صفحة 12 من 40 الأولىالأولى ... 2 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 22 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 133 إلى 144 من 475

الموضوع: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة

  1. #133 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    طفولتنا وطفولة هؤلاء .. أدب السيرة الذاتية يزدهر في الغرب بفضل الحرية
    فاطمة ناعوت
    ***


    أطروحة الباحث السويدي "تيتز رووك" التي نال بها درجة الدكتوراه في الأدب العربي من جامعة ستوكهولم عام 1997، صدرت فى كتاب بعد ذلك بسنوات أخذ عنوان "في طفولتي"، وأما نسخته العربية فأصدرها المجلس الأعلى للثقافة بمصر عن سلسلة المشروع القومى للترجمة، من ترجمة طلعت الشايب، وهو المترجم المصري الشهير الذي قدّم للمكتبة العربية عددًا من أهم الكتب الأجنبية، أذكر منها: الحرب الباردة الثقافية، صدام الحضارات، فكرة الاضمحلال فى التاريخ الغربي، وحدود حرية التعبير، والمثقفون، عدا العديد من الروايات المهمة والمجموعات الشعرية والقصصية.
    فى هذا الكتاب "في طفولتي" (In My Childhood)غاص المؤلف السويدى فى عمق منجز التجربة العربية الأدبية بوصفها حقلاً شديد الثراء والتنوع ليفحص ملامح الطفولة عند عدد من الأدباء العرب بعدما استلَّها من سيَرهم الذاتية كما كتبتْها أقلامُهم. قدَّم لنا فوتوغرافيا تحليلية نفسية معمَّقة لطفولة عشرين مبدعاً عربياً شهيراً فى تاريخ العرب الحديث منذ عام 1929 حتى عام 1988.
    يُعتبر أدب السيرة الذاتية جنساً أدبياً واسع الانتشار فى الأدب الغربي، بينما مازال لا يمثل كتلةً واضحة المعالم فى أدبنا العربي، ربما- برأيي- لأسبابٍ تتعلق بسقف الحرية الإبداعية والفكرية المنخفض التى يتحرَّك تحته القلم العربي حتى الآن، ذلك أن هذا الجنس الأدبي تحديداً لا يقوم فى المقام الأول على تعرية الذات وتسليط الضوء عليها وحسب، بل على كشفٍ كاملٍ لمرحلةٍ زمنية بعينها قد تشمل جيلين، بكل مفرداتها من شخوصٍ وواقعٍ اجتماعيٍّ وسياسيٍّ وثقافيٍّ وبيئيّ، فأدب السيرة الذاتية - وإن نُعتَ بالذاتية - إلا أنه يشمل ضمنًا حياةَ الآخر والواقع الاجتماعي والسياسي المحيط، ومن وجهةِ نظرٍ آنيةٍ أيضاً، أي أنَّ آليات الوعي الجديدة والمكتسبة للكاتب "الآنيَّة لحظة الكتابة" ستكون هى العين الراصدة للماضي مما قد يشكّل لوناً من الكشف الحميم لمنظومة كاملة قد تتجاوز الـ"أنا" الخاصة للكاتب صاحب السيرة لتتخطَّاه إلى الآخر سواء كان هذا الآخر ذاتاً بشرية أو مجتمعاً أو سلطة أو منهجاً فكرياً لبيئة وحيّزٍ زمنيٍّ بعينه وهذا فى رأيي ما سبَّب انحساره في أدبنا العربي.
    جْرياً على نهج التخصص الدقيق الذى تبنَّاه العلم فى الزمن الحديث، يسلِّط الكتابُ شعاعاً كثيفاً من الضوءِ على مرحلة بعينها من حياة المبدع موضوع التطبيق، وهى مرحلة الطفولة، بوصفها المرحلة الأهم من حيث تكّون الإنسان فكرياً ونفسياً والتي فيها تتشكل البذور الأولى لرؤيته المستقبلية للعالم والوجود، وبوصفها الإرهاصةَ الأولى لتشكّل قلم المبدع فيما بعد، وهنا يقف الكتابُ على مساحة أكثر رحابةً من مجرد كونِه رصداً روائياً لحياة كاتب، فيتجاوز هذه الأرض إلى ما قد يتقاطع مع التحليل النفسي الدقيق للشخصية الإنسانية، انطلاقاً من تعقداتِ واشتجاراتِ الطفولة الأولى للمرء، كونها مقدماتٍ تتلوها توالٍ، ويمكن اعتبار هذا التناول لمرحلة الطفولة في حياة شخصية عامة، جنساً أدبياً مستقلاً وموازياً لأدب السيرة الذاتية الشهير.
    يلمِّح الكتاب إلى وعي العرب القدامى بهذا اللون الأدبيّ واهتمامهم بتسجيل التراجم الشخصية لحياة المفكر والأديب والشاعر، مثلما ورد فى نصوص ابْنِ سينا وكتاب العِبَر لابْنِ منقذ وغيرها، مما يناقض الزَّعم الغربي أن هذا الجنس الأدبي محضُ اختراعٍ غربيٍّ صافٍ. ومن أشهر من تبنى هذا الزَّعم: جورج جاسدوف الذى نفى وجود أدبِ سيرةٍ ذاتية خارج نطاق الثقافة الأوروبية، بل ويُرجِع وجودها فى حضاراتٍ أخرى كما عند المهاتما غاندى مثلاً إلى الغرب أيضاً، الذي صدَّرها إلى بقية الجنس البشريّ ذاك الذي ما كان لقدراته الذهنية أن تدرك هذا الوعي الكتابي بتدوين الذات. ومما لا شك فيه أن تلك الرؤية العنصرية المتطرّفة ذات الطابع العِرقيّ الكولينياليّ، إنما تظلُّ محضَ رؤيةٍ فرديةٍ ناجمةٍ عن عدم اطِّلاع وافٍ على منجَز الأدب العربي قديمه وحديثه.
    تتصدَّر الكتابَ مقدمةٌ مهمّةٌ لأستاذ علم الجمال رمضان بسطاويسي، يفنِّد خلالَها مفهومَ لفظة الهُويّة بالمعنيين الاصطلاحيِّ والدلاليِّ قديماً وحديثاً، على المستويين الذاتي والجماعي "هويّة الفرد وهويّة الوطن" وعبْر المتغيِّرات السياسية والاجتماعية والتكنولوجية وتحت مظلّة العولمة المهيمنة على الواقع العالمى الحديث. يرسم بسطاويسى بانوراما تشريحية لتطوِّر دلالة تلك اللفظة تاريخياً، الهوية في مقابل الآخر، استقلالها واكتفاؤها الذاتي وغناؤها عن الآخر، أم تحققها وانبثاقُ وجودها من خلال الآخر، حيث يستحيل تحقُّقُ الذات وخلقُ هوية ما إلا عبْر الآخر، فيما يحقق كياناً مكتملاً أو منظومة حياتية ذات جسد وروح.
    وتناقش تلك المقدمة أزمة الهوية ووجوب ابتداع صيغة جديدة للهوية الذاتية تتناغم مع روح العصر وفى ذات الوقت نابتة من جذور الهوية الجماعية لا استيراد أو استعارة هوية جاهزة من الغرب مما يخلق مسخاً شائه الملامح. ويشير بسطاويسى إلى تفاقم أزمة الهوية والقومية فى العالم بأسره خاصة بعد أحداث سبتمبر الأخيرة التى نرصد فيها محاولة القوة المهيمنة العالمية الكبرى خلق هوية استهلاكية فقيرة الأصالة والتفرد.
    يشير الكتاب إلى أنَّ رصدَ مرحلة الطفولة ملْمحٌ شائعٌ في أدب السيرة الذاتية العربية مثلما يبين لنا من معظم عناوين تلك الأعمال على غرار "طفلٌ من القرية"، "أيام الطفولة"، "رجوعٌ إلى الطفولة"، "سِفْر التكوين"، و"الأيام" الجزء الأول لعميد الأدب العربي.
    يرصد الكتاب نماذجه التطبيقية فى الفترة الزمنية ما بين عام 1929 حتى عام 1988.
    أما تاريخ البدْء فمرهونٌ بصدور "أيام" طه حسين، حيث صدر جزؤها الأول عام 1929. الأيام كانت نقطة البدء للانطلاق، بوصفها أول سيرة ذاتية عربية حقيقية، بل إن الكثير من الكُتَّاب قد ساروا على درب طه حسين محاولين تحقيق مثل النجاح الذى حققه كما يؤكد المؤلف، وأما توقيت النهاية لحيز الزمن المرصود فارتبط بتوقيت ظهور نصٍّ للكاتب اللبنانيّ محمد قرة علي بعنوان "سطور فى حياتي" . يتوقف الكتابُ إذنْ قبل العقد التاسع من القرن الماضي، على الرغم من ثراء التسعينيات بالكثير من أدب السيرة الذاتية العربية، الأمر الذى جعل من الصعوبة بمكان تضمين ذلك العقد داخل متن الكِتاب نظراً لزخم تلك الحقبة وثرائها بهذا الجنس الأدبي، غير إن الكاتب قد ضمَّن معظم هذه الأعمال في حيِّز الإشارة.
    أما الكُتَّاب العشرون الذين تضمَّنهم الكِتاب بالدرس والتحليل خلال تلك العقود الستة فقد قسَّمهم المؤلف إلى مجموعات ثلاث حسب التراتب الكرونولوجي:
    * ستة كُتّاب يمثلون الجيل الأول من كُتَّاب السيرة الذاتية، وهم من مواليد القرن التاسع عشر.
    * كُتّابٌ سبعة من مواليد بداية القرن الماضي وحتى عام 1920، وهم من مثلوا الجيل الثاني من منتجي السِيْر الذاتية.
    * ثم الجيل الثالث، مواليد ما بعد عام 1920 ومازال معظمهم معاصرين.
    ويعني هذا التقسيم الزمني أن الكُتّابَ هؤلاء قد تزامنت طفولتهم مع انتهاء الإمبراطورية العثمانية أو عاصرت الاستعمار، وأن إنتاجهم الأدبي قد شهد المجتمع العربي قبل الحديث أو باكورة المجتمع الحديث، وهى مرحلة التحول من مجتمعٍ زراعيٍّ تقليدي إلى مجتمعٍ شبه صناعيّ، هذا إلى جانب كونها مرحلة نضال سياسيّ غايته الاستقرار الوطنيّ.
    على أن الشاهد أن تلك السيْر الذاتية قد تمّ رصدها بعينٍ شاهدتْ نهاية القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين، أى بعين ما بعد الاستعمار حيث مخروط الرؤية أكثر شمولية ورصداً للحقبة كاملة مما يسمح بمزيد من الرصد والتأمل الدقيق للحدث. هذا التوتر الناجم عن اشتباك الآنين: آن القصِّ وآن الخطاب، هو ما خلق تلك الدراما الفنية وأثرى التجربة روائياً.
    يتكون الكِتاب من عشرة فصول، فيأتي الفصل الأول ليحدِّد أهداف السيرة الذاتية كأحد الأجناس الأدبية التى تنقل للقارئ خبرةً ثقافية وحياتية حيّة تمت صياغتها فى قالبٍ أدبي حيث يتوقف مدى التواصل بين النص والقارئ على مدى قدرة هذا الأخير على التقمُّص والتوحُّد الرمزي مع الكاتب مما يخلق خيطًا من التواصل بين أفراد المجتمع ونقل الخبرات وحثِّ المرء على تأمُّل حياته والبحث عن المشتركات بين التجارب الإنسانية. بينما يتناول الفصل الثاني تعريفاً مفصَّلاً للسيرة الذاتية، فيبين أن ثمَّة نوعين، الأول شموليٌّ عامٌّ والآخر محدَّدٌّ ذاتي، فيما يأتي الفصل الرابع الذي يحمل عنوان التطوّر التاريخي ليقدم ما يشبه الموسوعة المتخصصة أو المعجم التحليليّ لكثير من المفردات التى كثيراً ما تلتبس فى ذهن القارئ غير المتخصص لتقاطعها واشتباكها مع أدب السيَر الذاتية، ويتناول هذا الفصل الفروق بين مصطلحات من قبيل السيرة الذاتية Autobiography وسيرة الحياة Biography والترجمة الشخصية والذاتية، واليوميات Diaries، والمذكرات Memories وغيرها من أشكال الكتابة التى تندرج تحت أدب السيرة الذاتية كلونٍ أدبي قائم بذاته. ويرصد فى هذا الفصل التطور التاريخي للسيرة الذاتية فى الأدب العربي بأن يتتبع نشأة وتطور هذا المصطلح تاريخيا.
    يدرس الفصل الثالث العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية حيث كثيراً ما تخرج السيَر الذاتية فى عباءة الرواية بل وكثيراً ما يُكتب هذا على غلافها- كما حدث في "الوَسيَّة" التى كُتب على غلافها الأمامي (رواية) والخلفي (مذكَّرات) وداخل المتن (سيرة ذاتية) - حيث غالباً ما يلتقيان في الحبكة والسرد الروائي، غير أن الكاتب غالباً ما يميز مشروعه عن طريق ما يسمى بفضاء السيرة الذاتية، أى درجة صدق الكاتب مع تجربته الشخصية وهو ما يميزه القارئ بسهولة عن طريق مقارنة أسماء الشخوص مع واقع تاريخي معروف لديه.
    ونرى أن الرواية تعمد على الصدق الرمزي أو الخيالي بينما تعمتد السيرة الذاتية على صدق الكتابة الذاتية، وفي الفصل الخامس يرصد المؤلف بعض النماذج التى كُتب لها الاستمرار في الأدب العربي مثل التراجم الشخصية وبعض النصوص التى تعبِّر عن تحولٍ فى المفهوم العربي لأدب السيرة الذاتية نتيجة التأثر بالكتابة الغربية، فيقارن بين مدى وعمق تأثير التراث العربي التقليدي على السيرة الذاتية العربية الحديثة من ناحية، وأثر الأعمال الغربية من ناحية أخرى.
    ويتناول الفصل السادس ملْمحاً جديداً ميّز السيرة العربية الحديثة وهو الاهتمام بالكلام عن مرحلة الطفولة التى غابتْ عن الكتابة الأوتوبيوجرافية الكلاسيكية، وهذا الملْمح نرصُده أيضاً فى الأعمال الغربية، هذا ونلحظ غياب، أو تغييب، مرحلة المراهقة أو مرحلة تفتح الجسد عن معظم الأعمال، ويتناول هذا الفصل أيضاً بداياتِ أو مفتَتِحات العمل وكذا نهاياته، فيذكر أن معظم البدايات تنطلق إما من لحظة الميلاد البيولوجى للكاتب أو لحظة توهُّج الذاكرة الأولى أو ما يسميها كوَّة الضوء الأول للوعي أى نقطة وعي الطفل بالوجود والعالم بأبعاده المادية والاجتماعية.
    غير أن الانطلاق من لحظة الميلاد الفعلي أو البيولوجي تظل الأكثر شيوعاً بين كُتّاب السيرة الذاتية العربية، فيفحص المؤلف ثمان حالات من بين عشرين بدؤوا بهذا المفتتَح التقليدي.
    يتناول الفصل الثامن أوطاناً مُتخيَّلة، الطفولة بوصفها مَشاهد وصوراً متخيَّلةً شديدةَ الالتصاق بالمكان كأحد مفردات العمل الأدبي. فالمكان الذى نشأ فيه الطفل يتم رصده من خلال هذه العين الصغيرة التى تختلط فيها الواقع بالخيال بارتباك الأبعاد بهوية الفرد وهوية المكان، بينما يناقش الفصل التاسع الفقر كأحد أهم القيم التى تم رصدها فى تلك الأعمال حيث ارتبطت الطفولة فى معظم الحالات بظروف قاسية عاشها هؤلاء الكتاب. فى حين تشترك معظم الأعمال فى النهاية التقليدية مثل مشاهد الرحيل أو الفراق.
    يتناول الفصل العاشر من كتاب "في طفولتي" قيمة الحرية كهدف رئيس يصبو إليه أدب السيرة الذاتية من خلال الضلوع فى صراعات مع ألوان السلطة بدءاً بالسلطة الأبوية فى أسرته الصغيرة بوصفها النواة الأولى للمجتمع المقبل للطفل.
    فالسلطة القمعية التى تسِمُ معظم الأسر العربية، سيَّما القديم منها، والاشتباك فى الصراع معها يعكس الحلم الجماعي بمجتمع أكثر حرية وأكثر مساواة. يحلِّل هذا الكتاب كل القيم السابقة وغيرها الكثير من خلال التطبيق الأكاديمي على عشرين نموذجاً من أدب السيرة الذاتية العربية منها: "الأيام" لطه حسين بجزأيها الأول والثاني وبينهما فاصلٌ زمنيٌ يمتد لعشر سنوات 1929-1939، "قصة حياة" للمازني 1943، "طفل من القرية" لسيد قطب 1946، "حياتي" لأحمد أمين 1950-1952، "أيام الطفولة" لإبراهيم عبد الحليم 1955، "إسمعْ يا رضا" لأنيس فريحة 1956، "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون 1957-1968، "سبعون" لميخائيل نعيمة 1959، "سجن العمر" لتوفيق الحكيم 1964، "على الجسر" لبنت الشاطئ 1967، "مذكرات" جورجي زيدان 1968، "بقايا صور" و"المستنقع" لحنَّا مينه 1975-1977، "معي" لشوقى ضيف 1981، "عينان على الطريق" لعبد الله الطوخي 1981، "الخبز الحافي" لمحمد شكري 1982، "الوسيَّة" لخليل حسن خليل 1983، "لمحات من حياتي" لنجيب الكيلانى 1985، "رحلة صعبة _ رحلة جبلية" لفدوى طوقان 1985، "البئر الأول" لجبرا خليل جبرا 1987 و"سطور من حياتي" لمحمد قرة علي 1988.
    المصدر





    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  2. #134 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    "السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر"
    تأليف:
    أمل التميمي
    يتناول هذا البحث السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي المعاصر، مع تحليل نماذج مختارة، وقد قامت الكاتبة المصرية أمل تميمي بعملية انتقاء لمجموعة من النصوص بناء على عدة مسوغات: أولها أنها نصوص لنساء شهيرات اعترفن بأن نصوصهن سيرة ذاتية، بالإضافة إلى إجماع النقاد على ذلك أيضاً.
    وثانيهما أنها نصوص تطبق عليها إلى حد كبير شروط السيرة الذاتية بمفهومها الحديث، وقد راعت الكاتبة أن يكون بينها قواسم مشتركة، كنقاط الاختلاف والتنوع الجغرافي والفارق الزمني.
    بحيث تمثل النماذج المختارة هذا الفن عبر أجيال ومراحل مختلفة، إنه اختيار روعي فيه قدر الإمكان التنوع في الموضوعات والهموم التي شغلت بها المرأة في حياتها، إلى جانب ذلك الاختلاف في الطرائق الفنية المتبعة في كل نموذج لتقديم قصة كفاحها وحياتها.
    تنقسم الدراسة إلى مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة، وكل فصل يعالج عدداً من المباحث المترابطة، أما المدخل فيحمل عنوان:

    مفهوم وظاهرة السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي الحديث
    وفيه تحاول الباحثة تتبع مفهوم السيرة الذاتية، كما تحاول أن تصل إلى مفهوم للسيرة، أعانها ذلك في قراءة العينات والنماذج المختارة للتحليل في الفصلين الثاني والثالث.
    كما تتبعت بصورة أولية ظاهرة كتابة السيرة الذاتية عند المرأة بكل ألوانها الفرعية، ورصدت تطورها بحسب ظهورها من مقالات صحافية إلى قالب روائي، ثم إلى سيرة ذاتية، ثم خصصت الجزء الأخير من المدخل للتعريف الموجز بالشخصيات المختارة نماذجهن للتحليل في الفصلين الأخيرين.
    أما الفصل الأول، فيحمل عنوان:
    السيرة الذاتية النسائية بين التاريخ والنقد
    ويضم أربع نقاط أساسية: الأولى بعنوان أسباب الغياب النسبي للسيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي الحديث ومنه ترصد الكاتبة بشيء من التفصيل أهم العوامل الدينية والثقافية والاجتماعية والسياسية التي ساعدت على هذا الغياب، والثانية بعنوان قلة الاهتمام النقدي بالسيرة الذاتية النسائية في النقد الأدبي المعاصر.
    وركزت فيه على الاهتمام على أسباب تهميش السيرة الذاتية النسائية في مقابل الاحتفاء بالسيرة الذاتية الذكورية، والثانية بعنوان تحديد الوضع الراهن للسيرة الذاتية النسائية، وفيه تمّ تفصيل المتغيرات الحضارية التي شهدها أواخر القرن العشرين، وما عكسته تلك الحضارة الحديثة على تطور فن السيرة الذاتية النسائي، والرابعة بعنوان ظاهرة الإبداع السيري ذي الهوية المزدوجة.
    وفيه استعرضت الباحثة بعض الكاتبات العربيات بنصوص سيرية كتبت بلغات أجنبية، تم اختيار النماذج التالية للدارسة أو التحليل (هدى شعراوي، نبوية موسى، عائشة عبدالرحمن، زينب الغزالي، فدوى طوقان، نوال السعداوي، ليلى عسيران، ليلى العثمان).
    يحمل الفصل الثاني عنوان:
    قضايا السيرة
    وفيه تحليل مكثف لأهم قضايا السيرة الذاتية النسائية في النماذج المختارة، ويضم ثلاث نقاط، ركزت فيها الكاتبة على الدوافع ثم على موضوعات السير الذاتية النسائية وأخيراً على المادة الاعتراضية.
    أما الفصل الثالث فهو بعنوان:
    الملامح الفنية للسيرة
    وفيه دراسة تفصيلية لأهم الملامح الفنية المميزة للنماذج المختارة، وهو يضم ثلاث نقاط: الأولى عن العناوين ودلالتها، والثانية عن مقومات السيرة والثالثة عن انشطار الذات الأنثوية في السيرة الذاتية.
    وختمت الباحثة بموجز قدمت فيه أهم النتائج التي توصلت إليها، سواء فيما يتعلق بعلامات تطوّر فن السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي الحديث، أو فيما يخص نتائج التحليل في النصوص المختارة بعد تحليلها وعقد الموازنة فيما بينها.
    ظهر من الدارسة التحليلية ما جعل الكاتبة تسلم بأن فن السيرة الذاتية النسائية في الأدب العربي بصدد التكون أو يوشك أن يتأسس كجنس أدبي له قواعده ومعاييره الجوهرية التي تميزه بخصوصية نوعية.
    وتوصلت الكاتبة إلى مقومات أساسية للسيرة ساعدها على التقيد بها التعريف المقترح إلى التوصل لنتائج مرضية نوعا ما في حدود الدراسة الحالية، وفي حدود النصوص المختارة من أهمها طبيعة الموضوعات التي تعالجها السيرة الذاتية النسائية، فهي تكشف عن مبدأ الازدواجية في الفكر العربي بين المجددين والمحافظين.
    كما أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين العام والخاص من حيث إبراز دور المرأة السياسي وارتباطها بالقضايا الوطنية، وتحليل ذاتها تحليلاً يكشف عن آرائها ومواقفها السياسية، وهذا يرد الاتهام القائم على أن أدب المرأة لا يعكس سوى المشكلات الخاصة بالمرأة.
    وأخيراً أهمّ ما يميز السيرة الذاتية النسائية هو تمزق الذات الأنثوية وانشطارها في النص المكتوب الذي من المفترض أن يعبّر عن ماهيته وكيانه البيولوجي والاجتماعي كذات أنثوية دون تملص أو هروب من هذه الحقيقة الطبيعية.
    وكان لدور التشريح النقدي الذي يمارس على الكتابة الأنثوية بوصفها خطاباً ذاتيا وإدانتها على ظهور طبيعتها البيولوجية في خطابها الأدبي ظهور هذه العقدة الحضارية في كتابة المرأة والسيرة الذاتية على وجه الخصوص.
    فإن المشرحة النقدية الحديثة لكتابة المرأة خلقت امرأة ثنائية متناقضة تحب وتكره في الوقت ذاته، تكره ذات الآخر المتمثلة في الرجل، تقلده ولكن لا تعترف بإعجابها به.
    المصدر



    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  3. #135 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    "مقومات السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث .. بحث في المرجعيات"
    الدكتورة
    جليلة الطريطر
    ٭ الناشر: مركز النشر الجامعي بتونس
    ومؤسسة سعيدان للنشر
    تجعل الباحثة الدكتورة جليلة الطريطر من مفهوم المرجعية السير ذاتية، الاشكالية المركزية التي استقطبت اهتمامها، بسبب جوهري هو أن كل قضايا السيرة الذاتية، الكلية منها والجزئية، لا يمكن ان تفهم حق الفهم، ولا أن تحظى بتحليل منهجي قويم، يستوفي ما أمكن شروط الدقة والتعمق العلميين، ما لم ترتبط هذه القضايا بتعيين نوعية نظام الإحالة في السيرة الذاتية وإبراز أهم خصائصه، ورغم أهمية هذه الاشكالية، فإن الباحثة قلما وقفت على محاولات نقدية مستفيضة ومعمقة اتجه أصحابها إلى توضيح مقومات المرجعية السير ذاتية وابراز انعكاساتها على قراءة هذا النوع من الملفوظات وتأويلها، وهو ما حدا بها إلى دفع بحثها في هذا السلك بالذات وربط النتائج التي انتهت إليها في القسم النظري بالنهج التطبيقي الذي تبنته في قراءتها لنصوص السيرة الذاتية العربية، في محاولة لابراز مدى التناغم والانسجام الكائنين بين المستويين النظري والتطبيقي، وقد تخصصت هذا المستوى الأخير للوقوف على أهم الثوابت الفنية والدلالية التي رشحت بها نصوص المدوّنة السير ذاتية العربية.
    حاولت الباحثة ما أمكن ان تتجنب التعسف في التأويل وان تحترم طبيعة النصوص التي قامت بمقاربتها، وليست في الواقع هذه النتائج النظرية التي بسطت القول فيها في القسم النظري من بحثها إلا ثمرات حرصها على التشبع بالنصوص العربية ومداومتها النظر فيها والإنصات إليها، كان يدفعها إلى مزيد من التعمق والتوغل في مسالك تحليلية جديدة، وهي ترى ان استنزاف مادة النصوص السير ذاتية، واستكشاف كل كنوزها وخباياها، مأربان لا يمكن بحال بلوغ منتهاهما، لأنهما متجددان بتجدد القراءات المسلطة على هذه النصوص، وبتجدد سباق القراءة ذاته، وكفاءة القراء المعرفية وحساسياتهم الأدبية.
    وقد اجتهدت الباحثة في أن تكون النتائج التي انتهت إليها مبررة تبريراً كافياً ومقنعاً، فاعتمدت خطة الربط دائماً بين الأحكام النقدية العامة التي اثبتتها ومختلف الشواهد والأدلة النصية المثبتة لمصداقيتها في النصوص المعتمدة، وهي تؤكد أن البحث الذي اضطلعت به ليس في النهاية إلا مقدمة أساسية للبحث في خصوصيات خطاب السيرة الذاتية العربي في مستواه التاريخي المتطور، ذلك ان هذا الخطاب قد شهد اتساعاً في نصوصه إذ تعددت الكتابات الممثلة له في مختلف البلدان العربية، فضلاً عن تطور أشكالها ومضامينها، لكن هذا الجديد السير ذاتي الذي يحتاج إلى المتابعة والتمحيص والدرس، يظل على الدوام رغم التغيرات الحاصلة في سياقه والمؤثرة بصورة مباشرة فيه، مشدوداً من نواح عدة إلى الجذر السير ذاتي الأهم الذي منه تولدت النصوص اللاحقة وعنه تفرعت، وهذا الجذر القاعدي المشترك هو الذي تضافرت جهود طبقة الرواد على تأسيسه، من أمثال طه حسين والعقاد وسلامة موسى وأحمد أمين وميخائيل نعيمة وتوفيق الحكيم.


    الخميس 11 ربيع الآخر 1426هـ - 19 مايو 2005م - العدد 13478
    المصدر



    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  4. #136 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36




    على الرابط التالي:
    السيرة الذاتية

    الثلاثاء 17 ربيع الأول 1429هـ - 25 مارس 2008م - العدد 14519
    المصدر



    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  5. #137 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    السيرة الذاتية في الأدب العربي
    (فدوى طوقان وجبرا ابراهيم جبرا وإحسان عباس نموذجاً)

    عدد الأجزاء: 1
    سنة النشر: 2002
    الطبعة رقم: 1
    الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
    صفحة: 384
    هذه دراسة جادة، سعت لتأصيل فن السيرة في أدبنا الحديث، الذي لم يكن له شأن كبير في أدبنا القديم، وتكمن أهميتها في أنها جمعت بين النظرية والتطبيق، فتحدثت باستقصاء عن طبيعة الفن، وظروف نشأته، والعوامل التي أثرت فيه، ومدى صلته بالفنون النثرية الأخرى، وقد مثل هذا الإطار النظري للدراسة، وتبعه الجانب التطبيقي الذي انصب على ثلاثة نماذج في السيرة، لثلاثة أعلام هم:
    جبرا إبراهيم جبرا، وفدوى طوقان، وإحسان عباس، الذين اتفقوا في الأصول بيئة، ونشأة وثقافة في فلسطين، واختلفوا في النزعات والميول ففدوى طوقان راوحت في اعترافاتها بين الجرأة والتردد في آن، وجبرا روائي محلق في عالم الخيال بأجنحة من الواقع، واحسان عباس ناقد ذو منهج صارم.
    لقد كان هؤلاء الثلاثة - بتباين ميولهم، وتعدد نزعاتهم التي انعكست على سيرة كل منهم - نماذج دالة على كتابة السيرة في أدبنا الحديث.



    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com


    رد مع اقتباس  
     

  6. #138 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    ناقشت الباحثة لطيفة لبصير أطروحة الدولة في الآداب، تحت عنوان:
    "السيرة الذاتية النسائية، تحليل نماذج"
    وقد كانت اللجنة العلمية على الشكل التالي:
    - الدكتور عبد المجيد نوسي، مشرفا.
    - الدكتور عبد الفتاح الحجمري، رئيسا.
    - الدكتور المختار بنعبدلاوي، عضوا.
    - الدكتور أحمد توبة، عضوا.
    - الدكتور سعيد جبار، عضوا.
    بعد المناقشة، حصلت الباحثة على دكتوراه الدولة بميزة حسن جدا، وهذا نص التقرير الذي تقدمت به الباحثة أثناء المناقشة:

    التقرير:
    ينطلق هذا البحث من إشكالات عديدة، تنبع من اختيارنا لدراسة هذا الموضوع، فلماذا السيرة الذاتية النسائية؟ ولماذا هذا التخصيص في حد ذاته؟ هل يعود الأمر إلى افتراضات مسبقة ترى أن المرأة تكتب بشكل مختلف، فعمدنا إلى إفرادها في هذه الدراسة، أم أن الأمر يتعلق بشكل تنظيمي فقط؟
    لا يمكن أن نتجاهل الإشكالات الكثيرة، التي أصبحت تثيرها الدراسات العربية والغربية فيما يتعلق بالأدب النسائي، واختلاف مكتوب النساء عن مكتوب الرجال، وذلك لما أثاره هذا الضجيج الاصطلاحي من تعددية في الآراء وفي الانتاج أيضا، وقد أدت هذه الاختلافات إلى محاولة النساء وضع برنامج نقدي خاص يدرس المنتوج النسائي بصورة مختلفة، ولذا أصبح البحث عن نظريات منعزلة تدرج ما تكتبه المرأة تحت منظور النقد النسائي(أعطي مثالا بما تنتجه النساء تحت اسم المرأة والذاكرة، أمثال “قالت الراوية لهالة كمال، عاطفة الاختلاف لشيرين أبو النجا، مائة عام من الرواية العربية لبثينة شعبان إلى غير ذلك من المؤلفات)، ويتم عزل هذه النظرية عن النظريات العامة(أعطي مثالا بكتاب رامان سلدن: النظرية الأدبية المعاصرة)، وكأن أدب المرأة يتطور لوحده بمعزل عن السياقات الثقافية الأخرى التي أنتجته، وبمعزل أيضا عن التطورات الحاصلة في النظريات.ولعل محاولة العديد من الناقدات الغربيات والعربيات إعادة قراءة الموروث العربي بشكل مختلف، مرده إلى غيبة سير النساء من حقل الدراسات النظرية وأيضا من حقل التصنيف، (أعطي مثالا بزمن الرواية لجابر عصفور الذي لم يشر إلى سيرة نسائية واحدة ضمن عمله، إضافة إلى العديد من الدراسات التي تقرأ السير الذاتية النسائية بشكل عابر جدا، دون الوقوف على خصائصها).
    وهناك إشكالات أخرى تنطلق من أن أدب الاعترافات حرام لدى النساء بحكم الوضع الاجتماعي للمرأة، ولعل ذلك ما خلق التباسا لدى المرأة في حد ذاتها، فهناك تذبذب بين السيرة الذاتية والرواية، ويمكن أن نعطي مثالا ب"أوراق شخصية" للطيفة الزيات و"ذاكرة الجسد" لأحلام مستغانمي و"السيقان الرفيعة للكذب" لعفاف السيد، إلى غير ذلك من النصوص.

    وتهيمن إشكالية التذبذب بين السيرة والرواية في أعمال رجالية أيضا،غير أن حدتها تتضاعف في النص النسائي، ويمكن القول إن السيرة الذاتية بالأساس جنس يعاني من إشكالات خاصة به، ذلك أن الدارس الآن للسيرة الذاتية يجد نفسه أمام كم من المصطلحات الكثيرة التي أصبحت تصنف العمل، فهناك السيرة الروائية والسيرة الذاتية النسوية، والسيرة الذاتية الروائية، وروائية السيرة الذاتية، إلى غير ذلك من المصطلحات، وهذا يثبت أن هذا الجنس الأدبي، بقدر ما أثار فوضى في نهاية القرن الثامن عشر، ليحقق القطيعة مع السيرة، وليستقل كجنس أدبي باعترافات جان جاك روسو وكازانوفا فرانكلين، وغيرهما، يعمد الآن إلى إثارة نفس الفوضى، لكن لطمس معالم الجنس.
    إن كل هذه الاشكالات تضيف إلى السيرة الذاتية النسائية إشكالا آخر، إذ إننا نفترض من خلال النصوص السير ذاتية النسائية أن هناك بناء خاصا ترومه هذه الكتابة، ذلك أنها نتاج اجتماعي، وحديثة نسبيا مقارنة بالأجناس الأدبية الأخرى. وعليه، فإن المرأة تكتب سيرتها الذاتية وهي تنتج خطابا آخر، غير خطاب البوح الذي تبوح به. ونحن نحاول أن نقرأ هذا الخطاب الذي تنتجه لأن وراءه خطابا آخر هو حقيقة الذات الأنثوية، ذلك أننا نجد أن الكاتبة في السيرة الذاتية النسائية ليست هي الساردة، وعليه فسنقوم بقراءة هذه الساردة وهي على مسافة من الكاتبة، مع العلم أن السيرة الذاتية بشكل عام، تبدأ من الكاتب واضع العمل، فالكذب والمرواغة والنسيان وأساليب الانزلاق والدوران اللغوي، كل ذلك يدخل في حقيقة النصوص السير ذاتية النسائية.
    إن الخطاب الذي تنتجه المرأة غالبا ما يتم توثيقه بالتخييل، ولذا، فان هناك دوما خوف من التجنيس، ومن الميثاق أيضا الذي يوقع التعاقد بين الكاتب والقارىء على حقيقة العمل الأدبي. ووفق هذا المنظور، هناك إشكالات تخص تطور السيرة الذاتية نفسها.
    وضع فيليب لوجون، في كتابه "الميثاق الأوتوبيوغرافي" 1975، التعاقد بين الكاتب و القارىء على أساس الصدق في العمل الأدبي. وقد عمل النقد من خلال هذا الميثاق على قراءة العديد من الأعمال الأدبية. إن اسم المؤلف ينبغي أن يطابق اسم الشخصية. وتبعا لذلك فان التطابق ينفي عالم التخييل ويتم التعامل مع العمل على أساس أنه حقيقة الكاتب. غير أن معيار المطابقة بدأ في التحول أيضا، ذلك أن الأعمال الأدبية ذاتها بدأت تبتعد عن حكي الحيوات الخطية، لتدخل في التجديد وفي التخييل.وأمام هذا التحول، لم يكن بد للنقاد أن يعتبروا التخييل حقيقة أخرى للسيرة الذاتية، ولذا جاء كتاب سيرج دوبروفسكي "السير الذاتية من كورناي إلى سارتر" ومقال فيليب لوجون الهام

    "كيف لي أن أجدد في السيرة الذاتية"، فقد لاحظ فيليب لوجون أن العديد من الحيوات تتشابه، وقد سبقت إلى النشر، والنتيجة أن هذا المحكي يتشابه بالرغم من التفرد الذي يطبع كل حياة، معتمدا في ذلك على كتاب مارسيل بنابو"لماذا لم أكتب أيا من كتبي؟" الذي يفترض أن كل العوالم التي قرأها سابقا وتماهى معها،تبعث من جديد في أعمال أدبية ذاتية، لا يمكن القول عنها سوى أنها منتحلة، مستنتجا أن كل السير الذاتية قد كتبت مسبقا، ولكي يكتب شخص ما سيرته الذاتية، عليه أن يجمع الجمل و الشذرات المأخوذة من نصوص سابقة.
    من ثم كانت ضرورة النظر إلى السيرة الذاتية نظرة أخرى ترى أن التجديد يكون على مستوى نظام التركيب، ذلك أن الشكل ينبغي أن تضاف إليه عناصر تقترب من الخلق أكثر مما تقترب من سرد الأحداث الواقعية، ولذا فان المنظور الذي وضعه فيليب لوجون، وهو بنسبة من التعقيد، هو أن تكتب حياتك وأن تتخيل أيضا، وأن لا تكذب، وهو أمر ليس سهلا، فالمتخيل يحكي عن الذكريات، وهذا ليس بالأمر الهين، فكيف لي أن أكذب بصدق؟ فكل شيء حقيقي، وكل شيء أعيد بناؤه.
    استنادا لما سبق، فان الأمر لا يعدو مجرد تكرار لنصوص سابقة، والصعوبة تتجلى أن هناك فكرة أساسية كما يرى فيليب لوجون، ترى أن السيرة الذاتية تتعارض مع الجمال، ولعل هذه الثنائية التي تتراوح بين خطاب الحقيقة وخطاب الجمال هي ما جعل العديد من المبدعين يعملون على نزع السيرة الذاتية من الأشكال التقليدية للسرد والتوثيق، وأن يمروا إلى إملاء أشكال جديدة تمنح أهمية كبرى للغة.
    ويشكل هذا الخطاب في السيرة الذاتية النسائية درجة كبرى، ذلك أن تحديد المتكلم النسائي في السيرة الذاتية يعتريه نوع من اللبس، فهل يحيل هذا الضمير على الكاتبة، أم أنه بناء آخر يمرر عبر الميثاق السير ذاتي إشكالا آخر؟
    إننا نفترض من خلال السير الذاتية النسائية ذلك التباعد بين الكاتبة والضمير الذي تتحدث عنه، ولأجل دراسة هذه السيرالذاتية، عمدنا إلى اختيار تصور منهجي يلائم طبيعة النصوص التي تكتبها المرأة، وهو منهج التحليل النصي كما اشتغل عليه جان بلمين نويل، بالاضافة إلى العديد من أدوات الاشتغال التي استقيناها من المهتمين بهذا الجانب ويتعلق الأمر بفيليب لوجون وسيرج دوبروفسكي، وجورج كاسدورف، إضافة إلى الدراسات الهامة التي تربط بين حقل السيرة الذاتية والجانب النفسي، والتي انصبت عليها أبحاث الحقل الفرنسي في محاضرات عديدة نذكر منها ندوة "من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي"، ندوة "السيرة الذاتية والتحليل النفسي"، ندوة "الكتابة عن الذات والنرجسية"، ندوة "السيرة الذاتية"، ندوة "الكتابة النسائية والسيرة الذاتية"، ندوة "الكتابة عن الذات والتحليل النفسي"، إلى غيرها من الندوات الهامة.
    يفترض جان بلمين نويل أن النص يصوغ بناء آخر، يختلف عن الكاتب، تكون الكتابة هي المسؤولة عنه وليس الكاتب، من أجل ذلك اقترح مفهوم لاوعي النص الذي يحدث تعالقا بين الآخر داخل الكتابة والآخر داخل القراءة، وقد كان اختيارنا لجان بلمين نويل نابعا من كونه يعمل على قراءة النص من خلال قراءة المستويات التي تضغط على ترتيب الكلمات والجمل والحوافز والصور المستنسخة داخل المحكي، إضافة إلى أنه يساعدنا على قراءة النصوص أيضا من الداخل، وبالرغم من أن السيرة الذاتية تهتم بالكاتب بدرجة كبرى، فإننا ارتأينا الاهتمام بالكتابة بشكل أكبر، وذلك لتصورنا أن النقد الذي يتناول السير الذاتية يظل حبيس علاقة الكاتب بنصه وتجليات هذا الكاتب وعلاقته بالحقيقة، ولأن النصوص السير ذاتية النسائية تفترض حقيقة أخرى غير حقيقة علاقة النص بكاتبه، فقد ارتأينا دراستها بكيفية مختلفة، وعليه فقد عملنا على تحليل نماذج من السيرة الذاتية النسائية:
    - أوراقي … حياتي ( ثلاثية نوال السعداوي)
    - رحلة جبلية … رحلة صعبة لفدوى طوقان
    - الرحلة الأصعب لفدوى طوقان.
    - الجلادون لربيعة السالمي.
    - المحاكمة لليلى العثمان.
    - حديث العتمة لفاطنة البيه.
    إن اختيارنا لهذه النماذج المختلفة والمتباينة أيضا كان الهدف منه، فضلا عن دراستها، هو رصد الاختلافات التي يمكن أن تكون بينها، فالانطلاق من فكرة أن المرأة تنجز سيرة ذاتية مختلفة ينبغي تبريره من خلال نصوص مختلفة أيضا، حتى نصل إلى خلاصات مقنعة، لذا عملنا على تحليل نماذج متباعدة نوعا ما، تجمع بين الأديبة التي أنجزت أعمالا متعددة، مثل ليلى العثمان ونوال السعداوي و الشاعرة فدوى طوقان التي تكتب سيرتها الذاتية و ربيعة السالمي التي أنجزت هذه السيرة لتكتب عن نضالها، إلى فاطنة البيه التي كتبت هذا العمل للحديث عن اعتقالها. فالنصوص تنطلق من عوالم مختلفة. وبالرغم من هذا الاختلاف، وجدنا أنفسنا، ونحن نقرأ هذه السير الذاتية أمام طرح إشكالي أول: هو عودة كل هذه السيرالذاتية إلى الطفولة كعالم أول تنطلق منه الكتابة عن الذات. فكيف تكتب المرأة هذا العالم وكيف تقدمه إلى القارىء؟
    من خلال السير الذاتية النسائية، تبين لنا أن العودة للطفولة ليست عودة من أجل السعادة، كما يقر أغلب الباحثين، بل هي عودة يبنينها الشقاء والخلل. ولذا فان محكي الطفولة الذي يتأسس في النص، يقدم خطابا آخر. وقد تم توظيف بعض المفاهيم مثل مفهوم الرواية الأسرية الذي كان أول من كتب عنه هو فرويد(1909)، إلا أننا رأيناه من منظور آخر وهو علاقته بالسيرة الذاتية. فالساردة تصنع هذه الرواية الأسرية، إذ إنها لا تستطيع أن تسرد ما تم حدوثه في الواقع. ولذا، فهي تعمل على الحديث عن مراحل عمرية قديمة جدا من خلال أقوال وسرد الآخرين. ولأن الساردة التي تبني هذه السير الذاتية منشغلة بتأسيس خطاب آخر داخل هذه الكتابة، فان عنصر الإضافة يعمل على نسج نوع من الاستعارات والتخييلات. لذا فنحن نتحدث عن صنع رواية أسرية. وهذا الصنع يلتقي مع المفاهيم التي طرحناها سابقا، وهي الكذب بصدق، وعنصر الجمال والخلق الذي تبنيه الكتابة السير ذاتية النسائية . ولكن لماذا هذا الصنع؟ ولماذا يهيمن عنصر الاضافة في النص؟
    إننا نجد أنفسنا، ونحن نقرأ هذه السير الذاتية، أمام خطاب مزدوج يتكرر. فالسرد لا يبلغ فقط، وليس في نيته التبليغ، بل يضيف الخلق والتخييل، إذ يتم تخييل لحظة الولادة مثلا في سيرة نوال السعداوي. من هنا يمكن القول إن الأحداث الحقيقية تم حكيها من خلال حكي الجدة، في حين أن المجازات مستحدثة من خلال حكي الساردة، وهي تعمل هنا كنوع من الإضافة التي تأتي من عالم الحاضر، أي الزمن الحالي . إن البحث عن الاضافة هي ما جعلنا نعمل على قراءة المحكيات الذاتية، معتمدين على دوريت كوهن في هذا التمييز بين المحكيات الذاتية المتنافرة مع الماضي والمحكيات الذاتية المتناغمة.وقد وجدنا أن المحكي الذاتي التنافري يخلق بعدا مهيمنا. فالساردة تستحضر من خلال هذا المحكي علاقتها الرافضة لكل السياق الغيري الذي أوجد سيرتها. ولذا، تعمد إلى استحضار السير الغيرية كإضاءة للدور المحدد للسلالة التي طبعت المنطق الخاص للسلوك. ونجد هذا مهيمنا بحدة في ثلاثية نوال السعداوي، وسيرتي فدوى طوقان، والجلادون لربيعة السالمي. وهو أخف حدة في المحاكمة لليلى العثمان، وحديث العتمة لفاطنة البيه. غير أنه حاضر باستمرار في هذه السير الذاتية. إن صنع هذه الرواية الأسرية وعلاقتها بالسيرة الذاتية له ما يبرره لدى الساردة. ولذا فان الساردة تجدد التواصل مع هذا العالم، أو تصنعه، كي تخلق نوعا من المذنبين. وهؤلاء المذنبون هم الأسلاف. لذا فهي تصوغ نوعا من السير البيوغرافية للأشخاص الذين هيؤوا الحاضر الذي تحياه الساردة( أتحدث هنا عن الأب، عن الأسرة، عن المجتمع كنظام أبوي). وتعمد وفق هذا المنظور إلى نوع من التخييل التأويلي الذي يبني جملا تذهب إلى تأسيس بناء للتداعيات الخاصة داخل الكتابة، مما يتيح إمكانية استعمال بنيات التذكر المونولوجي الذي يبني عالما آخر، ذلك أن هذا البناء يأتي من عدم مصالحة الذات مع الواقع. وعليه فالساردة تنوع محكياتها بين ساردة تتذكر وساردة تبني تداعيات مسهبة تبتعد في كثير من الأحيان عن الواقع. إن التذكر، هنا، ينبني من خلال الأشياء التي تركت صدى في خلق هذه الذات الفردية. فالكاتبة التي تتذكر تفسح المجال للساردة التي تثرثر وتمضي في تفسير الأحداث حتى توجه القراءة. إننا لا يمكن أن نغفل أن الساردة تأخذ أهمية كبرى في النص، لأن الكاتبة التي تستعيد الأحداث، تترك المجال للساردة التي تتحدث طويلا، إذ أنها تنزاح عن هذه الأحداث التي ترويها، كي تحلل وتصدر أحكاما وتقدم أفكارا واستنتاجات، ذلك أن البناء الأساسي الذي تراهن عليه الكتابة هو إحداث تحول لدى القارىء في بسط كل الأحداث التي تميز الطفولة الأنثوية. فخلق الساردة في السيرة الذاتية النسائية يعود إلى إبعاد منظور الكاتبة وحضورها كسلطة داخل النص. فهي تحدث نوعا من المسافة بينها وبين المسرود، عبر حضور بنية السارد المتخيل. ولعل خاصية هذا الأخير، كما تقول دوريت كوهن، هي أنه سارد غير جدير بالثقة. لذا فقد ارتأينا أن المراتب التي تحدد الميثاق الأوتوبيوغرافي في السيرة الذاتية عموما، تختلف حين يتعلق الأمر بالسيرة الذاتية النسائية، ذلك أن المتكلم في السيرة الذاتية متكلم تقتحمه العديد من الضمائر المتعددة. فبداخل الأنا هناك أنوات غيرية تهيمن على هذا الضمير. ولعلها ما يسمح بتعدد هويته. فضمير المتكلم النسائي يصوغ أكثر مما يقول. لذا فانه لا يبوح، بل يختلق وينسج ذاتا أخرى تعمد الكتابة إلى تأجيلها أو نسيانها أو دورانها. من هنا، كانت أهمية قراءات بيلمين نويل لهذا النوع من الدوران داخل النص الابداعي.
    إن وراء ثرثرة الساردة تختفي الأشياء التي تصمت عنها الكتابة. ولذا، فان البعد الزمني يخضع هو الآخر لهذه البنية. فهناك أزمنة استعادية تعود إلى الماضي. فالنصوص السير ذاتية تخلق محكيات نفسية تعمد إلى التكثيف والتمطيط الزمني الذي نجده مهيمنا في كل النصوص المذكورة، إضافة إلى تقنيات الحاضر الذي يكبر والذي نجده مهيمنا بحدة في ثلاثية نوال السعداوي والمحاكمة لليلى العثمان. وكلاهما كتب تحت ضغط الخوف من الموت ومواجهة السلطة. غير أن هناك زمنا آخر تخلقه هذه الكتابة السير ذاتية النسائية، وهو الزمن المستقبلي، الذي يبدو أنه الزمن القادم الذي من أجله تبني الساردة عالمها الخاص.
    إن كلا الزمنين أي الماضي والمستقبل، كما يقر جورج كاسدورف زمن لاواقعي. لذا، فالكتابة عنهما هي خلق فقط، ذلك أن الأزمنة المؤسسة للآتي، كما تحاول الكاتبة أن تعبر عن ذلك، تكمن في الطفولة الأولى، فهي من صاغت الزمن القادم. ولعل ذلك ما يجعل الكتابة تذهب إلى خلق أزمنة متعددة تتجلى في التخييل والحلم وحلم اليقظة، والكتابة أيضا كبديل للموت، إلى غير ذلك من شاشات التخييل. إن الأزمنة التي تكتب عنها الكاتبة هي أزمنة تحويلية. فليس الغرض منها السرد فقط، ولكن تأسيس زمن آخر. لذا فهي تصنع أيضا هذا الزمن. ويتم هذا الصنع من خلال بناء مزدوج، فهناك دوما صوت ظاهر، وآخر كامن يعمل في الخفاء.
    ولذا وجدنا أنفسنا أمام خصوصيات سردية نسائية تهيمن في الخطاب النسائي، ولها أهميتها في هذه السير الذاتية. وهي أن الساردة، التي تصوغ هنا من خلال ضمائر متعددة تتراوح بين ضمير المتكلم والمخاطب والغائب، تخفي وراء هذه التعددية خطابا آخر يتمثل في الأنا النرجسية التي تبرزها الذات المتكلمة في كثير من الأحيان للحديث عن الأنا المثالية وتعاليها. وهو ما أطلقنا عليه البعد النرجسي، وذلك لان الأنا دوما في صراع مع الآخر الذي يتمثل لدى الساردة في المضطهد. إنها تصنع نوعا من الأنا- الجلد على حد تعبير ديديي أنزيو، والذي يأتي كنوع من الحماية من الآخرين. وهو معطى متخيل يمنح الجهاز النفسي نوعا من الاستقرار والهدوء . إن الأنا النرجسية تخلق ثنائية في التصور والرؤية. ولذا، فان المنظور السردي الذي توجهه كاتبة السيرة الذاتية يمضي إلى اتساع الهوة بين المضطهد والنرجسي. فكلما امتدت أشكال المضطهد، تم إعلاء البناء النرجسي. وبالرغم أن الذات تسعى إلى بناء فردي، أحادي الرؤية والتصور، إلا أنها تبني خطابا مزدوج الصوت تبنيه لغة المضطهد والنرجسي.
    وتبدو هذه الثنائية ملازمة للسيرة الذاتية النسائية. وهي تتجلى في ثنائية أخرى مهيمنة في خطابها. ويتعلق الأمر بثنائية الأنوثة والذكورة. وقد اعتبرنا هذه الثنائية مهيمنة في خطاب الساردة التي تتراوح بين عالمين مختلفين، مستعيرين في ذلك أحد المفاهيم النفسية لفرويد. ويتعلق الأمر بالخنثوية. وتحضر، هنا، بالمعنى السيكولوجي للذات المتكلمة، ذلك أن الساردة تخلق صيغة لامرأة غير محددة الملامح. ولذا، فالنص يتغير حسب الضمير الذي تنتقل إليه الساردة. فهي تتحول من الذكورة إلى الأنوثة، ولو أن البعد الخنثوي لديها يجعلها تتجه إلى أولوية القضيب على الأنوثة، إلا أنها تظل تتراوح بين جنسين مختلفين. ولذا فان التراوح الجنسي يتبعه بالضرورة التراوح النصي أيضا. فالنص يتخذ شكل الجنس الذي تتحول إليه الكتابة، ويصوغ كتابة ملتبسة. فالأنثى الكاتبة تسعى إلى تحطيم الخطاب الذكوري، ولكن من خلال الاعتماد على وسائله، الشيء الذي يصوغ لنا أنوثة ملتبسة لا هي بالذكورة ولا بالأنوثة. ولذا، كان اشتغالنا على هذا الجانب ضروريا، وذلك لأن التحول الجنسي في النص يؤثر على البناء النصي أيضا ويغيره. فالشكل يتبع المحتوى. وهي خاصية سردية مهيمنة في السيرة الذاتية النسائية وتتكرر بحدة، الشيء الذي دفعنا إلى الوقوف عندها وتحليلها وتحليل تحولاتها على مستوى النص. وتبعا لذلك، فعلاقة كاتبة السيرة الذاتية باللغة علاقة مختلفة. ولذا ارتأينا الاشتغال على الجانب اللغوي، إذ أن إبراز خصوصية السرد النسائي تتجلى على المستوى الشكلي والدلالي أيضا. ولأن الشكل يتبع المحتوى، فإننا انطلقنا من دراسات سابقة كانت ترى في المعجم اللغوي الذي تستعمله الأنثى معجما مختلفا. وعمدنا، وفق ذلك، على قراءة هذا المعجم ومحاولة حصره لدى كاتبة السيرة الذاتية. وتبين لنا أن اللاوعي النصي يتجلى على مستوى اللغة والأساليب التي تستعملها الكاتبة وتصوغها الساردة. لذا، فإن الثنائية تتكرر على المستوى اللغوي أيضا. فهناك جدلية تحكم خصوصية هذه الكتابة وهي أنها تتأرجح بين ثنائيتين توجهان المكتوب السير ذاتي النسائي. ويتعلق الأمر بجدلية الأنا والأنا الأعلى. فالأنا المتكلمة تداهمها أنوات أخرى غيرية، هي التي تعمل على تغيير نمط الكتابة. وتبعا لذلك، تنشأ أساليب متعددة تهيمن على هذه السير، ذلك أن علاقة المرأة بالمحرم علاقة مختلفة. ولذلك لا يمكن قراءتها إلا من خلال سيميائية التهوين. فعلاقة الأنا الأنثوي بميكانزمات الدفاع تختلف أيضا. فالأنا تبحث عن توازنها من خلال إلغاء أي تمظهر يجعلها تبدو واضحة. ولذا، نجد التحوير والقلب والاستعارات والكثافة اللغوية التي تتكرر في النص، والتي تصنع المسافة بين الأنا والرغبة، بل إنها تذهب إلى إنجاز محكي الحلم الذي يهيمن على هذه النصوص، والذي يأتي كبديل للواقع كي يتحدث من خلال التخييل عن الأنا.

    إننا أمام نوع من الأساليب التي تتلون وتتغير في النص، و لم نجد بدا من قراءة هذه الأساليب، فداخل الأسلوب، تكمن رمزية اللاوعي، غير أن هذه الجدلية التي تحدث بين الرغبة والقانون تصوغ أسلوبا يتجه، في كثير من الأحيان، إلى الغموض، الشيء الذي يجعل الدال يؤجل مدلوله على الدوام، فالرقابة اللاواعية تداهم الدوال، وهذه الأخيرة تعوض بواسطة حلقات مفقودة وموزعة داخل النص. وعلى القراءة أن تكتشفها.
    إن قراءة هذه المستويات النصية لا يخلو من متاعب، ذلك أننا نقرأ أيضا نصا معدلا من الدرجة الثانية، ونحن نتابع مستوياته، كي نصل إلى لاوعيه النصي،
    كنا ندرك مثلا، أن محكي الحلم هو نص معدل وتمت صياغته، وبالرغم من ذلك قمنا بقراءته، ذلك أننا نتعامل مع هذه المستويات كما تصوغها الساردة التي لها أهمية كبرى في النص السيرذاتي النسائي، ولذا كان لزاما علينا قراءة عنصر هام في هذه السير الذاتية، وهو عنصر التحويل، كما قدمه فرويد وطوره فيما بعد جان بلمين نويل وأندريه غرين إلى غيرهم من الباحثين، وذلك لأهمية هذا العنصر في السير الذاتية، وإن كان قد لازمنا طيلة البحث، فلأن ذلك له ضرورته، فجميع العناصر الداخلية لهذه السير مبنية على إجراء نوع من التحويل للذات المتكلمة أولا، وللذات القارئة ثانيا، ذلك أن الرغبة اللاواعية للكتابة تخفي وراءها بناء نوع من التأثير التحويلي الذي يبني نوعا من الغواية للآخر المغيب في النص، والذي من أجله يوجد هذا العمل.
    فالسيرة الذاتية النسائية لم تكتب في هذه النصوص من أجل نوع من التلاشي أو استخلاص الحكمة والعبرة من تجربة مضت، بل من أجل تأسيس زمن مستقبلي، فهي تصوغ زمنا وعالما آخر من خلال السرد، وعليه فإن اختفاء الكاتبة في كثير من الأحيان لتحل محلها الساردة مرده إلى تأسيس نوع من السلطة غير المباشرة التي تحدث نوعا من التخييل القرائي الذي يبني نصا آخر، ويتأثر بالرواية الأسرية التي تبنيها الساردة في الكتابة.
    يتضح، مما سبق، أن التعامل مع السير الذاتية النسائية لا يخلو من صعوبات، ولا ندعي أننا قمنا بتجاوزها، بل ستظل مفتوحة لإمكانات قادمة، فقد كان مشروعنا منصبا بالأساس على قراءة هذه السير، متتبعين في كثير من الأحيان التطورات النصية، وقد تبين لنا أن العديد من القراءات تظل حبيسة الكاتبة وحياتها الشخصية مثل نوال السعداوي كشخصية معروفة، إلا أننا حاولنا معرفة المكتوب وكيف تصوغه هذه الكاتبة من خلال بنية الساردة. وعليه، فإن كل الحقائق التي تقدمها الكتابة هي ما نقوم بقراءته، ذلك أنه يصعب تحديد أين ينتهي التخييل ليبدأ الواقع، فهناك حقائق ذاتية، غير أنها مندمجة داخل السياق الكلي للسير، فهي تدخل في بناء آخر يطعمه التخييل والأحلام والدوران اللغوي واللاوعي النصي، ولأن الأنثى الكاتبة منشغلة بهم أساسي هو بناء هوية أنثوية، فقد كان لزاما علينا أن نقرأ هذه النصوص وهي تبحث عن إثارة القراءة، معتبرين كل أساليب المراوغة والهفوات والكذب من حقائق الكتابة، فالكتابة لا تقدم الصدق، ولكنها تصوغ الشخصية التي نصل إليها من خلال آلية التأويل والتخييل التأويلي، إلى غير ذلك من الوسائل.

    يبقى أن نحدد أن الساردة في السيرة الذاتية تصنع روايتها الأسرية وتصنع زمنها أيضا، وتخلق أنواعا متعددة من الثنائيات داخل الكتابة، إضافة إلى بناءات لغوية متعددة، يمكن القول عنها إنها أغنت هذه النصوص وساهمت في بنائها الحديث، وإن كان مرد ذلك إلى خوف الكاتبة من الحديث عن ذاتها، ولعلها أغنت البناء التركيبي وساهمت في تقنيات جديدة تضيف إلى السيرة الذاتية.
    لطيفة لبصير

    المصدر



    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  7. #139 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    مستقبل السيرة الذاتية
    تماضر إبراهيم
    الأربعاء 29/3/2006
    تماضر ابراهيمعندما ألف طه حسين كتاب( الأيام)، كان فيه النص التأسيسي الأول لجنس جديد في الأدب العربي الحديث، اختلف النقاد في تحديد هويته..
    هنا في دراسة للدكتور الناقد محمد الباردي عن السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث الذي - صدر حديثاً عن اتحاد الكتاب العرب - بعنوان (عندما تتكلم الذات)، نقرأ دراسة نقدية، على غاية من الأهمية والاتقان الفني، لناقد عربي تونسي، عرف بعلو كعبه النقدي، ليس في المشهد الثقافي التونسي وحسب، وإنما في المشهد النقدي العربي والغربي (قديماً وحديثاً)، وما احتشد فيه من معان ودلالات.‏
    تفصح هذه الدراسات ومنذ استهلالاتها الأولى، عن أهمية هذه التجربة ا لنقدية، والأفاق التي ترودها، والأفكار التي تحللها، والجماليات التي تبديها.‏
    ولعل ما تقدمه هذه الدراسة يريح من يرغب في المعرفة عن هذا الجنس الأدبي وقوامه، إذ يحاول الكاتب تصنيف وتعريف مفهوم السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث، التي تؤسسها أطراف رئيسية ثلاثة، وهي السارد، والمؤلف، والشخصية.‏
    تصدى الكاتب بصورة أنيقة مبوبة من خلال الفهارس، حيث تحدث عن الاشكاليات الفنية لهذا الأدب الناشىء، وعن إنشائيته ومقوماته الفنية، ثم عن أشكاله الكتابية.‏
    وفي طرح هذه المسائل المركزية سعى الكتاب إلى اقتراح إجابات لها، من خلال الاستناد إلى منهج علمي صارم لبعض الدراسات الإنشائية في الثقافة الأوروبية.‏
    في تعريف ا لسيرة الذاتية نقرأ أنها بشكل عام، إنشائية عامة، ولها مقومات فنية مشتركة، لكنها تكتب بأشكال متعددة، ولهذا الجنس الأدبي سمات عامة تميزه، منها أن تكون السيرة الذاتية - حكياً استعادياً - وهو جنس سردي نثري، يقوم به شخص واقعي من وجوده الخاص بالعالم.‏
    ولا تكتب بأسلوب واحد، إنما بأساليب مختلفة، ويجب أن يكون الموضوع أساساً هو الحياة الفردية وتكوّن ا لشخصية، يمكن أن تقوم عدة تبادلات مع باقي أنواع الأدب الشخصي.‏
    تؤكد لنا هذه الدراسة، أن حد السيرة الذاتية وقوامها ثلاثة عناصر كتابة روائية، جنس أدبي، دور الذاكرة في عملية الاستحضار والامتداد بالسيرة، تنطبق هذه القاعدة على البعض فقط.‏
    في جانب مهم يؤكد لنا الكتاب أن أنجح السير الذاتية في الأدب العربي الحديث، هي تلك التي كتبت بأسلوب روائي ابتداء من أيام طه حسين، مروراً بثلاثية حنا مينه والخبز الحافي، ووصولاً إلى ثلاثية نوال السعداوي، ونجاحها يكمن في درجة تلقيها وطبيعتها.‏
    هذا يؤدي بنا إلى مصادر تتعلق بمستقبل السيرة الذاتية في الأدب العربي الحديث لاسيما أن هذا الجنس ا لأدبي هو الآن بصدد التأسيس، لذلك تعددت أشكال الكتابة فيه ولم يستقر حتى الآن، على شكل واحد.‏
    تعتقد الدراسة أن الشكل الذي يتجه إليه هذا الجنس الناشىء، هو شكل الكتابة الروائية مستقبلاً، يعني أن المشهد الذي يمكن رسمه عن هذا الجنس الأدبي قوامه نصوص أدبية عديدة ومتنوعة ما يفرق بينهما لا يقل عما يجمع بينهما.‏
    حاول هذا الكتاب التصدي لهذه الفسيفساء من النصوص السردية التي تحكي حياة مؤلفيها، وتحتاج إلى التصنيف، والتحديد والتعريف.‏
    يصل القارىء في هذه الدراسة المشوقة إلى الخاتمة، ويستخلص أن السيرة الذاتية في الأدب العربي هي - حكي استعادي نثري - بأشكال سردية متنوعة، يقوم به شخص واقعي من وجوده الخاص بالعالم, وأيضاً العالم من حوله، وذلك عندما يركز على حياته الفردية والجماعية وعلى تاريخ شخصيته الجزئي أو الكلي.‏
    المصدر




    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  8. #140 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    هل السيرة الذاتية موجودة في الأدب العربي؟
    إيهاب الحضري

    قبل سنوات، أصدرت مؤسسة "الأهرام" كتابا تضمن حوارات لنجيب محفوظ مع الناقد رجاء النقاش، ضم الكتاب اعترافات وآراء لأديب نوبل في عدد من المحيطين به، ولم تكد تمر أيام على صدور الكتاب، حتى سارع ابن شقيقته، محمود الكردي، لرفع دعوى قضائية، مطالباً بمنع توزيع الكتاب، بعد أن رأى أنه يسيء لكثيرين، ومن بينهم محفوظ نفسه! قبلها بسنوات كان رمسيس عوض قد خاض معركة مشابهة، بسبب مذكرات شقيقه لويس عوض، لأنه رأى أنها تسيء له ولآخرين.
    وبعد هاتين الواقعتين، خاض أهالي عدد من طلاب «الجامعة الأمريكية» معركة لوقف تدريس السيرة الذاتية للأديب المغربي محمد شكري، لأنها تتضمن أحداثا تعتبر خادشة للحياء.
    مرت السنوات وغابت الأحداث السابقة من ذاكرة الكثيرين، وبقيت السيرة الذاتية العربية، تعانى القيود التي تثبت أن البوح ممنوع إلى أجل غير مسمى.
    البعض قرر أن يعفي نفسه من ورطة السيرة الذاتية، بالإقلاع عن كتابتها، وآخرون تحايلوا على العقبات باللجوء إلى رواية السيرة الذاتية التي تمنحهم القدرة على البوح دون الخوف من تهديدات مجتمعية أو أسرية تحكم على الموضوع من زاويا، لاعلاقة لها بالإبداع، فمن بين ما ضايق ابن شقيقة نجيب محفوظ في اعترافاته، أنها تتضمن إساءات فاضحة، عندما سئل عنها قال، في تصريحات صحافية نشرت وقتها: «مثل قوله إنه كان يدخل بيوت الدعارة السرية والعلنية، وهذا الكلام أثار موجة من السخط بين أبناء شقيقاته وأحفاده، فكيف يمكن أن ينشر كلام مثل هذا عن أديب عالمي، حاصل على جائزة نوبل، والمفروض أنه قدوة للشباب والأجيال الصغيرة. أنا فوجئت بهذا الكلام، واذا كان نجيب محفوظ قد ردد شيئا من هذا، فهو رجل كبير السن، ولا غبار عليه إذا أخطأ، وكان يجب ألا ينشره رجاء النقاش، كان عليه أن يحذف هذا الكلام، بدلا من فضح أديب عالمي يعيش في مجتمع عربي محافظ، له قيمه وتقاليده».
    العرب لا يكتبون السيرة الذاتية
    السيرة الذاتية، هي المحور الرئيسي لرسالة الدكتوراه التي يعدها حاليا الباحث ممدوح النابي بكلية الآداب «جامعة القاهرة»، فيها يبدأ بالإشارة إلى أن هذا الجنس الأدبي الذي يقوم على تعرية الذات نادر في العالم العربي، وقد « انتهى بعض النقاد إلى نتيجة عامة ومؤلمة، وهي نفي وجود سيرة ذاتية عربية تتجسد فيها مقومات السيرة الغربية، باستثناء «المنقذ من الضلال» للامام الغزالي و«التعريف بابن خلدون ورحلته شرقا وغربا»، و«كتاب الإعتبار» لأسامة بن منقذ، أما ماعدا ذلك فهو ـ حسب تعبير الدكتور سليمان العطار ـ محاولة لإخفاء السيرة الذاتية وليس كتابتها!!»، ويشير النابي في أطروحته إلى عنصر الخجل الذي يقف عائقا حقيقيا في مواجهة محاولات البوح: « يعتبر الحياء رقيبا على جوهر الإنسان وكيانه الروحي الحقيقي، كما يقول عبد الرحمن بدوي، وارتفاع حدة الرقابة الداخلية دليل على وجود الرقابة الخارجية، فحياء الإنسان يمنعه من أن يعري ذاته أمام من يعرفونه، خصوصا إذا كانت التعرية مرتبطة بالأخلاق وانتهاكها. أسباب الحرج عديدة، لعل من أهمها أن كاتب السيرة لا يكتب عن ذاته فقط، وإنما يكتب عن آخرين، ممن شاركوه في صنع سيرته، فعلاقته بهم تتضمن امورا قد يتحرج الكاتب من البوح بها ربما بدافع الحرص عليهم أو بدافع تجميل صورتهم أمام الآخرين، وأي محاولة تتجاوز ذلك قد تجابه بردود فعل معارضة.. كل هذا يحول دون وجود سيرة ذاتية عربية خالصة تتجاوز المحظورات، لأن المجتمع لا يزال محكوما بمجموعة من الضوابط والأعراف التي تهدد من يخرج عليها بالمصادرة أو العنف».
    لكن ألم تشهد السنوات الأخيرة، تغيرات مجتمعية وقيما أخلاقية جديدة، يرى البعض أنها جعلتنا أكثر قدرة على استيعاب الاعترافات؟ يجيب النابي: «هذا النوع من الأدب، لا يزال يقبل، على استحياء، حتى في الأوساط التي قد نرى انها تتمتع بمساحات اوسع من التحرر، والدليل ما حدث قبل سنوات مع رواية محمد شكري «الخبز الحافي»، فقد كانت مقررة على طلبة الجامعة الأمريكية، ومع ذلك ثارت ثائرة أولياء أمور الطلبة، وتم وقف تدريس هذه السيرة التي تتميز بالجرأة البالغة. كل هذا يشير إلى أن البيئة العربية لا تزال غير مهيأة لقبول مثل هذه الأعمال طالما تخطت الحدود المسموح بها»، بل أن الرفض يمكن أن يكون منصبا على جنس دون آخر، فيستعيد الباحث ماحدث عام 1997: «جاء على لسان المفتي السابق نصر فريد واصل أنه لا يجوز للمرأة أن تؤلف كتابا تعترف فيه بما امر الله بستره، وهو ما يطلق عليه أدب الاعتراف، فالشريعة الإسلامية لا تقر ذلك، وهذا ليس من باب الحجر على التفكير والرأى، وإنما يتعلق الأمر بالحفاظ على كيان الأسرة».

    في ظروف كهذه تصبح رواية السيرة الذاتية مهربا مهما من هذا المأزق والغريب أنها ليست حلا عربيا فقط، فبعد أن نشر جان بول سارتر جزءا من سيرته الذاتية بعنوان الكلمات قرر اللجوء إلى الرواية لاستكمال الكتابة قائلا:«لقد حان الوقت لكي اقول الحقيقة أخيرا، ولا يمكن ان اقولها إلا في عمل تخييلي»!!
    * الخراط: ميثاق لم أوقعه!
    * مؤخرا، احتفل الوسط الثقافي المصري ببلوغ الروائي إدوار الخراط سن الثمانين، وخلال سنوات طويلة أمضاها الخراط فى الكتابة، لم يفكر بتسجيل سيرته الذاتية بشكل مباشر، ودائما كان يبرر ذلك بقوله: «لا أعتبر حياتي الشخصية شيئا مهما، بحيث ألتزم بالنقل الحرفي من أحداثها، لكنني كنت أستخلص دلالات معينة منها، وأبتكر سياقات أمزج بينها وبين ما عرفته وعايشته».

    أنتقل بالحديث إلى فضاء أوسع وأسأله عن ضيق مساحات البوح المسموح بها في المنطقة العربية، ومدى تأثيرها في تراجع أدب السيرة الذاتية لدينا فيجيب: «البيئة الثقافية في العالم كله تتمتع بقدر من الحرية والطواعية أكثر بكثير مما لدينا، عندنا تزيد مساحة المحظورات التي تكبل أقلام الكتاب، فهناك من يعترض لمجرد تصوره أن السيرة الذاتية لكاتب ما قد تسيء إليه، ولا زال البعض يتعامل مع الكاتب على أنه قديس لا ينبغي أن تكون له اخطاء».
    وينتقل الخراط من العام إلى ماهو أكثر تحديدا، فيذكر بما حدث مع نجيب محفوظ قبل سنوات عندما اعترف لرجاء النقاش بأنه عرف حياة العربدة، في مرحلة ما من حياته، ويتساءل إدوار الخراط: «حدث هذا بسبب كلمات قليلة، قيلت في المطلق ودون تفاصيل، فماذا لو اعترف الكاتب بوقائع محددة؟ بالتأكيد يؤدي افتقاد مناخ الحرية إلى تقييد السيرة الذاتية وحرمانها من التلقائية والبساطة والصراحة»، ويرى الخراط أن رواية السيرة الذاتية هي المخرج المناسب من هكذا مأزق: « بالنسبة لي مثلا لا أتناول عناصر السيرة الذاتية كما هى، وإنما اكتب عناصر شبيهة بما حدث في الحياة الحقيقية، لكن بعد فرض سياق روائي وقصصي عليها، ليمتزج الواقع بالمتخيل وتتداخل عناصر السيرة الذاتية في نسق الروائي والقصصي، السيرة الذاتية تعتمد على ميثاق غير مكتوب بين المؤلف والقارئ بأن يحكي الأول بصراحة ووضوح تفاصيل ما مر به من أحداث، هذا ميثاق لم أوقعه، وما أندر من وقعوا بإمضائهم عليه».

    هل كان اختيار الخراط لهذا النمط من الكتابة حيلة للتخلص من حرج محتمل قد تسببه السيرة الذاتية، وفق هذا الميثاق؟ يرد بقوله:«المسألة لا تتعلق بالإحراج، لكنني أتساءل باستمرار: ما أهمية سيرتي الذاتية للقارئ العام؟ اعتقد أنه من الأفضل استخلاص عناصر ودلالات منها تضفي على رواية لي أبعادا جمالية ومعرفية».
    إساءات متعمدة
    عندما صدرت، قبل سنوات، السيرة الذاتية للكاتب لويس عوض بعنوان:«أوراق العمر»، رأى فيها بعض المثقفين إضافة حقيقية للسيرة الذاتية الجريئة، لما تضمنته من اعترافات، لكن مساحة البوح التي اعتبرها هؤلاء إنجازا، مثلت عنصر إزعاج لآخرين. فعقب نشر المذكرات ثار الناقد رمسيس عوض، شقيق لويس، وخاض حملة إعلامية مضادة، بررها بقوله: «اعترضت على "أوراق العمر"، وكانت لي أسبابي، فهو لم يتحر الحقيقة في بعض الأحيان، كما أنني لا أحب أن يمجد الإنسان نفسه، إضافة إلى سبب قانوني، فليس من حقه قانونا أن يشهر بغيره، لكن له أن يفعل بنفسه ما يريد، وقد أساء لويس عوض إلى الكثيرين»، ويتابع عوض: «أنا شخصيا لا أريد لهذا الكتاب أن يكون منشورا، لأن الصواب جانبه في أحيان كثيرة، ورغم ذلك يتعامل البعض معه على انه مرجعية، وأن الآراء الواردة فيه نهائية».
    أسأل عن المعوقات التي تمنع ازدهار السيرة الذاتية عندنا، فيجيب رمسيس عوض: «كل كاتب يحاول أن يمجد نفسه ليظهر كبطل، وأنه أفضل من كل من تعامل معهم، وهذا وضع غير طبيعي على الإطلاق، لأنه من المفروض أن السيرة الذاتية تعتبر نوعا من التطهير للنفس ومواجهتها بكل نقائصها، وهو ما يحدث فى الغرب حتى منذ الوقت الذي نشرت فيه اعترافات جان جاك روسو، وانتهاء بجان جينيه الذي اعترف بكل مباذله الجنسية، وبشكل يكاد يكون مقززا.
    في الغرب لا يستنكفون من نشر فضائحهم الخاصة، كنوع من الطهارة، أما لدينا فالكاتب يجدها فرصة لاستعراض أمجاده»، لكن الواضح في «أوراق العمر» أن لويس عوض لم يتعرض للمحيطين به فقط، فقد تحدث عن علاقة جنسية له بشكل صريح، أي أن الاعترافات لم تكن تمجيدا مطلقا للنفس. يعلق الدكتور عوض على هذه الجزئية بقوله: «تعامل بعض المثقفين مع هذا الجزء البسيط من الصراحة، باعتباره فتحا ومجدوه رغم أنهم لو اطلعوا على الثقافات الغربية، لوجدوا في هذه الاعترافات نوعا من السذاجة والفجاجة وعدم مجابهة النفس بطريقة صريحة. يمكن تفهم أن يكون اي شاب قد ارتبط بعلاقة جنسية مع امرأة، لكن الموضوع ينتهي عند هذا الحد، أما فضح النفس بدون مبرر فهذا جهل».
    كلمات رمسيس عوض الأخيرة، تضيف إلى عوائق السيرة الذاتية عائقا جديدا متعلقا بتقييم الكاتب والمتلقي للحدث الذي سيصبح محورا للبوح والاعتراف، وما يراه الكاتب مهمًا قد يتعامل معه الآخرون على انه تافه. (يبدو أن كتابة السيرة الذاتية في منطقتنا ستظل حلما بعيد المنال).
    قيم ومعايير تضاف إلى المحاذير
    د.علي ليلة، أستاذ الاجتماع بكلية الآداب «جامعة عين شمس «يشرح لنا، أن لكل مجتمع قيمه، وأن الحديث عن سيرة ذاتية عربية مكتوبة وفق المعايير الغربية أمر لا يصح، ويوضح: «المرجعية القيمية للمجتمعات الغربية تختلف عن تلك الخاصة بمجتمعاتنا العربية، لذلك أرى ان الحكم على ما لدينا من سير ذاتية بمقاييس الغرب خطأ كبير. ينبغي أن تنطلق سيرنا الذاتية من قيمنا نحن، لكي تكون لنا هويتنا الخاصة، لذلك أنا لا أجد أية غرابة في أن يخفي الكاتب أثناء كتابته لسيرته الذاتية، بعض الأمور التي تتناقض مع المرجعية العامة»، ويوضح أستاذ علم الاجتماع، المقصود بالمرجعية بقوله: «لا أعني بها النزعة المحافظة بقدر ما أقصد منظومة القيم، التي تحدد هوية أمة وإرادتها الاجتماعية والسياسية والأخلاقية».
    لكن اللافت أن معظم المجتمعات العربية تعيش مرحلة من الانفتاح الملحوظ، والفضائيات تعرض الكثير مما كان في الماضي القريب، تجاوزات لا يمكن القبول بها، فلماذا تبقى السيرة الذاتية تراوح مكانها، على هذا السؤال يجيب علي ليلة: «حالة التحرر الحالية تقترب من الانفلات، وعندما يعترف الكاتب في سيرته الذاتية بأن له عشيقة مثلا، فإنه يكرس لهذه الحالة، وهو أمر خطير فى زمن أصبحت القيم تعاني فيه من الضعف والانهيار أحيانا، لذلك أرى أن التفكيك لا يأتي فجأة، وانما على مراحل، وانتقال الصراحة إلى السير الذاتية مسألة وقت فقط، وأعتقد أنه لن يمضي وقت طويل حتى نصل إلى تلك النوعية من الكتابة التي تعتمد على الصراحة في كل التفاصيل، وخاصة الشخصية».
    وحتى يحدث ذلك، ستظل رواية السيرة الذاتية هي المهرب الذي يكفل للكاتب أن يبوح بحرية أكبر:« وهنا أحب أن أميز بين التعبير الملتزم بمرجعيته والتعبير الملتزم بمرجعيات أخرى، فعندما يعتمد كاتب غربي على الصراحة في سيرته الذاتية، فإنه بذلك يكون ملتزما بمرجعيته التى تتقبل ذلك، أما فى مجتمعاتنا العربية فإن اتباع الأسلوب نفسه يتحول إلى استعداد للتفريط في مرجعيتنا، في وقت نعاني فيه من انهيار، ونحتاج إلى إرادة تحافظ لنا على رصيدنا المتبقي».

    المصدر


    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  9. #141 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    "سيرة "أديـــــب" لطه حسيـن بين الذاتي والغيري"

    الدكتور
    جميل حمداوي


    تمهيــــــد:
    يعد الدكتور طه حسين من أهم كتاب السيرة في أدبنا العربي الحديث سواء أكانت ذاتية أم غيرية، وقد بدأها بالسيرة الدينية كما في كتابه "على هامش السيرة" لينتهي بكتابة السيرة الأدبية الذاتية كما في رائعته "الأيام" أو السيرة الذاتية الغيرية كما في عمله الإبداعي "أديب" علاوة على كتابته المتواصلة لسير المبدعين والأدباء في الأدب العربي القديم والحديث كما في "حديث الأربعاء" و"صوت أبي العلاء" و"ذكرى أبي العلاء" و"مع المتنبي" و"حافظ وشوقي".
    ويتميز طه حسين في كتابة سيره بأسلوب الإسهاب والاستطراد والإطناب وتمثل مقومات المدرسة البيانية صياغة وكتابة لإثارة المتلقي وتشويقه. كما يطبع كتاباته وسيره الجانب الذهني الثقافي والطابع الإنساني كما في سيرته الممتعة "أديب" التي سنحاول مقاربتها من خلال خصائص الرواية ومرتكزات الخطاب الأوطوبيوغرافي والبيوغرافي إن مضمونا وإن شكلا.
    1- عتبـــة المؤلف:
    ولد عميد الأدب العربي في صعيد مصر سنة 1889م من أسرة متدينة محافظة تحب العلم والعمل كثيرا، ودرس طه حسين في الكتاب وحفظ القرآن الكريم، وانتقل إلى الأزهر بالقاهرة حيث أظهر هناك تفوقا كبيرا في الدراسة وحب العلم، وامتلك ناصية الحوار والجدل والمناظرة، إذ كان يدخل في حوار علمي تجديدي مع شيوخه، في حين كان هؤلاء ينفرون من جدله وملاحظاته؛ مما كانوا سببا في إخفاقه وعدم حصوله على الشهادة العالمية.
    انتظم بعد ذلك في الجامعة الأهلية وحصل على الدكتوراه في الأدب العربي القديم حول ذكرى أبي العلاء المعري، وقد طبق المنهج السوسيولوجي في رصده لشخصية أبي العلاء تأثرا بأساتذته المستشرقين ولاسيما أستاذه الإيطالي كارلو نالينو، وبعد ذلك أرسل في بعثة إلى فرنسا لمتابعة دراساته الجامعية العليا، وهناك تعرف على حضارة الغرب وانبهر بها انبهارا إيجابيا.
    هذا، وقد تفوق طه حسين في دروسه وأبحاثه في فرنسا وعاد إلى بلده بدرجة الدكتوراه حول "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون".
    وكان طه حسين من الأوائل الذين درسّوا في الجامعة المصرية بطرق جديدة وبمناهج أكثر حداثة وعصرنة تعتمد على الشك والتوثيق والتحليل العلمي من أجل الوصول إلى اليقين الصحيح، وكان يحاضر في الأدب العربي القديم ولاسيما الجاهلي منه وقد أثار ضجة كبرى بسبب آرائه الجريئة الجديدة كما يظهر ذلك جليا في كتابه القيم "في الشعر الجاهلي"، وفصل عن الجامعة وأعيد إليها مرة أخرى، وعين بعد ذلك وزيرا للمعارف المصرية إبان حكومة الخديوي، وتوفي سنة 1973م عن عمر يناهز 84 سنة خصصها طه حسين للكتابة والنشر والإبداع والنقد، ودخل في معارك أدبية عدة مع عباس محمود العقاد ومصطفى المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي….
    2- عتبــة العنــوان:
    صيغ عنوان هذه السيرة الأدبية في كلمة واحدة وهي خبر مبتدإ محذوف تقديره "هذا أديب"، وبهذا يكون المتن القصصي بمثابة تمطيط وجواب وخبر لهذا المبتدإ الاسمي، ويحيل العنوان على الشخصية المحورية في هذا العمل الأدبي وهو شخص يمارس الأدب، ومهمة الأديب جليلة وصعبة، إذ يضحي صاحبه بنفسه من أجل أن يسعد الآخرين ويبلغ لهم كل ما تجود به قريحته من مخيلات ذاتية وتجارب موضوعية ليستفيد منها القراء والمتتبعون للمنتج الأدبي.
    وتلتقط هذه السيرة تجربة أديب مهووس بداء الأدب سيجره إلى الجنون والهلاك والتفريط في مستقبله وتحطيم كل سعادته التي بناها بعمله وصبره وإخلاص الزوجة له: " لست أعرف من الناس الذين لقيتهم وتحدثت إليهم رجلا أضنته علة الأدب، واستأثرت بقلبه ولبه كصاحبي هذا. كان لا يحس شيئا، ولا يشعر بشيء، ولا يقرأ شيئا ولا يرى شيئا ولا يسمع شيئا إلا فكر في الصورة الكلامية، أو بعبارة أدق في الصورة الأدبية التي يظهر فيها ما أحس، وما شعر وما قرأ، وما رأى وما سمع … وكان يقضي نهاره في السعي والعمل والحديث حتى إذا انقضى النهار، وتقدم الليل وفرغ من أهله ومن الناس وخلا إلى نفسه، أسرع إلى قلمه وقرطاسه وأخذ يكتب ويكتب ويكتب حتى يبلغ منه الإعياء وتضطرب يده على القرطاس بما لا يعلم ولا يفهم، وتختلط الحروف أمام عينيه الزائغتين، ويأخذه دوار فإذا القلم قد سقط من يده، وإذا هو مضطر إلى أن يأوي إلى مضجعه ليستريح. ولم يكن نومه بأهدأ من يقظته، فقد كان يكتب نائما كما كان يكتب يقظا، وما كانت أحلامه في الليل إلا فصولا ومقالات، وخطبا ومحاضرات، ينمق هذه ويدبج تلك، كما يفعل حين كانت تجتمع له قواه العاملة كلها. وكثيرا ما كان يحدث أصدقاءه بأطراف غريبة قيمة من هذه الفصول والمقالات التي كانت تمليها عليه أحلامه فيجدون فيها لذة ومتاعا". [1]
    ويتسم عنوان هذه السيرة الروائية بالاختصار والإيجاز والتكثيف والتلميح الكنائي، كما يحوي هذا العنوان مكونا شخوصيا على غرار الرواية العربية الكلاسيكية في المنتصف الأول من القرن العشرين حيث كان الروائيون يختارون الأسماء الذكورية والأنثوية عناوين لأعمالهم الأدبية والإبداعية على غرار الرواية الأوربية (مدام بوفاري لستندال مثلا)، ومن بين هذه العناوين الشخوصية في الرواية العربية "سارة" للعقاد، و"زينب" لمحمد حسين هيكل، و"علم الدين" لعلي مبارك، و"ليالي سطيح" لحافظ إبراهيم، و"إبراهيم" و"إبراهيم الثاني" لعبد القادر المازني، و" يوميات نائب في الأرياف" لتوفيق الحكيم و"حكمت هانم" لعيسى عبيد و"عذراء دنشواي" لطاهر لاشين…
    3- التعيــين الجنسي:


    يندرج النص الذي بين أيدينا ضمن السيرة الروائية أو فن السيرة الأدبية أو ضمن الخطاب الأوطبيوغرافي أو البيوغرافي. ويعني هذا أن "أديب" سيرة أدبية فنية، ولكنها ترجمة غيرية يتولى الكاتب ترجمة الحياة الشخصية لصديق له يمارس حرفة الأدب ويعيش بها انتشاء وافتتانا. ولكن هذه السيرة يتداخل فيها ماهو ذاتي وغيري. أي إن النص سيرة للذات الكاتبة وهو حاضر بأسلوبه وضميره وتعليقاته وكل المؤشرات التلفظية التي تحيل عليه. كما ترصد هذه الذات الكاتبة حياة صديقه الأديب من زاويته الشخصية وعبر الكتابات التي كان يرسلها إليه صديقه في شكل رسائل وخطابات ومذكرات.
    وعليه، فهذه سيرة من نوع جديد فهي ليست كالسيرة الذاتية التي نقرأها في"الأيام" لطه حسين أو "حياتي" لأحمد أمين أو "في الطفولة" لعبد المجيد بن جلون أو "حياة سلامة موسى" لسلامة موسى… وهي ليست سيرة غيرية تعتمد على التسجيل والترجمة التوثيقية أو الأدبية، بل النص يجمع بين هذين الفنين، ويعني هذا أن الكتاب سيرة غيرية ذاتية وذلك لتداخل الذاتي في الغيري والعكس صحيح. ومن الأدلة على حضور السيرة الذاتية في الكتاب الارتكاز على ضمير التكلم واستحضار التجربة الذاتية والإحالة على طه حسين في الأزهر والجامعة وباريس، والإشارة إلى عمى الكاتب واستعانته بخادمه الأسود الذي كان يرافقه، وإشارته إلى كثير من معالم قريته في الصعيد وهي نفس الملامح والقسمات التي كانت تشير إليها سيرته الذاتية"الأيام". وتعني هذه المطابقة بين السارد والكاتب أن هذا العمل سيرة ذاتية حيث يسترجع الكاتب فيها حياته الشخصية وعلاقاته مع أصدقائه بطريقة ضمنية حيث ينظر إلى نفسه في مرآة الآخر، ويقارن نفسه بالأدباء الآخرين الذي أودى بهم العبث والانحلال الخلقي إلى الهاوية والجنون ولوثة العقل والهستيريا. ومن الأدلة على كون هذه السيرة ذاتية وغيرية الجمع بين ضميري التكلم والغياب، والانتقال من ذات الكاتب إلى ذات صديقه الأديب:"فقد عرفته في القاهرة قبل أن يذهب إلى باريس، ثم أدركته في باريس بعد أن سبقني إليها. عرفته مصادفة وكرهته كرها شديدا حين لقيته لأول مرة، كنا في الجامعة المصرية القديمة في الأسبوع الأول لافتتاحها وكنت أختلف إلى ما كان يلقى فيها من المحاضرات، حريصا عليها مشغوفا بها معتزما أن لا أضيع حرفا مما يقول المحاضرون. وكان مجلسي لهذا دائما قريبا من الأستاذ." [2]
    وعندما ينتقل الكاتب إلى تصوير صديقه الأديب يقوم برصده وتبئيره من خلال منظاره الذاتي ويقدمه من زاوية الغياب، ولكن عبر رؤية ذاتية تتساوى فيها معرفة السارد والكاتب على حد سواء.
    ومن مقومات خطاب السيرة في الكتاب حضور ظاهرة الالتفات من خلال الانتقال من ضمير التكلم إلى ضمير الخطاب والغياب على عادة طه حسين في كتابة سيره التاريخية والأدبية، والتماثل بين الراوي والمؤلف الخارجي من خلال تشابه سيرهما تخييلا وتوثيقا، والاعتماد على تقنية الاسترجاع والتذكر في سرد الحياة الشخصية الداخلية لصديقه الأديب ولحياته بطريقة موحية تعتمد على التلميح الضمني. كما تستند السيرة هنا إلى استخدام الزمن الهابط وتفتيت ذاكرة الماضي إلى لوحات فنية تعتمد على فلاش باك وتنوير الماضي على ضوء الحاضر، وتتبع الشخصية في نموها الديناميكي حتى صعودها المادي والمعنوي مع تسجيل مسارات الإخفاق والفوز والانتصار.
    وتدل هيمنة الأفعال الماضية على استرجاع الزمن المفقود وتبيان الصراع الذاتي والموضوعي الذي عاشه الأديب في مجابهته للواقع وصراعه مع نوازعه الذاتية. وما المذكرات والرسائل واليوميات المثبتة داخل المتن الروائي سوى أدوات للتذكر والاسترجاع قصد فهم شخصية الأديب وتفسيرها على ضوء الظروف الذاتية والموضوعية التي مر بها.
    ويحضر الذهني داخل هذه السيرة على غرار سيرة" أوراق" الذهنية لعبد الله العروي التي يسرد فيها مسار إدريس التربوي والعلمي والثقافي والمعارف التي اكتسبها ومشاركاته الأدبية والنضالية التي كانت تعبر عن مستواه المعنوي وطبيعة ثقافته ورؤيته الإيديولوجية.
    ومن خصائص السيرة في هذا النص التذويت والانطلاق من الرؤية السردية التي يتداخل فيها المنظور الداخلي والمنظور الصفري الموضوعي المحايد، أي يزاوج الكاتب داخل نصه الروائي بين الرؤية "مع" والرؤية من الخلف، ويعني هذا أن الكاتب من خلال خاصية الالتفات ينتقل من رؤية محايدة تعتمد على التبئير الصفري لينتقل إلى رؤية ذاتية داخلية، كما ينتقل من ضمير التكلم إلى ضمير الغياب والعكس صحيح كذلك. كما أن الكاتب والشخصية يتناوبان على مسار الحكي، فالكاتب يستعمل السرد في الحكي، والأديب يتكئ على الكتابات والحوار والرسائل والمذكرات واليوميات في إيصال صوته، كأن هذه السيرة بداية للرواية الحوارية العربية إذ نلفي كل شخص يعبر عن وجهة نظره، ويترك الكاتب الحرية للقارئ لكي يختار الرؤية الصحيحة في التعامل مع الحياة والحكم على الشخصية الروائية.
    وعلى الرغم من كون هذا العمل الأدبي نصا يجمع بين الأوطوبيوغرافيا والبيوغرافيا، فإننا سنتعامل معه على أنه نص روائي مادام يمتلك كل الخصائص التي تستند إليها الرواية كالمقومات القصصية والسردية علاوة على خاصية التخييل الفني والتشويق الأدبي.
    4- عتبــــة الإهداء:

    إذا كانت ظاهرة الإهداء معروفة في الثقافة الغربية وأصبحت تقليدا ثقافيا معهودا عند الكثير من الكتاب والروائيين، فإن هذه الظاهرة موجودة كذلك في أدبنا العربي قديما وحديثا، ولكن ليس بالشكل والكم اللذين نجدهما في الثقافة الغربية. ويعد طه حسين من أهم الكتاب الروائيين الذين سبقوا إلى الاهتمام بظاهرة الإهداء كما هو مثبت في بداية سيرته "أديب" حيث يهدي عمله إلى أعز صديق لديه والذي كان بجانبه يواسيه عندما طرد من الجامعة ظلما، وكان أيضا من المهنئين الأوائل عندما أعيد المؤلف إلى الجامعة ليستكمل التدريس فيها. لذلك فالإهداء المثبت في أول الكتاب هو إهداء الصداقة والأخوة وميثاق الوفاء والإخلاص بين المهدي والمهدى إليه. ويرد الإهداء هنا في شكل نص مقطعي تحية للمهدى إليه مليئة بالصدق والمحبة والإخاء والإخلاص.
    وسنترك القارئ يتدبر هذا الإهداء ويتفرس معانيه ويتأمل طريقة صياغته والمقصدية التي يرومها من خلال هذا الإهداء الإخواني المعبر:
    "أخي العزيز
    وددت لو أسميك، ولكنك تعلم لماذا لا أسميك، وحسب الذين ينظرون في هذا الكتاب أن يعلموا أنك كنت أول المعزين لي حين أخرجني الجور من الجامعة، وأول المهنئين لي حين ردني العدل إليها.
    وكنت بين ذلك أصدق الناس لي ودا في السر والجهر وأحسنهم عندي بلاء في الشدة واللين.
    فتقبل مني هذا العمل الضئيل تحية خالصة صادقة لإخائك الصادق الخالص". [3]
    5- المستوى الدلالي والحدثي:

    يرصد طه حسين في عمله الأدبي "أديب" سيرة صديق له يمارس الأدب والتفكير من أجل خدمة الناس وإسعادهم. وكان هذا الأديب أعز الأصدقاء إلى الكاتب، إذ عاشره كثيرا منذ افتتاح الجامعة المصرية الأهلية رفيقا وصديقا. وقد تعرف عليه الكاتب داخل حرم الجامعة وخاصة في قاعة المحاضرات؛ لأنه كان يتكلم بصوت جهوري غليظ صاخب؛ مما كان يعرقل عملية الإنصات و سماع الطلبة لأساتذتهم أثناء إلقائهم لدروسهم ومحاضراتهم. وكان الكاتب عاجزا عن متابعة الدروس والسماع إلى الأساتذة في هذا الجو الذي يسوده الضجيج وصخب الكلام والتشويش المتواصل الذي يربك عملية التواصل والتفاهم بين الطلبة وأساتذتهم. وهذا التصرف الشائن الذي كان يصدر من هذا الأديب هو الذي دفع بالطلبة الآخرين إلى الهروب منه وعدم الجلوس في المدرج الذي يجلس فيه، لأنه أصبح مزعجا بثرثرته التي حولت الجد إلى هزل وإزعاج للآخرين. وكان الأساتذة المحاضرون يتدخلون مرارا ليمنعونه من الاستمرار في حديثه الصارخ أو التمادي في كلامه العابث فيسكتونه عنوة ولوما. وهذا ما دفع بهذا الأديب إلى معاتبة الكاتب السارد وأصدقائه من الأزهريين على ماصدر منهم من سلوكيات تسيء إليه، ومن هنا بدأت لحظة التعارف والتفاهم بين الأديب والكاتب.
    ويتبين لنا من وصف الكاتب أن صديقه الأديب ذميم الوجه وقبيح المنظر والشكل، وصوته غليظ جدا يثير الرعب والخوف، صاخب في كلامه وثرثار في حديثه، يستعمل الصور الأدبية ويحول الجد إلى الهزل. وهو من أسرة ريفية غنية في أقصى الصعيد، جاوز الثلاثين من عمره، يبدو منحني القامة من شدة القراءة والكتابة، يكتب النثر والشعر معا. كما أنه أتم درسه الثانوي منذ أعوام، واتصل بوزارة الأشغال يعمل فيها كاتبا في بعض الدواوين يقصدها في وجه النهار، أما آخر النهار وجزء غير قليل من الليل فقد خصصه للقراءة والدرس والإبداع والكتابة.
    وقرر الأديب أن يعقد صلة وصل ومحبة بينه وبين صديقه الكاتب الذي كان ضرير العين يقوده خادمه الأسود أينما حل وارتحل. وستؤدي هذه الصلة الحسنة بالأديب إلى أن يتخذ زميله الكاتب صديقا له في الدروس وخليلا له يطلعه على حياته الشخصية الخاصة به لما عرف عنه من وفاء وإخلاص ونزاهة وحب علم. وكان يستصحبه الأديب إلى منزله المتواضع الذي يقع في أعالي مرتفعات القاهرة. ويعد أن ينتهيا من لقمة العشاء وشرب الشاي يدخل الصديقان في حوار حول دروس المنطق وأصول الدين والفقه ومادة اللغة الفرنسية التي كان الكاتب يجد فيها صعوبة كبيرة في اكتسابها وتعلمها، وغالبا ما كانت هذه الحلقات الثقافية تتحول إلى مسامرات شخصية لا فائدة منها ولا طائل.
    وبعد فترة من الزمن، قررت الجامعة أن ترسل بعثة علمية إلى الخارج لمتابعة دراساتها العليا في فرنسا، وكان الأديب من بين أعضاء البعثة نظرا لكفاءته وتفوقه في امتحان الانتقاء. بيد أن الأديب كان يجابه مشكلا عويصا هو زواجه من حميدة بنت قريته الجميلة التي رضيت الزواج به على الرغم من أن جل فتيات القرية رفضنه لذمامته وقبحه البشع. وهنا يلتجئ إلى الكاتب ليستشيره في هذه القضية العويصة التي أوقعت الأديب في حيرة كبيرة وجعلته معلقا في منزلة بين المنزلتين: الظلم والكذب.
    وبعد لأي وجهد في التفكير، اهتدى الكاتب إلى أن يطلق زوجته بدلا من الكذب على الجامعة، لأن الطلاق على الرغم من حكم الكراهية فهو حلال، فأبغض الحلال عند الله الطلاق. لكن صديقه الكاتب رفض هذا الحل واعتبره سلوكا شائنا، وطالبه أن يبقى في القاهرة مع زوجته بدلا من المغامرة والبحث عن العلم في بلدان الغرب، وهذا العلم يوجد حتى في بلده مصر. لكن الأديب رفض وجهة نظره وعزم على الطلاق وصمم على السفر في أقرب الأوقات. وهكذا ودع مطلقته حميدة وأرسلها إلى قريته حزينة ذليلة. وقبل مغادرة البلاد، ودع والديه العجوزين اللذين لم يرضيا على سفره المفاجئ إلى أرض الغربة وتمنيا أن يمكث ولدهما قريبا منهما.
    وسافر الأديب عبر الباخرة إلى فرنسا واستقر أياما في مرسيليا ريثما ينتقل إلى باريس. ولكنه لما رأى فتاة في إحدى فنادق مارسيليا اندهش لجمالها وعذوبة لسانها فارتمى في أحضان حبها وانغمس في الشهوات ولذة الخمر وكل المحرمات، ولم يستطع الصبر و الابتعاد عن "فرنند" خادمة الفندق التي يتخيلها كثيرا في أحلام اليقظة والمنام وفي هذياناته الشبقية.
    وتأخر الأديب كثيرا في اللحاق بباريس رغبة في استكمال متعته والاستمتاع بفاتنته الجميلة التي تختلف اختلافا جذريا عن زوجته حميدة في مصر.
    وعندما التحق بباريس أظهر خبرة عالية وتفانيا كبيرا في الدروس والحضور إلى جانب أساتذته، لكن سرعان ما سيدفعه تهوره اللاأخلاقي إلى التقاعس والكسل والخمول والغرق في المسكرات والاستمتاع الشبقي، وسيصاب بعد ذلك بالجنون والهذيان وكثرة الأمراض العضوية والنفسية التي بدأت تنتابه في كل لحظة، وازدادا حيرة وجنونا مع اشتداد الحرب على باريس، ومطالبة الحكومة المصرية لأعضاء البعثة بالرجوع فورا إلى البلد إلى أن تستقر الأمور المالية والسياسية وتضع الحرب أوزارها. لكن الأديب امتنع عن الانصياع لأوامر السلطة الحكومية، وبقي في فرنسا يبحث عن لذته الأبيقورية بين كؤوس الخمر وسيقان المتعة والافتتان.
    بعد هذه البعثة الأولى، سترسل الحكومة المصرية دفعة أخرى وسيكون الكاتب ضمنها، وعندما سيصل إلى باريس سيندهش كثيرا للوضع الذي آل إليه صديقه الأديب الذي أودت به الأيام إلى الجنون وفقدان العقل وأصبح لا يغادر المصحات النفسية والعضوية، وقد يئس الأطباء من شفائه وسلامته.
    ومن هنا سيخسر الأديب زوجته حميدة التي طلقها وتركها تنتظره على جمر اللظى والأمل الخادع حتى يستكمل دراسته، كما ترك والديه يتعذبان ويشتاقان إليه كثيرا وهو لايكن لهما أي شيء من الطاعة والحب والاحترام، بعد أن أودت به الغربة الذاتية والمكانية إلى عالم الشهوة والجنون، و ضيع كذلك مستقبله ودراسته وحياته العلمية لما استسلم لدواعي الخمرة وغرائز الجسد وانساق وراء انفعالاته النفسية ورغباته الشبقية.
    6- رهـــان السيرة:

    يؤشر رهان هذه السيرة على كون الكثير من المثقفين العرب في بداية القرن العشرين انبهروا كثيرا بحضارة الغرب وانساقوا وراء نزواتهم وكانت رؤيتهم بالتالي للغرب على أنه رمز للحرية والعلم والتقدم والإشباع الغريزي لكل المكبوتات الدفينة، وهذا ما عبرت عنه الكثير من الروايات العربة كرواية "الحي اللاتينى" لسهيل إدريس و"موسم الهجرة للشمال" للطيب صالح و"عصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"الأيام" لطه حسين و"قنديل أم هاشم" ليحيى حقي. ومن ثم، تصور هذه الرواية البيوغرافية الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، والتقابل بين عالم الكبت وعالم التحرر، وبين عالم التخلف وعالم التقدم، وبين الانحطاط الحضاري والرقي المدني. لذلك كان ينظر الأديب إلى مصر وزوحته حميدة بنظرة تغاير نظرته إلى فرنند وفرنسا. إذاً، هناك جدلية وتفاوت بين هذين الفضاءين حتى إن الأديب لم يرتض العودة إلى بلده لما قامت الحرب على فرنسا، وكان يتمنى الدفاع عن هذا البلد في وجه النازية؛ لأن هذا البلد يقترن في ذاكرته بالحب والحرية والإشباع الشبقي، أما بلده فيقترن بالكبت والحرمان وصعوبة المسؤولية.
    7- المقومات القصصية والسردية:

    أ- الحبكة السردية:
    تنبني حبكة هذه السيرة التي سنتعامل معها كنص روائي على خمسة مقومات رئيسية منها البداية التي تظهر لنا الأديب في وضعية الرجل الكفء و المثقف الموسوعي في مجال العلم والمعرفة على الرغم من صورته البشعة المقززة، والعقدة التي تتمثل في انصرافه عن زوجته حميدة وعائلته وبلده بحثا عن العلم لتحقيق حياة مستقبلية سعيدة. أما الصراع فيتجلى في مواجهة الأديب لذاته وتصديه للعراقيل التي تكاد تمنعه من السفر إلى الخارج ومحاولته الجادة لإقناع والديه بما قد عزم عليه، وفشله أمام الحب الشديد الذي كان يكنه لخادمة الفندق بمرسيليا ومجابهته للجهل والحرب، وفشله أمام مرضه الهستيري الذي أصيب به من جراء انحرافه سلوكيا وإفراطه في السهر والشرب والانحلال الأخلاقي. ويكمن الحل في الانعزال والانطواء على النفس في المستشفيات النفسية بحثا عن العلاج والراحة، وتختم السيرة بنهاية تراجيدية تتمظهر في إصابة الأديب بلوثة الحمق والجنون.
    ب- خصائص الشخصيات في السيرة:
    ومن أهم الشخصيات الموجودة في النص نذكر الشخصيتين المحوريتين: الأديب و الكاتب، فشخصية الأديب شخصية محورية أساسية دينامكية ومركبة ونامية؛ لأنها تتغير حسب إيقاع النص الروائي السيروي، إذ ننتقل من شخصية ذات باع في الأدب والشعر تهتم بالعلم والثقافة وتقرأ الكثير إلى شخصية ظالمة للزوجة وعاقة لوالديها لينتهي بها المطاف لتكون شخصية منحطة مصابة في عقلها بعد انحرافها وتدهور أخلاقها واستسلامها للشهوات والغرائز المادية. أما الكاتب فشخصية بسيطة تحافظ على نفس إيقاعها ودماثة أخلاقها، ولم تنبهر بحضارة فرنسا كما انبهر بها الأديب ولم تنغمس في ملذات الدنيا كما انغمس فيها الآخر، لذلك نجد شخصية الكاتب شخصية مغايرة ومقابلة للشخصية الأولى التي سقطت في الرذيلة والدنس الأخلاقي. ومن ثم، يحاكم طه حسين كل أديب يفرط في رسالة الأدب ويحولها إلى وجهة غير صحيحة، حيث يقرن مهمة الأدب بسوء الأخلاق والارتماء في أحضان الموبقات والتخلي عن مقومات التربية الإسلامية الصحيحة. وما ينبغي أن نأخذه من الغرب حسب المؤلف هو العلم والتكنولوجيا والفكر، وألا نأخذ السلبيات ونسقط في مهاوي الشر والدناءة والرذيلة باسم الأدب والشعر. وهذا يذكرنا بمصير كثير من الكتاب الغربيين والعرب الذين أودى بهم المآل إلى الحمق والجنون والانتحار والموت مثل: بودلير وريمبو وهمنغواي ونتشه وخليل حاوي….ولكن التحلل من الأخلاق والعربدة والمجون والتسكع في الشوارع لايخلق الأدب ولا يسمو برسالة الأديب أو يعلو بها، بل على العكس يقدم صورة مشوهة قاتمة تسيء إلى الأدب ويصبح بذلك نقمة وعارا على صاحبه وعلى مريدي الأدب والفن.
    وإذا كانت شخصية الكاتب مثالية في نبل أخلاقها وطيبوبة محتده وكرم سلوكه، فإن الأديب عبارة عن شخص عابث لا يبالي بالآخرين وخاصة زوجته حميدة التي همشها وطلقها بكل سهولة كأنها لعبة سريعة التخلص منها في أي وقت يريد فيه أن يتخلص من ذويه، والتمادي كذلك في الابتعاد عن والديه العجوزين اللذين يتشوقان إلى رؤيته ويتمنيان أن يكون ابنهما قريبا منهما. من هنا، فأديبنا شخصية أنانية وذميمة في كل شيء، لذلك فأوصافها البشعة الدنيئة تدل على طبائعها الأخلاقية أيما دلالة.
    وثمة شخصيات ثانوية وعابرة أخرى يستحضرها المؤلف داخل السياق الروائي السيروي كالخادم الأسود وحميدة والوالدين وفرنند وأخ الكاتب، وهذه الشخصيات لها دور تكميلي وهامشي حيث يستدعيها الكاتب كعوامل مساعدة عبر صور التذكر والاسترجاع والاستيحاء كما يسترجع شخصيات تناصية أدبية أخرى كأبي العلاء المعري والمتنبي والأخطل وموسيه…
    ت- الفضاء الروائي في السيرة:
    ويتقابل في هذه السيرة فضاءان متناقضان: فضاء مصر وفضاء فرنسا، فالفضاء الأول يمثل بالنسبة للأديب فضاء التخلف والانحطاط والكبت والحرمان والتقاليد الموروثة البالية، في حين يمثل له فضاء فرنسا الحضارة والتقدم والرقي والعلم والأدب الحقيقي، و يجسد له أيضا الحرية والإشباع الغريزي والارتماء في أحضان اللذة والشهوة المادية الإيروسية. كما تمثل له فرنسا كذلك الجمال والاستقرار الروحي والارتواء بالحب الفاتن والسعادة الشبقية الدنيوية.
    ويعكس هذا التداخل الجدلي بين فضاء منغلق وفضاء منفتح الصراع الحضاري بين الشرق والغرب والأصالة والمعاصرة والهوية والاغتراب والمادة والروح. ومن ثم، تبقى صورة الأوربي لدى المثقف الشرقي المنبهر مثل هذا الأديب صورة إنسان متقدم يمتلك العلم في نفس الوقت يمتلك الجسد والجمال وهذا مالا يوجد في الشرق. إن هذه الصورة انبهارية سطحية ترى الغرب على أنه كله إيجابيات، وتغفل الجانب السلبي الذي يتمثل في انهيار الأخلاق وانتشار الرذيلة والفاحشة وتردي الإنسان الأوربي ومعاناته من الفراغ الروحي.
    كما يتقابل داخل فضاء مصر: فضاء المدينة (القاهرة) بمؤسساتها العمومية والرسمية والخاصة وشوارعها المليئة بالحركة والازدحام، وفضاء البادية الذي تغير أيما تغير بفعل الحضارة والمدنية الجديدة حيث شوهت معالم البادية المصرية وأتت على كل ما هو جميل في ذاكرة الكاتب.
    ث- المنظور السردي:
    وعلى مستوى المنظور السردي، نلاحظ تنوعا وانتقالا من المنظور الصفري الموضوعي المحايد إلى المنظور الذاتي الداخلي، كما ينتقل الكاتب من ضمير الغياب إلى ضمير التكلم والعكس صحيح كذلك، وبذلك تختلف مستويات المعرفة والحكي حسب كل منظور، ففي الرؤية الداخلية تتساوى معرفة كل من الراوي والشخصية، وفي المنظور الصفري تعلو معرفة السارد على معرفة الشخصية.
    ومن مميزات الرؤية السردية في سيرة "أديب" أنها قائمة على خاصية الالتفات على عادة طه حسين في سيره وخاصة سيرة "الأيام" التي ينتقل الكاتب فيها من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم. ولكن الهيمنة في هذا النص للرؤية "مع" الداخلية الذاتية التي يتساوي فيها السارد والشخصية على مستوى المعرفة.
    ويستهدف السارد في هذا النص السرد والتبليغ والتنبيه والتصوير والتنسيق بين الشخصيات والوصف والتشخيص وإدانة كل المثقفين والأدباء الذين ينبهرون بالحضارة الغربية عن جهل ودون وعي، وينساقون وراء غرائزهم وشهواتهم الدنيئة حتى يصابوا بلوثة الحمق والجنون والضياع والهلاك والموت.
    ث- بنية الزمن السردي في السيرة:
    ويتخذ الزمن في الرواية إيقاعا استرجاعيا، لأنه يقوم على الذاكرة وفلاش باك واستعادة الزمن المفقود والذكريات الدفينة. ومن ثم، فالزمن في النص زمن هابط على الرغم من كرونولوجية الأحداث وتعاقبها في مسار النص. ويعني هذا أن الكاتب ينطلق من حاضر الكتابة ويعود إلى الماضي ليستقرىء تجربة الأديب في صراعه مع نفسه ونزواته والواقع الذي يحيط به. ويشاركه في هذا الاستذكار الكاتب الذي يحيي فترة من حياته على مرآة صورة الآخر المقابل، ولكنه شبيهه في الهوية والدين والمكان.
    وعلى الرغم من تواتر الأحداث وتعاقبها الكرونولوجي، إلا أننا نلاحظ توقفا كبيرا في مسار إيقاع الأحداث بسبب الوقفات الوصفية المملة المليئة بخاصية الإسهاب والاستطراد. ومن هنا يمكن تلخيص الرواية في ورقتين أو ثلاث ورقات على الأكثر، ولولا هذا الاستطراد والوصف الممل والمشاهد المقحمة لكان النص في صيغة أجناسية وأدبية أخرى. وهكذا نلاحظ أن الكاتب يحشو سيرته بالرسائل الطويلة والكتابات المسهبة والمذكرات المسترسلة، وكل هذا حشو في حشو واستطراد متشعب كان على الكاتب أن يتفاداه ويتجنبه، ناهيك عن الإكثار من التكرار الأسلوبي والتمطيط فيه تطويلا وتشعيبا وتوسيعا مع استخدام أساليب الانفعال والإنشاء التي يستعملها الكاتب كأنه يكتب مقالا إنشائيا يظهر فيه الكاتب فصاحته وبلاغته ومقدرته الإبداعية وكفاءته السردية والبيانية. وإلى جانب الإيقاع البطيء الناتج عن الوقفات الوصفية والمشهدية، فإن هناك إيقاعا سريعا يتمثل في الحذف لسنوات من الزمن في جملة ورقية كما في هذا المثال النصي: "وانقضى العام الأول والثاني والثالث من حياتنا في الجامعة على هذا النحو، لم يتقدم هو في درس المنطق ولم أتقدم أنا في درس الفرنسية، ولكننا تقدمنا في إدارة هذه الأحاديث الطويلة المختلفة التي تلم بكل شيء ولا تكاد تتقن شيئا، ولكنها تفتح القلوب لألوان من العواطف وتهيئ النفوس لضروب من الخواطر، وتغير الطريق التي كان كل واحد منا قد رسمها لنفسه في الحياة". [4]
    وإذا كان الزمن استرجاعيا فهناك أيضا الزمن الاستشرافي الذي يحيل على أحلام المستقبل وتطلع الشخصيات إلى الغد السعيد من أجل تغيير أوضاعها التي هي عليها الآن: "كان يريد أن ينفق حياته موظفا يثقف نفسه ثقافة جديدة في كل يوم ويلتمس لذته في القراءة والكتابة والحديث. فأصبح أشد الناس بغضا لديوانه وزهدا في عمله، ورغبة في أن يهجر مصر ويعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي، وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه. وكنت أريد أن أكون شيخا من شيوخ الأزهر مجددا في التفكير والحياة على نحو ماكان يريد المتأثرون للشيخ محمد عبده أستعين على ذلك بما أسمع في الجامعة، وما أقرأ من الكتب المترجمة، وما أجد في الصحف، وما أتلفظ من أحاديث المثقفين، فأصبحت وأنا أشد انصرافا عن الأزهر، ونفورا من دروسه وشيوخه، وحرصا على أن أهجر مصر وأعبر البحر إلى بلد من هذه البلاد التي يطلب فيها العلم الواسع والأدب الراقي وتتغير فيها الحياة من جميع الوجوه ولم يكن لصاحبي ولا لي إذا التقينا حديث إلا هذه الهجرة وأسبابها وإلا هذه الأحلام العريضة البعيدة التي لا حد لها، والتي تستأثر بنفوس الشباب حين يفرضون على أنفسهم بلوغ غاية بعيدة شاقة. حين تخيل إليهم آمالهم أن بلوغ هذه الغاية أمر يسير". [5]
    نلاحظ في هذا النص مجموعة من الأحلام والآمال المستقبلية التي يستشرفها كل من الكاتب والأديب وهي رهينة بمصداقية الواقع في المستقبل الذي قد يصدقها أو يكذبها.
    ح- مميزات الأسلوب في السيرة:
    وإذا انتقلنا إلى أسلوب سيرته الروائية "أديب"، فنجد الكاتب يشغّل السرد بكثرة، كما يستعين بالحوار عن طريق اللجوء إلى المناظرة الأسلوبية التي تتجلى في الردود التي يسجلها الأديب على تساؤلات الكاتب واستفساراته والتواصل معه. فاستعمال الكاتب للمذكرات واليوميات والرسائل هو نوع من الكتابة الحوارية وهي سمة من سمات الحجاج والإقناع والمناظرة والجدل الثقافي والمنطقي.
    ويوظف الكاتب إلى جانب المناجاة والحوار الداخلي الأسلوب الفانطاستيكي القائم على التحول الغرائبي والامتساخ الساخر:
    "ولست حمارا ياسيدي مهما يكن رأيك في وفي ذلك الشيخ، أو قل كنت حمارا قبل أن أعبر البحر، فلما دخلت هذا الفندق، وصعدت إلى هذه الغرفة وأويت إلى هذا السرير، وانغمست في فراشه الوثير، وأدركني ما أدركني من النوم العميق، وأيقظتني هذه الفتاة ذات الوجه المشرق والثغر المضيء والحديث الحلو والروح الخفيف، نظرت فإذا لم أبق حمارا، وإذا أنا قد مسخت إنسانا أو قل صورت إنسانا إن كلمة المسخ لا ترضيك، ولكني على كل حال قد دخلت النوم حمارا وخرجت منه إنسانا يحس ويشعر ويعقل ويذوق لذة الجمال ويعرف كيف يستمتع بسحر العيون." [6]
    وتتسم كتابة طه حسين في هذه السيرة بنصاعة البيان وفصاحة الألفاظ وبلاغة الأسلوب والإكثار من التكرار اللفظي واستخدام اللازمة الانفعالية وأساليب الإنشاء الموحية الدالة على التفجع والتحسر والتأسف، كما أكثر الكاتب من المفعول المطلق على غرار كتابات مصطفى المنفلوطي وأطنب كثيرا في الشرح والتفسير، وأسهب في الوصف والتصوير.
    هذا، وتمتاز الكتابة البيانية عند طه حسين بمتانة السبك وصحة النظم الفني وجريانها على أصول اللغة العربية واستخدام التصوير المجازي والتجسيد البلاغي وترجيح كفة البيان على البديع وإسقاط الخصوصية الذاتية على الكتابة تلوينا وانفعالا وإحساسا حسب السياقات النفسية والموضوعية. كما تتسم الكتابة بجزالة اللفظ والإسهاب والاستطراد والترادف والتأكيد المصدري والاستعانة بالأساليب استفهاما وتعجبا وإنكارا واشتراطا واستثناء وندبة.
    وإليكم نموذجا يبين لنا مقومات الكتابة البيانية لدى طه حسين الذي يعد من رواد المدرسة البيانية في النثر العربي الحديث في القرن العشرين إلى جانب مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي وشكيب أرسلان ومحمد عبده و إبراهيم اليازجي وحسن الزيات وغيرهم، وهذه المدرسة امتداد للمدرسة البيانية القديمة التي كان يتزعمها الجاحظ والجرجاني وأبو حيان التوحيدي:
    "يا للحزن والأسى، يا للوعة والحسرة، يا لليأس والقنوط، أيبلغ العنف بالزمان أن يمحو هذا المقدار الضخم من حياة الناس في أعوام قصار، لقد جد جيل وجيل في إقامة معمل السكر وإقامة ما حوله من الدور، بل من القرى، لقد عاش جيل وجيل، بهذا المعمل ولهذا المعمل، لقد عاش جيل وجيل بهذه القناة ومن هذه القناة. فكل هذا الجهد، وكل هذا العناء وكل هذه الذكرى، وكل ماكان على شاطئ القناة، وحول معمل السكر من جد وهزل ومن لذة وألم، ومن حب وبغض، ومن أمل ويأس، ومن مكر ونصح، ومن خداع وإخلاص، كل هذا يذهب في أعوام قصار لا تكاد تبلغ عدد أصابع لليد الواحدة، كان شيئا من هذا لم يكن، وكان نفسا لم تتأثر بما أثارته الحياة في هذه الأرض من العواطف وكان شفة لم تبتسم لما أنبتته هذه الأرض من أسباب الحزن والأسى، يا للحزن اللاذع، يا للألم الممض، ويا لليأس المهلك للنفوس! لقد ماتت قناتنا أيها الصديق" [7]
    نستنتج من خلال هذا المقطع النصي أن المدرسة البيانية لدى طه حسين تمتاز بتنويع الأساليب الإنشائية كأن الكاتب يكتب قصيدة شعرية أو قصيدة منثورة يستعمل اللازمة النثرية الدالة على التحسر والتفجع، ويشغل التكرار بكثرة والتوازي التركيبي والتتابع والازدواج في توظيف الجمل والإطناب في توسيع الفكرة وتمطيطها، كما يستعمل الكاتب الصور البلاغية من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية والمحسنات البديعية من سجع وطباق ومقابلة وترادف وتكرار والتماثل الصوتي والتجانس الإيقاعي.
    وقد وظف الكاتب عدة خطابات في نصه الروائي هذا منها: خطاب السيرة وخطاب الامتساخ وخطاب الرسائل وخطاب المذكرات وخطاب اليوميات وكل هذا لإثراء نصه بالتنوع اللغوي والتعددية الأسلوبية.
    ج- الوصف في السيرة:
    التجأ الكاتب إلى الوصف لتصوير الشخصيات والأمكنة والأشياء والوسائل لنقل عالم الحكاية وتجسيده في أحسن صياغة فنية. ويمتاز وصف الكاتب بالاستطراد والإسهاب والتطويل على غرار الكتاب الواقعيين أمثال: فلوبير وبلزاك وستندال وإميل زولا ونجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف.
    وقد بدأ الكاتب سيرته باستهلال روائي وصفي يشخص فيه صديقه الأديب لينتقل بعد ذلك لعرض الأحداث السردية لينهي نصه بعرض مأساة الأديب ونهايته الفظيعة بعد حياة بوهيمية عبثية في حضن الجمال وغواية السكر ومفاتن الجسد وخمول العقل.
    ويلاحظ على وصف طه حسين للأديب أنه وصف كاريكاتوري بشع يشمل الداخل والخارج حيث يلتقط المساوئ والعيوب بدقة متناهية قصد استدراج القارئ لمشاركته في الحكم بالسلب على هذه الشخصية الدنيئة التي لاتمت بصلة إلى الأدب مادام قد ظلم الأدب وزوجته ووالديه ووطنه كما في هذا المقطع الوصفي الساخر:"كان قبيح الشكل نابي الصورة تقتحمه العين ولا تكاد تثبت فيه، وكان على القصر أقرب منه إلى الطول وكان على قصره عريضا ضخم الأطراف مرتبكها كأنما سوي على عجل، فزادت بعض أطرافه حيث كان يجب أن تنقص ونقصت حيث كان يحسن أن تزيد. وكان وجهه جهما غليظا يخيل إلى من رآه أن في خديه ورما فاحشا. وكان له على ذلك أنف دقيق مسرف في الدقة، منبطح غال في الانبطاح، قد اتصل بجبهة دقيقة ضيقة لا يكاد يبين عنها شعره الجعد الفاحم.
    لم تكن تقدمت به السن، بل لم يكن جاوز الثلاثين، ولكن علامات الكبر كانت بادية على وجهه وقده لايخدع عنها أحد. كان على قصره مقوس الظهر إذ قام، منحنيا إذ جلس، ولعل إدمانه على الكتابة والقراءة، وإسرافه في الانحناء على الكتاب أو القرطاس هما اللذان شوها قده هذا التشويه. وقلما كان وجهه يستقيم أمامه، إنما كان منحرف العنق دائما إلى اليمين أو إلى الشمال، وقلما كانت عيناه الصغيرتان تستقران بين جفونه الضيقة، إنما كانتا مضطربتين دائما لا تكادان تستقران على شيء حتى تدعاه مصعدتين في السماء، أو تنحرفا عنه إلى مايليه من أحدى نواحيه". [8]
    ولقد كان طه حسين في وصفه للأديب كاتبا لاذعا هاجيا يعتمد على السخرية والتشويه الكاريكاتوري في تصوير الشخصية ورصدها فيزبولوجيا منتقلا من العام إلى الخاص. أي يصور بريشته الواصفة الشكل الخارجي فالوجه ثم الصوت، وقد كان دقيقا في وصفه ومتفننا في التجسيد والتشخيص.
    وبعد الوصف الخارجي، ينتقل الكاتب إلى الأحداث والأفعال السردية لينقل لنا مواصفاته الأخلاقية ونفسيته وطبيعة تفكيره ليقدمها لنا في الأخير على أنها شخصية سمجة قبيحة متدنية في سلوكها ومنحطة في قيمها، كما تعبر قسمات الشكل على العموم عن طبيعة الشخصية. أي إن المظهر الخارجي علامة سيميائية تدل على طبائع الشخصية وسماتها النفسية والأخلاقية.
    وانتقل الكتب بعد ذلك ليصف الأفضية والأمكنة فوصف لنا بيت الأديب وبيت الكاتب الضيق، كما وصف لنا مدينة القاهرة في ازدحامها واكتظاظها بالسكان، والجامعة بمحيطها وحرمها ومدرجاتها، ونقل لنا البادية بفظاعتها وجفافها وتغير معالمها، كما رصد لنا فرنسا بأفضيتها الحضارية الدالة على الثراء والجمال والتطور العمراني والثراء الحضاري والمادي.
    ولم ينس الكاتب أن يصف بعض الوسائل كالعربة التي كانت تنقل الكاتب مع الأديب في صحبة الخادم الأسود إلى بيته وإلى عدة أماكن في القاهرة المزدحمة بالناس، والباخرة التي كانت تعبر البحر الأبيض المتوسط متجهة بالأديب إلى فرنسا.
    وعليه، فإن الوصف لدى الكاتب يتسم بالتطويل والروتين الممل من شدة الإسهاب والاستقصاء والتفصيل.
    خ- البعد الاجتماعي في السيرة:
    تحيل هذه السيرة سوسيولوجيا على مصر في انتقالها من الانتداب الإنجليزي إلى عهد الملكية الخديوية بعد ثورة سعد زغلول 1919م، وما حدث من تغيرات على المستوى الاقتصادي وخاصة في البادية المصرية ومدينة القاهرة التي بدأت تعرف تحولات ديمغرافية واجتماعية. كما تبين لنا انفتاح الحكومة المصرية على الجامعة الحديثة، وإرسال البعثات إلى الخارج لاستكمال الدراسات الجامعية العليا. وتبين لنا السيرة كذلك وضعية التعليم في الأزهر الذي يحتاج إلى تجديد وتغيير لمناهج التدريس بهذه المؤسسة الدينية التي مازالت تدرس فيها الكتب الصفراء بطريقة تقليدية؛ مما آل بالوضع التربوي في الأزهر لأن يستلزم التغيير والإصلاح الفوري كما تؤشر على ذلك دعوة محمد عبده.
    وتشير السيرة كذلك إلى ظروف الحرب العالمية الأولى وآثارها البشعة على الإنسان الأوربي والإنسان العربي، ناهيك عن تصوير مدى اهتمام جيل من المثقفين في مطلع القرن العشرين بالأدب إلى درجة الحب والشغف والجنون وإقبالهم على الجامعات الحديثة للاستفادة من المناهج الحديثة والأفكار الجديدة. ومن ثم، تصور السيرة الروائية فئة من الأدباء العرب الذين تركوا بلدانهم وذهبوا إلى الخارج فانبهروا بأوربا وانغمسوا في الملذات وافتتنوا بجمال النساء الشقراوات وبريق سيقانهن وسقطوا في الرذيلة ومهاوي الخطيئة ونسوا العلم وعادوا إلى بلدانهم إما حمقى مجانين وإما بدون شواهد علمية تذكر وإما حصلوا عليها بصعوبة تذكر كما هو حال توفيق الحكيم الذي فشل في دراساته القانونية وعاد حاملا لواء الفن والمسرح والقصة، و بطل سهيل إدريس في روايته"الحي اللاتيني" الذي لم يحصل على شهادة الدكتوراه إلا بشق الأنفس وله بطبيعة الحال مقابله الموضوعي في الواقع الخارجي.
    د- البعد النفسي في السيرة:
    ينقل لنا الكاتب من الوجهة السيكولوجية شخصية أديب مهووس بحرفة الأدب، ولكنها شخصية مختلة ستصاب بهستيريا المجون وتضخم الذات. ورغبة في تحقيق ذاته، سيدوس هذا الأديب على القيم التي كان يؤمن بها حيث يظلم زوجته حينما طلقها بكل برودة دون أن يحس بها أو يشعر بكيانها الداخلي ولم يفكر إطلاقا كيف ستكون وضعيتها وصورتها بعد الطلاق في القرية التي ستعود إليها، بعد أن اختارته زوجا لها ورفضته الشابات الأخريات،كما كان عاقا لوالديه عندما تخلى عنهما من أجل أن يبحث عن مستقبله وحريته الشخصية لإفراغ مكبوتاته الشبقية في بلد الأجساد والسيقان، في فرنسا الحضارة والفتنة والجمال والغواية التي جردت الأديب من كل مقومات أصالته وجرته إلى مستنقع الفساد والدناءة عندما بدأ يسهر الليالي مع خمرة النسيان مفتتنا بجمال الأجساد وشهد الأحلام الوردية والحب الرومانسي الخادع.
    هذا، وقد دفعت الذمامة والقبح أديبنا إلى العزلة والانطواء، فلم يجد صديقا وفيا في عالمه إلا كاتبنا الذي كان يستصحبه معه إلى بيته ويحكي له كل ما يكابده ويعانيه. وقد دفع الحرمان النفسي الناتج عن الاستعمار وتسلط الحكومة الخديوية والإحساس بالنقص شخصية الأديب لتثور ثورتها على أقرب الناس إليه وهي زوجته؛ لأن حميدة تقيده بتقاليدها البدوية، وبقاؤه في مصر يذكره بالنقص، لكن فرنسا هي الملاذ الوحيد لوجوده والمكان المفضل للتحرر الإيروسي واستكمال ذاته من خلال الارتماء في أحضان الكأس والمرأة وغواية الشيطان، ومن ثم، فشخصية أديب هي شخصية مرضية معقدة تعاني من النقص وتحاول تعويضه باكتساب العلم وإظهار الثقافة واحتراف الأدب. وقد أدى هذا الإحساس المبالغ فيه نفسيا بأديبنا إلى الحمق والجنون والإصابة بلوثة الهستيريا وذوبان الذات من كثرة الانفعالات والأحاسيس المبالغ فيها.
    تركيب استنتاجي:
    إن" أديب" لطه حسين سيرتان متكاملتان: سيرة ذاتية خاصة بالكاتب وسيرة غيرية متعلقة بالأديب، وفي نفس الوقت هي رواية فنية تعتمد على التخييل والالتفات والتشويق والاستطراد والاهتمام بنصاعة البيان وبلاغة التصوير؛ وهذا ما يجعل طه حسين من رواد المدرسة البيانية في الأدب العربي الحديث، كما أن هذه السيرة إدانة لجيل من المثقفين العرب الذين قصدوا أوربا بحثا عن العلم واستكمالا لدراساتهم العليا، فانبهروا بحضارة الغرب، ولكنهم بدلا من أن يستفيدوا من العلوم والمعارف والآداب سقطوا في الغواية والرذيلة وفتنة الخطيئة، وبالتالي، فرطوا في أعزما يملكون من قيم وفي كل ما يمت بصلة إلى الشرق، لينغمسوا في بوتقة الشر والإفساد والسقوط في فتنة الغرب والإيمان بفلسفته المادية وأفكاره المنحلة.
    حواشي
    [1] طه حسين: أديب، بدون تاريخ للطبعة أو مكان لها، ص:4-5.
    [2] نفسه، ص: 8.
    [3] نفسه، ص:2.
    [4] نفسه، ص: 32.
    [5] نفسه، ص:32-33.
    [6] طه حسين: نفسه، ص: 112-113.
    [7] نفسه، ص:43.
    [8] نفسه، ص:6-7.

    المصدر


    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

  10. #142 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    "عندما تتكلّم الذّات السّيرة الذّاتيّة في الأدب العربيّ الحديث"
    الدكتور
    محمّد الباردي
    دراسة ـ منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق ـ 2005

    لحفظ الدراسة على الرابط التالي:
    الدراسة


    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com



    رد مع اقتباس  
     

  11. #143 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    "السيرة الذاتية تعدد وتداخل بين الأجناس"
    عند
    عبد الرحمن مجيد الربيعي

    محمّد معتصم

    على الرابط التالي:
    السيرة الذاتية


    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 05/05/2008 الساعة 09:23 AM

    رد مع اقتباس  
     

  12. #144 رد: مكتبـــــة أدب السيــــــرة الذاتيــــــة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    إدوار الخراط
    "كل ما كتبته في حياتي هو سيرة ذاتية اقتحمها الخيال"
    الشرق الأوسط - عبد النبي فرج
    الأحد 9 تموز (يوليو) 2006.

    على الرابط التالي:
    السيرة الذاتية


    د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي
    aghanime@hotmail.com

    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مكتبـــــة الحــــــديث النبـــــوي الشـــــــــريف ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى إسلام
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 03/12/2007, 06:34 PM
  2. مكتبـــــة صيد الفوائــــد ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/07/2007, 11:14 AM
  3. مكتبـــــة الأزهــــر الشريــــف للمخطوطــــات ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/12/2006, 05:58 AM
  4. مكتبـــــة التـــــــراث الإســــــلامي ...
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 21/12/2006, 06:32 AM
  5. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 14/12/2006, 11:52 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •