الرد على الموضوع
صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 12 من 28

الموضوع: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

  1. #1 " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    ".. لم يكن دوستويفسكي هو كاتب القرن العشرين الأكثر عصرية ومتعة فحسب، بل ثمة كلالمبررات للافتراض بأن القرن الحادي والعشرين سيجري تحت رايات " الجريمة والعقاب" حسب رأي الكثيرين من النقاد والمحللين.‏".


    إن لدوستويفسكي روحا ما زالت تتعذب في كل منا، وفي كل مرة نقرأ لهذا الرجل فكأننا نقوم بعملية استحضار لتلك الروح المعذبة، تغوص بنا في أعماق الإنسانية الكالحة، نسبر أغوار أنفسنا نحن، نخرج منها شبه مخنوقين، ولعلنا نصل إلى نتيجة سبقنا إليها بقوله " أنا إنسان مريض "! .
    وكم كان -هذا الرجل المصروع - جريئا حين تكلم عن أكثر أفكاره شذوذا، ليثبت أن لاشيء أعمق من الإنسان، وأن البعض ،على علّاتهم، لا بأس بهم في النهاية!



    في هذا الموضوع سنُنهض الروح الدوستويفسكية ذاتها ليس بأقلامنا بل بأقلام وعيون أولئك الذين كتبوا عنه مستهلين الحديث بسرد طويل ذو شجون لقصة حياته كما تقدمت روايته الأكثر خلودا " الجريمة والعقاب "، نسرد بعدها قراءات ومقالات أو حتى دراسات عن بعض رواياته الشهيرة، وملامح شخصياته المشهورة التي تحمل في طياتها ملامح العابرين به كوالدته المصدورة، أو والده السكير، ولعلنا نكمل حديثنا بتأثيره على الأدب العربي بصفة عامة...


    يرى توماس مان أن دوستويفسكي هو "أول مبدع نفساني في الآداب العالمية على مر العصور"...‏
    إن الاهتمام العالمي بإبداع دوستويفسكي ليس وليدالمصادفة. فهذا الإبداع يتميز باندفاع إنساني جارف وشعور عميق بالرأفة "بالمذلين والمهانين". إنه مامن شك في أن دوستويفسكي هو منشد الأمل وداعية لبث روح الثقة والإيمان بالإنسان. كما يرى كثير من النقاد بأنه مؤسس للتيارات الأدبية المتصلة بعلم النفس في القرن العشرين مستشهدين بذلك، بالفرويديين والوجوديين وغيرهم"..‏



    سيبقى الأدب الروسي خالدا بكتّابه العظــام، وستبقــى بصمــاته مادام فينـا..



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    ( المقدمة ) بقلم الدكتور فؤاد أيوب
    من رواية ( الجريمة والعقاب ) مترجمة عن النص الروسي
    ترجمة فايز نقش الكردي
    الصادرة عن دار مكتبة الحياة










    إن دوستويفسكي، هذا الذي ليس ما يعادل موهبته الفنية قوة إلا موهبة شكسبير وحده على حد تعبير غوركي، ليشكل بحد ذاته عالما شاسع الأرجاء، عميق الأغوار، متكامل العناصر، تضطرم وتتصارع فيه الأفكار والعواطف المتضاربة، أفكار أصبحت أقوى من البشر، بل ليس البشر أنفسهم إلا تجسيدا لها، وعواطف امتزج فيها الحب بالحقد، والكبرياء بالتواضع، والثورة بالاستسلام، والرحمة بالقسوة، والإيمان بالإلحاد، حتى ضاعت الحدود ما بينها فتداخلت وانصهرت. ههنا يكتشف المرء اللانهاية ، فيستولي عليه تلقاءها القنوط. هذا العالم لن يستطيع قط أن نسبر أغواره، إذ تسود قوة سحرية غريبة عنا، وهو يعرض علينا فكرة تضيع في لانهاية سديمية، ويبشرنا برسالة لعلها ليست موجهة إلينا في الأصل، فنحن نحار في فهم مغزاها.



    وهكذا فإن انطباعنا البدائي حيال هذا العالم هو القنوط من جهة، والهلع من جهة أخرى. إلى أين يريد أن يقودنا هذا الإنسان، هذا العملاق، هذا المستنير، هذا النبي؟ لكننا إذا ما سرنا معه حتى خاتمة المطاف تحول انطباعنا الأول، البدئي والسطحي، على شعور جديد، شعور بالعظمة اللامحدودة. ذلك أننا سنكون قد حفرنا في أعماقنا في هذه الأثناء، فنستطيع أن نكتشف في هذه الأعماق، في خفاياها المطوية، الرباط الذي يجمعنا إليه. أجل، يجب أن نفعل مثله، أن ندفع حتى الحد الأقصى ما لا نجرؤ أن نبلغ به أكثر من منتصف الطريق، وأن ننحني أمام اللانهاية، وأن نتمرس بسائر صنوف العذاب التي تمرس بها، فنستطيع عندئذٍ أن نفهمه، أن نحبه.


    ذلك أن مختلف أدوات التعذيب قد مزقت هذا الجسد البالي طوال ستين عاما، كما أن العوز الذي لا يرحم قد انتزع من صباه ومن شيخوخته جميعا كل عذوبة وكل نتفة من الهناءة. وكانت الرغبة تلتهمه في الوقت نفسه، وهي رغبة مزدوجة، روحية وجسدية معا، تنخسه مثل الإبر، وتتركه أبدا ظمآن لا يرتوي. ذلك هو القدر يطارده، يقسو عليه حتى درجة السخف، ولا يقسو عليه هذا الغرار إلا كي ينتزع الإبداع منه، ولا يفرط في إيلامه إلا ليجعله أهلا له وكفؤا.


    وان الشك ليعذبه أيضا، وعلى الرغم من سائر جهوده ومحاولاته فإنه لن يعرف اليقين قط يخيل إليه، هو الذي يتعثر في الألم مع كل خطوة من خطواته، أن الله لا يعاقبه من أجل شكوكه إلا بسبب من محبته إياه. وهكذا فإنه لا يترك له لحظة واحدة من الراحة أو السعادة، بل يطارده أبدا على طريق اللانهاية. وإذا ما رق قلب القدر له يوما، فغض الطرف عنه برهة، وابتسمت الأيام له قليلا، فما ذلك غلا ليسرع فيقذف به من جديد بين الأشواك، ويدفعه نحو الحضيض، فاتحا عينيه أكثر فأكثر على اتساع اليأس والإشراق على حد سواء، ولن يرحمه قط إلا مع إغماضة الجفنين الأخيرة.>>

    هذه القسوة الغزيرة بالمعاني تجعل من حياة دوستويفسكي أثرا فنيا قائما بذاته، ومن سيرته مأساة كاملة الفصول، بحيث لا تعدو مؤلفاته كلها أن تكون صورا متفرقة عن مصيره الذاتي. ولقد كانت البداية نفسها رمزا لهذه الحياة بمجموعها على حد تعبير ستيفان زفايج، إذ ولد فيودور ميخائيلوفيتش دوستويفسكي يوم الثلاثين من شهر تشرين الأول عام 1821 في مستشفى الفقراء في موسكو. وهكذا حدد له مكانه، منذ فتح عينيه للنور، في موضع خارج المجتمع، بين أولئك الذين هم موضع الازدراء، بين " المذلين والمهانين"، وفي اتصال دائم بالألم والموت جميعا. وهل المصير الإنساني برمته، في واقع الأمر، إلا تراكيب من الألم والموت.

    كان أبوه طبيبا عسكريا معدما، إذا قيست الثروة بمقاييس تلك الأيام، ترك الخدمة ليعمل في مستشفى الفقراء، فنشأ الطفل في بيئة تعاني الضيق المادي، وفي جو تسيطر عليه روح الثكنة التي لم يستطع الأب، أو لم يحاول، التخلص منها. ولعله كان يعاني ضجرا خبيثا، ضجرا سببه العوز في المحل الأول، مما جعل أخلاقه شرسة قاسية، ومعاملته لزوجه وأولاده رديئة ظالمة. كان هذا الرجل يخجل من فقره، فيعيش وعائلته في انطواء على النفس يكاد يضعهم خارج حدود الحياة، فلا مسرح، ولا نزهات، ولا صداقات. وهكذا نشأ دوستويفسكي بعيدا عن كل احتكاك بالعالم الخارجي، محروما من الأصدقاء، ومن التجارب، ومن الحرية، إن الإناء مغلق بإحكام على هذه النبتة المتعطشة إلى الهواء، بحيث أن هذا الحرمان سيدمغه طوال حياته : " نحن جميعها قد فقدنا عادة الحياة" . أجل، إن دوستويفسكي لم يستطع فيما بعد أن يعتاد الحياة.

    وأن حاجزا حديدا مشبكا ليفصل حديقة المنزل عن باحة المستشفى الواسعة حيث يتنزه المرضى في ساعات النهار، وقد ارتدوا مناماتهم وغطوا رؤوسهم بطاقيات قطنية. وكان فيودور يحب، متجاوزا في ذلك أوارم أبيه، أن يتعرف إلى هؤلاء المرضى، وأن يبادلهم الحديث من خلال الحاجز المشبك. إن هذه الإنسانية المعذبة القبيحة لا تنفره- وهل عرف الإنسانية حتى الآن إلا على هذه الصورة؟- بل تثير في قلبه حنانا وفضولا وتجتذبه إليها. أجل إن هذا البرجوازي الصغير المتوحد يسعى على صحبة هؤلاء الناس المقهورين- وهل أقهر من الفقر والمرض مجتمعين؟ - الخجولين، اليائسين، المرفوضين من قبل عالم لا يعرف عنه هو شيئا. ما هي مأساتهم يا ترى؟ وأي قدر ظالم رهيب أودى بهم على هذا الحال؟ وكيف يحسهم غير غرباء عنه، رغما عن فارق السن والوضع الاجتماعي؟ وكان الأب، إذا فاجأ ولده في صلته مع هؤلاء المساكين، يوبخه بشدة، بل يعاقبه بقسوة أحيانا.

    هذه الطفولة المخنوقة لا يتحدث دوستويفسكي عنها مطلقا، ولا ريب أن هذا الصمت العنيد من قبله ينطوي على الخجل. بيد أننا نستطيع أن نلمس مشاعره الحقيقية من خلال أحاسيس أبطاله الصغار. لابد أنه كان مثل ( نيللي )، هذه الصبية المرهفة الحس حتى الدرجة القصوى، التي انتهى بها البؤس والحرمان والاضطهاد إلى الصرع فالموت، أو مثل ( أيليوتشكا ) ابن الكابتن السكير، الذي يخجل من بؤس عائلته، ومن تصرفات أبيه التي يمليها البؤس عليه، فيموت كمدا وقهرا. أو مثل ( كوليا )، هذا الفتى الناضج باكرا، الواسع الخيال، المتأجج رغبة في الصيرورة شيئا عظيما، المتشرب بذلك الهوس العنيف، هوس دوستويفسكي نفسه، الذي يريد من المرء أن يتجاوز نفسه كي يتألم مع الإنسانية بأسرها...


    .

    .


    يتبــــع




    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    ويهرب دوستويفسكي من ظلمات هذا العالم الحالك، ملتجئا إلى حيث يلتجئ عادة الناقمين، على الكتب. إنه يقرأ ليل نهار، ولا يرتوي له ظمأ، يلتهم ولتر سكوت، وديكنز، وجورج صاند، وهوغو، حالما بأروع المغامرات، بالسفر على البندقية، أو القسطنطينية، أو البلدان الشرقية النائية حيث الأسرار التي لا حلول لها، تراوده صور الانتصارات العظيمة، وعواطف الحب المتفاني.

    وتموت أمه، مصدورة، عام 1837م ، فيفقد بفقدها سنده الروحي الوحيد في الحياة. وتجعل الحاجة منه جنديا فينتسب إلى مدرسة المهندسين بيد أنه لا يبرح، حتى في عالم الجندية الصاخب، منزويا بعيدا عن الناس. إن خجله المرضي، وما يؤدي إليه مثل هذا الخجل من حب مفرط للذات وانطواء متصل عليها، يبعد الرفاق عنه. إذ يلتهب شوقا إلى بذل الذات، إلى منحها لأول قادم، لكنه يعود منذ الوهلة الأولى فيتكوم على بعضه. إنه يخاف أن يعيش. وماذا يجمع لين هؤلاء الفتيان المرحين اللعوبين وبينه هو الذي تئيد كآبة ثقيلة على وجود؟ وما وجه الشبه بين مطامحه الرومانتيكية ورغباته الغامضة في المجد والعظمة وبين تصرفات زملائه السخيفة؟ إن مثل هذه الحياة لتنفره : " لقد أرسلوني مع أخي ميشيل، البالغ السادسة عشرة، إلى سان بطرسبرغ، إلى مدرسة المهندسين، وبذلك أفسدوا مستقبلنا، تلك كانت خطيئة بالنسبة إلي".

    ويخاطب أخاه ميشيل في إحدى رسائله قائلا : " إن الحياة مثيرة للاشمئزاز هنا، فما خلص من المادية ومن السعادة الأرضية هو وحده جميل". بيد أن سائر ما يجري حوله وجميع تصرفات زملائه تذكره بهذه " المادية " وهذه " السعادة الأرضية " بالضبط. الوصول، الارتقاء في الرتب، المستقبل الزاهر .. وهو، أتراه يفكر في مستقبله؟ إنه يتيه في الأروقة، وحيدا، يائسا، مظلم القسمات، وفي يده كتاب، يتجنب الطلاب والأساتذة على حد سواء. لكنه يقوم في الوقت ذاته بالواجبات المترتبة عليه خير قيام، فهو مجد، ينفذ كل الأوامر الصادرة إليه، ولا يحتج مطلقا : " كائن يعتاد كل شيء، هذا في رأيي أفضل تعريف يمكن أن يعطى عن الإنسان".

    لكن أصعب ما يعانيه هو العوز. فلتمطر السماء، وهو لا يملك ما يبتاع به كأسا حارة من الشاي وبعض الملابس الداخلية الدافئة. فلتحرق الشمس الأرض، وهو لا يملك أن ينظف جسده من العرق الناتج عن لبقيظ الشديد. وإن أباه الذي ترك عمله في المستشفى ليقيم في الملكية الصغيرة التي ابتاعها في الريف بفضل تقتيره، لا يبرح على بخله القديم الذي أضيف إليه حاليا تعشق شديد للخمرة، وقد رفع بينه وبين العالم، بما فيه أبناؤه، حاجزا لا سبيل إلى اجتيازه. ويتوسل فيودور إليه : " أرسل لي شيئا بأسرع وقت ممكن، وسوف تنقذني من جحيم لا يطاق! أواه، ما أفظع أن يكون المرء في حاجة!" ومرة أخرى : " يا أبي العزيز الطيب، لا تحسب أن ابنك يطالبك بشيء فائض حين يسألك معونة مالية .. إن لي رأسا، وذراعين . ولو كنت طليقا لما سألتك كوبيكا واحدا .. كنت أعتاد البؤس إذن. لكن تذكر يا أبتي العزيز أني في هذا الوقت " أقوم بخدمتي " بكل معنى الكلمة، ولا بد لي شئت أم أبيت أن أتكيف مع قواعد المجتمع الذي أعيش فيه..
    وبالفعل، فإن حياة المعسكر تكلف كل طالب 40 روبلا على الأقل ( إني أكتب إليك كل ذلك لأني أتحدث إلى أبي ) ولست أحسب في هذا المبلغ قيمة السكر والشاي. ومع ذلك، فهذه أشياء لا غنى عنها، حين يكون المرء مبتلا بالأمطار حتى عظامه، تحت خيمة من القش، أو حين يعود من تدريب مضنٍ، فتجمد أطرافه من البرد ولا يجد قليلا من الشاي، فإنه قد يقع مريضا – وهذا ما جرى لي في المناورات في العام الفائت- ومهما يكن من أمر، فإني سآخذ بعين الاعتبار ما تعانيه من ضيق وأستغني عن الشاي، إني سأطلب منك الضروري فحسب.. ما ابتاع به زوجين من الأحذية العادية" .



    إلا إن الأب لا يعير طلباته أذنا صاغية، بل يعاتبه ويعنفه لجرأته على رفع صوته أمام أبيه، ويروح يشكو الضيق المادي الشديد، مدعيا أنه لا يملك هو نفسه فلسا واحدا، ويتعاظم رأس فيودور أكثر فأكثر: " من المحزن أن يحيا المرء دون رجاء يا أخي.. إني أنظر أمامي، فأرتاع للمستقبل. وإني لغارق في جو جليدي، قطبي، حيث لا يلمع شعاع شمسي واحد. ومنذ زمن طويل لم أعرف همهمات الإلهام، وبالمقابل فما أكثر ما عانيت أحاسيس سجين شيللون في زنزانته، بعد موت أخوته..">>
    ومرة أخرى: " لا أدري ما إذا كانت أفكاري الكئيبة ستتبدد يوما.. إن لدي مشروعا.. أن أصبح مجنونا .."


    إنه تائه، تائه في دروب الحياة المظلمة، يقرأ بلزاك وغوته وشيللر حينا، ويرتمي في تيار الحياة الصاخب حينا، محاولا أن يقتل يأسه بالانغماس في الرذيلة. بيد أنه يظل، حتى في أمواج الرذيلة المتلاطمة، وحيدا على الدوام، اللهم إلا من حس الاشمئزاز من لذته العابرة، ومن الشعور بالخطيئة في ملء السعادة الكاذبة. إنه مثل سائر أبطال كتبه، وحيد لا صديق له، ومثلهم جميعا يحلم، ويفكر، ويتذوق رذائل الفكر والحواس على حد سواء. ويعزيه قليلا ما يحسه من أن فيه قوة كامنة، قوة توشك أن تنفجر، وهو يخاف منها. إنهيرقة لا تبرح عديمة الشكل، ولا يدري إلام ستصير ومتى ستصير. إنه فريسة التشاؤم، طريد الخوف من الحياة، والخوف من نفسه، والخوف من الموت، والخوف من الفوضى الهائلة السائدة في قليه.

    وفي ملء هذه الفوضى يأتيه خبر مقتل أبيه على يد بعض فلاحيه الذين لم يطيقوا صبرا على معاملته الفظة. قبل شهر واحد من ذلك كان قد كتب إليه يطالبه بمبلغ من المال دون أن يتلقى جوابا، ومما لا ريب فيه أنه كان يلعن كل ليله بخل هذا الأب وقسوة قلبه، ولعله كان يتمنى موته في نفس تلك الليلة التي قتل العجوز فيها. افلم يهتف إيفان كارامازوف، ولعله يعبر في ذلك عن مشاعر دوستويفسكي نفسه: " من منا لا يتمنى موت ابيه؟" وتنعكس جريمة الفلاحين القذرة في وجدان فيودور ميخائيلوفيتش، فيتهم نفسه بما لم ترتكبه يداه قط. إنه هو المسؤول الأول عن هذه الجريمة، ومسؤوليته لا يمكن أن يفهمها أحد سواه، وهي جسيمة بحيث تبتلع مسؤوليات الآخرين. إنه مذنب بصورة تتجاوز القوانين البشرية. ويهزه هذا الكشف بلك قسوة الحقيقة الواقعة، فإذا انتفاضة هائلة تهزه وتصرعه أرضا، مزبدا متحشرجا : تلك هي نوبة الصرع الأولى منذ كان في السابعة من عمره. ولن يتحدث في رسائله عن حادث القتل مطلقا، لكن أبطاله يتحدثون نيابة عنه بطلاقة عجيبة. إن إيفان لم يقتل أباه، ومع ذلك فإنه مقتنع بكونه القاتل الرئيسي، كما يعالنه بذلك الأجير سميردياكوف الذي يعتبر نفسه مجرد الأداه المنفذة، ولا يفعل إيفان شيئا لينفي عنه هذه التهمة. وكذلك يقبل ستافروغين في " الأبالسة "، مسؤولية قتل زوجته التي ذبحها شخص آخر. إن قبولا ضمنيا، مهما يكن غير واع، يكفي لجعلنا شركاء في الجريمة. " أكنت أرغب في موت أبي حتى هذه الدرجة؟ " وإن هذا السلطان الغريب الذي يتمتع به الفكر على المادة، وهذا التجاوز للمادة من قبل الفكر، ليئيدان على ذهن دوستويفسكي. أجل إن هناك نواميس الطبيعة واستنتاجات العلوم الطبيعية، كما أن ثمة تراكيب العلوم الرياضية الباردة، بل والقوانين الاجتماعية الجامدة أيضا. وإنها لتتراكب جميعا كي تشكل " جدارا حجريا "عاتيا. وما العمل حيال هذا الجدار؟ " من المؤكد أني لن استسلم لمجرد كونه جدارا حجريا". ولن يستسلم دوستويفسكي، بل سيحاول أن يتخطى ذلك الجدار. وأما يتخطاه، فإنه سيقع في ميدان لا منطقي هو الموطن الحقيقي لأبطاله، ميدان عجيب، لا هو بالواقع ولا هو بالعدم، حيث الأبرياء وفقا للقوانين الأرضية هم مذنبون وفقا لقوانين أخرى غير مخطوطة، وحيث الأفعال لا تتعلق بفاعليتها، وحيث المشاعر تقوم مقام الأدلة، وحيث الأفكار تتبخر، وحيث لا يوجد شيء ثابت، مؤكد، معروف سلفا. إن كل طعنة جديدة يوجهها إليه القدر ستبعده أكثر فأكثر عن الواقع كي تقربه أكثر فأكثر من السر الدفين " ثمة أشياء يخشى المرء أن يكشفها حتى لنفسه".

    ومهما يكن الأب بخيلا، فقد كان يرسل إلى ولده بعض المال من وقت لآخر، أما الآن فلابد أن يلجأ إلى الغرباء في حاجته. وتتراكم عليه الديون مع مرور الأيام، يحاول أن يفيها بديون جديدة، مناضلا متذللا، متوسلا كي لا يسحقه تيارها الجارف. بيد أنه لا يعرف، مع ذلك، أية قيمة للمال، وإذا وجد أن خادمه، أو خياطه، يسرقانه لم يأبه للأمر مطلقا، ولم يطرد الخادم أو يغير الخياط. وينكب على ( أوجيني غرانديه ) يرتجمها في محاولة يائسة لتحسين أوضاعه المالية: " ترجمت أوجيني غرانديه لبلزاك. يا لها من رائعة! إن ترجمتي مدهشة، وأقل ما يدفعونه لي ثمنا لها هو 350 روبلا ورقيا. إن بي رغبة لاهبة في بيعها، لكن المليونير المقبل الذي هو أنا لا يملك مالا من أجل نسخها، ولا وقتا أيضا. بحق ملائكة السماء، أرسل 350 روبلا أجرة النسخ..." وبعد ستة أشهر: " إذا تواني الخنازير الموسكوفيون، فقد ضعت. ولسوف يجرونني في كثير من الجد إلى السجن. يا له من وضع مضحك حقا. إنك تتحدث عن القسمة العائلية، ولكن أتعرف ماذا أطلب؟ التنازل عن كل مشاركة حقيقة في حقوق الملكية، والتنازل التام عند حلول الساعة، مقابل 500 روبل فضي دفعة واحدة، وخمسمائة روبل آخر تدفع على أساس عشرة روبلات من الفضة شهريا – هذا كل ما أريده.. أعترف بأنه قليل، وبأنه لا أسرق أحدا.. وإذا كانوا لا يملكون هذه الإمكانيات، فإن سبعمائة وحتى ستمائة روبل تكون مناسبة في وضعي. وقد أرجع بعد رأيي، أكفلني أنت.. وأن لدي أملا، فأنا أنهي رواية في حجم أوجيني غرانديه، إنها رواية نسيج وحدها، وأنا حاليا أنسخها، ولا ريب أني سأحصل على جواب بشأنها حوالي 14 كانون الثاني. سوف أعطيها إلى ( حوليات الوطن ). إني راضٍ عن عملي، وسأتناول عنه حوالي 400 روبل. هذه كل آمالي!"

    .

    .

    .


    يتبــــــــــع



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    تلك هي ( المساكين ) هذه الرائعة، هذه الدراسة العميقة للنفس الإنسانية! إن دوستويفسكي في الرابعة والعشرين حاليا، ولقد كتبها، هو الوحيد، بنار هواه المحرقة وبدموعه اللاهبة. ذلك أن الإذلال الأقسى الذي يمكن أن يتعرض له الإنسان، ألا وهو الفقر، قد أوحاها إليه، تدعمه القوة العظمى في هذا العالم، أعني بها حب أولئك الذين يتعذبون.

    بيد أنه يتطلع إلى هذه الصفحات في شيء من الخشية، لا يريد أن يسأل القدر لأنه يخاف الحكم الذي قد يصدره، وأخيرا يقرأ المخطوطة لصديقه وشريكه في الغرفة، الكاتب غريغوروفيتش، فيرتمي هذا بين ذراعيه باكيا، ويختطف المخطوطة منه ليحملها إلى نيكراسوف. ويقرآنها معا، الليل بطوله، يضحكان حينا ويبكيان أحيانا، حتى إذا لم يعودا يستطيعان صبرا ينطلقان إلى صاحبهما، حوالي الرابعة صباحا، يوقظانه من نومه، يهنئانه ويقبلانه، لأن ذلك " أهم من النوم ".

    ويحمل نيكراسوف المخطوطة إلى بيلنسكي، الناقد الشهير، المرهوب الجانب، الباني أمجاد الكتاب الروس والهادم إياها: " لقد ولد لنا غوغول جديد". فيرد الناقد باستنكار: " إن أمثال غوغول عندكم ينبتون مثل الفطور". لكنه يقبل أن يطلع على المخطوطة، حتى إذا ذهب إليه دوستويفسكي في الغداة شاهده مشرقا بالفرح :" هل تدرك ماذا صنعت هنا؟" ويلتهب بيلنسكي حماسة:" إنك لم تكتب مثل هذا المؤلف إلا لأنك بكل بساطة فنان عظيم الحساسية، ولكن هل قدرت كل سعة الحقيقة الرهيبة التي وصفتها لنا؟ يستحيل أن تكون فهمتها وأنت في العشرين من عمرك.. إن الحقيقة تكشف لك وتعلن بوصفك فنانا، أنت تلقيتها هبة، فاعرف كيف تقدر هذه الهبة. ابق أمينا لها، وسوف تصير كاتبا عظيما".

    ويصعق دوستويفسكي، وينتشي، ويصيبه الدوار، إنه يريد أن يقبل كل الناس، وأن يشكرهم، وأن يقسم للبشر جميعا صداقة أبدية. ويهبط الدرج مترنحا كأنه في حلم، ويتوقف عند زاوية الشارع عاجزا عن متابعة السير، يتطلع إلى السماء، وإلى صفاء النهار، وإلى المارة الذين يخيل إليه أنه لم تعد تجمعهم به أية رابطة. الم يرتفع إلى الأعلى منهم بصورة مفاجئة. ويتساءل: " أيمكن أن أكون حقا على هذا القدر من العظمة؟" أجل ، إنه ليشعر الآونة بكل وضوح بأن سائر تلك الأشياء الغامضة الخطيرة التي انبثقت من فؤاده هي أشياء عظيمة حقا، ولعلها بالضبط ذلك ( الشيء العظيم ) الذي كان يحلم به في طفولته: الخلود، والعذاب من أجل الإنسانية بأسرها. ويتعثر في مشيته، يمتزج في دموعه الهناءة والألم جميعا.

    وهذا هو بين عشية وضحاها، وبطرسبورغ المثقفة كلها تعرفه، والضواحي أيضا. ولقد أنقذه كتابه نوعا ما من ضائقته المادية، إذ تناول عنه 500 روبل ما أسرع أن ابتلعتها ديونه العتيقة والجديدة معا. وهذا هو ذات صباح مدين بستمائة روبل. ما العمل؟ " إن المرء ليمل في هذا العالم يا سادة! ما عسى أن يكون المستقبل، يا ترى؟ " إن هذا المجد يشكل في الوقت ذاته الحلقة الأولى في السلسة التي ستقيده إلى العمل الإجباري، والإبداع لن يكون بالنسبة غليه، من الآن فصاعدا إلا واسطة لكسب المال، ودفع الديون، والخلاص من السندات، رغما عن كل محاولاته لإنكار ذلك. ولن يكون كل كتاب جديد إلا رهينة لسلفة مالية تلقاها، فالجنين مرهون للعبودية منذ الحمل به، قبل الحمل أيضا.
    وهذا دوستويفسكي قد حبس إلى الأبد ضمن جدران سجن الأدب، ولن يحرره سوى الموت وحده.

    ولو أنه كان إنساناً آخر, لو كانت أعصابه أقل إرهاقاً, وحبه للإنسانية أق عنفاً, فلعله كان يستطيع أن يعيش حياة هادئة, وينتج في جو من الدعة والهدوء. بيد أن شيطانه يدفعه دون هوادة, أو قل هو القدر يقف له بالمرصاد, إن الحياة لا يمكن أن تكون بمثل هذا اليسر, بل إن حياة سهلة على هذا الغرار هي حياة ميتة. أما هو فيجب أن يعرف الحياة حتى أعمق أعماقها.

    ما باله؟ إن صالونات بطرسبورغ مفتوحة له, وبيلنسكي لا يدري كيف يكيل المديح له, وتورجنيف يبدي له كل عطف ومحبة, والجميع من حول يرددون كل كلمة تسقط من فمه. بيد أنه يشعر بالضيق, ويدفعه هذا الإحساس إلى الانطواء, والتكبر. إنه يحس أن مكانه ليس ههنا, بين هؤلاء القوم السعداء, الأثرياء الرافلين في أبهى الحلول, غير العارفين كيف يزجون الوقت. إنه غريب بينهم, يهاجمهم خوفاً أن يهاجموه, ولا يفكر طوال الوقت. إلا في الفرار بأسرع وقت والعودة إلى غرفته الصغيرة, السيئة الإنارة, الغاضة بدخان التبغ, المزدحمة بالكتب والأوراق. إن الوحدة هي ملجأه الأوحد.

    وإنه ليتخبط في بؤسه ـ هذا البؤس الذي أصبح مركب نقص بالنسبة إليه ـ ويريد أن يتحرر منه. إنه لمقتنع بأنه لا بد في سبيل ذلك من فعل اجتماعي يحرره مع سائر إخوته المعذبين في الأرض, بحيث تمنحه هذه الحرية أخيراً الثقة بالنفس, والإيمان بالمستقبل, واليقين بالقدرة على فعل الخير, هو الذي تضيع عليه فوضى حياته كل خير.

    وهكذا ينضم إلى حلقة بتراشيفسكي الثورية, حالماً بتحرر روسيا الأم من القيصرية والعبودية والفقر, ورفع البائسين فيها إلى مستوى إنساني حقاً. وإنه ليقرأ في اجتماعات (( الثوار )) السرية صفحات من الشعراء الروس الكبار, ورسالة بيلنسكي إلى غوغل, ويحرر (( اتهامات )) ضد النظام القائم, بل يكاد أن (( ينزل إلى الشارع حاملاً علماً أحمر)).

    وهذا هو ذات صباح موقوف بتهمة التآمر على سلامة القيصر.. وتنطبق عليه جدران زنزانة ضيقة في قلعة بطرس وبولس طوال أربعة أشهر, ثم يصدر عليه مع رفاقه الحكم الصاعق: الإعدام رمياً بالرصاص.

    ويخيم الموت بجناحه عليه.. إنه يساق مع تسعة من رفاقه مع خيوط الفجر الأولى, وقد رميت الأكفان على أكتافهم, إلى ساحة سيميونوفسكي حيث يقيدون إلى الأعمدة وتغطى عيونهم. هذه هي آخر مرة يرى فيها نور الحياة, وفي هذه الثانية القصيرة, مع انطلاق الرصاص الغدار, يتركز مصيره كله. إنه يصغي إلى قرار الحكم يتلى عليه, وإلى الطبول تقرع لحن الموت, بيد أن رغبته في الحياة مجتمعة, كل قوتها الجارفة, في تلك البرهة من الانتظار, انتظار الموت, في تلك الهنيهة التافهة من الزمان الذي لا حدود له. ولكن هذا الضابط المكلف بحكم الإعدام يلوح بمنديل أبيض في يده, فتتوقف الطبول عن القرع, ويخيم صمت رهيب على الساحة. أهو صمت الموت؟ كلا, بل هذا قرار الرحمة القيصرية يتلى عليهم, مستبدلاً حكم الإعدام بالأشغال الشاقة في سيبيريا لمدة تسعة أعوام.

    وتتلقفه الهاوية. إن ألفا وخمسمائة وتد خشبي تشكل طوال أربع سنوات حدود أفقه, وهو يعد عليها أيام سجنه الباقية. إن رفاقه ههنا ـ وقد كانوا في بطرسبورغ نيكراسوف وبيلسنكي وتوجنيف ـ قتلة ومجرمون ولصوص, وبعض البولونيين الذين يكرهون كل ما هو روسي, هؤلاء جميعاً يمنعون عليه, هو المثقف السجين السياسي, صداقتهم الرخيصة. وإن عمله, هو الذي صنع (( المساكين)), صقل الرخام ونقل الأجر ورفع الثلوج. ههنا ليس له من رفيق سوى الكتاب المقدس, وقد دفعته بين يديه على الطريق إلى سيبيريا محسنة طيبة وفي طياته ورقة من فئة الخمسة وعشرين روبلاً, وليس له أصدقاء سوى كلب جربان ونسر كسير الجناح مثله. وتتوالى عليه نوبات الصرع: (( كنت أشرب الشاي, وأكل أحياناً قطعة اللحم الخاصة بي, وهذا ما أنقذني. وإن انهيار أعصابي قد أدى إلى إصابتي بالصرع. إني أحيا في تهديد دائم من العقاب, والقيود, في خنق دائم للفكر. إلام صارت نفسي, ومعتقداتي, وذكائي, وقلبي؟ ذلك حديث طويل جداً. بيد أن التركز الأبدي في ذاتي من الواقع المرير قد آتى ثماره )). ويبقى هكذا أربع سنين في (( بيت الموتى )) في الجحيم, ضائعاً بين الأخيلة, مجرد رقم ليس غير, قد أنكرت عليه سائر صفات الإنسانية على الإطلاق.

    وحين رفعت القيود أخيراً من قدميه, وأدار ظهره إلى تلك الأوتاد, لم يعد الشخص نفسه. لقد ذهب مجده هباء, ولم يعد ثمة من يذكره في بطرسبورغ, كما دمرت صحته, فنوبات الصرع تنتابه على أشد ما يكون. لكن فرحته بالحياة بقيت له, بلى زادت تأرثاً في جسده الناحل الممروض. ولا تبرح أمامه سنوات أخرى يقضيها في سيبيريا, جندياُ بسيطا بادئ الأمر, ثم ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ, بعيداً عن الجو الأدبي, ممنوعاً من نشر أي مؤلف. ولم يكن البعد عن روسيا عذابه الوحيد, بل إن عوز المال يلاحقه دائماً. ويحب أن يتزوج, لكن الزواج يكلف في حسابه ستمائة روبل. ومن أين له هذا المبلغ؟ ويمد يده, ويستجدي (( إني أتصرف بجيبك فكأنه جيبي, لكن السبب في ذلك جهلي بأوضاعك المالية. إن فيليبوف قد أهداني خمسة وعشرين روبلاً فضة )) . وإنه ليكتب أثناء ذلك, بل ينشر أحياناً بأسماء مستعارة, لكنهم لا يدفعون له كما ينبغي: (( أنا لا أجهل أني أكتب بصورة أسوأ من تورجنيف, وآمل ألا أظل كذلك في المستقبل. ولماذا لا أنال, أنا فقير جداً, سوى مائة روبل عن كل ملزمة مطبوعة, بينما ينال تورجنيف, وهو رجل غني يملك ألفي نفس, أربعمائة روبل عن كل ملزمة؟ إن فقري يجبرني على السرعة أبداً. إني أكتب من أجل المال, وأفسد عملي. بحق اليسوع أنقذني )).

    .
    .
    .
    .

    يتبـــــع




    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    • أكثر من رائع

    • التنسيق المربدي يعتمد الخط الكبير
    • واكثر من لون
    • كم يعتمد المباعدة بين الفقرات
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    الأستـاذ طارق

    أتعبني التنسيق هنا ;)


    المفروض أن يعرف تنسيقي على الوورد بألوانه، لكني فوجئت بأنه يهضم ثلاثة أرباع المكتوب!


    لذلك اضطررت لهذا...أنسخه في النوت باد وأغيره هنا...

    وهو منقول بهذ الطريقة

    تستطيع أن تجد في الساخر شكل الموضوع بالتحديد


    شكرا لك

    سعيدة بنشر الثقافة عموما وعدم تخصيصها بأماكن معينة، فنحن نريد الفائدة للكل


    دمت بود



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    ويعود إلى بطرسبورغ وقد نسيه الناس, وهجره رفاق القلم, وتبعثر أصدقاءه. وفي العاصمة لا بد له أن يعيش, ولا بد من المال في سبيل ذلك. ولذا يجب ن يكتب, أن يشرع القلم, منفساً بذلك في الوقت نفسه عن نشوة الحرية التي تعبئ طاقته العصبية.



    ويرسل كتابه عن (( بيت الموتى )), هذه اللوحة الخالدة عن حياة إنسان في سجن الأشغال الشاقة, عاصفة من الحماسة في كل روسيا وينتزعها من لا مبالاتها الناعسة. إن الأمة بأسرها تكشف أن السطح الساكن الهادئ للعالم الروسي يخفي عالماً آخر, عالماً يكدس كل العذابات الممكنة. ويبلغ لهيب الاتهام حتى الكرملين, فيروح القيصر نفسه ـ ويا للسخرية! ـ يسقي صفحات الكتاب بدموعه. وهذا اسم دستويفسكي من جديد على كل لسان: إن سنة واحدة قد كانت كافية لبعثه, لإرجاع إكليل الغار إلى جبينه أعظم بهاء منه قبلاً. ويؤسس مع أخيه مجلة هو محررها الوحيد تقريباً, فتنال نجاحاً عظيماً. أليس مؤلف (( بيت الموتى )) من ورائها؟ وإنه لينهي رواية في الوقت نفسه. أليس من حقه أن يطمئن الآن, وقد ابتسم القدر له قليلاً, وأصبح مستقبله في أمان كما يبدو, وثروته مؤكدة بعد اليوم؟



    ولشد ما كان مخطئاً. إن كل شيء يتهدم وينهار في لحظة واحدة, إذ تمنع المجلة دون سبب, وتموت الزوجة وقد كانت مريضة على الدوام, ويلحق بها الأخ, وهذا الصديق الوفي الناصح الأمين, فتتراكم الديون من جديد, ديونه الخاصة وديون الأخ الراحل, فينحني ظهره تحت وطأة هذه الضربات المتلاحقة وإن ظل يناضل بتلك القوة التي يبعثها اليأس في الإنسان, فيشتغل ليل نهار, يكتب وينسخ بيده كي يقتصد أجرة النسخ في محاولة يائسة لتسديد وإنقاذ شرفه وسمعته.



    بيد أن التيار أقوى من أن يستطيع مقاومة له, فيفر إلى أوروبا ورفيقه الوحيد فتاة في العشرين, عدمية العقيدة, قد أعجبت بموهبته وتيم بهواها. وهذا هو تائه في دروب العالم الأوروبي الغريبة, بعيداً عن الوطن الأم حيث تغرق جذوره, ويعذبه الحنين إلى روسيا, الأرض المقدسة, مصدر حياته وينبوع إلهامه, وإن الحاجة لتلاحقه ههنا أيضاً دونما هوادة, تدفعه نحو مائدة القمار حيث يغامر بكل شيء, متحدياً قدره. لكن هيهات أن يواتيه الحظ, فالهوة تحت قدميه لا تزداد إلا اتساعاً.



    إنه مجبر على الحياة في بلاد أجنبية لا يحبها، بل يبغضها ويبغض سكانها أيضا، لا يعرف فيها أحدا ولا يعرفه أحد، وحيدا تماما بعدما هجرته عشيقته، محاطا بطغمة من البقالين وأصحاب الدكاكين الألمان الذين لا يفقه كلمة واحدة من حديثهم، مقيما في غرفة حقيرة، طعامه الرئيسي الشاي، وبذلته المهترئة لا يملك بديلا لها، وألبسته الداخلية قذرة لا يملك أن يخلعها، لأنه لا يملك سواها، يقصد المقاهي طلبا للدفء وقراءة الصحف الروسية، أو موائد القمار طلبا ( للمائة ألف فرنك )، يربح حينا ويخسر أحيانا، ويعود دائما في آخر الليل وقد نقصت محفظته بضعة روبلات ما كان أعظم حاجته إليها، أو يقف الساعات الطوال أمام شباك المصرف، ينتظر حوالة مالية كتب من أجلها عشرات رسائل السؤال المهين إلى عشرات الأشخاص الذين لا يردون عليه، أو يذهب إلى محلات الربا، يرهن ساعته أو بعض أثاثه القليل أو ثيابه لقاء دريهمات قليله تقيم أوده، أو تشبع حنينه المحرق إلى الأحمر والأسود.

    " لقد كنت أسعد حالا في سيبيريا، في السجن "



    وأنه ليشتغل طوال النهار والليل دونما كلل، بينما الصرع يصعقه دونما رحمة، وأحيانا أكثر من مرة واحدة في اليوم، ثم يتركه أياما بكاملها في حالة من الخدر التام، لا يستطيع إلى مجرد الحركة البسيطة سبيلا.



    لكنه لا يكاد يحس دبيبا من القوة في جسده حتى يزحف من جديد إلى مكتبه. إن العمل هو خلاصه الوحيد، وهو سبيل العودة إلى الوطن.



    إنه يكتب " الجريمة والعقاب" و " الأبله" و " المقامر " و " الأبالسة "، هذه الآثار التي هزت القرن التاسع عشر، ولا تبرح غذاء روحيا غنيا لعشرات الملايين في القرن العشرين.



    وأخيرا، في ساعة الحزن الأعظم، تأتيه رحمة الأقدار. إنه في الثانية والخمسين، لكنه قد عانى خلال هذه السنوات القليلة قرونا من العذاب.

    ولقد مهدت له كتبه أن يعود إلى وطنه، إذ كسفت تولستوي وتورجنيف، وجعلت عيون روسيا كلها تتجه إليه. إن " مذكرات كاتب " قد جعلت منه رسول بلاده، وهو حاليا يكرس قواه وكل فنه فيما يمكن تسميته وصيته الأخيرة " الإخوة كارامازوف ".



    إن البذرة قد أتت ثمارها، ولم تيبس وتمت. ذلك أنها بذرة حية قد ألقيت في تربة خصيبة جدا. ويوم تداعى الكتاب الروس إلى الاحتفال بالذكرى المئوية لميلاد الشاعر الأكبر بوشكين، استقبل الجمهور دوستويفسكي، حين انحنى بوجهه الرمادي المتعب، المحفور بسنوات العذاب الطويل، بعاصفة حادة من التصفيق، بعدما كان استقباله بالأمس لتورجنيف، أول المتحدثين، فاترا نوعا ما. ووقف ينتظر ، وبين أصابعه العقدة أوراق محاضرته، إذ استمر الهتاف طويلا رفع يده يلوح بها بخرقة، طالبا الهدوء، ثم بدأ حديثه بصوت لاهث راح يرتفع شيئا فشيئا حتى سيطر على القاعة الواسعة الأرجاء. من أين واتته القوة، هو العجوز المنهك القوى، على الصراخ بكل هذا العنف من أعلى منبر؟ وأي عنفوان عجيب يكهرب هذا الجسد ويلهب تلك النظرة. إنه يعلن، بواسطة بوشكين، عن الرسالة المقدسة لروسيا، رسالة المصالحة العمومية. وفي الحقيقة من هو بوشكين؟ إن بوشكين هو تجسد الروح القومية مع قابليتها العجيبة لالتقاط عبقريات الشعوب الأخرى. إن بوشكين هو روسيا بكل ما تتضمنه من شمول، فهو اسباني في " دون جوان " وانكليزي في " الحفل أثناء الطاعون " و ألماني في " مقطع من فاوست " وعربي في " محاكاة القرآن " وروسي في " بوريس غودونوف ". ولأن بوشكين هو كل هذا، لأنه يعرف كيف يكون كل هذا، فهو روسي. إن مغزى الإنسان الروسي قبل كل شيء مغزى أوروبي وعالمي، فإن يكون المرء روسيا حقيقيا، أن يكون روسيا كليا، ذلك إنما يعني أن يكون أخا لسائر البشر، إنسانا كليا إذا جاز التعبير. وأن سائر شعوب الغرب القديمة عزيزة على الشعب الروسي الفتي، ولسوف ينقذها، لأنه يظل بفضل سذاجته الرائعة الملجأ الأخير للمسيح " لم لا نكون نحن الذين نحتوي على كلمة المسيح الأخيرة؟".



    إن القاعة بأسرها ترتعش تحت انفجار الغبطة المنطلق من الجمهور المستمع، ويخر الرجال ساجدين، وتنحني النسوة على يدي دوستويفسكي يقبلنهما، ويغمى على طالب عند قدميه. ويتنازل بقية الخطباء عن حق الحديث، فليس لهم ما يقولون بعد دوستويفسكي. ومنذ تلك اللحظة الفريدة، أصبح المجد مؤكدا، وتم العمل وتحققت الرسالة. ومن ثم، فقد أينعت الثمرة، فسقطت عنها القشرة، الجافة وكان ذلك في العاشر من شباط عام 1881.



    وتتدفق الوفود، التي هزها النبأ الفاجع، من سائر الأنحاء، القريبة منها والبعيدة، ومن داخل الحدود وخارجها، لتقدم إلى الراحل العظيم الواجب الأخير. إن الجميع يريدون أن يشاهدوا الميت الذي أجمعوا على نسيانه طوال حياته، فالشارع الذي سجى جثمانه في أحد منازله يغص بالناس الذين يرتقون سلم البيت المتواضع على مهل، ويتكدسون حول النعش يختلسون إليه النظرة الأخيرة، نظرة الوداع.



    وتتلاشى الزهور عن سرير الميت، قد تخاطفها الناس كأثر ثمين يعتزون به. وتنطفئ الشموع في الغرفة التي أصبح جوها خانقا، ويكاد النعش أن يقع أرضا، فتسنده بوهن الأرملة الثكلى وأولادها اليتامى.



    ويريد مدير الشرطة أن يمنع الجنازة العامة، إذ ترامى إليه أن في نية الطلاب أن يسيروا خلف النعش حاملين سلاسل المحكوم بالأشغال الشاقة، لكنه لايجرؤ على مجابهة هذه الحماسة التي لا بد أن تفرض نفسها بقوة السلاح إذا اضطرت. ويتحقق حلم دوستويفسكي لساعة من الزمان على الأقل، حلو قبره: اتحاد جميع الروس. إن الألم يذيب في كتلة واحدة مئات ألوف الناس السائرين بقلب وجيع خلف نعشه. إن الأمراء ورجال الإكليروس، والضباط والعمال، والطلاب، والأُجراء، يبكون جميعا، تحت سماء من الأعلام والرايات، الراحل العزيز على قلوبهم جميعا.





    " يا أبنائي، لا نًحنِنْ إلى حياة أبدية مقبلة! يا أبنائي .. ما لم نتوصل إلى الخلود على هذه الأرض، فإننا لن نبلغه إذن أبدا.. إن الخلود ههنا، وفي هذا الوقت بالذات .. وثمة لحظات ينبغي الوصول إليها، وهي لحظات من الوجود الأمتع والأسمى، وذلك حين يقف الزمان جامدا، وتذوب كل حياة بشرية في حياتكم الخاصة.. تلك هي لحظات الخلود.. وأن الجنس البشري بكاملة لما يتحرك نحو هذه اللحظة الكاملة، هذه اللحظات الخارجة عن نطاق الزمان. ذلك أن معنى الحياة ليس في استمرار الإنسان من جيل إلى جيل، بل في استحالته من وحش إلى ملك رفيع، من خاطئ إلى قديس! إن الحياة صعود مستمر من المستويات المنخفضة إلى المستويات المرتفعة من الوعي حتى صيرورتها لحظة القديس الأسمى وحقيقة الخاطئ الأبدية، وعندها تنتقل الخليقة بأسرها من الدياجير إلى النور".



    .





    .



    .



    يتبــــــــع



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  8. #8 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    مازلنا مع ال .... يتبع
    رد مع اقتباس  
     

  9. #9 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طارق شفيق حقي
    مازلنا مع ال .... يتبع
    وسنتمنى أن تنتهــــــــي



    لكن بخيـــــــر



    وبعد مدة :)



    شكرا للمتابعة



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  10. #10 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18




    يقول الناقد الروسي ميريجكوفسكي، في معرض حديثه عن دوستويفسكي، ما يلي : " إن تورجنيف وليون تولستوي و دوستويفسكي هم زعماء القصة الروسية الثلاثة. وتورجنيف هو الفنان بكل معنى الكلمة، ههنا تكمن قوته، كما يكمن سر ما يعانيه من ضيق الأفق النسبي. وأن ما يستقيه من ينبوع الجمال من ملذات يصالحه بسهولة عظيمة مع الحياة. لقد سبر روح الطبيعة بصورة أشد عمقا وأعظم نفوذا من دراسته قلب أشباهه من البشر، فهو أقل قدرة من تولستوي و دوستويفسكي على الدراسة السيكولوجية. ولكن أي فهم بالمقابل لحياة الكون بأسره، هذا الكون الذي لا يشكل البشر الفانون إلا جزءا يسيرا منه، وأي نقاء في الخطوط، وأية موسيقى في اللغة. إن من يستسلم طويلا لجاذبية هذا الشعر الرقيق يميل إلى الاعتقاد بأن الحياة ذاتها لم توجد إلا في سبيل هذه الغاية الوحيدة، ألا وهي الاستمتاع بجمالها وفتنتها".



    "أما ليون تولستوي فقوة عملاقة بالمقارنة مع الصفر البسيط. إن الانسجام ينقطع هنا، فيزول الاستمتاع التأملي المستبشر الهانئ ولا يبقى سوى الحياة وحدها، بكل عظمتها الفائقة، وكمالها البدائي، وطراوتها المتوحشة قليلا، لكن العاتية في الوقت نفسه. لقد فر هذا الرجل من وجه المجتمع بمحض إرادته، وعزل نفسه عنه طائعا مختارا:



    غمرت بالرماد رأسي

    وهربت، في أطماري، من المدن العامرة...



    " ولكن هذه القسوة في إنكار ثقافة يعود تاريخها إلى آلاف الأعوام ينفع خيال الألم والعذاب، مثله مثل تحجر تورجنيف – هذا السائح في تأمل الطبيعة- نفسا جليديا في وجه الفانين العاديين، وجه أولئك الذين لا ينتسبون إلى زمرة الأنبياء.إن هذين الكاتبين يبتعدان عن الحياة كي يتأملاها، فيلجأ أحدهما على سلام مصنعه كفنان، بينما يعتصم الآخر بقمم الأخلاق المجردة.



    " أما دوستويفسكي فأوثق بنا صلة وأقرب منا. لقد عاش فيما بيننا، في مدينتنا الكئيبة الباردة، ولم يخف تعقيدات الوجود الحديث، وقضاياه العضالة، ولم يتهرب من عذاباتنا، ولا من عدوى العصر. إنه يحبنا بكل بساطة، كصديق، كند لنا، ليس من أعماق بعد شعري كتورجنيف، ولا بسمو المبشر مثل تولستوي. إنه ملك لنا بكل أفكاره وبكل عذاباته. " لقد شرب معنا كأسا مشتركة، وهو مثلنا جميعا قد أصيب بالعدوى رغما عن سموه". إن تولستوي يضمر ازدراء عظيما للمجتمع الفكري، " هذه النفاية "، إنه يغذي حقدا شديدا على ضعف الخطاة من أشباهه، إنه ينفر ويخيف باحتقاره، وبالقسوة التي يلجأ إليها كي يدين ما هو باق على قلوب البشر مقدسا في أنظارهم رغما عن كل شيء، دون أي اعتبار لسائر التهجمات عليه، وأن دوستويفسكي ليؤثر فينا أحيانا أكثر مما يفعل الأشخاص من أقاربنا وأصدقائنا الذين نحيا فيما بينهم والذين نحبهم. إنه يجعل من نفسه رفيقا لنا في أمراضنا، شريكا لأفعالنا السيئة والحسنة، وليس ما يجمع البشر مثل العيوب المشتركة. إنه يعرف أفكارنا الأكثر خفاء ويعرف مطامح قلوبنا الأكثر إحراجا. وليس من النادر أن ينتاب القارئ الذعر تجاه معرفته الشاملة، تجاه هذا النفوذ العميق بصورة لا متناهية إلى وجدان الآخرين. وأنك لتلقى عنده بعضا من تلك الأفكار الدفينة التي لا تجسر على الإسرار بها حتى لنفسك، وأقل من ذلك لصديق قريب. وعندما يمنحك هذا الرجل الذي اعترفت له بكل أعماقك غفرانه رغما عن ذلك، عندما يقول لك" آمن بالخير، آمن بالله، آمن بنفسك "، فمن المؤكد أن في ذلك شيئا يسمو على تحليق الفنان أمام الجمال، شيئا يتجاوز عظات ذلك النبي المتجبر، المنعزل عن الجميع.



    " إن دوستويفسكي يفتقر إلى الانسجام، ينقصه ذلك التناظر القديم في ترتيب الأجزاء – ميراث الجمال البوشكيني- ينقصه كل ما أفعم به مؤلف " الآباء والبنون " من تراث مدهش، كما تعوزه تلك القوة البدائية، تلك الصلة المباشرة مع الطبيعة، التي نجدها عند ليون تولستوي. هذا إنسان خرج حديثا من الحياة، قد تألم لتوه وبكى، ولم تجف الدموع بعد عن أجفانه، كما لا يزال صوته يرتجف ويداه ترتعشان بفعل انفعاله. يجب ألا نقرأ مؤلفات دوستويفسكي، بل يجب أن نعيشها، أن نتلمس عذاباتها كي نفهمها، وعندئذ فإنها لن تغادر ذاكرتنا إلى الأبد!".







    .



    هنا ينتهي الجزء المنقول من رواية "الجريمة والعقاب"...





    و..





    بالطبـــــــع يتبـــع :)



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  11. #11 نحو كتــــاب ثاني وعيــن أخرى! 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    مــن كتاب "الرواية الروسية في القرن التاسع عشر"

    تأليف: د. مكارم الغمري

    من سلسلة "عالم المعرفة"





    دستويفسكي أحد أئمة الرواية الروسية الكلاسيكية، فإنتاجه الروائي يشغل مكانة هامة وخاصة لا في تاريخ الرواية الروسية فقط بل وفي الرواية العالمية أيضا.

    تشكل تجاه دستويفسكي إلى الرواية كفن تحت تأثير التجربة الروائية لكل من بوشكين و جوجول، كما أشار الكثير من الباحثين أيضا إلى أهمية رواية كل من بلزاك وجورج صاند و فيكتور هوجو وديكنز بالنسبة لروايات دستويفسكي.

    برز دستويفسكي في الساحة الأدبية في أربعينيات القرن الماضي، واتسم إنتاجه الروائي منذ أول رواية له وهي " المساكين بالمنهج الفني الجديد، فنجده يبتعد عن الخط الهجائي المميز لرواية معلمه جوجول الذي كان يجذب اهتمامه وصف الحياة الموضوعية المعيشية بأنماطها المتعددة، واتجه دستويفسكي إلى البحث العميق في نفس أبطاله حيث يعطي الكاتب من خلاله صورة للواقع والحياة "الجارية".

    كتب دستويفسكي القصة والرواية، وكانت أشهر رواياته " المساكين ( 1845 )، "المحقرون والمهانون" (1861)، "الجريمة والعقاب" (1866)، "الأبله" (1869)، "الشياطين" (1822)،"المراهق"(1875)،"الإخوة كارامازوف" (1880).

    ويعتبر وصف حياة فقراء المدينة من أكثر الموضوعات المحببة عند دستويفسكي الروائي وقد اتجه إلى هذا الموضوع في العديد من رواياته، من ذلك "المساكين" "المحقرون والمهانون"،"الجريمة والعقاب".

    ودستويفسكي في تصويره لحياة الفقراء ينحو نحوا جديدا، فهو لا يهتم بتصوير اللوحات المعيشية التي تعكس الفقر والتناقضات الاجتماعية التي تحكم وجود الفقراء قدر اهتمامه بتصوير العالم الروحي والأخلاقي للفقراء، والذي يبرز في ارتباط وثيق بوجودهم المادي، فالمشكلة الاجتماعية للفقر تبرز في روايات دستويفسكي من خلال المشكلة الأخلاقية والنفسية. والعالم الداخلي لفقراء دستويفسكي هو عالم صعب ومعقد، فرغم ما يظهر فيه من غيظ وحنق وأنانية ورغم ما يسيطر عليه من أفكار كاذبة أو وعي مريض، فهو مع ذلك عالم الخير والمشاعر الطاهرة ومبادئ الإنسانية والأخوة والضمير الحي والنفس القادرة على التضحية والمعاناة والتصحيح.

    حملت روايات دستويفسكي بصمة الواقع المعاصر، فهي تصور الكثير من أحداثه الجارية ومشاكله الملحة كالجريمة، والركض وراء المال، ووقوع الإنسان ضحية الإغراءات والأفكار الشريرة، والانفصام بين الشخصية والمجتمع وبين الطبقات الحاكمة والشعب، وتفكك وسقوط الركائز العائلية التقليدية وأزمة الحياة الاجتماعية المعاصرة، ومشكلة وجود الإنسان بها وخلافه، كما اهتم دستويفسكي أيضا في ستينات وسبعينات القرن الماضي برسم نمط البطل المفكر ذي العقل المتأمل والاتجاه التحليلي تجاه الواقع، وهو الذي برز في أشهر رواياته "الجريمة والعقاب" و "الإخوة كارامازوف". لكن بطل دستويفسكي هذا – ورغم ما يملكه من إمكانات عقلية وفكرية كبيرة- يظهر فريسة للأفكار الكاذبة المضللة ويبدو بعيدا عن الشعب ولا يشارك في الحركة التحريرية لبلاده مع أن فكره يتيه في البحث عن مخرج من أزمة الحياة، وهذا البطل يسيطر عليه شك عميق تجاه المثل الثورية الاشتراكية والليبراليه. ويتأرجح بين الاتجاهات الفوضوية المدمرة وبين الأفكار الدينية التي تدعو إلى الخنوع.

    ورغم أن دستويفسكي حاول أن يربط بين هذا النمط من الأبطال وممثلي الحركة الاشتراكية الثورية وأن يسخر ويشوه بشكل أو بآخر ممثلي هذه الحركة، إلا أن روايات دستويفسكي على الرغم من ذلك اعتبرت ذات أهمية بالنسبة لتطور الحركة الثورية في روسيا، فقد كان هؤلاء الأبطال بمثابة تجسيد للأقلية الصغيرة من شباب الحركة الثورية ممن وقعوا تحت تأثير أفكار ونظريات مضللة، وقد أوضحت الدراسة النقدية للأشكال المختلفة لهذه الحركة عدم صلاحيتها وقوتها المدمرة، ومن ثم اكتسبت رواية دستويفسكي قوة تطهيرية كبيرة، وعلاوة على ذلك فأهمية رواية دستويفسكي ترتبط بسماتها العامة وفي مقدمتها الروح الديمقراطية والإنسانية، فدستويفسكي يرفض في رواياته ويهاجم الشر الاجتماعي ويرسم لوحة مريعة للتناقضات بين الأغنياء والفقراء، ويحدق في ألم وتعاطف في مصير الإنسان البسيط المضطهد من الشعب والذي كان يؤمن به إيمانا كبيرا.

    كما حملت روايات دستويفسكي حلما حارا بالتغيير وإيمانا بالبعث وبمستقبل مشرق للوطن بغض النظر عن تصورات الكاتب تجاه سبل التغيير. ورواية دستويفسكي هي أيضا نموذج للرواية الاجتماعية النفسية الفلسفية، فإلى جانب الخط الاجتماعي البارز لروايته نجدها أيضا ذات اتجاهات "أيديولوجية" ونفسية في ذات الوقت، فدستويفسكي المفكر كان يسعى في تصويره للحياة الواقعية إلى فهم القوانين التي تحركها، وكان يحاول النفاذ إلى مغزى المشاكل الجوهرية لتطور الإنسانية، ولذا فإن دستويفسكي يصور مصير شخصياته في ارتباط لا ينفصم بالموضوعات الفلسفية والأخلاقية والدينية التي يطرحها في رواياته والتي يضعها في مركز اهتمامه وبحثه، ويتحدد تبعا لها بنيان الرواية وخصائصها، ولذا نجد أن رواية دستويفسكي تتميز بالديالوج الحار وعنصر الإثارة الشكلية الذي يخفف من حدة اصطدامات الشخصيات ومن الديناميكية المتوترة للأحداث التي تنبع من صراع الشخصيات حول ( نعم ) أو ( لا ) حيال الأفكار الواردة في الرواية والتي ترتبط بكل الأحداث وبكل خطوط المضمون والتي تفسر تصرفات الأبطال أنفسهم. وقد أكسبت ديناميكية الحدث وتوتره رواية دستويفسكي طابعا دراميا، ويتدعم هذا الطابع من جهة أخرى بمأساة وجود الشخصيات وبالمصير التراجيدي للإنسان في ظروف التناقضات القاسية. وأيضا بمأساة وجود آلاف العائلات التي يصرعها التناقض الداخلي ، ودراما الانفصام الداخلي للشخصية. إن دستويفسكي قد قدم حقيقة –كما أشار العديد من النقاد- رواية جديدة أطلق عليها لقب " الرواية المأساوية" أو " الرواية المفجعة".

    بالإضافة فإن دستويفسكي – كما أشرنا آنفا- أحد رواد الرواية النفسية، فروايته تتسم بتوتر حاد في إحساسات الشخصية وبدقة في تصوير أفكارها ومشاعرها، وبعمق في النفاذ إلى التناقضات الداخلية للإنسان الذي يتكشف في أكثر لحظات حياته الصعبة ومن خلال صراعات عنيفة مع نفسه وتوتر حاد للرغبات، فبطل دستويفسكي لا يتضح جوهره الداخلي في الحالات النفسية العادية بل وهو في قمة معاناته وفي وقت الاهتزازات الروحية المعذبة. ودستويفسكي المحلل النفسي يستند في تحليله لنفسية أبطاله إلى معيار " الشعبية" فنجده يقارن بين أفكار ومعاناة أبطاله الرئيسيين وبين الوعي الأخلاقي للجماهير الذي يقيس به صحة أو خطأ تصرفات الأبطال، وبالإضافة إلى ما ذكرنا فقد اتسمت روايات دستويفسكي بالعديد من الخصائص الفنية الأخرى التي ارتبطت بمهمة تجسد أفكار الكاتب والتي سنتناولها بإيضاح أكثر عند تحليلنا لأهم روايتين لدستويفسكي وهما: "الجريمة والعقاب" و " الإخوة كارامازوف" وهما الروايتان اللتان تظهر من خلالهما أبرز السمات الفكرية والفنية لروايات دستويفسكي..

    .


    .



    .



    يتبـــــــع "الجريمـــة والعقــاب"



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  12. #12 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    رائـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31/05/2012, 02:09 PM
  2. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12/12/2011, 12:53 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/11/2011, 11:37 PM
  4. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 17/05/2011, 07:39 PM
  5. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04/05/2011, 11:38 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •