«الشاطئ الآخر»

بقلم الدكتور: أحمد زياد محبك
أستاذ الأدب العربي الحديث بجامعة حلب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ

_ 1 _
رواية رقيقة رشيقة ، لطيفة ناعمة ، شديدة التكثيف ، مثل مروحة صينية صغيرة ، مطوية في يد سيدة رشيقة ، تبدو صغيرة ذات بعد واحد ، تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد ، تحمل رسوماً وألواناً جميلة للحب والشباب والتاريخ والسياسة ، تلك هي رواية الشاطئ الآخر للكاتب الروائي والقاص محمد جبريل ، وقد صدرت عام 1995 عن الهيئة المصرية العامة للكتاب ، في القاهرة ، وتقع في 126 صفحة من القطع المتوسط ، ولا تزيد عدد كلماتها على 24 ألف كلمة ، تنثال في ليونة من غير أن تقسم إلى مقاطع أو فقرات أو وحدات .
والرواية تقدم خبرة شاب يطرده أخوه من البيت بعد وفاة الأب ، فيلجأ إلى الأجنبي ، ليتفتح وعيه في "الشاطئ الآخر" ، ويعرف الحب ، ويمتلك المعرفة ، ثم يعود إلى بيت الأب ولقاء الأخ ، بعد أن عرف العالم ، ويرتبط ذلك كله بالواقع الخارجى ، بما فيه من متغيرات ، بخيوط حريرية ناعمة ، فيمكن عندئذ قراءة الرواية قراءة أخرى ، لتغدو بشكل ما تعبيراً عن حياة أمة ، لا مجرد حياة فرد .
والرواية تحكي عن شاب جامعي ، يدعى حاتم ، يعمل نادلاً في مطعم ، يموت أبوه رضوان ، وقبل ثلاث سنوات كانت أمه قد ماتت ، ويفجؤه أخوه طارق ، وهو ضابط في الجيش ، بطرده من شقة الوالد ، ليستأثر بها ، بدعوى الزواج ، حتى إنه ليستأثر بالأثاث ، ولا يعطيه شيئاً منه ، ويلجأ حاتم إلى سمسار ، فيؤجره غرفة في شقة لدى سيدة يونانية ، ترحب به ، في الوقت الذي لا يرحب به بيروس زوج ابنتها فيرجينيا ، وكان حاتم من قبل قد تعرف إلى شاب يوناني ، يدعى ديمتريوس ، ويعرفه هذا الشاب إلى عالم واسع من الثقافة الغربية ، كما يعرفه إلى أخته لأبيه ياسمين ، وسرعان ما يقع حاتم في حبها .
ويرافق ذلك كله كما تذكر الرواية إقالة محمد نجيب في نوفمبر 1954 وميل عبد الناصر في سياسته الخارجية إلى الكتلة الشرقية بشرائه السلاح من تشيكوسلوفاكيا, ثم امتناع الولايات المتحدة عن تمويل بناء السد العالي وتمويل الاتحاد السوفيتي له, وما تلا من تأميم عبد الناصر لشركة قناة السويس, وما أعقبها من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956وزيادة التقارب بين مصر و الاتحاد السوفيتي.
_ 2 _
ويبدو الحب في الرواية العنصر الأكثر بروزاً, فهو حاجه أساسية, ولا سيما بالنسبة إلى حاتم بطل الرواية, ويظهر الحب متأثراً بقوى الواقع وظروفه, ولا يظهر قوة فاعلة مؤثرة, ويرجع ذلك إلى شخصية حاتم, فهو بحاجة إلى الحب, ولكنه لا يعرف المنفذ إليه أو السبيل, أو لعله يعرف ولكنه لا يستطيع أن يبادر- بحكم تكوينه- فهو شاب مثقف, يميل إلى المطالعة والقراءة (ص23) ولعله يشبه هاملت الذي يطيل التأمل والتفكير, بخلاف روميو الذي يميل إلى المبادرة والفعل.
وللحب في حياة حاتم جانبان اثنان, الأول ذهني ثقافي مجرد, والثاني عملي واقعي تجريبي, وفي الجانب الأول, وهو الطاغي يتعرف حاتم إلى الحب من خلال كتب التراث, من كتابات ابن الجوزي (ص61) والمفضل بن سلمة (ص64) وابن حزم (ص68) و(ص73) والماوردي (ص 70) وابن قيم الجوزية (103) وداود الأنطاكي (ص112), فهو يقرأ فيها, ويختار مقبوسات منها, تتعلق بأوصاف الحب والحبيب, وحالات الحب وأشكاله ودرجاته, وهي مقبوسات كثيرة, تدل على ثقافة حاتم وتمسكه بالتراث ولجوئه إليه بعد موت أمه وأبيه وطرد أخيه له من الشقة كما تدل على شعوره بالخلاص من الغربة التي يعانيها في حياته مع ديمتريوس وفي شقة السيدة اليونانية, كما تدل تلك المقبوسات على شخصية مثالية ذهنية تتعلق بما هو كلي مجرد, وبما هو نظري, وهي شخصية تنطلق من الأخلاق والفكر والثقافة إلى الواقع لتتعرف إليه, وتبدو المقبوسات على كثرتها رشيقة, لا تخلو من ذكاء, وحسن انتقاء, وهي تسد فراغاً كبيراً في حياة حاتم, وتدل على شخصيته دلالة قوية, ولا غنى عنها, كما تبدو ملتحمة بالبناء الكلي للرواية, وقد جاء كل منها في موقعه من الرواية وفي الجانب الثاني, وهو الواقع, تبدو تجربة الحب لدى حاتم محدودة جداً, قوامها الحياء والخجل, لذلك كانت عفيفة, بعيدة كلياً عن الممارسة الجسدية, ولم تتجاوز في أقصى أبعادها قبلة واحدة, جاءت عفواً على سبيل المصادفة, وإن كانت تجربة الحب قد مرت لدى حاتم بمراحل وحالات قاربت فيها المحظور, ولكنها ابتعدت عنه بقدرة غريبة كأنما كتب لحاتم أن يحافظ على عفته وبراءته, وهذا ينسجم في الواقع مع شخصيته, فهو مثقف مهذب, تلقى تربية صارمة, ونشأ في أسرة محافظة متماسكة.
وتبدأ تجربة الحب لدى حاتم في الواقع بعشقه الطفولي البريء لابنه الجيران مديحة, وكتابة قصة عنها ثم تمزيقها وهو في الثانية عشرة (ص53-54) وتنمو معرفته عن الحب بما يسمعه من زميل له في الصف عن علاقاته بالبنات ويحاول أن يرسم صورة لها في ذهنه فلا يفلح (ص54) وقد حاول مرة ممارسة الجنس مع باغية ولكنه اضطرب وعف وخرج من غير أن يفعل شيئاً، مما يدل على حشمة فيه وحياء (ص56-57).
لقد احتفظت الرواية لحاتم ببراءته وطهره ونقائه ليكون تفتح الحب لديه في أرض طهور لا يعرف فيها قبل الحب شيئاً, وليكون استقباله له عذباً بريئاً (ص57).
ويعلل حاتم عدم معرفته الحب في الواقع بعدم مصادفته له, أو انتظاره أن تبادر الفتاة (ص55) ولكن ذلك وحده غير كاف, فقد أتيحت له أكثر من فرصة, ولكنه عف, وتردد, ومرجع ذلك في الواقع إلى تكوينه, فهو شاب مثقف متأمل يميل إلى المطالعة والبعد عن الواقع, لقد كانت صفاء ابنة عمه تغلق عليه باب الحجرة, وتحدثه عن الحديقة والأشجار ولقاء الشباب والصبايا, وتقعد قبالته في وسط السرير, وتزيح روبها الوردي عن جسدها, وتسأله إن كانت له صديقة, وهو لا يستجيب لها, فتمل منه (ص85-88)ويحدث أن تنطلق صفارة الإنذار معلنة عن غارة, وتفزع إليه السيدة اليونانية, فتلجأ إليه, وتتمسك بيديه, وتثور في نفسه رغبة غامضة, وينتظر أن تبادر هي, ولكن سرعان ما تنطفئ تلك الرغبة, عندما تنطلق الصفارة الثانية معلنة عن الأمان (ص107-108), ولا ينظر حاتم إلى فرجينيا نظرة اشتهاء البتة, على الرغم من أنه يلتقيها كثيراً في منزل السيدة اليونانية, بل إنه لا ينظر إليها إلا على أنها زوجة لبيروس وأم لوليدها الذي تعني به كثيراً, ولا يفكر في التعرف إلى جسد المرأة من خلالها.
هذه العفة لدى حاتم هي التي جعلت مشاعره تتجه نحو ياسمين أخت ديمتريوس, وهي من أم يونانية وأب مصري, وقد تفتح حبه لها وفق إضاءات مشرقة من قراءاته في كتب التراث عن الحب, مما يؤكد سمو مشاعره ورقيها ، ومما يدل على استناد هذا الحب إلى جذر معرفي تراثي ، ليؤكد البعد الحضاري والإنساني للحب . إن حب حاتم لياسمين هو حب عذري بريء يستند إلى العفة والطهر والنقاء ، ويقوم على الخجل والحياء ، ويرجع إلى ثقافة حاتم وتفكيره وسمو روحه ، وذات يوم تعرض عليه ياسمين ألبوم صورها ، وتغطي بيدها صورة لها وهي بالمايوه ، ويفكر في أن يدفع يدها ليرى الصورة (ص 69 ) ولكنه يكتفي بالتفكير ولا يفعل شيئاً ، ولعل هذه العفة هي التي جعلت مشاعره تنمو وتنضج ، وتسير بهدوء مع حركة الواقع ووفق إرادة الحياة ، لا إرادته هو ، إلى أن كان يوم زار فيه حاتم صديقه ديمتريوس ، فاستقبلته ياسمين وأخوها غائب ، وحدث أن أطلقت صفارة الإنذار معلنة عن غارة على الإسكندرية ، فتفزع إليه ياسمين ، ويضمها إلى صدره ويقبلها ( ص 101 ) وهي القبلة الوحيدة ، وقد جاءت تتويجاً لنضج المشاعر، كما جاءت نتاج المصادفة ، وبدافع من الواقع .
إن هم حاتم هو البراءة والنقاء والطهر ، وبما أن قبلته لها هي أول قبلة في حياته ، دليل طهره وبراءته ، لذلك يسأل نفسه : " هل كان ما حدث أول قبلة لرجل في حياتها ؟ مثلما هي أول قبلة في حياتي ؟ " ( ص 101 ) بل إنه لا يتردد في سؤالها : " هل أحببت إنساناً آخر قبلي ؟ " ( ص 110 ) والسؤال فيه من السذاجة والعفوية بقدر ما فيه من دليل على البراءة والطهر ، ويؤكد ذلك تصوره لياسمين زوجة له في المستقبل ( ص 111 _ 112 ) دليل صدقه أيضاً وبراءته .
ولكن ، إلام سينتهي هذا الحب العذري الصادق الجميل ؟ إن الأسباب التي قادت إلى هذا الحب ، هي التي نفسها ستقود إلى نهايته ، وهذا هو الطبيعي ، إن حاتم لم يملك في الواقع حرية الحب ، ولم يملك في يوم إرادة الفعل، أو القدرة على المبادرة ، هو لطيف ، رقيق ناعم وهو مثقف وقارئ جيد ، وهو نبيل وصادق ، وهو عاطفي وسريع الاستجابة وقوي التأثر ، ولعله يعي ذلك كله ( ص 120 ) ، ولكنه لا يملك القدرة على المبادرة .
إن طرد أخيه له من الشقة ، وتعرفه إلى ديمتريوس ، وزيارته له في منزله ، وحرب السويس ، والغارات على الإسكندرية ، وفزع ياسمين ، ومعانقتها له ، هي جميعاً الظروف التي كونت حبه وصاغته ، وعندما تتغير هذه الظروف سينتهي حبه ، فلقد انتهت الحرب ، وطرد عبد الناصر الإنكليز والفرنسيين ، وتحمس اليونانيون لمغادرة مصر ، بمن فيهم ديمتريوس وأمه ، وطارق الذي طرد أخاه من شقة أبيه يدعوه إلى العودة إليها .
وهكذا تغيرت الظروف التي قادت إلى الحب ، فينتهي الحب ، لذلك يظن حاتم أن العالم كله متآمر عليه، وقد نسي أن هذا العالم هو نفسه الذي وضع ياسمين بين يديه ، يقول حاتم : " لماذا يتآمر العالم على سعادتي؟ ما صلة ياسمين وصلتي بالسد العالي وتأميم القناة والحرب وخروج الأجانب ؟ " ( ص 123 ) .
_ 3 _
وبمقابل حب حاتم لياسمين ، يظهر حب آخر ، شاذ ، غير سليم ، هو حب ديمتريوس لحاتم . لقد ظهر ديمتريوس الملاذ لحاتم ، فهو الصديق الذي استضافه في منزله ، واتخذ منه صديقاً ، ومنحه شعور الصداقة، وعرفه إلى أخته ياسمين ، كما عرفه إلى الثقافة الغربية ، فكان يقرأ له عيون الأدب العالمي ، من هوميروس إلى كافافيس ، مروراً باسخيلوس ودانتي وشكسبير وكازنتزاكي وغيرهم كثير ، وكان حاتم بأشد الحاجة إليه ، في الوقت الذي خذله فيه أخوه وطرده من شقة الوالد ، وحرمه من الأثاث والتراث .
ولكن ، ذات يوم اقتحم ديمتريوس عالم حاتم ، وقبله في فمه ، فصفعه حاتم عدة صفعات ، ووضع حداً لاندفاعاته ( ص 83 ) فأكد له ديمتريوس أنه لا يزوره إلا لغاية في نفسه ، فزجره وكاد يلكمه ، فاعترف بأن الخياط الأرمني في أسفل البناء المقابل قد نال منه ( ص 84 ) . وكان حرياً بديمتريوس أن ينقاد إلى الحب كالحب الذي انقاد إليه حاتم ، فهو مثقف مثله ، فما الذي قاده إلى هذا الشذوذ ؟ لقد دخل ديمتريوس ذات يوم على حاتم ، ليقرأ له صفحات من رواية لكافافيس عن صديقين تقودهما الصداقة إلى ممارسة علاقة شاذة ( ص 81 ) ثم يسأله إن كان قد قرأ " صورة دوريان غراي " لأوسكار وايلد ، فيرد عليه حاتم :
" لا أحب الأصدقاء غير الأسوياء " ( ص 81 ) ويرد عليه ديمتريوس : " أن يكون المرء قاتلاً فذلك لا يدعو لإدانة ما يكتبه ، كما أن الفضائل العائلية ليست أساساً حقيقياً للفن " ( ص 81 ) وهذا الكلام لأوسكار وايلد نفسه ، وهكذا تقف الثقافة الغربية بما فيها من شذوذ وراء شذوذ ديمتريوس ، كما تقف الثقافة العربية بما فيها من حب عذري عفيف وراء عفة حاتم وطهره .
ولكن ، مما لا شك فيه ، أن الثقافة وحدها ليست العامل الوحيد المؤثر في كل من حاتم وديمتريوس ، ولابد من وجود أسباب أخرى . ويمكن أن نرى ذلك واضحاً في أسرة كل منهما، فحاتم نشأ في أسرة متماسكة ، والده رصين متوازن ، له حياة هادئة مستقرة ، لا يغادر المنزل إلا إلى المقهى المجاور ، وهو يحافظ على الصلاة في المسجد ، وعندما ماتت زوجته حزن عليها أشد الحزن ، ولزم بيته ، وطرد عدة خادمات ترددن على المنزل وفاء منه لزوجته ، ثم " دخل في شرنقة من الهدوء السادر " ( ص 13 ) وفقد ذاكرته ، ولم ينطق بعد ذلك بغير كلمة واحدة : " البكاء لن يعيدها " ( ص 13 ) مما يدل على وفائه لزوجته وحبه لها حباً قوياً صادقاً ، وقد توفي بعدها بثلاث سنوات ، وكان قارئاً نهماً ، وقد حول النملية إلى مكتبة كدست فيها الكتب والمجلات وعلى الجدار سبحة كبيرة الحبات ( ص 23 ) ، وكانت الأم حريصة على تأمين حياة هادئة آمنة لولديها حاتم وطارق ، وكانت تريدهما أن ينصرفا إلى الدراسة ولا يشغلا عنها بشيء.
وبالمقابل نشأ ديمتريوس في أسرة تحوي كل التناقضات ، فهو يحيا مع أمه اليونانية وزوجها المصري ، ومعهما ياسمين أخته من أمه ( ص 20 ) وهو يعد نفسه أوروبياً يحيا في مصر ، فهو يعيش في أوربة من خلال الأفلام والكتب والإذاعات والأغاني ( ص 27 ) ويرى الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومرسيليا ونابولي ( ص 27 ) ، وهو يعيش مع أمه المسيحية وزوجها المسلم ويدرك أن الدين لا وجود له في البيت ( ص 59 ) .
وتنتهي الصداقة بين حاتم وديمتريوس بانتهاء حرب السويس ، وعودة ديمتريوس مع أمه إلى اليونان ، وينتهي الحب أيضاً بين حاتم وياسمين ، كما تنتهي إقامة حاتم في منزل السيدة اليونانية ، إذ تقرر هذه الرحيل أيضاً إلى اليونان ، ويرجع حاتم إلى بيت والده بدعوة صادقة من أخيه طارق .
_ 4 _
ولقد عنيت الرواية بتقديم صور دقيقة وواضحة للشخصيات ، ولاسيما للوجوه والملامح والقامات سواء في ذلك الشخصيات الرئيسية أم الثانوية , وهي مرسومة من زاوية حاتم , الراوي والبطل , ومنها صورة لوجه ديمتريوس ( ص 17 ) وصاحب الوكالة ( ص 18 ) والعم شقيق رضوان ( ص29 ) وسمسار العقارات (ص31 ) والسيدة اليونانية ( ص34 ) وابنتها فيرجينيا ( ص 38 ) وزوجها بيروس ( ص 38 ) وياسمين (ص 48 ) .
يقول حاتم في تصوير ياسمين : " كانت في حوالي الخامسة عشرة , امتزجت في وجهها الملامح الأوربية والعربية , بما لا تخطئه العين , الشعر أسود ينسدل إلى الظهر ، و الوجه مستدير ، تعلوه عينان واسعتان بنيتان ،تسكن إليهما ، تحيا فيهما ، تتوق لأن تظلا تنظران إليك ، ولا تخفض عينيك عنهما ، تظللها أهداب طويلة ، والأنف صغير ، والشفتان ممتلئتان ، والبشرة بيضاء مشربة بحمرة خفيفة ، ارتدت جلابية من " الفوال " المنقط ، تحتها قميص أبيض ، وانتعلت حذاء مفتوحاً ، تطل منه أصابع مطلية بالمانيكير " (ص48).
والوصف يشمل الوجه والقوام ، والحركة والسكون ، ولا يخلو من تدقيق في بعض التفاصيل الدالة والمعبرة ، ولعل أجمل ما فيه الجمل الأربع الدالة على أثر نظرتها في النفس.
وربما بدا وصف سمسار العقارات أكثر تميّزاً ، وحاتم يصفه على النحو التالي " كان الرجل وراء المكتب الخشبي الصغير مشغولاً بشد أنفاس شيشته ، في حوالي الخمسين ، له أنف ضخم ، وشارب رفيع كالخط المتداخل البياض والسواد ، فوق شفتين زاد من امتلائهما بروز في السنتين الأماميتين ، يركز نظرته على عيني محدثه ، كمن يريد أن ينفذ إلى داخله ويحرص على تحريك يده ، وهو يتكلم ، ليرى محدثه الساعة الذهبية في يده ، وكان يرتدي جلباباً صوفياً ، ويضع على رأسه طاقية من الصوف ، ويغطي عنقه بتلفيعة تدلت حتى الصدر " ( ص 31 ) .
والوصف لا يخلو من بطء وهدوء ، وهو يستغرق في تفاصيل دقيقة ، ولكنها ذات دلالات نفسية واجتماعية واضحة ، ومثل هذا الوصف للوجوه والملامح والقامات أضفى على الرواية تميزاً وخصوصية ، ومنحها قدراً غير قليل من ملامح البيئة .
_ 5 _
وتدور حوادث الرواية كلها في الإسكندرية ، ولا تكاد تستغرق أكثر من عامين ، وغالباً ما تدور في ثلاثة أماكن رئيسية ، هي بيت الأب رضوان ، وبيت السيدة اليونانية ، وبيت ديمتريوس ، والرواية تصور البيوت الثلاثة وهي تمور بالحياة والحركة ، وتصور الحياة من حولها ، وما تطل عليه من بيوت وأزقة ، وحارات وأسواق ، ومساجد وكنائس .
والرواية تصف كل بيت من البيوت الثلاثة من الداخل والخارج ومن ذلك وصف بيت ديمتريوس من الخارج كما يراه حاتم حيث يقول : " البيت في شارع الكنيسة الأمريكانية ، ملاصق للكنيسة الإنجيلية ، وبالقرب من نقطة شريف ، من ثلاثة طوابق ، يطل في الجانبين على شارع سيدي المتولي وشارع توفيق، الوجوه التي تطل من النوافذ والشرفات معظمها لأجانب ، يتطلعون إلى الطريق ويقرؤون الصحف ، ويتبادلون الأحاديث ، وكانت البالوعات على جانبي الشارع قد ابتلعت مياه الأمطار ، لم يعد إلا التماعات متناثرة " ( ص 19 ) .
وتصف الرواية غرفة ديمتريوس كما يراها حاتم . حيث يقول : "في مواجهة الباب بوفيه ذو مرآة بيضاوية مطوية في بعض جوانبها ، وعليه قطعة رخام تكسرت حوافها ، تتوسطها فازة زرقاء يتصاعد منها ثلاث ريشات طاووس ، إلى اليمين فوتيل بامتداد معظم الحائط ، يقابله كرسيان ، تغطت جميعها بكرتيون أبيض ، فصل عليها ، وفي المنتصف ترابيزة خشبية مستطيلة ، عليها مفرش من الدانتيل الأبيض، وتدلت من السقف نجفة عنقودية الشكل ، انطفأ معظم لمباتها ، وعلقت على الجدار _ أعلى الفوتيل _ لوحة زيتية لبنات بملابس شفافة " ( ص 20 )
والوصف لبيت ديمتريوس من الداخل والخارج لا يخلو من التتبع للجزئيات والتفاصيل ، والغاية من أكثرها الدلالة على نمط من الحياة فيه قليل من الغنى وكثير من الاختلاف عن البيت المصري ، أي أن الغاية من هذا الوصف هي القول إنه بيت أجنبي من الداخل والخارج ، وفي نمط الحياة ، ويبدو الوصف هادئاً فيه قدر غير قليل من البطء ، بسبب تتبع التفاصيل ، وربما كان أكثر منه إغراقاً في التفاصيل وصف منزل السيدة اليونانية كما يراه حاتم ، حيث يقول : " على يسار المدخل كونصول قديم ، مشغول بالأرابسك ، تعلوه مرآة بيضاوية الشكل ، ومن أعلى الطرقة تتدلى نجفة ذات أربعة أذرع ، يفضي المدخل إلى صالة واسعة ، يشغلها أنتريه أسيوطي ، وترابيزة سفرة مستطيلة ، عليها منفضة خالية من أعقاب السجاير ، وحولها ستة كراسي ، وتتوسطها علبة من الصدف مغلقة ، وعلى الجدران صور عائلية ، ولوحات مقلدة لأعمال فنانين عالميين ، ومشاهد خمنت أنها لمدن يونانية تطل على الساحل ، وأعلى باب الشقة من الداخل علق صليب خشبي ، عليه نحت للمسيح وهو يضع إكليل الشوك ، وعلى يمين الباب ممر ضيق نسبياً ، توقعت أنه يفضي إلى المطبخ والحمام وغرفة النوم " ( ص 34 ) .
والتدقيق في الوصف واضح ، والغاية منه تأكيد بعض الصفات منها هدوء الحياة في البيت وسكونها ، وقدم الأثاث ، وطابعه الأجنبي ، مما يؤكد محافظة أهله على حياتهم الأجنبية بالإضافة إلى دلالته على ديانة سكانه ، وهي المسيحية .
وعلى الرغم من غنى الدلالات وأهميتها ، يظل الوصف هادئاً ساكناً ، لا يخلو من بطء ، يضعف من إيقاع السرد ، بسبب الاعتماد على الوصف المحض ، بعيداً عن ربطه بحياة الناس وحركتهم داخل المكان وعيشهم فيه .
وتصور الرواية الحياة الموارة داخل بيت الأب رضوان ، من غير أن تصف أي ركن فيه أو جزء أو مكوّن من مكوناته ، ويأتي التصوير دالاً موحياً ، وحافلاً بالحياة ، على نحو ما يروي حاتم حيث يقول : "أبي يعود عقب صلاة العشاء ، يجلس في الصالة أو الشرفة المطلة على شارع الميدان ، يستمع إلى الأغنيات في فونوغراف القهوة ، أسفل البيت ، إلى موعد نشرة الأخبار ، يدير الراديو حتى يسمع السلام الوطني ، فيغلق الراديو ويدخل حجرة نومه المطلة على الشارع الخلفي " ( ص 9 ) .
وواضح أن قيمة المكان لا تكمن في وصف جزئياته وتتبع تفصيلاته ، إنما تكمن في تصوير الناس وهم يملئون المكان بالحياة .
وبصورة عامة تبدو الإسكندرية في الرواية جميلة متألقة ، تمور بحياة الناس البسطاء العاديين ، حيث تنتشر فيها المساجد والمآذن والمقاهي والمطاعم ، وتتخللها بيوت اليونانيين ، لتزيد من بهائها وجمالها . ولكن حاتم يراها في النهاية وقد فقد حبه ، سوداء معتمة ، ملوثة كريهة ، وقد أسقط عليها كل خيبته ومرارته حيث يقول : " فسدت الحياة ، أفرغت ناقلات البترول ما بجوفها ، فتحول سطح البحر الذي أحبه إلى بحيرة واسعة من السواد الميت المتعفن ، تلاحقت سنوات واكتسح المد الضاري كل الأماني والأحلام والتصورات المنطلقة, علت الأمواج السوداء, فابتلعت ما بداخل البحر, وما على الشاطئ, انتزعت الصخور الأسمنتية, قذفت بها إلى آخر المدى, حتى ناس الطريق, كانوا شائهي الملامح, تطفح أعينهم توجساً وكراهية وحقداً" (ص125).
-6-
ويبدو الناس على "الشاطئ الآخر" على قدر غير قليل من العدائية والنفور والشذوذ, فكلهم يقررون مغادرة أرض مصر, لدى ظهور بوادر التغيير, إذ تقرر فجأة السيدة اليونانية مغادرة القاهرة, بعد انتهاء العدوان الثلاثي, من غير وجود أي مبرر لذلك, فقد أمر عبد الناصر الفرنسيين والإنكليز بالمغادرة, لأن إنكلترة وفرنسا شاركتا في العدوان الثلاثي على مصر, ولم يمس أحد اليونانين بسوء, وكذلك تقرر ابنتها المغادرة مع زوجها, كما يغادر ديمتريوس مع أمه.
وقرار المغادرة ليس غريباً, لأنهم كانوا يعيشون على أرض مصر بأجسادهم, في حين كانوا يعيشون في أوربة بأرواحهم, فهم يعيشون في الغرب بثقافتهم وقراءاتهم ومشاعرهم وأفكارهم وعاداتهم وأغانيهم ونمط حياتهم, ولا يرون في الإسكندرية إلا واحدة من موانئ المتوسط يقول ديمتريوس لحاتم: " الإسكندرية أحد شواطئ البحر الأبيض مثل أثينا ومارسليا ونابولي " (ص27), بل إنه يقول لحاتم: " هل تعرف أن اليونانين هم الذين أنشئوا الإسكندرية " (ص24) ثم يصرخ قائلاً: " أنا أوربي يحيا في مصر " (ص25).
وكانت فرجينيا وزوجها بيروس أكثر عدائية لحاتم, إذ لم يقرّا السيدة اليونانية على تأجيرها غرفة له في شقتها, وكانا طوال إقامته عندها صامتين تجاهه, لا يبادلانه الفكر ولا الشعور ولا الحوار, بل ينظران إليه بنفور شديد, وكانا على عداء واضح لعبد الناصر وثورة يوليو 1952 وكانا أول المتحمسين لمغادرة مصر.
إن نظرة الناس على الشاطئ الآخر إلى مصر والمصريين هي على الأقل نظرة نفور, ولا تكاد تخلو من نظرة عرقية, إذ ينكر ديمتريوس على حاتم أن يكون أشقر الشعر فهو يتصور أن كل المصريين سود الشعر (ص51) .
-7-
ومن هنا تبدو الصداقة بين حاتم وديمتريوس اليوناني صداقة عابرة كما يبدو لجوء حاتم إلى منزل السيدة اليونانية مجرد لجوء مؤقت, لم يوفر لحاتم الاستقرار، حتى حب حاتم لياسمين يبدو أشبه بمرح الأطفال، هو تفتح القلب على أول حب, اكتسب منه حاتم بعض الخبرة, ونضجت مشاعره, واكتوى ببعض الألم، ولكن الأجمل من ذلك كله أنه ظل محافظاً على نقائه وطهره وصفائه وبراءته, مستنداً إلى تراث عريق وأسرة متماسكة, ربته فأحسنت تربيته.
إن غربة حاتم خارج منزل أبيه لمدة عامين تقريباً من أواخر 1954 تاريخ إقالة محمد نجيب إلى انتهاء حرب السويس أواخر عام 1956, غربة أنضجت شخصية حاتم, وأفادته خبرة, ولكنها لم تلغ شخصيته, ولم تشوهها, بدليل حفظه على طهره وبراءته ونقائه, ولقد عاد إلى منزل الأب ولقاء الأخ.
إن غربة البطل, ولاسيما الشاب القليل الخبرة و خارج وطنه, ثم عودته إليه بعد كثير من المغامرات, فكرة رئيسية عالجتها كثير من الحكايات الشعبية و الروايات .
ومن هنا يبدو العنوان : " الشاطئ الآخر" واضحاً و شفافاً و دالاً ، وقد جاء معرفاً بأل وموصوفاً، فهو ليس الشاطئ الذي يقف عليه المرء ، إنما هو الشاطئ الآخر، وغالباً ما يبدو الشاطئ الآخر أجمل و أكثر إغراء، وهذا ما ينطق به المثل القائل: "الضفة الأخرى من النهر أجمل"، وهذا بعض ما يوحي به العنوان، وبعض ما تحققه الرواية أيضاً، فقد وجد حاتم فى الشاطئ الآخر المأوى و الصداقة والحب، في حين طرده أخوه من الشاطئ الذي هو واقف عليه .
ولكن بقدر ما يبدو الشاطئ الآخر سوياً وجميلاً ودافئاً بقدر ما يتبين أنه غريب وعابر ومؤقت , مما يترك في النفس شجناً وحزناً و أسى ، وهو حقيقة شاطئ غريب ولكن ما يطمئن النفس ويريحها ، هو العودة إلى البيت ، وهي عودة سليمة ، سلم فيها الجسد وسلمت فيها الروح .
ولذلك كله يبدو العنوان أليفاً ولطيفاً وشفيفاً ، لا غموض فيه ولا إبهام ، كذلك لا ابتذال فيه ولا مجانية ، وقد أبت الرواية ألا أن تشير إلى دلالة العنوان قبل النهاية, حيث يقول حاتم:" نقلني ديمتريوس إلى الشاطئ الآخر, أسماء لم أكن أعرف غالبيتها, ولا قرأت لها, وإن ظللت أجذف بقاربي في بحر الكتب العربية " (ص122), ويبدو توضيح حاتم أقل مما توحي به الرواية في بنائها الكلي, ولذلك تبدو الرواية بغنى عن توضيح حاتم.
ولحاتم نفسه من اسمه نصيب كبير من الدلالات والإيحاءات فهو بثقافته وشهامته وعفة نفسه وطهره وحبه, يذكر بحاتم الطائي بما امتاز به من كرم وجود وشهامة، وربما كان لأخيه طارق نصيب من اسمه أيضاً, فهو ضابط عسكري, وهو على قدر غير قليل من الغموض, والتفرد بالرأي والتسلط, وهو يذكر بطارق بن زياد القائد العسكري الذي لا يعرف المرء سوى الخطبة المنسوبة إليه, مع إنه كان بربرياً لا يجيد العربية, وربما في كون طارق ضابطاً عسكرياً ما يوحي بالمرحلة التاريخية التي تشير إليها الرواية إشارات متناثرة هنا وهناك, ولعلها توحي بما شهدته مصر بعد ثورة يوليو من معاناة المثقفين من سلطة رجال الثورة العسكريين.

- 8 -
وتتجاور الحوادث داخل الرواية وتتوازى مع الحوادث خارجها ، وفى بعض الحالات تتعانق ، بقدر كبير من إغراء المقارنة والبحث عن رمز ما أو كناية أو إشارة ، فالضابط طارق يطرد أخاه حاتم من المنزل بعد وفاة الأب، في الوقت نفسه الذي يقيل فيه رجال الثورة الرئيس محمد نجيب في 14 نوفمبر 1954، ويلجأ عبد الناصر إلى الكتلة الشرقية فيشترى السلاح من تشيكوسلوفاكيا ، ويأخذ قرضا من الاتحاد السوفيتي لبناء السد العالي، في الوقت الذي يلجأ حاتم إلي منزل السيدة اليونانية ليستأجر غرفة لديها ، وفي الوقت نفسه يقيم صداقه مع ديمتريوس و يحب أخته ياسمين، ومثلما قادت الغارات الجوية على الإسكندرية إلي العناق بين حاتم وياسمين ، كذلك قاد العدوان الثلاثي الذي شنته انكلترة وفرنسا وإسرائيل على مصر إلى تقارب شديد مع الاتحاد السوفيتي الذي أرسل إنذاراً إلى الدول الثلاث يطلب فيه إنهاء العدوان ، وإذا كانت علاقة الحب بين ياسمين وحاتم قد انتهت ، مثلما انتهت علاقة الصداقة بين حاتم و ديمتريوس مع انتهاء الحرب ، فإن علاقة الود بين عبد الناصر والاتحاد السوفياتى قد ضعفت كثيرا بعد انتهاء الحرب ، ومال عبد الناصر إلى أمريكا .
حوادث ومواقف كثيرة ،متوازية ومتجاورة ، داخل الرواية وخارجها ، بإشارات ذكية من الرواية نفسها ، ولكن ربما كان من الأجمل قراءة الرواية بمستوييها الداخلي والخارجي ، ومنح كل من الزمنين حريته، وشخصيته الاعتبارية ،وقد حققت الرواية لهما ذلك ، بعيداً عن القول بالرمز أو التأويل .
-9-
والرواية مسرودة بضمير المتكلم على لسان البطل حاتم ، وضمير المتكلم لا يتيح بصورة عامة للرواية من الحرية ما يتيحها له ضمير الغائب إذ يضطر الراوي إلى السرد من زاوية واحدة ، ولكن هذا يجنبه مزالق الراوي العالم بكل شيء ، ويمنحه بالمقابل بدائل منها وعى الذات ، وصدق الخبر ، ومعاينته الشخصية والتأمل ، وتحليل المواقف ، وحرارة اللغة وشاعريتها .
ومع أن الراوي واحد هو حاتم ، فقد جاءت لغته ذات مستويات متعددة ، فيها الوصف الهادئ المدقق ، وفيها التصوير الحي ، وتمتاز دائماً بالإيجاز والتكثيف، وقصر الجملة ، كما تظهر فيها حرارة الانفعال، والقدرة على التعبير عن أدق الخلجات والمشاعر .
ففي كثير من الحالات يعي حاتم ذاته ، ويعلل مواقفه ، ويفسر نفسيته ، ويتحدث عن نفسه عن ماضيه ، وعن أحلام المستقبل. يذكر حاتم غياب خبرته في عالم المرأة ، ويرد هذا الغياب إلى سبب خارجي يحدده بقوله : " كنت أنتظر وأتوقع البنت التي توارب أمامي الباب فتساعدني الجرأة على اقتحامه ، وأبوح بمشاعري " ( ص 55 ).
وهذا السبب الذي يعيه هو سبب واضح مباشر، يخفى في الحقيقة وراءه أسباباً أخرى قد لا يعيها حاتم ، منها تربيته وثقافته .
ويصف حاتم نفسيته، فيصور ما هو عليه من عاطفية وقوة تخيل واستحضار ، فيقول: "عاطفتي قوية ، أتابع مواكب الجنازات في طريقها إلى جامع الشيخ ، فتدمع عيناي لصوات النساء ، أبكى للمشاهد المؤثرة في الأفلام ...أهتز لبكاء طفل.. حتى التسابيح التي تسبق أذان الفجر من جامع الشوربجي تحرك في داخلي مشاعر حزينة " (ص 120 ) .
ويعبر حاتم عن حبه لياسمين وشوقه إلى لقائها ، فتأتى اللغة حارة رشيقة، حيث يقول:
" ياسمين ! الصورة تملأ خيالي ،لا تفارقني ، وأنا أصحو ، وأنا أنام ، وأنا أقعد ، وأنا أفكر وأنا أعمل ، وأنا أجالس الآخرين، تطايرت السدادة من القمقم في وقت لم أكن أعددت نفسي له ، انبعثت الحمم من البركان ، فاكتسحت حتى التصورات " ( ص 89 ).
ويعبر حاتم عن أدق الخلجات والمشاعر والحالات ، حيث يقول: " أدركت أن حياتي قد ارتبطت بهذه الفتاه الجالسة أمامي ، لا أتصور عالماً يخلو منها ، كان حبي لها يختلف عن حبي لأبى ولأمي، من قبل كنت أحب أبي دون أن أتدبر بواعث ذلك الحب ولا حالاته, لا يشغلني حبي لأبي فهو قائم ومستقر وملتصق بلحمي ويخالط ترددات أنفاسي, أنا لا أعنى بمتابعة دقات قلبي, ولا قياس ضغطي, ولا التأكد من قوة إبصاري, فهي حالات قديمة وممتدة, حالات من صميم حياتي, نشأت معها وترافقني, أما حبي لياسمين فهو حالة استثنائية, تبدل من حياتي, ينتشر نورها فيغمر نفسي " (ص69).
ويظهر التصوير في صنع معادل موضوعي خارجي لعالم داخلي, فلقد أدرك حاتم أن حبه انتهى, فعبر عن هذا الشعور بمقطع قوامه صورة شعرية متكاملة يقول فيها: " جاءت بلا توقع لحظة الفراق, كنت أسير في النهار المتألق بالضياء, عندما أظلمت الدنيا فجأة, ظلمة كثيفة متراكمة, لا تريك حتى داخلك, لا ترى شيئاً على الإطلاق, بدا لي الكون ضيقاً وموحشاً وقاسياً انزاحت في داخلي موجات متتالية من القهر والإحباط والعجز, تحسست لزوجة الدم في أنفي, والسن المكسورة في فمي, والشج في أوسط رأسي, وتخاذلت للضربات الموجعة, تاه قاربي, ولم يكن معي ما أطمئن به إلى الطريق الصحيحة, لا خريطة, ولا بوصلة, ولا مرئيات في الأفق, والسماء من فوقي ملبدة بالغيوم, فلا نجم أهتدي به, أعاني الظلام والغربة والضياء, اختلط طريقي, وفقدت الاتجاه" (ص124-125) .
إن السرد بضمير المتكلم من زاوية حاتم ساعد على إغناء الرواية بمقاطع من التحليل والتصوير بلغة لا تخلو من شاعرية, تناسب الحالة والموقف والانفعال , وتنقل ذلك كله بحرارة , من غير أن تفسد متعة السرد أو بناء الرواية .

-10-
ولم يكن حاتم بطل الرواية والراوي فيها فحسب , بل كان العنصر الأساسي المكون لها , والمحور الذي تنشد إليه عناصرها كافة , تتحد به , ويتحد بها وهذا ما يمنح الرواية وحدتها وتماسكها .
ولعل أبرز ما يميز حاتم هو طابع الثنائية , فحاتم يعيش الحب على مستويين , الثقافة والواقع , وحاتم يعاني من الغربة وهو في الوطن , فلديه بيت الأب ولكنه مطرود منه ولذلك يلجأ الي بيت السيدة اليونانية , وحاتم يصادق ديمتريوس ويحب أخته ياسمين , وحاتم يهرب من الواقع , والواقع يؤثر فيه .
ويظهر طابع الثنائية في عناصر الرواية كافة , فطارق يطرد أخاه من منزل الأب ثم يدعوه إلى العودة إليه , والأول ضابط عسكرية والثاني جامعي مثقف , وديمتريوس مسيحي وأخته ياسمين مسلمة , وهما يعيشان معاً في منزل واحد , الأب فيه مسلم والأم مسيحية , والسيدة اليونانية تعطف على حاتم , وينفر منه بيروس وزوجته فيرجينيا , وعلى أرض مصر في الإسكندرية يعيش ديمتريوس والسيدة اليونانية وابنتها وزوجها ولكن أرواحهم جميعا معلقة بأوربة , ولا ينسى المرء ثنائية الثقافة العربية التراثية والثقافة الغربية الأوربية من هوميروس إلى كافافيس ومن ابن حزم إلى داود الأنطاكي , وكذلك ثنائية الشاطىء والشاطىء الآخر .
والثنائية المشتركة بين عناصر الرواية هي ثنائية اختلاف ولقاء واتفاق , لا ثنائية صراع وصدام وخصام , والحركة تسير وسط هذه الثنائيات هادئة لينة رخيّة , من خروج حاتم من منزل الأب مطرودا مفارقا لأخيه , ليجري مع ديمتريوس وياسمين والسيدة اليونانية وليسير هؤلاء معه جميعاً في وفاق , ثم لينفضوا عنه , ويرجع ثانية إلى منزل الأب بدعوة من الأخ , وليس في هذه المسيرة صدام أو صراع أو خصام , إنما ثمة الوفاق والوئام .
وتبدو الحركة سائرة من اليمين حيث الأخ إلى الشمال حيث ديمتريوس اليوناني وأخته ياسمين والسيدة اليونانية , وفي هذا الاتجاه الذي هو نحو الغرب في الحقيقة يسير حاتم بصحبة ديمتريوس وأخته , ثم تنقلب الحركة في آخر الرواية , حيث يتخلى ديمتريوس والسيدة اليونانية عن حاتم بسفرهم إلى اليونان ويرجع حاتم وحده إلى منزل الأب بدعوة من أخيه فينقلب اتجاه الحركة ليصبح من الشمال إلى اليمين .
يقول حاتم في نهاية الرواية : "مسحت الميدان بعينين قلقتين ..مبنى الاتحاد القومي , وتمثال محمد علي, والكنيسة الإنجيلية وبقايا عصر إسماعيل في البنايات ذات الطراز الأوربي ..غالبت الحيرة والتردد , ثم لزمت الرصيف الأيمن , في طريقي إلي شارع الميدان " . ( ص 126 ).
وبمثل هذه الحركة داخل الرواية كانت الحركة تسير خارجها , إذ مال عبد الناصر إلى المعسكر الاشتراكي فاشترى منه السلاح وأخذ القرض لبناء السد العالي , وبعد العدوان الثلاثي علي مصر عاد فمال إلى الغرب الأمريكي .
وهنا تظهر ثنائية الذهاب والإياب, وثنائية الداخل والخارج, وثنائية اليمين والشمال , وهذا ما يؤكد طبيعة الثنائية التي تحكم بناء الرواية , وتمنحها التماسك والوحدة .
*
وتظل رواية " الشاطئ الآخر " لمحمد جبريل قابلة لقدر كبير من المقارنة والدرس والبحث ، وليس من الغريب تشبيهها بمروحة صينية صغيرة، مطوية في يد سيدة أنيقة ، تبدو المروحة في البدء صغيرة ناعمة ذات بعد واحد ، وهي مغلقة ، ولكن تفتحها ، فإذا هي ذات أبعاد وطبقات تمتد وتمتد لترسم ألواناً وصوراً كثيرة .