الرد على الموضوع
صفحة 3 من 3 الأولىالأولى 1 2 3
النتائج 25 إلى 28 من 28

الموضوع: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

  1. #25 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    " الأخوة كــــــارمازوف "


    ظهرت " الأخوة كارمازوف" آخر روايات دوستويفسكي عام 1880 في جو الأزمة الثورية التي كانت تكتنف حياة روسيا في تلك الفترة التي واكبت عمر غروب شمس الإقطاع في روسيا وزوال نظام القنانة وشهدت نهضة كبرى للحركة التحريرية الشعبية. وتكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" أهمية خاصة بين روايات دستويفسكي الأخرى لكونها جاءت خلاصة لفكر الكاتب الاجتماعي الأخلاقي والفلسفي الديني.

    وينقسم عرضنا لهذه الرواية إلى ثلاثة أجزاء: نتناول في الجزء الأول عرضنا لأهم أفكار الرواية وأحداثها، أما الجزء الثاني فسنتناول فيه أهم الشخصيات في الرواية، وفي الجزء الأخير نعرض لأهم الخصائص الفنية "للأخوة كارمازوف".

    1- أهم الأحداث والأفكار:

    تركزت الأحداث الرئيسية لرواية "الأخوة كارمازوف" حول جريمة قتل الإقطاعي العجوز فيودر كارمازوف التي تثير جريمة قتله حيرة شخصيات الرواية وكذا القارئ. بيد أن دستويفسكي يضلل الجميع حين يجعل أصابع الاتهام تشير نحو الابن الأكبر للإقطاعي وهو ديمتري، فجميع الدلائل والقرائن كانت ضده وتؤكد أنه وحده القاتل: فديمتري يتنازع مع أبيه بخصوص ميراثه عن أمه، والأب والكهل وابنه يتنافسان على حب المرأة اللعوب جروشنكا، ويصل بهما الاصطدام إلى حد العراك واعتداء ديمتري على ابيه بالضرب وتهديده إياه بالقتل أمام الكثيرين، وخلاف ذلك من القرائن التي تجعل الشرطة تجزم بذنب ديمتري وتعتقله بتهمة قتل والده ويساق إلى المحكمة.

    بيد أن القاتل الحقيقي للأب كارمازوف والذي يظل مجهولا للشرطة حتى نهاية الرواية يظهر فجأة أنه الخادم والابن غير الشرعي للأب فيودر كارمازوف والمدعو في الرواية سمرد ياكوف، والذي ينتحر شنقا. لكن سمردياكوف قبل أن ينتحر نجده يعترف للابن الأوسط لآل كارمازوف وهو إيفان بجريمته، ولكنه يصرح له في اعترافه بجملة تقلب الأوضاع على أعقابها، حين يقول له: "إن القاتل الرئيسي هو أنت، أنت وحدك! أما أنا فلست إلا مساعد قاتل، معاونا ثانويا، رغم أنني قتلته. أما أنت فإنك القاتل الشرعي..."

    ويضيف سمردياكوف عند هذا القول مفسرا بأنه حين قتل الأب فيودر كارمازوف، فإنه قد فعل ذلك بوحي من أفكار إيفان القائلة بأن " كل شيء مباح، فمادام الإله الذي لا نهاية له غير موجود فالفضيلة إذن لا جدوى منها ولا داعي لها".

    وهذه الكلمات تذكر القارئ بكلمات شبيهة تردد ذكرها أكثر من مرة في الرواية، الشيء الذي يشجع القارئ على استعادة استيعاب ما قرأه بغية التوصل إلى ما وراء هذه الكلمات التي تبرز كمفتاح لبعض أفكار الرواية. لقد ترددت فكرة إيفان هذه في أكثر من موضع في الرواية، ولعلها ذكرت أول مرة في الجزء من الرواية الذي يحمل العنوان "اجتماع في غير محله"، حين تطرق الحديث في الدير بحضرة الابن الأصغر لآل كارمازوف وهو اليوشا إلى مقال منشور لإيفان يلخص فيه أفكاره التي ترفض وجود الله ووجود الخلود ويؤكد بأنه "لا فضائل بغير إيمان بخلود الروح، كل شيء مباح إذا لم نؤمن بخلود الروح"
    إن هذه "الفكرة" التي تذكرنا "بفكرة" رسكولينكوف في رواية "الجريمة والعقاب" تلعب هنا أيضا في رواية "الأخوة كارمازوف" وكما يبرزها الكاتب دور المحرك الرئيسي لجريمة سمرد ياكوف تلميذ وتابع إيفان. فالجريمة هنا بمثابة تجربة علمية في يدي إيفان لنظرية " كل شيء مباح"..

    وعليه فتصوير جريمة القتل هنا، ومثلما في رواية "الجريمة والعقاب" لا يعد هدفا للكاتب في حد ذاته، بل لا يتعدى كونه غلافا تتستر خلفه الأفكار الرئيسية للرواية، والتي سنحاول أن نلخص أهمها:

    أولا: جاء اختيار الكاتب لشخصية سمرد ياكوف بالذات كي يكون هو القاتل، جاء مرتبطا برغبة الكاتب في توضيح مفهومي: الإيمان ودوره في حياة الإنسان، والجريمة والظروف.. فمن جهة كانت الملابسات المتعلقة بجريمة قتل الأب تؤكد أن القاتل سيكون الابن الأكبر ديمتري الذي توجه فعلا- وكما روى في التحقيق- وفي نيته قتل أبيه، لكن فجأة حدثت "معجزة" أمسكت ديمتري عن الجريمة، أو كما قال هو نفسه: إن الله قد "حرسه" ويظهر بعد ذلك أن القاتل الحقيقي أي سمرد ياكوف هو شخص بعيد عن الشبهات، وكان هذا الشخص حر الإرادة في تنفيذه للجريمة، ولكن لم تحدث معه "معجزة" شبيهة بتلك التي حدثت مع ديمتري، لأن القاتل ملحد والله "لا يحرس" أمثاله، فالبعث الطيب للروح الإنسانية، كما أبرزه دستويفسكي ممكن فقط في وجود الإيمان وبهذه الفكرة نفسها عارض الكاتب شرطية الجريمة بالظروف المحيطة والبيئة، وأكد بوجود إرادة الإنسان الحرة وتدخل "المعجزات"، والقوى الغيبية عند حدوث الجريمة.

