على باب الله

[إبراهيم مشارة]

عرفت جمال قارة محمد فيمن عرفت من صبيان الحي الذين صاحبتهم واختلطت بهم ، غير أن هذا الفتى كان قد ترك في نفسي أعمق الأثر ، فادخرت له في نفسي مكانة وخصصته بشىء غير يسير من التقدير والإعجاب. لم يكن كفتيان الحي يهيم بلعب الكرة أو صيد العصافير أو يسرف في العبث ، كان يظهر شيئا من الجد على حداثة سنه ، يتحاشى الكذب وخبث الطوية ، ويقتصد في صداقاته ، يحرص على دروسه في المدرسة وعلى حفظ القرآن في الكتاب، والحق أن في ملمحه الجد، إذا تأملته أدركت أن هذا الفتى سوف يصير إلى رجولة ناضجة وسوف يأتي من جليل الأعمال ما يليق بذلك الرشد المدخر وتلك الرجولة الكامنة فيه إلى حين .

في وجهه خانة تناسقت مع تلك السمرة المحببة أما الشعر فأسود ناعم ، و في الجسم بعض امتلاء يوحي بالعافية على بعض القصر في القامة الذي لا يعيبه، أدعج العينين ، وقد أتاح له ذلك ملاحة فهو يتسلل إلى مكامن الرضا من النفس ، على الرغم من رثاثة ثوبه وسرواله الذي كثرت فيه الرقع ، وكان صاحب صوت شجي يحسن به قراءة القرآن وترديد الأشعار وآداء الأغاني التي كان يحبها .

أحببت الجلوس إلى جانبه في الكتاب حين كنا نشرع في *التزويقة * وكانت مرتان في العام الأولى قبيل عيد الفطر والثانية قبيل عيد الأضحى، نجتمع في حلقات ويتولى أمهر الفتيان رسم تزويقة العيد على لوح من لا يحسن ذلك ، وكانت رسما واحدا متكررا على جميع الألواح *ضلوع الحوت وفراش الطلبة * والشيخ يدور بيننا ينظر في لوح هذا أو يعنف ذاك على رداءة التزويقة ، فرحا بما أحضر إليه الصبية من بيض وفطائر وقهوة .

و كان جمال من الذين يحسنون ذلك خطا ورسما فضلا عن شطارته في حفظ السور القرآنية ، وترتفع الأصوات منشدة متزامنة مع ذلك العمل وميز من بين تلك الأصوات صوته العذب الآخذ بشغاف القلب :

خط العيد خططناه

في الألواح زوقناه

شيخنا زوجنــــــاه

خذينالو حـوريـــة

حورية في الجنـة ……

أما سحنة الشيخ فتحمر خجلا من الكلام عن الزواج فيكح أو يتظاهر بالحديث مع صبي حتى ننتهي من ترديد كلمات الزواج في الترنيمة ، فإذا اقترب موعد صلاة الظهر فرغنا من آداء التزويقة لندخل فرحين في عطلة تمتد أياما كثيرة . توثقت الصلة بيني وبين الفتى فهو يسأل عني في البيت وأسأل عنه وكان بيتهم قريبا من بيتنا ولم يكن له من الإخوة غير أخت تصغره ، وأما الوالدان فتقدم بهما العمر ، الأب شيخ اصطلح عليه الفقر والداء وأعيته الحاجة ،يكلمك بصوت مختنق ، وأم طيبة عجوز تتأتأ في كلامها فلا تكاد تتبينه إلا بمشقة ، تسألني عن أهلي كلما طرقت الباب أسأل عن ابنها وهي مطمئنة إلى كونه رفيقي وفي يقينها أننا جادان نجتهد في دراستنا ونتحاشى رفقة أولاد السوء .

تعلمت من جمال الاهتمام بالأشياء النادرة والاستفادة منها والاستمتاع بمباهجها وكان يقول لي على حداثة السن :
سوف يأتي يوم تختفي فيه هذه الأشياء وتغدو مجرد ذكرى فإذا حلت ذكرى عاشوراء حرصنا على تتبع * النشار* في أزقة الحي وهو رجل كأنه بهلول أشعث أغبر ينادي على أهل البيت فيخرجون إليه ديكا أو دجاجة يذبحها لهم و ينصرف إلى بيت آخر ، حتى ينتهي من ذلك في المساء و ينصرف إلى بلدته و معه بعض الهدايا والإحسان ، وكان ذلك دأبه كلما حلت ذكرى عاشوراء .كنا نقترب منه في شىء من الوجل والإنبهار ونستعذب طقوسه ،وهو غير متضايق من وجودنا وتتبعنا إياه في أزقة البلدة.

وإذا حل الربيع خرج أهل البلدة يلاقونه كما يقولون فرحين بمقدمه يأخذون معهم زادهم والكعك الذي صنعته النسوة خصيصا لهذا اليوم وينتشرون في المروج و الحقول يصحبهم الأطفال وتتجاذب النسوة أطراف الحديث ولا يعود الجميع إلا مع الأصيل. ويأخذني جمال بعيدا نبحث عن منهل أو نرى عصفورا لم نره من قبل أو زهرة ما أتيح لنا الاستمتاع بها ، ولا يفوتنا أن نعرج على قرية مجاورة كان من طقوسها في هذا اليوم أن تحضر ضاربا على الدف وزامرا يدعى * بوسعدية * تتدلى من خاصرته أطراف مزركشة من القماش والناس من حوله متحلقين في رقص وتصفيق و حبور لا نظير له !

صحبت الفتى سنوات عرفت منه ألوانا من المتعة وبهجة الاكتشاف على أن ذلك السرور الذي كان ينضحه قلبانا وذلك الأنس الذي كان يستشعره كل واحد منا وهو إلى جوار صاحبه لا يخلو من بعض المنغصات ، فهذه عصبة من صبيان الحي تشوش علينا وتعزم على جرنا إلى ما هي فيه من عبث كثير وكسل على الرغم من اشتراكنا معها في لعب الكرة أو سماع نكاتها الماجن والضحك معها من القلب، فيسعى الواشون بيننا لحل عرى المودة فما يستطيعون إلى ذلك سبيلا !

غير أنه إذا اشتد المرض على والده واستعصت عليه العافية وعز الدواء مع شح المؤونة، كنت ترى أثر الحزن في وجه الفتى ، نظرات حزينة منكسرة وصوت خفيض متقطع ،وفي براءة الصبا أحزن لحزنه فأسري عنه داعيا الله ملحاحا أن يكشف عنه الكرب وأعقب :
شدة و تزول ، أنت تعرف والدك يمرض ويتعافى ، جميع شيوخ البلدة هم هكذا. فيرد في صوت مشفوع بعبراته :
هذه المرة لن يتعافى ، اشتد عليه السعال ، أعرض عن الطعام وتقيأ دما. و يزوره أهل الحي سائلين عن صحته داعين له بالشفاء محسنين قدر المستطاع ، وتشيع *خالتي بهيجة* العواد إلى الباب الخارجي شاكرة داعية مصرة هذه المرة على أن * الشيخ* كما تقول أيامه معدودة.

وصدق ظنها وظن ابنها ! مات الشيخ و لحقت به العجوز وبين موتهما زمن يسير وعاش الفتى بعد ذلك مع أخته و حيدين في صبر عجيب ، وفي كل زاوية من زوايا ذلك البيت المتهدم قرت الذكريات الحزينة وعششت الكآبة ولو أن أهل الحي كانوا يحسنون إليهما ويسألون عنهما إلا أن رحيل الوالدين أتى على استقرار نفسيتيهما وقضى على ما فيها من سكينة وأنس . انقطع الفتى عن الدراسة واحتاج الأخوان إلى من يرعى شؤونهما و يقوم على خدمتهما، حزما أمتعتهما ورحلا إلى قرية نائية مسقط رأس والدهما بإلحاح من الأقارب.

غادر جمال الحي فترك في نفسي ندوبا، وفي روحي وحشة وفراغا لم يستطع فتيان الحي ملأه على الرغم من اختلاطي بهم و لعبي الكرة معهم . وشاء الله للبنت أن تتزوج فبقي الفتى الذي أوشك أن يستقبل طلائع الرجولة وحيدا ، غير أنه في هذا الطور صار يأتي من الأمور أغربها تحاشى الناس و أهمل نفسه و ثيابه فهو يهيم على وجهه في البراري محدثا نفسه و ربما بات في العراء !كبر أكثر من سنة ، شنبه يوحي بذلك ولازم السعوط يحشو بها فمه حتى ليبدو أنه ورم.

والأعحب أنه احتفظ بعزة نفسه ظل يرفض إحسان الأقارب و يلقي بالطعام الذي يقدم إليه في الخارج ، حتى ألحت عليه النحافة ، وتقرحت معدته من فرط الجوع وأشرف على الهلاك! واليوم صار من عاداته أن يأتي إلى المدينة بثيابه الرثة، سترته البنية المغبرة و قد دس رجليه في بلغة واصطنع عصا لعلها عصا أبيه ، يقف أمام واجهات المحلات ناظرا متأملا متحدثا مع نفسه حينا آخر ، و ربما سمعت أحد المارين يعلق :
لله في خلقه شؤون !
وربما حمل على ظهره كيسا مملوءا بنبات*الشيح* و عرض عليك حزمة صغيرة دون أن يتذلل أو يروج لبضاعته فإذا أوشكت الشمس على المغيب عاد إلى ظاهر المدينة ينتظر سيارة أو حافلة تنقله إلى قريته النائية ، و ربما نسي نفسه ودجى الليل فظل بذلك المكان في ظاهر المدينة قابعا منتظرا سيارة في قيظ الصيف أو زمهرير الشتاء حتى الصباح !

و من عجيب أمره أنه لم ينس بلدته ولا أصحابه ،مازال يذكرهم بأسمائهم و يردد على مسامعك بعض الأشعار ، و مازال يذكر (النشار) و(بوسعدية) و ربما أبدى بعض المرح وتبسط في الحديث مع من يعرفهم و يذكرهم و لكن إلى حين .

[غمارى احمد]

مشكور أخي الكريم على روعة ألأدبية .....إنها معاناة ألانسان

[عماد ابو رياض]

هذا هو الانسان اخي العزيز ... كان الله في عونه ان صبر ظفر .. في دار الابتلاء والامتحان ...
تحياتي لك اخي العزيز على هذه العبارات
الادبيه الرائعه والمحزنــــــــه

[غمارى احمد]

شكرا للقصة الرائعة التي تحمل ما نحمل من ايات الجمال استعملت عبارات رائعة