , فإنك تقول : أكرمت زيدا أمس , فأكرمني اليوم , وهذا تأويل [ ص: 153 ] ظاهر , وعليه ينبغي أن يحمل قوله تعالى : { فتصبح الأرض مخضرة } ثم الترتيب إما في الزمان نحو { خلقك فسواك } ولهذا كثر كون تابعها مسببا , نحو ضربته فهلك , أو في الذكر , وهو عطف مفصل على مجمل هو , نحو { ونادى نوح ربه فقال رب } أو متأخر عما قبله في الإخبار نحو : بسقط اللوى بين الدخول فحومل وزعم الفراء أنها تأتي لغير الترتيب , وهذا مع ما نقل عنه من أن الواو تفيد الترتيب عجيب , وهو يوقع خللا في ذلك النقل , فإنه قد ذكر هذا في معاني القرآن في قوله تعالى { ثم دنا فتدلى } المعنى ثم تدلى فدنا , ولكنه جائز إذا كان المعنى في الفعلين واحدا , أو كالواحد قدمت أيهما شئت فقلت : دنا فقرب أو قرب فدنا , وشتمني فأساء , أو أساء فشتمني ; لأن الشتم والإساءة واحد . ونوقش بأن القلب إنما يصح فيما يكون كل واحد مسببا وسببا من وجهين , فيكون الترتيب حاصلا قدمت أو أخرت , فقولك : دنا فقرب . الدنو علة القرب , والقرب غايته . فإذا قلت : دنا فقرب , فمعناه لما دنا حصل القرب , وإذا عكست فقلت : قرب فدنا , فمعناه قرب فلزم منه الدنو , ولا يصح في قولك : ضربته فبكى ; لأن الضرب ليس غايته البكاء بل الأدب , أو شيء آخر , وكذلك أعطيته فشنعا . وقال الجرمي : لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل [ ص: 154 ] قوله : بين الدخول فحومل . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : نص الفارسي في " الإيضاح " على أن " ثم " أشد تراخيا من الفاء فدل على أن الفاء لها تراخ , وكذلك ذكر غيره من المتقدمين , ولم يدع أنها للتعقيب إلا المتأخرون . قلت : وهي عبارة أبي بكر بن السراج في أصوله " , فقال : و " ثم " مثل الفاء إلا أنها أشد تراخيا , وقال ابن الخشاب : ظاهره أن في الفاء تراخيا جما ; لأن أشد " أفضل للتفضيل " ولا يقع التفضيل إلا بين مشتركين في معنى , ثم يزيد المفضل على المفضل عليه في ذلك المعنى , ولا تراخي تدل عليه الفاء فيما بعدها عما قبلها إلا أن يكون أبو بكر عد تعقيب الفاء وترتيبها تراخيا فذلك تساهل في العبارة وتسامح . ثم شرع في تأويل عبارة أبي بكر على أن " أفعل التفضيل " قد لا يراد به ظاهره كقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } ومن البين أنه لا خير في مستقر أهل النار . قلت : ولا حاجة إلى هذا فقد صرح عبد القاهر الجرجاني , فقال في الفاء : إن أصلها الإتباع , ولذلك لا تعرى عنه مع تعريها عن العطف في جواز الشرط , ولكن مع ذلك لا ينافي التراخي اليسير . ا هـ .
وكذا قال غيره : معنى التراخي فيها وإن لطف فإن من ضرورة التعقيب تراخي الثاني عن الأول بزمان وإن قل بحيث لا يدرك ; إذ لو لم يكن كذلك كان مقارنا , والقرآن ليس بموجب له , وأنت إذا علمت تفسيرنا التعقيب بحسب ما يمكن زال الإشكال . وقد جوزوا " دخلت البصرة فالكوفة " , وبين الدخولين تراخ ومهلة , وقال تعالى : { والذي أخرج [ ص: 155 ] المرعى فجعله غثاء أحوى } فإن بين الإخراج والإحواء وسائط . وقال ابن أبي الربيع : الاتصال يكون حقيقة ويكون مجازا , فإذا كان حقيقة فلا تراخي فيه وإذا كان مجازا ففيه تراخ بلا شك , كقولك : دخلت البصرة فالكوفة وإنما جاءت الفاء ; لأن سبب دخول الكوفة اتصل بدخول البصرة , فلم يكن بينهما مهلة . وقد يكون التراخي بينهما قليلا فيكون كالمستهلك لكونه غير مفتقر لعلته , فتدخل الفاء كذلك .
ومن هذا يعلم وجه التعقيب في قوله صلى الله عليه وسلم { لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } وبظاهره تمسك أهل الظاهر في إيجاب عتقه , وأنه لا يعتق بمجرد الشراء فإنه لو أعتق بنفس الشراء لم يكن لقوله : " فيعتقه " معنى . وقال الأئمة : فائدته التنبيه على أن الإعتاق بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال : أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه . أي : بهذا الإطعام ; إذ لو كان الإشباع بغيره لم يكن متصلا به , لا يقال : لا يصح أن يكون الإعتاق حكما للشراء ; لأن الشراء موضوع لإثبات الملك , والإعتاق إزالة , فكان منافيا له , والمنافي لحكم الشيء لا يصلح أن يكون حكما لذلك الشيء ; لأنا نقول : إنه بنفسه لا يصلح أن يكون حكما له ولكنه يصلح بواسطة الملك , وذلك ; لأنه بالشراء يصير متملكا , والملك في الوقت إكمال لعلة العتق فيصير العتق مضافا إلى الشراء بواسطة الملك , وإذا صار مضافا إليه يصير به معتقا , وحينئذ لا يحتاج إلى إعتاق آخر . [ ص: 156 ]
ثم ظاهر كلام جماعة أنه لا فرق في كونها للتعقيب بين العاطفة والواقعة جوابا للشرط وسبق في كلام الفارسي الاستدلال بجواب الشرط , فاقتضى أنه محل وفاق . وقال ابن الخشاب في " العوني " : المعنى الخاص بالفاء التعقيب فلا تكون عاطفة إلا معقبة , وقد تكون معقبة غير عاطفة , كقوله تعالى { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما } والفاء في هذا وشبهه عاطفة معقبة , ونظيره في الكلام : جاء زيد فعمرو , وأما المعقبة غير العاطفة كالواقعة في جواب الشرط ; لأن الجواب يعقب الشرط , ولا يعطف عليه ; إذ لو عطف عليه لكان شرطا أيضا لا جوابا انتهى . وقال أبو الوليد الباجي : هي عند النحويين للتعقيب في العطف , وأما في الجواب فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى أنها للتعقيب أيضا . وليس بصحيح بدليل قوله تعالى : { لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب } ولأنك تقول : إذا دخلت مكة فاشتر لي عبدا , فإنه لا يقتضي التعقيب . انتهى .
ولهذا اختار القرطبي أنها رابطة للجزاء بالشرط لا غير , وأن التعقيب غير لازم بدليل قوله تعالى : { فيسحتكم } وقوله { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } وليس فيها جزاء عقب شرطه . وحمله الأولون على المجاز ; لأن الإسحات لما تحقق وقوعه نزل منزلة الواقع عقبه . وما نقله الباجي يباينه مباينة ظاهرة ما نقله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في أصوله " فإنه قال ما نصه : إن الفاء إن كانت للجزاء فلا [ ص: 157 ] خلاف أنها للتعقيب كقولك : جاءني فضربته وشتمني فحددته . واختلفوا فيما إذا كانت للعطف فقيل : كالأول وقيل كالواو . ا هـ .
لكن الخلاف في الجزاء ثابت , وجعلوا من فوائده الخلاف في وجوب استتابة المرتد فإنه عليه الصلاة والسلام قال : { من بدل دينه فاقتلوه } فإن جعلناه للتعقيب كان دليلا على عدم الوجوب وإلا فلا . وأنكر القاضي أبو بكر كونها للتعقيب إذا وقعت في جواب الأمر والنهي . ودافع المعتزلة عن الاستدلال على خلق القرآن بقوله تعالى : { كن فيكون } فإن الفاء هنا للتعقيب من غير تراخ ولا مهلة , وإذا كان الكائن الحادث عقب قوله : " كن " من غير تراخ ولا مهلة اقتضى ذلك حدث القول الذي هو " كن " . واشتد نكير القاضي في كون الفاء تقتضي التعقيب في مثل هذا , ورأى أنها تقتضيه في العطف فقط , وليس هذا منه , وعلى هذا فلا يحسن الاستدلال بها على الترتيب في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وأنه إذا ثبتت البداءة بالوجه ثبت الترتيب في الباقي ; إذ لا قائل بالفرق . قيل : وأصل الفاء أن تدخل على المعلول لأنها للتعقيب , والمعلول يعقب العلة , وقد تدخل على العلة باعتبار أنها معلول كقوله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } وسيأتي له مزيد في باب القياس إن شاء الله تعالى .
مسألة: الْجُزْء الثَّالِث[ ص: 152 ] وَمِنْهَا الْفَاءُ : وَهِيَ لِلتَّرْتِيبِ وَزِيَادَةٍ , وَهِيَ التَّعْقِيبُ أَيْ : أَنَّ الْمَعْطُوفَ بَعْدَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ , وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : إنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ بِلَا مُهْلَةٍ أَيْ : فِي عَقِبِهِ وَلِهَذَا قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ : إنَّ مَعْنَاهَا التَّفَرُّقُ عَلَى مُوَاصَلَةٍ . وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ تُحْكَى عَنْ الزَّجَّاجِ وَأَخَذَهَا ابْنُ جِنِّي فِي لُمَعِهِ " . وَمَعْنَى التَّفَرُّقِ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْجَمْعِ كَالْوَاوِ , وَمَعْنَى عَلَى مُوَاصَلَةٍ أَيْ : أَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا كَانَ يَلِي الْأَوَّلَ مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ زَمَانِيٍّ كَانَ مُوَاصِلًا لَهُ . وَاسْتَدَلَّ الْفَارِسِيُّ فِي " الْإِيضَاحِ " عَلَى ذَلِكَ بِوُقُوعِهَا فِي جَوَابِ الشَّرْطِ , نَحْوُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ . يُرِيدُ أَنَّ الْجَوَابَ يَلِي الشَّرْطَ عَقِبَهُ بِلَا مُهْلَةٍ . وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا } قَالَ الْهَرَوِيُّ وَغَيْرُهُ مَعْنَاهُ قَرُبَ هَلَاكُهَا . وَقَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ : أَيْ أَرَدْنَا إهْلَاكَهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا , وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ عِلْمِ الْكَلَامِ . وَقِيلَ : لَمَّا كَانَ مَجِيءُ الْبَأْسِ مَجْهُولًا عِنْدَ النَّاسِ قُدِّرَ كَالْعَدَمِ , وَلَمَّا حَصَلَ الْهَلَاكُ اعْتَقَدُوا وُجُودَهُ فَحَسُنَ دُخُولُ الْفَاءِ . وَقِيلَ : لَيْسَتْ عَاطِفَةً , وَإِنَّمَا هِيَ سَبَبِيَّةٌ , وَالْفَاءُ السَّبَبِيَّةُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا التَّعْقِيبُ , فَإِنَّك تَقُولُ : أَكْرَمْت زَيْدًا أَمْسِ , فَأَكْرَمَنِي الْيَوْمَ , وَهَذَا تَأْوِيلٌ [ ص: 153 ] ظَاهِرٌ , وَعَلَيْهِ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ قَوْله تَعَالَى : { فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً } ثُمَّ التَّرْتِيبُ إمَّا فِي الزَّمَانِ نَحْوُ { خَلَقَك فَسَوَّاك } وَلِهَذَا كَثُرَ كَوْنُ تَابِعِهَا مُسَبَّبًا , نَحْوُ ضَرَبْته فَهَلَكَ , أَوْ فِي الذِّكْرِ , وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ هُوَ , نَحْوُ { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ } أَوْ مُتَأَخِّرٌ عَمَّا قَبْلَهُ فِي الْإِخْبَارِ نَحْوُ : بِسَقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّهَا تَأْتِي لِغَيْرِ التَّرْتِيبِ , وَهَذَا مَعَ مَا نُقِلَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْوَاوَ تُفِيدُ التَّرْتِيبَ عَجِيبٌ , وَهُوَ يُوقِعُ خَلَلًا فِي ذَلِكَ النَّقْلِ , فَإِنَّهُ قَدْ ذُكِرَ هَذَا فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } الْمَعْنَى ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا , وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْمَعْنَى فِي الْفِعْلَيْنِ وَاحِدًا , أَوْ كَالْوَاحِدِ قَدَّمْت أَيَّهُمَا شِئْت فَقُلْت : دَنَا فَقَرُبَ أَوْ قَرُبَ فَدَنَا , وَشَتَمَنِي فَأَسَاءَ , أَوْ أَسَاءَ فَشَتَمَنِي ; لِأَنَّ الشَّتْمَ وَالْإِسَاءَةَ وَاحِدٌ . وَنُوقِشَ بِأَنَّ الْقَلْبَ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مُسَبَّبًا وَسَبَبًا مِنْ وَجْهَيْنِ , فَيَكُونُ التَّرْتِيبُ حَاصِلًا قَدَّمْت أَوْ أَخَّرْت , فَقَوْلُكَ : دَنَا فَقَرُبَ . الدُّنُوُّ عِلَّةُ الْقُرْبِ , وَالْقُرْبُ غَايَتُهُ . فَإِذَا قُلْت : دَنَا فَقَرُبَ , فَمَعْنَاهُ لَمَّا دَنَا حَصَلَ الْقُرْبُ , وَإِذَا عَكَسْت فَقُلْت : قَرُبَ فَدَنَا , فَمَعْنَاهُ قَرُبَ فَلَزِمَ مِنْهُ الدُّنُوُّ , وَلَا يَصِحُّ فِي قَوْلِك : ضَرَبْته فَبَكَى ; لِأَنَّ الضَّرْبَ لَيْسَ غَايَتَهُ الْبُكَاءُ بَلْ الْأَدَبُ , أَوْ شَيْءٌ آخَرُ , وَكَذَلِكَ أَعْطَيْته فَشَنَّعَا . وَقَالَ الْجَرْمِيُّ : لَا تُفِيدُ الْفَاءُ التَّرْتِيبَ فِي الْبِقَاعِ وَلَا فِي الْأَمْطَارِ بِدَلِيلِ [ ص: 154 ] قَوْلِهِ : بَيْنَ الدُّخُولِ فَحَوْمَلِ . وَقَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : نَصَّ الْفَارِسِيُّ فِي " الْإِيضَاحِ " عَلَى أَنَّ " ثُمَّ " أَشَدُّ تَرَاخِيًا مِنْ الْفَاءِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لَهَا تَرَاخٍ , وَكَذَلِكَ ذَكَرَ غَيْرُهُ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ , وَلَمْ يَدَّعِ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ إلَّا الْمُتَأَخِّرُونَ . قُلْت : وَهِيَ عِبَارَةُ أَبِي بَكْرِ بْنِ السَّرَّاجِ فِي أُصُولِهِ " , فَقَالَ : وَ " ثُمَّ " مِثْلُ الْفَاءِ إلَّا أَنَّهَا أَشَدُّ تَرَاخِيًا , وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ : ظَاهِرُهُ أَنَّ فِي الْفَاءِ تَرَاخِيًا جَمًّا ; لِأَنَّ أَشَدَّ " أَفْضَلُ لِلتَّفْضِيلِ " وَلَا يَقَعُ التَّفْضِيلُ إلَّا بَيْنَ مُشْتَرِكَيْنِ فِي مَعْنًى , ثُمَّ يَزِيدُ الْمُفَضَّلُ عَلَى الْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى , وَلَا تَرَاخِيَ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْفَاءُ فِيمَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ عَدَّ تَعْقِيبَ الْفَاءِ وَتَرْتِيبَهَا تَرَاخِيًا فَذَلِكَ تَسَاهُلٌ فِي الْعِبَارَةِ وَتَسَامُحٌ . ثُمَّ شَرَعَ فِي تَأْوِيلِ عِبَارَةِ أَبِي بَكْرٍ عَلَى أَنَّ " أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ " قَدْ لَا يُرَادُ بِهِ ظَاهِرُهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا } وَمِنْ الْبَيِّنِ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي مُسْتَقَرِّ أَهْلِ النَّارِ . قُلْت : وَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا فَقَدْ صَرَّحَ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ , فَقَالَ فِي الْفَاءِ : إنَّ أَصْلَهَا الْإِتْبَاعُ , وَلِذَلِكَ لَا تَعْرَى عَنْهُ مَعَ تَعَرِّيهَا عَنْ الْعَطْفِ فِي جَوَازِ الشَّرْطِ , وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَا يُنَافِي التَّرَاخِي الْيَسِيرُ . ا هـ .
وَكَذَا قَالَ غَيْرُهُ : مَعْنَى التَّرَاخِي فِيهَا وَإِنْ لَطُفَ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ التَّعْقِيبِ تَرَاخِي الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ بِزَمَانٍ وَإِنْ قَلَّ بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُ ; إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ مُقَارَنًا , وَالْقُرْآنُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لَهُ , وَأَنْتَ إذَا عَلِمْت تَفْسِيرَنَا التَّعْقِيبَ بِحَسَبِ مَا يُمْكِنُ زَالَ الْإِشْكَالُ . وَقَدْ جَوَّزُوا " دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ " , وَبَيْنَ الدُّخُولَيْنِ تَرَاخٍ وَمُهْلَةٌ , وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَلَّذِي أَخْرَجَ [ ص: 155 ] الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحَوَى } فَإِنَّ بَيْنَ الْإِخْرَاجِ وَالْإِحْوَاءِ وَسَائِطَ . وَقَالَ ابْنُ أَبِي الرَّبِيعِ : الِاتِّصَالُ يَكُونُ حَقِيقَةً وَيَكُونُ مَجَازًا , فَإِذَا كَانَ حَقِيقَةً فَلَا تَرَاخِيَ فِيهِ وَإِذَا كَانَ مَجَازًا فَفِيهِ تَرَاخٍ بِلَا شَكٍّ , كَقَوْلِك : دَخَلْت الْبَصْرَةَ فَالْكُوفَةَ وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفَاءُ ; لِأَنَّ سَبَبَ دُخُولِ الْكُوفَةِ اتَّصَلَ بِدُخُولِ الْبَصْرَةِ , فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا مُهْلَةٌ . وَقَدْ يَكُونُ التَّرَاخِي بَيْنَهُمَا قَلِيلًا فَيَكُونُ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ لِعِلَّتِهِ , فَتَدْخُلُ الْفَاءُ كَذَلِكَ .
وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ وَجْهُ التَّعْقِيبِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } وَبِظَاهِرِهِ تَمَسَّكَ أَهْلُ الظَّاهِرِ فِي إيجَابِ عِتْقِهِ , وَأَنَّهُ لَا يُعْتَقُ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ : " فَيُعْتِقَهُ " مَعْنًى . وَقَالَ الْأَئِمَّةُ : فَائِدَتُهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْإِعْتَاقَ بِذَلِكَ الشِّرَاءِ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ : أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ . أَيْ : بِهَذَا الْإِطْعَامِ ; إذْ لَوْ كَانَ الْإِشْبَاعُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِهِ , لَا يُقَالُ : لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ حُكْمًا لِلشِّرَاءِ ; لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَوْضُوعٌ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ , وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةٌ , فَكَانَ مُنَافِيًا لَهُ , وَالْمُنَافِي لِحُكْمِ الشَّيْءِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لِذَلِكَ الشَّيْءِ ; لِأَنَّا نَقُولُ : إنَّهُ بِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا لَهُ وَلَكِنَّهُ يَصْلُحُ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ , وَذَلِكَ ; لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُتَمَلَّكًا , وَالْمِلْكُ فِي الْوَقْتِ إكْمَالٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ فَيَصِيرُ الْعِتْقُ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ بِوَاسِطَةِ الْمِلْكِ , وَإِذَا صَارَ مُضَافًا إلَيْهِ يَصِيرُ بِهِ مُعْتَقًا , وَحِينَئِذٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعْتَاقٍ آخَرَ . [ ص: 156 ]
ثُمَّ ظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي كَوْنِهَا لِلتَّعْقِيبِ بَيْنَ الْعَاطِفَةِ وَالْوَاقِعَةِ جَوَابًا لِلشَّرْطِ وَسَبَقَ فِي كَلَامِ الْفَارِسِيِّ الِاسْتِدْلَال بِجَوَابِ الشَّرْطِ , فَاقْتَضَى أَنَّهُ مَحَلُّ وِفَاقٍ . وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ فِي " الْعَوْنِيِّ " : الْمَعْنَى الْخَاصُّ بِالْفَاءِ التَّعْقِيبُ فَلَا تَكُونُ عَاطِفَةً إلَّا مُعَقِّبَةً , وَقَدْ تَكُونُ مُعَقِّبَةً غَيْرَ عَاطِفَةٍ , كَقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } وَالْفَاءُ فِي هَذَا وَشَبَهِهِ عَاطِفَةٌ مُعَقِّبَةٌ , وَنَظِيرُهُ فِي الْكَلَامِ : جَاءَ زَيْدٌ فَعَمْرٌو , وَأَمَّا الْمُعَقِّبَةُ غَيْرُ الْعَاطِفَةِ كَالْوَاقِعَةِ فِي جَوَابِ الشَّرْطِ ; لِأَنَّ الْجَوَابَ يَعْقُبُ الشَّرْطَ , وَلَا يُعْطَفُ عَلَيْهِ ; إذْ لَوْ عُطِفَ عَلَيْهِ لَكَانَ شَرْطًا أَيْضًا لَا جَوَابًا انْتَهَى . وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ : هِيَ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ لِلتَّعْقِيبِ فِي الْعَطْفِ , وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ فَقَدْ ذَهَبَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ أَيْضًا . وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ } وَلِأَنَّك تَقُولُ : إذَا دَخَلْت مَكَّةَ فَاشْتَرِ لِي عَبْدًا , فَإِنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّعْقِيبَ . انْتَهَى .
وَلِهَذَا اخْتَارَ الْقُرْطُبِيُّ أَنَّهَا رَابِطَةٌ لِلْجَزَاءِ بِالشَّرْطِ لَا غَيْرُ , وَأَنَّ التَّعْقِيبَ غَيْرُ لَازِمٍ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَيُسْحِتَكُمْ } وَقَوْلُهُ { وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَلَيْسَ فِيهَا جَزَاءٌ عَقِبَ شَرْطِهِ . وَحَمَلَهُ الْأَوَّلُونَ عَلَى الْمَجَازِ ; لِأَنَّ الْإِسْحَاتَ لَمَّا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ عَقِبَهُ . وَمَا نَقَلَهُ الْبَاجِيُّ يُبَايِنُهُ مُبَايَنَةً ظَاهِرَةً مَا نَقَلَهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ فِي أُصُولِهِ " فَإِنَّهُ قَالَ مَا نَصُّهُ : إنَّ الْفَاءَ إنْ كَانَتْ لِلْجَزَاءِ فَلَا [ ص: 157 ] خِلَافَ أَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ كَقَوْلِك : جَاءَنِي فَضَرَبْته وَشَتَمَنِي فَحَدَدْته . وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا كَانَتْ لِلْعَطْفِ فَقِيلَ : كَالْأَوَّلِ وَقِيلَ كَالْوَاوِ . ا هـ .
لَكِنْ الْخِلَافُ فِي الْجَزَاءِ ثَابِتٌ , وَجَعَلُوا مِنْ فَوَائِدِهِ الْخِلَافَ فِي وُجُوبِ اسْتِتَابَةِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَإِنْ جَعَلْنَاهُ لِلتَّعْقِيبِ كَانَ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ وَإِلَّا فَلَا . وَأَنْكَرَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ كَوْنَهَا لِلتَّعْقِيبِ إذَا وَقَعَتْ فِي جَوَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ . وَدَافَعَ الْمُعْتَزِلَةُ عَنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى خَلْقِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُنْ فَيَكُونُ } فَإِنَّ الْفَاءَ هُنَا لِلتَّعْقِيبِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ , وَإِذَا كَانَ الْكَائِنُ الْحَادِثُ عَقِبَ قَوْلِهِ : " كُنْ " مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ وَلَا مُهْلَةٍ اقْتَضَى ذَلِكَ حَدَثُ الْقَوْلِ الَّذِي هُوَ " كُنْ " . وَاشْتَدَّ نَكِيرُ الْقَاضِي فِي كَوْنِ الْفَاءِ تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ فِي مِثْلِ هَذَا , وَرَأَى أَنَّهَا تَقْتَضِيهِ فِي الْعَطْفِ فَقَطْ , وَلَيْسَ هَذَا مِنْهُ , وَعَلَى هَذَا فَلَا يَحْسُنُ الِاسْتِدْلَال بِهَا عَلَى التَّرْتِيبِ فِي قَوْله تَعَالَى : { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا } وَأَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ الْبُدَاءَةُ بِالْوَجْهِ ثَبَتَ التَّرْتِيبُ فِي الْبَاقِي ; إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ . قِيلَ : وَأَصْلُ الْفَاءِ أَنْ تَدْخُلَ عَلَى الْمَعْلُولِ لِأَنَّهَا لِلتَّعْقِيبِ , وَالْمَعْلُولُ يَعْقُبُ الْعِلَّةَ , وَقَدْ تَدْخُلُ عَلَى الْعِلَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْلُولٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى } وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدٌ فِي بَابِ الْقِيَاسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
مسألة: الجزء الثالث[ ص: 152 ] ومنها الفاء : وهي للترتيب وزيادة , وهي التعقيب أي : أن المعطوف بعد المعطوف عليه بحسب ما يمكن , وهو معنى قولهم : إنها تدل على الترتيب بلا مهلة أي : في عقبه ولهذا قال المحققون منهم : إن معناها التفرق على مواصلة . وهذه العبارة تحكى عن الزجاج وأخذها ابن جني في لمعه " . ومعنى التفرق أنها ليست للجمع كالواو , ومعنى على مواصلة أي : أن الثاني لما كان يلي الأول من غير فاصل زماني كان مواصلا له . واستدل الفارسي في " الإيضاح " على ذلك بوقوعها في جواب الشرط , نحو إن دخلت الدار فأنت طالق . يريد أن الجواب يلي الشرط عقبه بلا مهلة . وأما قوله تعالى : { وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا } قال الهروي وغيره معناه قرب هلاكها . وقال المتأخرون : أي أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا , وفيه نظر من جهة علم الكلام . وقيل : لما كان مجيء البأس مجهولا عند الناس قدر كالعدم , ولما حصل الهلاك اعتقدوا وجوده فحسن دخول الفاء . وقيل : ليست عاطفة , وإنما هي سببية , والفاء السببية لا يشترط فيها التعقيب , فإنك تقول : أكرمت زيدا أمس , فأكرمني اليوم , وهذا تأويل [ ص: 153 ] ظاهر , وعليه ينبغي أن يحمل قوله تعالى : { فتصبح الأرض مخضرة } ثم الترتيب إما في الزمان نحو { خلقك فسواك } ولهذا كثر كون تابعها مسببا , نحو ضربته فهلك , أو في الذكر , وهو عطف مفصل على مجمل هو , نحو { ونادى نوح ربه فقال رب } أو متأخر عما قبله في الإخبار نحو : بسقط اللوى بين الدخول فحومل وزعم الفراء أنها تأتي لغير الترتيب , وهذا مع ما نقل عنه من أن الواو تفيد الترتيب عجيب , وهو يوقع خللا في ذلك النقل , فإنه قد ذكر هذا في معاني القرآن في قوله تعالى { ثم دنا فتدلى } المعنى ثم تدلى فدنا , ولكنه جائز إذا كان المعنى في الفعلين واحدا , أو كالواحد قدمت أيهما شئت فقلت : دنا فقرب أو قرب فدنا , وشتمني فأساء , أو أساء فشتمني ; لأن الشتم والإساءة واحد . ونوقش بأن القلب إنما يصح فيما يكون كل واحد مسببا وسببا من وجهين , فيكون الترتيب حاصلا قدمت أو أخرت , فقولك : دنا فقرب . الدنو علة القرب , والقرب غايته . فإذا قلت : دنا فقرب , فمعناه لما دنا حصل القرب , وإذا عكست فقلت : قرب فدنا , فمعناه قرب فلزم منه الدنو , ولا يصح في قولك : ضربته فبكى ; لأن الضرب ليس غايته البكاء بل الأدب , أو شيء آخر , وكذلك أعطيته فشنعا . وقال الجرمي : لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل [ ص: 154 ] قوله : بين الدخول فحومل . وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : نص الفارسي في " الإيضاح " على أن " ثم " أشد تراخيا من الفاء فدل على أن الفاء لها تراخ , وكذلك ذكر غيره من المتقدمين , ولم يدع أنها للتعقيب إلا المتأخرون . قلت : وهي عبارة أبي بكر بن السراج في أصوله " , فقال : و " ثم " مثل الفاء إلا أنها أشد تراخيا , وقال ابن الخشاب : ظاهره أن في الفاء تراخيا جما ; لأن أشد " أفضل للتفضيل " ولا يقع التفضيل إلا بين مشتركين في معنى , ثم يزيد المفضل على المفضل عليه في ذلك المعنى , ولا تراخي تدل عليه الفاء فيما بعدها عما قبلها إلا أن يكون أبو بكر عد تعقيب الفاء وترتيبها تراخيا فذلك تساهل في العبارة وتسامح . ثم شرع في تأويل عبارة أبي بكر على أن " أفعل التفضيل " قد لا يراد به ظاهره كقوله تعالى : { أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا } ومن البين أنه لا خير في مستقر أهل النار . قلت : ولا حاجة إلى هذا فقد صرح عبد القاهر الجرجاني , فقال في الفاء : إن أصلها الإتباع , ولذلك لا تعرى عنه مع تعريها عن العطف في جواز الشرط , ولكن مع ذلك لا ينافي التراخي اليسير . ا هـ .
وكذا قال غيره : معنى التراخي فيها وإن لطف فإن من ضرورة التعقيب تراخي الثاني عن الأول بزمان وإن قل بحيث لا يدرك ; إذ لو لم يكن كذلك كان مقارنا , والقرآن ليس بموجب له , وأنت إذا علمت تفسيرنا التعقيب بحسب ما يمكن زال الإشكال . وقد جوزوا " دخلت البصرة فالكوفة " , وبين الدخولين تراخ ومهلة , وقال تعالى : { والذي أخرج [ ص: 155 ] المرعى فجعله غثاء أحوى } فإن بين الإخراج والإحواء وسائط . وقال ابن أبي الربيع : الاتصال يكون حقيقة ويكون مجازا , فإذا كان حقيقة فلا تراخي فيه وإذا كان مجازا ففيه تراخ بلا شك , كقولك : دخلت البصرة فالكوفة وإنما جاءت الفاء ; لأن سبب دخول الكوفة اتصل بدخول البصرة , فلم يكن بينهما مهلة . وقد يكون التراخي بينهما قليلا فيكون كالمستهلك لكونه غير مفتقر لعلته , فتدخل الفاء كذلك .
ومن هذا يعلم وجه التعقيب في قوله صلى الله عليه وسلم { لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه } وبظاهره تمسك أهل الظاهر في إيجاب عتقه , وأنه لا يعتق بمجرد الشراء فإنه لو أعتق بنفس الشراء لم يكن لقوله : " فيعتقه " معنى . وقال الأئمة : فائدته التنبيه على أن الإعتاق بذلك الشراء لا بسبب آخر كما يقال : أطعمه فأشبعه وسقاه فأرواه . أي : بهذا الإطعام ; إذ لو كان الإشباع بغيره لم يكن متصلا به , لا يقال : لا يصح أن يكون الإعتاق حكما للشراء ; لأن الشراء موضوع لإثبات الملك , والإعتاق إزالة , فكان منافيا له , والمنافي لحكم الشيء لا يصلح أن يكون حكما لذلك الشيء ; لأنا نقول : إنه بنفسه لا يصلح أن يكون حكما له ولكنه يصلح بواسطة الملك , وذلك ; لأنه بالشراء يصير متملكا , والملك في الوقت إكمال لعلة العتق فيصير العتق مضافا إلى الشراء بواسطة الملك , وإذا صار مضافا إليه يصير به معتقا , وحينئذ لا يحتاج إلى إعتاق آخر . [ ص: 156 ]
ثم ظاهر كلام جماعة أنه لا فرق في كونها للتعقيب بين العاطفة والواقعة جوابا للشرط وسبق في كلام الفارسي الاستدلال بجواب الشرط , فاقتضى أنه محل وفاق . وقال ابن الخشاب في " العوني " : المعنى الخاص بالفاء التعقيب فلا تكون عاطفة إلا معقبة , وقد تكون معقبة غير عاطفة , كقوله تعالى { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما } والفاء في هذا وشبهه عاطفة معقبة , ونظيره في الكلام : جاء زيد فعمرو , وأما المعقبة غير العاطفة كالواقعة في جواب الشرط ; لأن الجواب يعقب الشرط , ولا يعطف عليه ; إذ لو عطف عليه لكان شرطا أيضا لا جوابا انتهى . وقال أبو الوليد الباجي : هي عند النحويين للتعقيب في العطف , وأما في الجواب فقد ذهب أكثر أصحابنا إلى أنها للتعقيب أيضا . وليس بصحيح بدليل قوله تعالى : { لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب } ولأنك تقول : إذا دخلت مكة فاشتر لي عبدا , فإنه لا يقتضي التعقيب . انتهى .
ولهذا اختار القرطبي أنها رابطة للجزاء بالشرط لا غير , وأن التعقيب غير لازم بدليل قوله تعالى : { فيسحتكم } وقوله { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة } وليس فيها جزاء عقب شرطه . وحمله الأولون على المجاز ; لأن الإسحات لما تحقق وقوعه نزل منزلة الواقع عقبه . وما نقله الباجي يباينه مباينة ظاهرة ما نقله الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني في أصوله " فإنه قال ما نصه : إن الفاء إن كانت للجزاء فلا [ ص: 157 ] خلاف أنها للتعقيب كقولك : جاءني فضربته وشتمني فحددته . واختلفوا فيما إذا كانت للعطف فقيل : كالأول وقيل كالواو . ا هـ .
لكن الخلاف في الجزاء ثابت , وجعلوا من فوائده الخلاف في وجوب استتابة المرتد فإنه عليه الصلاة والسلام قال : { من بدل دينه فاقتلوه } فإن جعلناه للتعقيب كان دليلا على عدم الوجوب وإلا فلا . وأنكر القاضي أبو بكر كونها للتعقيب إذا وقعت في جواب الأمر والنهي . ودافع المعتزلة عن الاستدلال على خلق القرآن بقوله تعالى : { كن فيكون } فإن الفاء هنا للتعقيب من غير تراخ ولا مهلة , وإذا كان الكائن الحادث عقب قوله : " كن " من غير تراخ ولا مهلة اقتضى ذلك حدث القول الذي هو " كن " . واشتد نكير القاضي في كون الفاء تقتضي التعقيب في مثل هذا , ورأى أنها تقتضيه في العطف فقط , وليس هذا منه , وعلى هذا فلا يحسن الاستدلال بها على الترتيب في قوله تعالى : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } وأنه إذا ثبتت البداءة بالوجه ثبت الترتيب في الباقي ; إذ لا قائل بالفرق . قيل : وأصل الفاء أن تدخل على المعلول لأنها للتعقيب , والمعلول يعقب العلة , وقد تدخل على العلة باعتبار أنها معلول كقوله تعالى : { وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } وسيأتي له مزيد في باب القياس إن شاء الله تعالى .