    ثانيا: هاجم دستويفسكي بشدة وذلك من خلال العرض التفصيلي للمحاكمات الخاصة بالجريمة والتي انتهت بالحكم ظلما على الابن الأكبر البريء ديمتري بالأشغال الشاقة لمدة عشرين عاما، هاجم الكاتب المحاكم القائمة التي تستند على الأدلة الشكلية، ولا تبحث عن الظروف الخاصة بالمتهم، ولا تأخذ في الاعتبار الظروف الاجتماعية والنفسية الظاهرة والخفية التي تتعلق بالجريمة، ورفع الكاتب شعار المحكمة الدينية الكنائسية كبديل للمحاكم السائدة.

    ثالثا: أبرز الكاتب دراما مقتل الأب كانعكاس لدراما اجتماعية وفكرية أعمق يعيشها المجتمع الروسي في عصر زوال النظام الإقطاعي النبيل، فدستويفسكي في آخر رواياته لم يكن يهتم بتصوير الموضوعات الخاصة قدر اهتمامه بالظواهر العامة للحياة الاجتماعية المعاصرة وبمصير بلاده.
    فمن جهة أبرز الكاتب من خلال حياة آل كارمازوف صورة للحرب المكشوفة الدائرة بين أفراد العائلة النبيلة التي يسودها الكره والأنانية، ويتفاقم فيها العداء إلى حد قتل الأب الذي يرمز مصرعه في الرواية إلى سقوط الركائز القديمة داخل العائلة النبيلة. ولذا فإنه ليس من قبيل الصدفة أن يشير الكاتب في أكثر من مكان في الرواية على نمطية آل كارمازوف، وإلى أن آل كارمازوف هم ظاهرة كاملة في الحياة الاجتماعية. فالكاتب على سبيل المثال يشير على ذلك على لسان وكيل النيابة أثناء التحقيق في الجريمة حين يقول: " ما الذي تمثله في الواقع أسرة كارمازوف هذه التي اكتسبت في روسيا كلها-بين عشية وضحاها-شهرة حزينة كهذه؟ قد تظنون أنني أبالغ كثيرا، ولكني أحسب أن صورة هذه الأسرة تعكس بعض العناصر الإنسانية العامة التي يتسم بها مجتمعنا المثقف المعاصر، صحيح أنها تعكسها مصغرة تصغيرا ميكروسكوبيا "كما تعكس الشمس قطرة ماء"، ولكننا نجد فيها قبسات ذات دلالة".

    ومن هذا الشمول تكتسب رواية "الأخوة كارمازوف" قوة نقدية ضخمة وتبرز كاتهام صريح للواقع الذي أفرز ظاهرة "كارمازوف" وهو ما يشير إليه الكاتب أيضا على لسان الراهب راكيتين ( أهم الشهود في التحقيق )، فدستويفسكي يصف كيف أن راكيتين أثناء التحقيق، قد "صور الدراما التي أدت إلى الجريمة على أنها ثمرة عاداتنا وأخلاقنا المتخلفة، وثمرة نظام القنانة، وثمرة الفوضى التي تسيطر على بلادنا-روسيا- التي تعاني شقاء كبيرا وتفتقر إلى أنظمة لا غنى عنها".
    ومن جهة أخرى فقد عكس الكاتب- من خلال تصوير مأساة قتل الأب- دراما الفكر التي كان يعيشها جزء كبير من الشباب الروسي في تلك الآونة، جزء سقطت المقاييس الأخلاقية في نظره ومن وعيه نتيجة تأثره بأفكار شريرة فوضوية تعتقد بأن "كل شيء مباح" وإلى جانب الأفكار التي أشرنا إليها، فإن دوستويفسكي ومن خلال الجدل الفلسفي العنيف، الذي بسطه من خلال شخصيات رواياته قد تطرق للعديد من القضايا الدينية والأخلاقية والفلسفية القومية والعامة، فشخصيات روايته تتجادل حول وجود الله، وطبيعة النفس البشرية وصراع الخير والشر بالإنسان، ومسئولي الإنسان الأخلاقية تجاه آلام المحيطين، والقوى التي تستطيع أن تقود الحياة الاجتماعية وخلافه من الموضوعات، ودستويفسكي حين يتطرق في روايته لهذه الموضوعات فإنه يقابل في الرواية بين فكرين متعارضين ومتجادلين سائدين في غضون تلك الفترة: فكر ديني مسيحي يبشر بالاشتراكية الطوباوية ويرفع شعارات المعاناة الروحي كسبيل للتغيير، وهو الذي يتبناه في الرواية الراهب العجوز زوسيما وأتباعه وعلى رأسهم أليوشا كارمازوف، وفكر آخر مناقض يرفض الدين ويحض على الثورة واستخدام العنف لتغيير الواقع الاجتماعي، ويتبناه في الرواية إيفان كارمازوف والخادم القاتل سمرد ياكوف.
    ودستويفسكي حين يرسم سقوط وفشل فكر إيفان الذي انتهى بصاحبه في النهاية إلى الجنون، وأدى إلى انتحار سمرد ياكوف ومصرع الأب، فدستويفسكي بذلك إنما يعبر عن رفضه للفكر الاشتراكي الثوري الجديد الذي كان يتعارض مع وجهة نظر الكاتب الذي يعتقد بأن الطريق إلى التجديد، إنقاذ البشرية ممكن من خلال التصحيح لكل روح إنسانية على حده على شاكلة المسيح، وهو ما كان ينادي به الراهب زوسيما. لهذا السبب نجد دستويفسكي يجعل الفكر الديني المسيحي أساسا للنشاط العملي لأليوشا كارمازوف وكذلك أساس للبعث الروحي الأخلاقي لديمتري كارمازوف وحظيته جروشنكا، ومجموعة "الأولاد" الذي رمز الكاتب بهم على جيل المستقبل.


    .
    .
    .
    .
    يتبــــع.. (أهـم الشخصيـات)



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  2. #26 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    أهــــم الشخصيــــات:

    تميزت رواية " الأخوة كارمازوف" بتعدد شخصياتها، فرغم أن الخطوط الرئيسية للمضمون تتركز حول تصوير مصير آل كارمازوف ، أي الأب الإقطاعي فيودر كارامازوف وأبناءه الثلاثة ديمتري وإيفان وأليوشا. إلا أن هذا التركيز لم يحل دون تصوير مصير العديد من الشخصيات الأخرى التي لعبت دورا هاما في إبراز الخط الفكري للرواية وذلك مثل شخصية الراهب العجوز زوسيما، وشخصية سمرد ياكوف الابن غير الشرعي لكارامازوف وخادمه في ذات الوقت، أو الشخصيات ذات المرتبة التالية مثل شخصيتي كاترينا إيفانوفنا خطيبة ديمتري، وجروشنكا المتنازع على حبها كل من الأب كارامازوف والابن ديمتري، وخلافهما من الشخصيات الأخرى.
    وقد اهتم دستويفسكي بتصوير طابع ومصير كل من هذه الشخصيات وغيرها على حده، وفي الوقت نفسه فقد كان لكل من هذه الشخصيات التي تتشابك بشكل أو بآخر مع آل كارامازوف دورها في كشف بعض ملامح شخصيات آل كارامازوف..

    وتأتي صورة الأب فيودر كارامازوف التي أكد الكاتب نمطيتها حين أشار من خلال كلمات وكيل النيابة التي قال فيها: "يجب أن لا ننسى أن هذا الأب من معاصرينا. أتقولون أنني أهين المجتمع إذا زعمت أنه واحد من عدد كبير من الآباء المعاصرين! واأسفاه ما أكثر الآباء الذين لا يمتازون عليه في عصرنا هذا!".
    تأتي صورته تجسيدا لأسوأ ما في الطبقة الإقطاعية من سمات، فهو غارق في الفسق والسكر والفجور، يعميه الجشع والشهوة عن كل ما هو إنساني، وتمتلئ نفسه بالكذب والخداع والأنانية العمياء، وهو لا يأبه بأحد، ولا يعنيه في الحياة سوى إشباع رغباته وملذاته المادية، إنه – كما يصفه الكاتب-إنسان "شاذ" "وعجيب" "وتافه".

    تزوج فيودر كارامازوف مرتين، تزوج في المرة الأولى من امرأة غنية، وكان يعيش معها حياة تعسة تمتلئ بالمشاكل والمشاحنات، واستولى على جزء كبير من ثروتها، وبعد أن أنجبا ابنهما ديمتري بثلاث سنوات فرت هاربة مع طالب فقير، وقد توفيت بعد فترة قليلة من هروبها. وبعد موتها حول الأب فيودر كارامازوف بيته إلى مكان للفسق والفجور، وأهمل أمر ابنه ديمتري، الذي انتقل بعد رحيل أمه إلى رعاية خادم وفي أمين يدعى جريجوري. وتزوج فيودر كارامازوف للمرة الثانية من شابة على درجة كبيرة من الجمال، إلا أنه لم يكف بعد زواجه الثاني من خلاعته وفجوره، ولم يراع أدنى درجات اللياقة في علاقته بزوجته الثانية، فكان يأتي بالنساء الساقطات على مرأى ومسمع منها إلى بيت الزوجية. أنجب الأب فيودر كارامازوف من زوجته الثانية ابنيه إيفان وأليوشا اللذين فقدا أمهما، ومازال أصغرهما يبلغ من العمر أربعة أعوام، بعد أن مرضت بمرض عصبي شديد، كانت تنتابها خلال هذا المرض نوبات من الهستريا والهذيان، وبعد موتها انتقل ابناها مثل أخيهما الأكبر على حضانة الخادم جريجوري.

    بيد أن الأب فيودر كارامازوف ورغم ما كان يعيشه من حياة كلها فسق وفجور، ورغم إهماله أمر أولاده الثلاثة، غلا أنه مع ذلك لم يهمل تنمية ثروته، التي تضاعفت مع السنين، فهو من هذه الزاوية إقطاعي حاذق ورجل أعمال "ماهر" لا يتورع عن استغلال ابنه وعن استخدام أساليب العنف في إدارة الفلاحين، وذلك لأنهم في رأيه: "أوغاد أوباش، لا يستحقون الشفقة".
    وبالإضافة على ذلك ففيودر كارامازوف يبرز كنصير ومؤيد لنظام القنانة فهو يقول: "إنه شيء رائع يشحذ العزيمة أن يعرف المرء أنه سيبقى إلى الأبد في هذا العالم سادة وخدم".

    أما ديمتري أكبر الأبناء، فبعد فترة من رعاية الخادم جريجوري له تنقل للعيش عند بعض أبناء عمومة أمه، وقضى فترة المراهقة والشباب المبكر على نحو مضطرب يعوزه الاستقرار، ولم يتمكن من إنها دراسته في المدرسة الثانوية، والتحق بعد ذلك بمدرسة عسكرية أرسل بعد تخرجه منها إلى القوقاز، غلا انه تورط هناك في مبارزة عوقب بعدها بالحرمان من رتبته، وبالطبع فقد كانت علاقة ديمتري بوالده شبه منقطعة، وكانت أول مرة يشاهد فيها ديمتري والده-وحسب وصف الكاتب- " بعد بلوغه سن الرشد، حين قدم عمدا إليه للتفاهم مع بخصوص ممتلكاته".
    وقّع ديمتري مع والده اتفاقا يقضي بأن يرسل له والده ريع أرضه التي ورثها عن أمه تباعا، ولكن الأب قد أضمر بينه وبين نفسه خداع ابنه والاستيلاء على ثروته باحتساب الريع الذي يرسله له كثمن لبيع أجزاء من ميراثه وجن عقله، وكان الموضوع-كما أشرنا آنفا-أحد اسباب خلافه مع والده.

    ورث ديمتري عن أبيه بعض "الطيش" وعدم القدرة على جمح الشهوات والاندفاع وراء الرغبات الحسية والملذات والمتع الدنيوية، لكن ديمتري-خلافا لوالده الذي كان يمتلئ قلبه بالشر والجبن- كان يتحلى بقلب طيب ويتمتع بكبرياء وعزة نفس. وديمتري أيضا إنسان متقلب المشاعر، سهل الاستثارة، فهو يهجر خطيبته الجميلة الرقيقة كاترين إيفانوفنا التي تحبه حبا صادقا، ويندفع وراء المرأة المجرية جروشنكا محبوبة أبيه، وديمتري-كما أشير آنفا-يتهم ظلما بقتل أبيه، ويحكم عليه بالأشغال الشاقة عشرين عاما بعد ثبات الأدلة الشكلية ضده وبعد أن قدمت خطيبته السابقة-التي كانت تأكلها الغيرة على حبه للمرأة الأخرى- على المحكمة خطابا، كان قد أرسله غليها بخصوص دين من المال يجب عليه سداده لها، وأخبرها في هذا الخطاب نفسه بأنه سيحصل على المال بأي ثمن، حتى لو كلفه ذلك قتل أبيه.

    بيد أن ديمتري وبتأثير المحنة التي يقع فيها، تحدث بروحه عملية "تحول كبيرة" تحرر الإنسان الذي كان "حبيسا" بداخله، وتجعله يتقبل عقوبة جريمة لم يقترفها، لأنه رأى في هذا تكفيرا عن ذنوب أخرى صغيرة ارتكبها طوال حياته، لذا فقد قرر أن " يعاقب نفسه بنفسه" كي يصبح "إنسانا آخر".

    ورغم ما كان ينتظر ديمتري من سنوات شاقة ومؤلمة في السجن، إلا أن ذلك لم يفقده التفاؤل والإيمان بالمستقبل، ذلك الإيمان الذي يثير دهشة أخيه الأصغر أليوشا الذي يقول عن ذلك مندهشا لكاترينا إيفانوفنا: "رجل محكوم عليه بالسجن عشرين عاما ويريد أن يكون سعيدا! أليس هذا مما ستحق الشفقة"
    إن الطريق الذي يعبر بديمتري إلى "الحقيقة" في الرواية هو طريق البعث الديني والكمال الروحي، حقيقة أن ديمتري قد رادته فكرة الهرب من العقوبة إلى أمريكا، ولكن ديمتري الذي يقدس ويحب وطنه حبا جنونيا أكد في ذات الوقت أنه في حالة ما إذا هرب فإنه مع ذلك سيدين نفسه، ويكفر عن الذنب طوال حياته في البلد الذي سيلجأ إليه، وأنه إذا ما هرب فهو يهرب وكما قال لأليوشا عن ذلك "لا لكي أفرح وأسعد، وإنما أهرب لألقي نفسي في سجن آخر مختلف عن السجن الذي كنت سأودع فيه هنا، ولكنه سجن على كل حال، سجن يعادل السجن هنا أو أسوا منه" ( يقصد العيش خارج الوطن).

    .
    .
    .
    ووووووووو يتبـــع :)



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  3. #27 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18

    إيفان كارامازوف الابن الأوسط لآل كارامازوف:

    تربى ونشأ هو الآخر بعد وفاة أمه ( الزوجة الثانية للأب فيودر كارامازوف) في أسرة غريبة، وعانى منذ الطفولة المبكرة من قسوة الأب وجفائه. نشأ إيفان لذلك متجهما منطويا، لكنه كان ميالا للعلم والدراسة، وحين التحق بالجامعة اضطر للعمل والدراسة في ذات الوقت وذلك لأنه كان يلاقي صعوبات مادية في سد احتياجاته الدراسية، كان إيفان يعطي بعض الدروس في المنازل لقاء أجر زهيد، كما كان يكتب بعض المقالات السيارة للصحف والجرائد اليومية. وتعتبر شخصية إيفان أحد أهم الشخصيات في الرواية، رغم أنه لا يقوم بالاشتراك مباشر في الأحداث، وذلك لأن إيفان وكما ذكرنا معلم وموجه سمرد ياكوف القاتل.

    وعلى عكس الابن الأكبر ديمتري ذي الطبيعة الفطرية الجياشة، فإن إيفان ذو طبيعة شاكة باردة وعقل تحليلي يتأمل الواقع في عمق. وإيفان ملحد يرفض وجود الله، ووجود الخلود..لكنه ينادي بشعارات الحب للإنسانية، ويبدي استنكاره واحتجاجه على وجود اللا عدالة والظلم والاضطهاد، وهو يخص بالتأمل عالم الأطفال، وهو ما نلمسه من حديثه مع أخيه أليوشا الذي يقول له: " لقد كان في نيتي أن أحدثك عن آلام الإنسانية عامة، ولكنني أحسب أنه من الأفضل أن نقصر الحديث على آلام الأطفال وحدهم. ولئن كان ذلك سيضعف حجتي بتسعة أعشار دلالتها، فإنني أظل أرى أن هذا أفضل. لسوف تكون المناقشة أقل مواتاة لي بطبيعة الحال ولكن الأطفال يمتازون على الأقل بأن المرء يستطيع أن يحبهم من قرب مهما تكن وساختهم ودمامتهم".
    ولكن هل كان إيفان صادقا في دعاويه وأفكاره الإنسانية؟ أم كانت مجرد أفكار نظرية لا تنبع عن إيمان وعقيدة وما هو الدور الحقيقي لإيفان في مقتل الأب كارامازوف؟

    كان إيفان شاهد عيان للمشادة التي حدثت بين الأب والابن ديمتري وهي المشادة التي اعتدى فيها ديمتري على أبيه وهدده بالقتل، وكان إيفان يشعر بإمكانية حدوث الجريمة،، وهو لهذا نجده يقطع على نفسه وعدا لأخيه الصغير أليوشا بأنه لن يسمح بحدوث هذه الجريمة، لكن في اليوم التالي رحل إيفان عن البيت، وكما لو كان نسى تماما ما قاله لأخيه في هذا الشأن، وكما لو كان "يتمنى" حدوث الجريمة..
    وبعد الجريمة، ورغم أن إيفان يظن أن القاتل ليس أخاه المعتقل بل الخادم سمرد ياكوف الطليق، إلا أنه يصمت عن الشهادة بذلك، وعن الإدلاء بمعلومات تظهر القاتل الفعلي، وكما لو يريد أن يظل القاتل أمام العدالة أخيه ديمتري، ولكن ما سبب موقف إيفان هذا من أخيه ديمتري؟
    إن الكاتب يشير على كراهية وحقد إيفان على أخيه حين يعلق على مشاعر إيفان تجاه أخيه إذ يقول:"إنه كان يكرهه كرها حقيقيا ولا يشعر نحوه بنوع من شفقة غامضة إلا في القليل النادر، وهي شفقة ترتبط باحتقار عميق يبلغ حد الاشمئزاز. لقد كان إيفان يشعر دائما بنفور نحو ميتيا ( تصغير ديمتري) وكان ينفر حتى من شكله ويسوءه ما تحمله كاترينا إيفانوفنا لهذا الشاب من حب".
    لم يكن إيفان يكره أخاه فقط بل كان يكره والده أيضا، وهو لهذا تركه عمدا بلا حراسه، وحرض سمردياكوف بطريق غير مباشر على قتله، وهذا ما أكده سمرد ياكوف نفسه في حديثه مع إيفان بعد الجريمة. وهذا الكره من جانب إيفان لأبيه وأخيه يبدو طبيعيا إذا ما أمعنا النظر في كلماته عن حب الأقربين، والتي يقول فيها: " إنني لم أستطع في يوم من الأيام أن أفهم أن يحب المرء الناس القريبين منه. ففي رأيي أن أقرب الناس إلينا يصعب علينا أن نحبهم أكثر مما يصعب علينا أن نحب غيرهم. إن الإنسان لا يحب إلا من بعد".

