من حكايات الحيوان في التراث القصصي العربي.
*****

قالت: إعلم أيها الملك أن ثعلبا وذئبا ألفا وكرا، فكانا يأويان إليه مع بعضهما، فلما لبثا على ذلك مدة من الزمان، وكان الذئب للثعلب قاهرا، فاتفق أن الثعلب أشار على الذئب بالرفق وترك الفساد، وقال له: إن دمت على عتوك ربما سلط الله عليك ابن آدم، فإنه ذو حيل ومكر وخداع، يصيد الطير من الجو، والحوت من البحر، ويقطع الجبال وينقلها، وكل ذلك من حيله، فعليك بالإنصاف وترك الشر والإعتساف، فإنه أهنأ لطعامك، فلم يقبل الذئب قوله، وأغلظ له الرد، وقال له: لا علاقة لك بالكلام في عظيم الأمور وجسيمها، ثم لطم الثعلب لطمة فخر منها مغشيا عليه، فلما أفاق تبسم في وجه الذئب، واعتذر إليه من الكلام الشين، وأنشد هذين البيتين:
إن كنت قد أذنبت ذنبا سالفا*
في حبكم وأتيت شيأ منكرا
أنا تائب عما جنوت وعفوكم*
يسع المسيء إذا أتى مستغفرا
فقبل الذئب اعتذاره، وكف عنه أشراره، وقال له: لا تتكلم فيما لا يعنيك تسمع ما لا يرضيك، فقال له الثعلب: سمعا وطاعة، فأنا بمعزل عن ما لا يرضيك، فقد قال الحكيم: لا تخبر عن ما لا تسأل عنه، ولا تجب ما لا تدعى إليه، وذر الذي لا يعنيك إلى ما يعنيك، ولا تبذل النصيحة للأشرار، فإنهم يجزونك عليها شرا، فلما سمع الذئب كلام الثعلب تبسم في وجهه، ولكنه أضمر له مكرا، وقال: لا بد أن أسعى في هلاك هذا الثعلب، وأما الثعلب فإنه صبر على أذى الذئب، وقال في نفسه: إن البطر والإفتراء يجلبان الهلاك، ويوقعان في الإرتباك، فقد قيل: من بطر خسر، ومن جهل ندم، ومن خاف سلم، والإنصاف من شيم الأشراف، والآداب أشرف الإكتساب، ومن الرأي مداراة هذا الباغي، ولا بد له من مصرع.
ثم إن الثعلب قال للذئب: إن الرب يعفو ويتوب على عبده إن إقترف الذنوب، وأنا عبد ضعيف، وقد ارتكبت في نصحك التعسيف، ولو علمت بما حصل لي من ألم لطمتك، لعلمت أن الفيل لا يقوم به، ولا يقدر عليه، ولكني لا أشتكي من ألم هذه اللطمة بسبب ما حصل لي بها من السرور، فإنها وإن كانت قد بلغت مني مبلغا عظيما، عاقبتها سرور، وقد قال الحكيم: ضرب المؤدب أوله صعب شديد، وآخره أحلى من العسل المصفى، فقال الذئب: غفرت ذنبك، وأقلت عثرتك، فكن من قوتي على حذر، واعترف لي بالعبودية، فقد علمت قهري لمن عاداني، فسجد له الثعلب، وقال له: أطال الله عمرك، ولا زلت قاهرا لمن عاداك، ولم يزل الثعلب خائفا من الذئب، مصانعا له.
ثم إن الثعلب ذهب إلى كرم يوما، فرأى في حائطه ثملة فأنكرها، وقال في نفسه: إن هذه الثملة لا بد لها من سبب، وقد قيل: من رأى خرقا في الأرض فلم يجتنبه، ويتوقى عن الإقدام عليه، كان بنفسه مغرا وللهلاك متعرضا، وقد اشتهر بعض الناس، يعمل صورة الثعلب في الكرم حتى يقدم إليه العنب في الأطباق لأجل أن يرى ذلك ثعلب فيقدم إليه، فيقع في الهلاك، وإني أرى هذه الثملة مكيدة، وقد قيل: إن الحذر نصف الشطارة، ومن الحذر أن أبحث عن هذه الثملة، وأنظر لعلي أجد عندها أمرا يؤدي إلى التلف، ولا يحملني الطمع على أن ألقي نفسي في الهلكة.
ثم دنا منها، وطاف بها وهو محاذر، فرآها فإذا هي حفيرة عظيمة قد حفرها صاحب الكرم ليصيد فيها الوحش الذي يفسد الكرم، ورأى عليها غطاء رقيقا، فتأخر عنها وقال: الحمد لله حيث حذرتها، وأرجو أن يقع فيها عدوي الذئب الذي نغص عيشي، فأستقل بالكرم وحدي، وأعيش فيه آمنا، ثم هز رأسه وضحك ضحكا عاليا...
(أنظر التتمة في كتاب ألف ليلة وليلة/الجزء الأول - دار صادر، بيروت - لبنان/ الطبعة الأولى، الصفحات: 308...314)
*****

د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com