مشاهد من يوم القيامة
*****
وقفت جميع مشاعري تتأمل*

وفمي عن النطق المبين معطل
ما كنت في حلم ولا في يقظة*
بل كنت بين يديهما أتململ
أرنو إلى الأفق البعيد فما أرى*
إلا دخانا تائهـا يتجول
وحشود أسئلة تجر ذيولها*
نحوي وباب الذهن عنها مقفل
أحسست أن إرادتي مسلوبة*
وشعرت أن مخاوفـي تترهل
وشعرت أني في القيامة واقف*
والناس في ساحاتها قد هرولوا
يسعون كالموج العنيف عيونهم*
مشدوهـة وعقولهـم لا تعقـل
والكون من حولي ضجيج مرعب*
والأرض من حولي امتداد مذهل
قد أخرجت أثقالها وتأهبـت*
للحشر وانكسر الرتاج المقفـل
والناس أمثال الفراش تقاطروا*
من كل صوب هاهنا وتكتلـوا
كل الجبال تحولت من حولهم*
عهنا وكل الشامخـات تزلـزل
وجميع من حولي بما في نفسهم*
لاه فلا معـط ولا متفضــل
كل الخلائق في صعيد واحـد*
جمعت فسبحـان الذي لايغفـل
وأقيم ميزان العدالـة بينهـم*
هـذا بـه يعلـو وذلك يـنزل
وتجمعت كل البهائم بعضهـا*
يقتص من بعض وربـك أعـدل
حتى إذا فرغ الحساب وأنصفت*
من بعضها نزل القضاء الأمثـل
كوني ترابا يا بهائم عندهـا*
صاح الطغاة وبالأماني جلجلـوا
يا ليتنا كنـا ترابـا مثلهــا*
يا ليتنا عـن أصلنـا نتحـول
هيهات لا تجدي الندامة بعدما*
نصب الصراط لكم وقام الفيصل
ومضيت أقرأ في الوجوه حكاية*
إجمالهـا عنـد الذكي مفصـل
ورأيت ما لا كنت أحلم أن أرى*
حولي وقد كشف الستار المسدل
هذا هو النمرود يندب حظـه*
والدمع مـن هول المصيبة يهطل
وهناك فرعون المألـه نفسـه*
يسعى بغـير بصيرة ويولول
وهناك كسرى تـاه عند إيوانه*
مترنـح فـي سـيره متملمـل
وهناك قيصر نفسـه مكسورة*
وبقـلبـه ممـا يعانـي مرجـل
وهنا أبو جهل يراجع نفسـه*
عينـاه توحـي أنـه يتـوسـل
يارب أرجعنا لنعمـل صالحـا*
غير الذي كنـا نقـول ونعمـل
هيهات قد طوي الكتاب ألم يكن*
فيكـم نـبي بالهدايـة مرسـل
سبحان ربك هؤلاء جميعهـم*
كانـت لهـم دار هنـاك تبجـل
لكنهم كفروا بمن أعطاهــم*
ملكـا وعاثوا في البـلاد وقتلـوا
ورموا بشرع الله خلف ظهورهم*
عزلوه عن حكم الزمان وعطلـوا
جمع الطغاة هنا وقد هانوا علـى*
ربـي وعـد المؤمـن المتبتـل
وقفوا وآلاف الضحايا حولهـم*
فاليوم ينظر في الأمور ويبطل
واليوم يسعـد مؤمـن بيقينـه*
واليوم يشقى الفاسق المتحلل
واليوم يمتد الصراط فمسـرع*
نحو النعيم وزاحف متمهل
ومحمل بالذنب زلـت رجلـه*
فهوى ونار جهنم تستقبل
فأجلت طرفي ساعة فرأيت من*
أمر القيامة ما يروع ويذهل
هذا أب يسعى إلـيه وحيـده*
وبمقلته ترقب وتـوسل
أبتاه أرهقني المسـير وحاجـتي*
شيء يسير لا يمض ويثقل
شيء من الحسنات ينقذني وقـد*
خفت موازيني وفيك أؤمل
أنت الذي عودتني فيما مضـى*
بذلا ومثلك في المصائب يبذل
وإزور وجه أبيه عنه مـرددا*
نفسي أحق بما تقول وأمثـل
ومضى كسيف البال يسأل نفسه*
ماذا جرى لأبي أهذا يعقل؟
وبدت له بين الجموع حليلة*
كانت تفضله وكـان يفضـل
وغدا يناديها رويدك زوجتي*
فأنا الحبيب وليس مثلك يجهل
ريحانتي أنسيت أيام الصبا*
أيام كنا من هوانـا ننهـل؟
أنا من وهبتك في فؤادي منزل*
ما كان فيه لغير حبك منزل
شيء من الحسنات ينقذني وقد*
خفت موازيني وفيك أؤمـل
قالت له والهـم يشعـل قلبهـا*
لهبا وفي أحشائهـا يتغلغـل
عذرا فـأنت رفيق عمري إنمـا*
نفسي أحق بما تقول وأمثـل
ومضى كسيف البال حتى لاح في*
وسط الزحام خيال من لا يبخل
أم رؤوم راح يركـض نحوهـا*
جذلا وهل بعد الأمومة موئل؟
حملته في أحشائهـا وتحملـت*
من أجل راحته الذي لايحمـل
أمـاه يا أمـاه مـدي لي يـدا*
فلكم بذلت إذا أتيتك أسـأل
شيء من الحسنات ينقذني وقد*
خفت موازيني وفيـك أؤمـل
قالت له والدمع يغلب صـبرها*
نفسي أحق بما تقـول وأمثـل
ونقلت طرفي لحظة فرأيت مـا*
لا تستريح له النفـوس وتقبـل
بشر كأنهم الحوامل قد مشـوا*
مشيا ثقيـلا والمصيـبة أثقـل
من هؤلاء؟ فقال من يدري بهم*
أهل الربا بئس المقام المخجـل
أكلوا الربا جهرا ولم يتورعـوا*
عن أكله ومشوا إليه وأرملـوا
ماصدهم عن أكلـه بطلانـه*
وكذاك باطل كـل قـوم يبطـل
وأخذت ناحية أفكـر بالـذي*
يجري وأرسل ناظـري وأنقـل
ماذا أرى رجل يحيـط برأسـه*
طوق وفي رجليه قيـد محجـل
من ذلك الرجل التعيس؟ فقال لي*
من عنده خـبر يقـين ينقـل
هذا الذي خان العهود وعاش في*
دنياه يغتصب الحقوق ويأكـل
يسطوا على مال الضعيف وأرضه*
واليوم يجـني ماثـراه ويحمـل
الشبر في الدنيـا يقابلـه هنا*
سبع من الأرضين بئس المحمـل
ورأيت قومـا يدعسون كأنـهم*
نمل وقد ذاقـوا الهوان وجللـوا
من هؤلاء البائسـون أراهـم*
هانوا ومن كتب الكرامة أعقلوا
فأجابني: هم كل مختـال لـه*
فيما مضى كـبر عليـه يعـول
وذهلت عنهم حين أبصر ناظري*
رجل يساق الى الجحيم ويعتــل
ووراءه امرأة يحيـط بجيدهـا*
حبل يلف مـن الجحيـم ويفتـل
من ذلك الرجل الشقي وهذه*
تجـري علـى أعقابـه وتولـول
هذا أبو لهب وزوجتـه الـتي*
كانت تجول على النـبي وتجهـل
وأخذت ناحية فـلاح لناظـري*
روض وأزهـار ونـور مقبـل
غرف بطائنهـا الحريـر وتربها*
مسك بماء المكرمـات مبلـل
ونساؤهـا حور فوجه مشـرق*
كالشمس ساطعة وطرف أكحل
أنهارهـا عسـل وخمـر لـذة*
للشاربـين وشربهـا لا يثمـل
وبناؤها من فضـة من فوقهـا*
ذهب وعند الله ما هو افضـل
أقـل من فيهـا نصيبا حظـه*
أضعاف دنيانا وربـك يجـزل
رأيت فيها الساكنين ربوعهـا*
نحو الجنان وفي المنازل أنزلـوا
على الأرائك يجلسون حديثهم*
مستبشرين بما رأوه وحصلـوا
يتذكرون حوادث الدنيا الـتي*
صمدوا لها وعلى الإله توكلـوا
طوبى لكم هذي منازلكم فمـا*
خابـت مساعي من يجد ويعمل
أجلت طرفي في الوجوه فـلاح لي*
وجه بدا وكأنما هـو مشعـل
وجه الرسول يشع نورا صادقـا*
قد جاء في حلل السعادة يغفل
ورأيت أصحاب الرسول وقد مضوا*
نحو الجنان وفي المنازل أنزلـوا
ورأيت مؤمن آل فرعون الـذي*
نبذوا وصفحة وجهه تتهلل
والكوثر الرقراق لاتسـأل فمـا*
مثلي يجيب وليس مثلي يُسأل
نهر كأن الـدر يجـري بينـه*
أو أنه النور الذي يتسلسـل
سبحـان ربك هاهنا حصل الذي*
ماكان لولا فضل ربك يحصل
ورفعت طرفي لحظة فرأيت مـن*
لا شيء يشبهـه وليس يمثـل
نور تجلـى للخـلائـق كلهـا*
فتواضعـوا لجلالـه وتذللوا
وقعوا سجودا يلهجون بذكـره*
والكون بالصمت المهيب مكلل
سجدوا وأما المبطلون فحاولـوا*
أن يسجدوا لكنهم لم يفعلـوا
وصحوت من حلمي ونفسي بالذي*
شاهدت مؤمنة وعيني تهمـل
وشعرت أن مظاهر الدنيا الـتي*
لهوى مظاهر نشوة لا تكمـل
وعلمت ان الله يمهـل عبــده*
عطفـا عليـه وأنـه لا يهمـل
وهنا وقفت وفي فؤادي دوحـة*
تحنـو علي غصونهـا وتظلـل
هي روضة الإيمان يجري نهرها*
عذبـا ويشدوا في رباها البلبل

*****
د. أبو شامة المغربي