    إن مشاعر إيفان تجاه أقرب الناس غليه وتصريحه هذا تبدو في تناقض مع أفكاره عن الحب العام للإنسانية فكيف يستطيع الإنسان أن يحب الناس عامة إذا كان لا يستطيع ولا يقوى على حب الأقربين؟! وعليه فإن أفكار وكلمات إيفان عن الحب العام تبدو مجردة ولا تنم عن إيمان.
    وهنا يلمح الكاتب إلى أن جذور الكراهية والأنانية والكبرياء في نفس إيفان ترتبط بفقدان الإيمان بوجود "الله والخلود". فمادام الإنسان قد سمح لنفسه بالاعتقاد بعدم وجود الله فإنه سيسمح لنفسه بأي شيء آخر، ومن هنا تنبع نظرية " كل شيء مباح" كما أوضحها دستويفسكي. إن دستويفسكي يخصص فصولا كاملة من ورايته ( بالذات الفصلان اللذان يحملان العنوانين "التمرد" و "المفتش العظيم" ) لرسم أبعاد رفض إيفان للدين والتي يبرزها في ارتباط وثيق مع افكاره الفوضوية التي ترفض النظم الاجتماعية والحكومية والكنسية، والتي تسخر من عادة الناس الذين لا يملكون توجيه مصيرهم.

    إن فكر إيفان لا يؤدي إلا إلى الشر والكوارث....، ولكن الشر في روح الإنسان هو عامل متغير بفعل الزمان والمكان، أما الخير فهو أكثر أصالة وأكثر بقاء، والغلبة له دائما.

    ولهذا السبب فإن إيفان بعد أن يسمع بتصريح سمرد ياكوف، ويتأكد من دوره في الجريمة وتبعاتها، تنتابه آلام نفسية رهيبة، وتتملكه حمى وهذيا ويدخل إيفان "الخير" في صراع مع إيفان "الشر"، مع ذلك الشيطان الذي كان يتفق معه في "فلسفة واحدة" والذي كان يحاول جاهدا أن يخمد به كل ما هو طيب ومضيء، لأن "الشيطان" هو تجسيد لكل ما هو قذر وعفن وكريه بداخل نفس الإنسان، إن إيفان بعد أن اكتشف شر " الشيطان" بداخله يحاول الخلاص منه والتحرر من سلطانه، والكاتب يصور لنا هذا الصراع في فصل كامل في روايته أسماه "الشيطان، كابوس إيفان فيودرفيتش".

    إن إيفان يحاول أن يكفر عن بعض إثمه بالإدلاء بشهادة تحول من سير المحاكمة، لكن حالة الهذيان والهزال التي كان عليها جعلت المحكمة تعتقد أنه يهذي، وهو يحاول أيضا أن يرتب الأمور لهرب أخيه على أمريكا، لكن عذاب الضمير كان أقوى من قدرة احتمال إيفان مما يؤدي به على الجنون.

    أليوشا كارامازوف:

    الابن الأصغر لآل كارامازوف، إنه تجسيد للصورة المشرقة التي شاهد فيها الكاتب جيل المستقبل،فقلبه "يفيض بحب البشر" منذ الطفولة المبكرة، وهو قادر على بعث حب ومودة كل من يقابله. نشأ أليوشا شابا منعزلا، كتوما كثير التأمل، لكنه كان صافي النفس عذب الروح كثير العطاء. كان اليوشا ينفق كل ما يقع في يديه من أموال على أعمال الخير، فقد كان زاهدا في الحياة الدنيا، عزوفا عن المسرات. تميز اليوشا هو الآخر بالروح الباحثة عن "الحقيقة" لكن اليوشا-على عكس أخيه ايفان الملحد- كان يؤمن بوجود الله، وبوجود "الخلود". قدم اليوشا هو الآخر فجأة وبعد انقطاع طويل لزيارة أبيه الذي تربى بعيدا عنه كبقية إخوته، وفجأة قرر اليوشا أن يتوجه إلى الدير، لأنه أحس بأنه تنتظره "غاية سامية" ولأنه كان " لا يعرف آنذاك، ولم يكن يستطيع بأي حال أن يشرح تلك القوى التي دبت فجأة في كيانه ثم صعدت إلى سطح نفسه فدفعته دفها لا سبيل على مقامته في هذا الطريق الجديد الذي كان يجهله ولكنه لا يملك أن يتجنبه".

    تعرف اليوشا في الدير على الراهب العجوز زوسيما، الذي أحبه حبا جما وتأثر بشدة بأفكاره، لكن الراهب العجوز بعد أن يختبر اليوشا ينصحه بمغادرة الدير قائلا له:"اعلم يا بني العزيز جدا بأن مكانك ليس هنا بعد اليوم.. اترك أنت هذا الدير، واذهب، اذهب تماما..إن مكانك ليس هنا بعد، إنني أبارك بدايتك العظيمة ف هذا العالم. إذ سيتحتم عليك بعدُ التجوال كثيرا".

    لقد أدرك الراهب العجوز المحنك أن حب اليوشا للدير وللحياة به هو حب "رومانسي" حالم، تنقصه التجربة والخبرة بالحياة، والإيمان بالله يصبح مقنعا وحقيقيا حين يكون نتيجة "لتجربة الحب العملية"، الحب القائم على النشاط والعمل، وهي التجربة التي يبدو أن اليوشا غير مستعد لها بعد، والراهب لذلك ينصح اليوشا قائلا:" ابحث عن الفرح والحزن، اعمل، اعمل بلا هوادة".

    إن كلمات الراهب العجوز هذه تثير "حيرة" اليوشا "وخجله" وأيضا "رعبه" فقد كان اليوشا يحب الراهب العجوز حبا جما، ولا يتصور أن يعيش "دون أن يراه ويسمعه". ومن ذلك فإن اليوشا يطيع أمر معلمه ويخرج إلى الحياة.

    ويبدأ عذاب اليوشا مع خروجه من الدير واحتكاكه بالناس. وتتبدل أمام اليوشا صور وقصص من هذا العالم تملأ قلبه بالحزن والألم والعذاب وتبعث الشك في إمكانية الحب الإلهي "اللانهائي"، فالعالم مملوء "بالظلام والإثم" والآثمين. واليوشا يقع فريسة للأغراء والتضليل.

    بيد أن " شك" اليوشا، كان في الجوهر، يرتبط بظرفين؟ أولهما مناقشات وجدال اليوشا مع أخيه ايفان الملحد، وثانيهما الحادث "الغريب" الذي حدث بعد موت الراهب العجوز زوسيما إذ سرعان ما تعفنت جثة الراهب بعد موته وصدرت منها رائحة كريهة، فاعتبر هذا الحادث بمثابة إهانة سماوية للشيخ القديس، فالقديسون لا تعفن جثثهم على هذا النحو وبدا لأليوشا أن ما حدث مع الراهب العجوز هو انعكاس "للعدالة السماوية"، وخذلان للقديس.

    لكن "شك" و "إغراء" اليوشا ليس مرجعهما هذان الظرفان فقط. بل- وكما ألمح الكاتب-هناك كذلك عامل الوراثة، فأليوشا هو أيضا كارامازوف، "ولا بد أن نؤمن بأن للعرق والوراثة أثرا رغم كل شيء".، ويعبر اليوشا طريقا طويلا ومضنيا وراء "الحقيقة" التي يجدها أخيرا في العذاب والمعاناة وفي تقبل عذاب وآلام الآخرين، وفي الوحدة والالتحام مع الجميع بما في ذلك " الآثمين" أنفسهم، ومن خلال هذا التآلف يمكن التغلي على التناقض بين حب الله وحب الناس.

    الراهب العجوز زوسيمــا:

    تبرز تعاليم الراهب العجوز زوسيما الأب الروحي والمعلم للابن الأصغر لآل كارامازوف اليوشا في تناقض وتضاد مع شخصية وفكر ايفان كارامازوف الذي يخلط الكاتب بينه وبين ممثلي الفكر الاشتراكي الثوري.
    ودعاوى الراهب زوسيما هي في الواقع تفسيرات ومفاهيم عن الحياة والواقع مناقضة لتلك التي قدمها ايفان. ودستويفسكي كي لا يخلع على صورة الراهب وتعاليمه شكلا تجريديا نجده يبسط حياة الراهب الشخصية أمام القارئ مثلها مثل بقية شخصيات الرواية، فنحن نتعرف على ملامح الطفولة وصبا وشباب الراهب، وأهم ذكريات حياته التي سبقت انضمامه إلى الدير وذلك من خلال ما يرويه الراهب نفسه لتلاميذه في الدير عن نفسه، بيد أنه من الواضح أن أكثر ما يعني الكاتب في شخص الراهب هي تعاليمه التي يخصص لها فصولا من روايته والتي كان أهمها الفصل الذي حمل العنوان " بعض التعاليم التي عبر عنها الأب زوسيما في أحاديثه". وسنحاول هنا أن نلخص بعض هذه التعاليم والأفكار:

    وتعاليم الراهب زوسيما، وبشكل عام تبرز كظاهرة جديدة في حياة الدير، وهي لهذا السبب لا تثير تعاطف ورضاء أنصار الكنيسة التقليدية القديمة، ولهذا السبب فإن الكاتب يصور الراهب محاطا بالأتباع والمحيطين وأيضا بالراضين والأعداء. إن أكثر ما يلفت النظر في تعاليم الراهب هو رفضه ومهاجمته للفكر الثوري الجديد في روسيا الذي لا يرى فيه سوى جانبه المادي الرافض للروح والأديان، وهو لهذا السبب يستنكر أن يكون لهذا الفكر دور الريادة في المجتمع فهو يقول:" انظروا إلى العلمانيين هؤلاء الذين يعيشون في المجتمع ويعدون أنفسهم أعلى من رجال الدين، ألم يدنسوا نفوسهم ويخونوا الحقيقة الإلهية، هم الذين خلقوا على صورة الرب، إنهم يملكون العلم، ولكن العلم لا يعرف إلا ما تدركه الحواس أما الكون الروحي، أما العنصر الأسمى في الطبيعة الإنسانية، فقد رضوه ونبذوه".
    ومن هذا المنطلق فإن الراهب زوسيما يعتبر كل دعاوى الفكر الجديد عن الحرية مجرد "إباحية".

    إن قدرة الإنسان على التعرف على الكون ووعي أسراره، في رأي الراهب هي قدرة محدودة، ولذا فإنه يرفض ويستنكر رأي العلمانيين الماديين الذين يرون بأن معرفة الإنسان بالكون لا نهاية لها: "هناك أشياء كثيرة تبقى خافية عنا في هذا العالم، ولكننا في مقابل ذلك قد أوتينا معرفة الحياة الأخرى والصلات التي تربطنا بعالم أعلى وأفضل، والجذور العميقة لعواطفنا وأفكارنا إنما تمتد في السماء لا في الأرض على كل حال. لذلك ليعلم الفلاسفة أن ماهية الأشياء لا يمكن إدراكها في هذه الحياة الدنيا".

    إن الإنسان -في رأي الراهب- لا يحق له أن ينتقم أو حتى ضد ظلم أخيه الإنسان، فالعنف لا يؤدي إلا إلى العنف، ولهذا فإن الراهب يهاجم شعارات الثورة التي ينادي بها الفكر الجديد كسبيل لتغيير الظلم الاجتماعي: "إنهم يأملون أن يقيموا العدالة في هذا العالم، ولكنهم قد رفضوا المسيح فسوف ينتهي بهم الأمر إلى إشعال الحرائق وسفك الدم في كل مكان، لأن العنف يستدعي العنف، ومن يشهر السيف يهلك بالسيف".

    وكذلك يرفض الراهب أسلوب القصاص كوسيلة للانتقام من الخارجين على القانون والمذنبين، لأنه لا يجوز للإنسان أن يحكم على قرينه الإنسان، فما "من أحد يستطيع أن يجعل نفسه قاضيا على مجرم قبل أن يدرك أنه- وهو القاضي-لا يقل إجراما عن الجاني الماثل أمامه". وبديلا عن الفكر الاشتراكي الثوري الجديد فإن الراهب زوسيما يقدم تصوراته حول مشاكل الواقع وكيفية تغييره مستندا في ذلك على الفكر الديني المسيحي ودعاوي الاشتراكية الطوباوية:

    سيكون الخلاص من المشاكل والظلم الاجتماعي على يد رجال الدين المتحدين مع الشعب، وليس على يد الثوار،كما يدعون، "فروسيا المقدسة إنما سينقذها مرة أخرى في يوم من الأيام هؤلاء الرهبان المتواضعون الظامئون إلى العزلة والصلاة...لأن الخلاص سيكون بمشيئة الرب الذي سبق أن خلصها مرارا في الماضي،وسيأتي الخلاص من الشعب،سيأتي الخلاص بما يملكه الشعب من روح الإذعان لمشيئة الله ومن إيمان بوجود الله.".

    إن العنف والانتقام، في رأي الراهب لا يأتيان إلا بالشر،أما الصفح والتسامح فهما السبيل الحقيقي للقضاء على الشرور، ولذا فهو يدعوا إلى الصفح عن المذنبين، وإلى حب الجميع بما في ذلك "الآثمين". فأفضل سبيل إلى حماية الإنسان من الشر هو أن يعد نفسه مسئولا عن جميع خطايا البشر، وأن يحب "كل إنسان وكل شيء" ولهذا فهو يدعو الناس إلى أن يحبوا "خلق الله جملة، وأحبوا كل ذرة من الرمل على حدة، وكل ورقة شجرة، وكل شعاع ضوء، أحبوا الحيوانات، أحبوا النباتات، أحبوا كل موجود".

    ولحل تناقضات الواقع الاجتماعية فإن الراهب يعرض الحلول التالية:

    يمكن الوصول، في رأي الراهب، إلى العدالة الاجتماعية عندما يشعر الأغنياء "بالخجل والعار من ثرواتهم أمام الفقير، ويبرهن الفقير يومذاك بعد أن يرى ندم الغني ومذلته على حسن الفهم هو أيضا، فيترك له خيراته فرحا مستجيبا بالحب للتوبة النبيلة."

    فالمساواة الحقيقية في نظر الراهب زوسيما: هي مساواة الشعور والروح وليست المساواة المادية، ولهذا فهو يؤكد أنه " لن تكون هناك مساواة إلا في الشعور بكرامة الإنسان الروحية، وهذه حقيقة غير مفهومة إلا في بلادنا. لسوف تسود الأخوة متى اصبح الشر أخوة بالقلب، وبدون هذه الأخوة لا يمكن أن تكون هناك قسمة عادلة"

    كذلك يمكن تحقيق المساواة في المستقبل من خلال " الاتحاد العظيم" حين يصبح الإنسان بدون حاجة "إلى أن يكون له خدم، ويوم يحاول أن لا يرد أقرانه البشر على العبودية كما يفعل الآن، وإنما تطلع بكل نفسه إلى أن يصبح خادما لجميع الناس عملا بروح الإنجيل"

    وحتى ذاك "المستقبل" فإن الراهب زوسيما يدعو الناس على الإيمان والعمل والصبر والصفح والتسامح: "لا تقعد عن العمل ولا تدع لهمتك أن تفتر،... إذا رأيت نفسك محاطا بأناس أشرار لا يحسون، ويرضون أن يسمعوا لك، فارتم على أقدامهم واستغفرهم، لأنك أنت الذي تحمل ذنب عنادهم في الحقيقة. وإذا شعرت بأنك عاجز أن تخاطب الأشرار بالحسنى فاخدمهم صامتا متواضعا دون أن تيأس قط. إذا هجرك جميع الناس وطردوك شر طردة فاسجد على الأرض حين تصبح وحيدا واغمرها بقبلاتك. اسق الأرض بدموعك، فتحمل هذه الدموع ثمارا، ولو لم يرك في عزلتك أحد".

    هكذا كانت دعاوي الراهب زوسيما، أو دعاوي دوستويفسكي نفسه، وهكذا كانت نبوءتهم وتصورهم لمستقبل روسيا...



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  4. #28 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18

    في التكنيــك الفني للرواية:

    تعتبر رواية "الأخوة كارامازوف" رواية ذات مضمون اجتماعي نفسي وفلسفي في الوقت ذاته، وذلك رغم ما قد تبدو عليها من سمات شكلية تربط بينها وبين الروايات البوليسية. فرغم أن الموضوع الرئيسي الذي يقود الأحداث في الرواية-كما أشرنا آنفا- هو جريمة القتل التي تتكشف في عناصرها الجوهرية تبعا لنظام الرواية البوليسية، إلا أن الرواية-كما وضح-قد مزجت بين التصوير الواقعي المحدد للواقع والطباع والأحداث وبين الجدل الفكري العميق حول أهم مشاكل العصر، وهو المزج الذي يبدو عاديا ومتجانسا مع نسيج الرواية ويخلو من أي تنافر، وذلك لأن أبطال الرواية وهم يتجادلون حول المسائل والموضوعات التي قد تبدو مجردة، هم بذلك أيضا كانوا يتطرقون إلى الموضوعات والمشاكل الحيوية التي تؤرق وجودهم.

    كتب الناقد جروسمان عن خاصية رواية دستويفسكي هذه يقول:
    "تعتبر الفكرة نقطة للانطلاق في رواية دستويفسكي. أما الفكرة المجردة ذات الطابع الفلسفي فهي بمثابة ذلك المحور الذي تنتظم عليه الأحداث المتعددة والمعقدة والمختلطة للمضمون. أما المغامرة المختلطة فهي تضفي على سير الرواية قوة وحركة واهتمام خارجي، هي ضرورية هنا بوجه خاص نتيجة للوضع المجرد الذي يسود في كل القصة. إن السر الرئيسي في كل تركيب رواية دستويفسكي يكمن في السعي إلى تعويض القارئ من التوتر الممل الناتج عن اهتمامه بالصفحات الفلسفية مغامرة شكلية مسلية."

    ونظرا لأن "الفكرة" هي نقطة الانطلاق في رواية دستويفسكي،فإننا نجد الرواية تمتلئ بالديالوج ذي الطابع الفلسفي والذي تنبسط من خلاله لوحة ضخمة ومعقدة لحرب الأفكار المتصارعة. والديالوج في الرواية يتسم بالطابع الدرامي ويتحلى بقوة التأثير العاطفية، وهو يمتزج بطريقة عضوية بالموضوع ويعتبر عنصرا ضروريا له.

    وتنبسط أحداث رواية "الأخوة كارامازوف" على امتداد فترة زمنية قصيرة ومضغوطة وذلك رغم العدد الكبير من الشخصيات التي تمتلئ بها الرواية ورغم تشعب الموضوعات التي تتطرق إليها، وهذه السمة تعتبر قاسما مشتركا بين روايات دستويفسكي كما أشرنا من قبل. والأحداث في الرواية مقسمة زمنيا على ثلاث فترات زمنية تنفصل عن بعضها البعض بزمن قصير جدا، وكل من هذه الفترات تمتلئ بأحداث شديدة التوتر.

    وتصور شخصيات رواية "الأخوة كارامازوف" وهي في مرحلة الحركة الداخلية والتطور العقلي والنفسي ( بعض الأشخاص-مثل ايفان والراهب زوسيما-يظهرون في الرواية كأناس مكتملي الفكر والعقيدة). ودستويفسكي في وصفه للشخصية يولي اهتماما كبيرا بتصوير عملية التطور والانعطاف التي تحدث في فكر ووعي الشخصية بتأثير الظروف الخارجية أو العوامل الداخلية مثلما حدث مع ديمتري كارامازوف واليوشا كارامازوف. بيد أن التطور والانعطاف اللذين يحدثان عند شخصيات الرواية لا يصوران في بطء، بل يبرزان في شكل انكسار حاد وسريع.

    وبجانب الوصف المستقل للشخصيات من طرق الكاتب، نجد أن الشخصية في الرواية تنكشف أيضا من خلال حديثها عن نفسها وعن معاناتها وآلامها، ولهذا نجد نسيج الرواية يمتلئ بالاعترافات الذاتية والديالوج.

    ودستويفسكي يحضر في الرواية بنفسه، فهو يقوم بدور الراوي، وهو ما يشير إليه في مقدمة الرواية التي يعرف فيها بآل كارامازوف كأشخاص يعرفهم تمام المعرفة، وكذلك الحال مع الكثير من شخصيات الرواية الأخرى التي يحكي الكاتب عن دقائق من حياتها كما لو كان يعيش بالقرب منها.
    ومع ذلك فدستويفسكي أحيانا مل يترك دور الراوي لأحد الشخصيات كي تروي بنفسها الأحداث التي شاهدتها أو خبرتها بنفسها، لكن دور الكاتب "الراوي" أعمق، فهو يزن كل شيء بميزانه الأخلاقي، وهو أحيانا ما يتدخل بنصائحه وإرشاداته التي قد تبتعد أحيانا عن الموضوع الأساسي. وموقف دستويفسكي تجاه الشخصيات والآراء المختلفة يبدو واضحا، وليس كما أشار بعض النقاد الذي اعتبروا شخصيات الرواية تتسم بالاستقلالية في تحركاتها وأقوالها، وأن الكاتب لا يتدخل ليظهر موقفه تجاهها. فمثلا الناقد "باختين" أحد باحثي إنتاج دستويفسكي يشير إلى أن خاصة تركيب رواية "الأخوة كارامازوف" تكمن في وجود العديد من الأصوات المستقلة التي تمتلك استقلالية فريدة في تركيب المؤلف، وكلمتها كما لو كانت تسمع على جانب كلمة الكاتب".

    من السمات المميزة لتركيب رواية "الأخوة كارامازوف" وجود نغمة تكرار في تناول الموضوع أو الفكرة الواحدة في أجزاء مختلفة من الرواية وبأشكال ومغاز ومعان جديدة، وهو ما يتيح فرصة مقارنة الآراء الفلسفية المختلفة والتفسيرات المتنوعة تجاه الموضوع أو الفكرة، كما يضفي في ذات الوقت على تركيب الرواية بعض الرمزية ونستشهد على ذلك بأحد الأمثلة.

    يعتبر موضوع "وجود الله" أحد أهم الموضوعات التي تتطرق غليها الرواية. وكما أوضحنا آنفا فإن دستويفسكي قد أبرز اتجاهين متعارضين تجاه هذا الموضوع. اتجاه رافض للدين ولوجود الله ويتزعمه ايفان كارامازوف، واتجاه آخر يؤكد وجود مملكة الله ويتزعمه الراهب زوسيما. ودستويفسكي يتناول بالشرح والجدال هذا الموضوع في أجزاء متفرقة من الرواية ومن زوايا مختلفة. ففي أحد الأجزاء نجد الكاتب يرود تأملات ايفان حول عذاب ودموع الأطفال وهو العذاب الذي لا يجد له تبريرا مع وجود العدالة السماوية، وهو لهذا يرفع شعار الانتقام من الظلم. ولكن دستويفسكي يجادل هذا الرأي في موضوع آخر تماما وبشكل مستتر وذلك من خلال إحدى القصص التي يرويها الراهب زوسيما والتي يستند فيها على نصوص الإنجيل، وهي القصة التي تحكي عن أن الله ذات مرة يختبر قوة إيمان عبده المخلص أيوب فأرسل إليه إبليس ومكنه منه، فضرب إبليس قطعان أيوب، وأهلك أولاده ودمر ثرواته، وأرسل إليه جميع المصائب دفعة واحدة. فما كان من أيوب إلا أن ارتمى على الأرض ساجدا لله ومسبحا باسمه.
    فرد الرب السعادة إلى أيوب ووهبه ثروات جديدة وأولادا آخرين. ولكن هل يستطيع الإنسان أن يعيش في الشقاء ثم يسعد بعد ذلك؟ إن دستويفسكي يطرح هذا السؤال في معرض رواية الراهب حين يتساءل وهل استطاع نوح أن يحب أولاده الجدد في غياب أبنائه الأول إلى غير رجعة؟
    فيرد الشيخ مؤكدا بأن ذلك "ممكن" لأن العدالة السماوية تظلل الجميع. والناس جميعهم مذنبون أمام الله
    وأمام الجميع، ولذا فإنه لا يهم من من الناس يقع عليه العذاب، وهل كان يستحقه أم لا، لأن العذاب ضروري لكل إنسان كي يطهر نفسه ويكفر عن أخطائه وأخطاء الآخرين، وبهذا العذاب يختبر الله إيمان الإنسان ومن ثم فالانتقام والاحتجاج ضد اللا عدالة ليس من حق الإنسان على الأرض لأن الحقيقة الإلهية فوق الجميع...



    .
    .
    .
    (إنتهى أخيرا الجزء المخصص لدستويفسكي في الكتاب ولي عودة مع مقالات أو كتاب آخر )



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31/05/2012, 02:09 PM
  2. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12/12/2011, 12:53 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/11/2011, 11:37 PM
  4. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 17/05/2011, 07:39 PM
  5. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04/05/2011, 11:38 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •