الرد على الموضوع
صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 24 من 28

الموضوع: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم

  1. #13 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    تنــويه يبري الــذمة!:



    على الرغم من كون رواية " الجريمة والعقاب"، كما ورد باكرا، ليست بالرواية البوليسية، ( الأخوة كارامازوف فيها تورية للقاتل )، لكن من الحكمة أيضا أن نقول لمن لم يقرأ الرواية بعد، أن يحترس إن كان من الذين لا يحبون أن يؤخــذوا غيلة!..فمن هنا، سيكون الحديث عن الرواية ( وما بعدها من روايات ) فضائحيــا!

    أقصد سيحكيهــا حتى النهاية، ولعله سيقدم أيضا وجهات نظر مطبوخـة قد تلوث تلك التي بعد فطرية فيكم!

    وعلى الرغم من كوني أؤكد مسألة روائعية الرواية حتى بعد ذلك، لكني جَبنُـت عن قراءة هذا وغيره حتى اشتريت الرواية وأتممتها ;)



    لذلك جرى التنويـــه بالحذر، وقد أعذر من أنـــذر :)







    " الجـــريمة والعقــــاب"





    نتناول في هذا الجزء رواية دستويفسكي الشهيرة " الجريمة والعقاب" التي تشغل مكانة هامة في تاريخ الرواية الروسية، وينقسم تحليلنا إلى أربعة مقاطع، سنتناول في المقطع الأول الأفكار الرئيسية في الرواية، أما في المقطع الثاني فسنعرض لأهم الأحداث بها، أما المقطع الثالث فسنكرسه للحديث عن شخصية البطل الرئيسي رسكولينكوف الذي أثار حوله جدلا طويلا والذي يعتبر مفتاحا للكثير من القضايا التي تعرض لها الكاتب في روايته، وسنحاول في هذا المقطع أن نتوقف بالذات عند الدوافع المختلفة التي دفعت به إلى الجريمة، أما المقطع الرابع والأخير فسنخصصه لحديث سريع عن الخصائص الفنية للرواية.



    الأفكـــار الرئيسية:



    تتطرق " الجريمة والعقاب " لمشكلة حيوية معاصرة ألا وهي الجريمة وعلاقتها بالمشاكل الاجتماعية والأخلاقية للواقع، وهي المشكلة التي اجتذبت اهتمام دستويفسكي في الفترة التي قضاها هو نفسه في أحد المعتقلات حيث اعتقل بتهمة سياسية، وعاش بين المسجونين وتعرف على حياتهم وظروفهم.

    وتتركز حبكة الرواية حول جريمة قتل الشاب الجامعي الموهوب رسكولينكوف للمرابية العجوز وشقيقتها والدوافع النفسية والأخلاقية للجريمة.



    ولا تظهر " الجريمة والعقاب" كرواية من روايات المغامرات أو الروايات البوليسية، بل هي في الواقع نموذج لكل تأملات الكاتب في واقع الستينات من القرن الماضي بروسيا، وهي الفترة التي تميزت بانكسار نظام القنانة وتطور الرأسمالية، وما ترتب على ذلك من تغيرات جديدة في الواقع الذي ازداد به عدد الجرائم، ولذا نجد الكاتب يهتم اهتماما كبيرا في روايته بإبراز ظروف الواقع الذي تبرز فيه الجريمة كثمرة من ثماره. ومرض من الأمراض الاجتماعية التي تعيشها المدينة الكبيرة بطرسبرج ( ليننجراد حاليا ) وهي المدينة التي أحبها الكاتب وبطله حبا مشوبا بالحزن والأسى على ما تعيشه من تناقضات، ولهذا السبب بالذات نجد الكاتب كثيرا ما يخرج بإحداثه للشارع ليجسد من خلاله حياة الناس البسطاء والمدينة الممتلئة بالسكر والدعارة والآلام.

    إن حياة الناس البسطاء أمثال البطل الرئيسي رسكولينكوف وأمه وأخته وعائلة مارميلادوف أحد معارف رسكولينكوف وابنته سونيا، تبدو مظلمة وقاتمة يشوبها اليأس والعذاب والفقر وسقوط الإنسان الذي سُدت أمامه كل السبل حتى لم يعد هناك " طريق آخر يذهب إليه" وهي الكلمات التي ساقها الكاتب في أول الرواية على لسان مارميلادوف في حديثه مع رسكولينكوف.

    ويجعل هذا الواقع القاسي من مارميلادوف فريسة للخمر ويدفع بابنته سونيا إلى احتراف الدعارة لإطعام أخوتها الصغار الجائعين، ويجعل زوجته عرضه للجنون، كما يدفع هذا الواقع بالشاب الجامعي الموهوب رسكولينكوف إلى الجريمة ويجعل أخته عرضة للإساءة بالبيوت التي تلتحق بخدمتها، إن شخصيات الرواية تبدو مقسمة إلى مجموعتين تمثلان مواقع اجتماعية متعارضة: مجموعة تمثل الشعب المضغوط الذي يطحنه الفقر والحاجة والحرمان، وتتمثل في كل من رسكولينكوف وسونيا وعائلاتهما، ومجموعة أخرى تمثل أصحاب المال الذين تعطيهم ثروتهم "حق" الإساءة إلى المحتاجين، وفي مقدمة هذه المجموعة تبرز المرابية العجوز الشريرة التي تمتص دماء الناس وتقتص منهم والداعر المجرم سفيرديجالوف التي تمكنه ثروته من الإساءة إلى المعوزين بلا رادع ولا عقاب.

    وإلى جانب وصف الواقع المعاصر تطرق الكاتب في الرواية من خلال بطله المجرم غير العادي صريع "الفكرة" على نقد الفكر الاشتراكي والليبرالي المعاصر له وانعكست من خلال ذلك مثل دوستويفسكي العليا ومبادئه ونظرته على سبل التغيير وهو ما سنتناوله بالتفصيل عند حديثنا عن رسكولينكوف. ورغم أن دستويفسكي قد رفض شتى الأفكار التي كانت تنادي بالتغيير إلى أنه قد هاجم بشدة الظلم الاجتماعي والمجتمع الذي تعج فيه بكثرة " المنافي والسجون والمحققون القضائيون والأشغال الشاقة"، كما ندد بظروف الواقع الذي تهدر به كرامة الناس والذي تراق به الدماء " التي كانت تراق مثل الشمبانيا" ، وبالإضافة إلى هذه الموضوعات فقد انعكست في الرواية نظرة الكاتب للجريمة كوسيلة من وسائل الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي، كما تجسد فيها تقييم الكاتب للدوافع المختلفة للجرائم والجذور الاجتماعية والنفسية لها وهو ما سنتناوله بإسهاب عند الحديث عن شخصية البطل الرئيسي.



    .

    .

    .

    .

    .

    .



    يتبــــــع (أهم الأحداث بالرواية)




    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2005
    المشاركات
    132
    معدل تقييم المستوى
    19
    أتابع هنــــا وهنــــاك ..

    شكرا لك .. واكثر
    إنما الأمم الأخلاق ما بقيت
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    نشيــــــد الربيــــــع


    شيللـــر :)


    أهلا بك دومــــا


    شكرا



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد : " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    2- أهم الأحداث بالرواية:



    ( أ ) الجريمــة:





    هاهو الشاب رسكولينكوف يخطط لجريمته المزمعة، أو لتلك " الفكرة" التي تختمر برأسه، وهو يرتب ويعد لها بمهارة ودقة وعناية شديدة، فهو يقوم بزيارة استطلاعية لمكان الجريمة وهو بيت المرابية العجوز، لكن على ما يبدو لم يكن قد قرر نهائيا في تلك اللحظة تنفيذ الجريمة، وهو ما نعرفه من المونولوج الداخلي للبطل:"يا إلهي إن كل هذا لكريه، أحقيقة، أحقيقة أنا...لا،إنه لهراء، إن هذا لسخف، أحقيقة يمكن لهذا الهول أن يخامر رأسي"

    كان رسكولينكوف يشعر في الفترة الأخيرة بالنفور الشديد تجاه شيء، وها هو هذا الشعور يتفاقم وهو في طريقه على بيت المرابية، توجه رسكولينكوف إلى بيت المرابية لزيارتها وليرهن ساعته وبالصدفة –وهو مار بالطريق على بيتها- قابل شقيقتها الوحيدة ليزافيتا التي تعيش معها في نفس الشقة، وفهم من حديث ليزافيتا مع الآخرين أن ليزافيتا لن تكون بالمنزل الساعة السابعة مساء وأن المرابية بالتالي ستكون بمفردها في هذا الوقت، وفي التو راودت رسكولينكوف بشدة فكرة الجريمة، فالفرصة في هذا الوقت ستكون سانحة لتدبيرها وقد لا يكون هناك بديل لهذه الفرصة. وعاد رسكولينكوف إلى حجرته بعد أن صمم على تنفيذ الجريمة "كالمحكوم عليه بالموت" "ولم يكن يفكر في شيء، ولم يستطع على الإطلاق أن يفكر بل أحس بكل كيانه فجأة بأنه لم يعد عنده حرية البصيرة والإرادة وأن كل شيء قد حسم فجأة ونهائيا".

    ويصف الكاتب بوم الجريمة بأنه كان ذلك اليوم "الذي قرر كل شيء مرة واحدة، فقد اثر عليه بطريقة آلية، وكما لو كان قد أخذه أحد ما من يده وجذبه خلفه بلا مقاومة، بعناء بقوة غير طبيعية، بلا اعتراضات". قبل أن يتوجه رسكولينكوف إلى بيت المرابية فكر في أن يعرج على مطبخ صاحبة الدار التي يقيم بها ويأخذ من هنالك بلطة، ولكن بالصدفة كانت الخادمة هناك تؤدي عملها فلم يتمكن من ذلك، لكنه وجد عند البواب بفناء المنزل بلطه أسفل المقعد، فأخذها وخبأها في ردائه، وسار على بيت المرابية في خطى هادئة ودون أن يتعجل كي لا يثير الشكوك به، وكان ينظر قليلا إلى المارين محاولا ألا يحدق على الإطلاق في الوجوه، وأن يكون ما أمكن غير ملحوظ.

    صعد رسكولينكوف على شقة المرابية، ودق جرس الباب، في البداية لم تجبه العجوز، فقد كانت وحيدة وهي شكاكة بطبعها، وهو يعرف عن عاداتها بعض الشيء، الصق رسكولينكوف أذنيه بالباب وأصغى جيدا فسمع حركة يدها الخفيفة بالباب فأصغى جيدا، وبدا له أنها أيضا بالداخل كانت تنصت غليه، وأخيرا فتحت له العجوز الباب وهي تحدق نحوه بنظراتها الحادة المرتابة، مما جعل رسكولينكوف يقبض على الباب بشدة تجاهه خشية أن تعود فتقفله مرة أخرى، وسمحت له العجوز بالدخول غليها بعد أن أخبرها بأنه ندم لإعطائها بعض الرهن. إلى أن نظرات العجوز الغريبة أثارت خوف رسكولينكوف، الشيء الذي أوقعه في خطأ كلفه الكثير، فقد نسي رسكولينكوف من ورائه الباب مفتوحا.

    وقدم رسكولينكوف للعجوز الرهن، فاستدارت عنه بظهرها وهي تحاول أن تفك الرابطة المعلقة برقبتها، وهنا فك رسكولينكوف أزرار ردائه لكي يستل البلطة، لكن يديه صارتا ضعيفتين لدرجة أنه " كان مسموعا له نفسه كيف كانت تنملان وتتخشبان مع كل لحظة".

    لكن رسكولينكوف خشي من ضياع اللحظة المواتية، وفجأة وكما لو كانت رأسه بدأت تدور هوى بالبلطة وبكل قواه على رأس العجوز، فصرخت في ضعف ثم خرت صريعة مضرجة في دمائها. وضع رسكولينكوف البلطة على الأرض بجوار القتيلة وزحف إلى جيبها وهو يحاول ألا "يخدش نفسه بالدم المنسكب منها، فقد كان رسكولينكوف في تلك اللحظة في كامل وعيه وتنبهه، لكن يديه كانتا ما تزالان ترتعدان، واستل المفاتيح من جيب العجوز وكانت في ربطة واحدة وجرى بها على حجرة النوم... وبدأ يفتش بين المفاتيح عن المفتاح الذي يفتح الدولاب الذي تخبئ به العجوز الأموال والأشياء الثمينة التي في حوزتها، وهنا انتابه شعور غريب، فقد شك في أن العجوز لم تمت بعد، فألقى بكل شيء وركض غليها للتأكد، وهنا لاحظ على رقبتها الرابطة المعلقة وتمكن بصعوبة من أن يقطعها، وكان بها صليبان سوى حافظة نقود فأخذها ووضعها بجيبه، ثم عاد مرة أخرى على حجرة النوم ليجرب فتح الدولاب، وفجأة سمع ما يوحي بوجود شخص آخر في الحجرة التي كانت ترقد بها العجوز القتيل فهب رسكولينكوف من مكانه وصمت " كالميت" وخيل له في تلك اللحظة أن شخصا ما يصرخ صرخة خفيفة، وهنا وبدافع من الحفاظ على النفس قبض على البلطة وخرج من الحجرة على مكان الصوت فوجد ليزافيتا شقيقة المرابية والتي حسب من قبل عدم وجودها، وجدها واقفة في منتصف الحجرة تتفحص أختها القتيل وهي مأخوذة بدرجة لا توقى معها على الصراخ، لقد عادت ليزافيتا فجأة ودخلت من الباب الذي تركه رسكولينكوف من ورائه مفتوحا طوال وقت الجريمة.

    وارتجفت ليزافيتا حين شاهدت رسكولينكوف. وبال إرادة أخذت تتراجع للخلف دون أن تصرخ، وهو رسكولينكوف على ليزافيتا المسكينة وأرداها قتيلة في الحال هي الأخرى، وارتعدت بعدها أوصال رسكولينكوف من شدة الخوف، فقد اضطر إلى جريمة مفاجئة لم يكن قد حسب حسابها، وإنما اضطر إليها اضطرارا، ومن ثم انتابه شعور شديد بالازدراء. لقد خيل لرسكولينكوف أنه قد خطط بمهارة لجريمته، وأنه قد حسب كل صغيرة وكبيرة، لكن الحياة أعقد من أن تُحسب، فهي دائما أوهى من كل حساباتنا.

    فكر رسكولينكوف في الهرب سريعا، فقد كان مضطربا وخائفا لدرجة كبيرة أنسته فتح الدولاب الذي كان يحاول فتحه والذي كانت تحتفظ به العجوز بأهم جزء من ثروتها.

    أسرع رسكولينكوف على المطبخ بعد أن أقفل الباب وهناك اغتسل وغسل البلطة وعدل من هيئته ثم اتجه على الباب ليهرب سريعا بعد أن اخذ معه حافظة نقود المرابية وبعض الحلي التي وجدها أسفل سريرها، ولكن كانت هناك مفاجأة تنتظره، فبعد أن فتح الباب وهم بالخروج بلغ مسمعه وقع أقدام أشخاص قادمين إلى شقة العجوز فتراجع للخلف وأوصد الباب في هدوء شديد، واضطر رسكولينكوف أن ينتظر بمنزل العجوز فترة حتى يخلو له الطريق إلى الشارع وحتى ينصرف زبائن العجوز الذين انتابتهم الشكوك في أسباب عدم فتحها لهم، وما إن تمكن رسكولينكوف من الخروج من منزل العجوز حتى سار على حجرته وهو في حالة شديدة من الإعياء وكأنه انتابته حمى شديدة، وقبل أن يصل على حجرته أعاد البلطة على مكانها الذي أخذها منه، أما الأشياء والحافظة التي تمكن من أخذها من عند العجوز فقد ألقى بها في كومة في أحد أركان حجرته وخبأها في فتحة خلف ورق الحائط ودون أن تعتريه أي رغبة في مجرد النظر إلى محتوياتها، بل نجده يفكر في إلقائها جميعا والتخلص من آثار الجريمة، ثم قرر بعد ذلك لإبعاد الشبهات عنه أن يحتفظ بها في مكان مهجور أسفل أحد الأحجار الكبيرة.





    ( ب ) العقــــاب:





    بقتل العجوز وأختها ليزافيتا قتل الكاتب بطله وحطمه تاما،

    رسكولينكوف نفسه يتساءل بعد الجريمة " وهل قتلت العجوز؟ لقد قتلت نفسي لا العجوز" ودستويفسكي لم يعاقب بطله بتقديمه إلى حبل المشنقة، فقد بدا العقاب القانوني أخف أشكال العقاب التي لقيها رسكولينكوف، أما العقاب الحقيقي فقد كان من داخل البطل نفسه ومن ضميره حيث ثاب إلى رشده عقب الجريمة، فكما يقول رسكولينكوف نفسه " إن من عنده ضميراً فهو الذي يتعذب إذا وعى الغلطة، وهذا هو عقابه".

    وإذا نظرنا إلى صفحات الرواية المخصصة لوصف الجريمة فسنجدها أقل بكثير من تلك المخصصة لوصف العقاب، وعقاب البطل هنا عقاب فريد وقاس يختلف عن أي عقاب تقليدي يناله أي مجرم.

    لقد بدأ العقاب النفسي للبطل بعد الجريمة مباشرة، فما أن فرغ رسكولينكوف من محو الآثار المادية لجريمته حتى بات صريع شعور جديد غير محدد بدأ يتعمق تدريجيا بداخله، ألا وهو شعور بالنفور تجاه كل شيء وكل شخص يقابله، أما وجوه الناس فقد كانت تبدو له "قبيحة وكذا مشيتهم وحركاتهم".



    لقد بدا لرسكولينكوف أنه قد انفصل تماما عن عالم الأحياء، وأنه كما لو كان قد " قطع نفسه بمقص عن الجميع".

    كان رسكولينكوف في تجولاته الكثيرة بشوارع المدينة يبدو شارد الفكر، كانت قدماه كثيرا ما تجرانه بلا إرادة، وكما لو كان يسير بفعل قوة خفية إلى مكان الجريمة، ليعود بعد ذلك إلى حجرته فيسقط في حالة من الغيبوبة والتيه، يتراءى لرسكولينكوف خلالها أحلام مفزعة تمتلئ كلها بالعواء والدموع والدم، ويرقد رسكولينكوف أثناء ذلك يهذي بكلام غير مفهوم يبدو معه أمام القلة المحيطة كالمجنون، وإلى جانب كل هذا العذاب بدأ رسكولينكوف بدأ رسكولينكوف يستشعر شعورا جديدا أحس به لأول مرة بعد تمكنه من الهرب بصعوبة من منزل المرابية، ألا وهو شعور الخوف والاضطهاد عند الإنسان المطارد، وهاهو هذا الشعور يتفاقم بعد معرفة رسكولينكوف بمطاردة الشرطة له، فقد فطن رسكولينكوف إلى ملاحقة المحقق القانوني له الذي كان يسترسل معه في أحاديث طويلة، محاولا الإيقاع به والحصول على اعتراف منه، وقد أثارت هذه الأحاديث غيظ رسكولينكوف الذي شاهد بها محاولة مكشوفة لاستدراجه، فهو يقول "إذن هم لا يريدون أن يخفوا أنهم يطاردونني كقطيع كلاب".

    وكان شعور الإنسان المطارد يتفاقم لدى رسكولينكوف مع الأيام، وهاهو شخص يظهر من تحت الأرض ويشير إليه " يا قاتل". واقعة غريبة تحدث مع رسكولينكوف وتثير بداخله المخاوف بدرجة تجعل "قدميه تخوران"، وكما لو كان قد تجمد، ففي إحدى المرات التي خرج فيها رسكولينكوف للتجول شاهد البواب وهو يقف أمام حجرته فلفت نظره مشيرا إلى شخص ما طويل الهيئة، وحين سأل رسكولينكوف البواب عن الموضوع أخبره بأن الرجل كان يسأل عنه، وحينئذ اندفع رسكولينكوف في أعقابه حتى لحق به وسار في محاذاته، وسأله رسكولينكوف عما إذا كان يسأل عنه، فلم يجبه الرجل ولم يرد ولم يعره بالا، حينئذ قال له رسكولينكوف غاضبا: "من أنت..ولماذا إذن حضرت... سالت ثم الآن تسكت...نعم...ماذا يكون هذا؟!"

    فرد الرجل عليه بصوت هادئ وواضح " يا قاتل"..لقد أخذ رسكولينكوف بهذه الحادثة، وما أن عاد إلى حجرته حتى رقد بلا حراك على الأريكة، وتمدد عليها وهو يتأوه، فما لبث أن غفا في حلم عن أيام طفولته.. ثم تنبه بعد ذلك على صوت وقع أقدام صديقه "رازوميين" ووضع رسكولينكوف يده على رأسه التي كانت تعتصرها الأسئلة: "من هو، من هو هذا الشخص الذي خرج من تحت الأرض؟ أين كان وماذا شاهد؟ لقد شاهد كل شيء، هذا لا شك فيه، أين كان يقف آنذاك ومن أين كان ينظر؟ لماذا يخرج الآن فقط من تحت الأرض؟ وكيف استطاع أن يرى وهل هذا ممكن؟"

    ومالبث أن ضعف جسد رسكولينكوف ووهن مرة واحدة، وأحس لدقائق " كما لو كان يهذي: وسقط في مزاج متهيج منفعل".

    لقد وضع الكاتب بطله في مواضع مختلفة من الناس المحيطين به وذلك كي يكشف آلامه وعذابه بعد الجريمة، ورد فعل حالته على هؤلاء الناس، وذلك خلال لقاءات رسكولينكوف مع أمه وأخته اللتين قدمتا إلى بطرسبرج بعد الجريمة وصديقه رازوميين ولوجين الذي يرغب في الزواج من أخته دونيا، وسفيرديجالوف الذي كانت تعمل لديه دونيا كمربية والذي نالت من جرائه إهانات، لقد كان أكثر الناس الذين أحسوا بالتغيير الذي طرأ على رسكولينكوف هم أمه وأخته اللتان انتابتهما الحيرة والحزن لما يعانيه رسكولينكوف من عذاب نفسي. أما رسكولينكوف الذي كان من قبل الجريمة يتجنب الأصدقاء والزملاء فقد أصبح الآن بعد الجريمة يحس بالغربة حتى عن أقرب الناس وأحبهم إليه وهو يقول: " أمي وأختي، كم كنت أحبهما فلم الآن أبغضهما، أبغضهما، ولا أستطيع تحملهما قريبا مني".

    لقد استطاع رسكولينكوف أن يهرب بضعة أشهر من الحكم القانوني، ولكنه لم يستطع ولو للحظة واحدة منذ قيامه بالجريمة أن يتخلص من شعور الذنب والخطأ وتعذيب الضمير، وقد كان هذا الشعور هو العقاب الحقيقي المؤلم الذي أوقعه الكاتب ببطله، وكان هذا الشعور هو العقاب الحقيقي المؤلم الذي أوقعه الكاتب ببطله، وكان هذا العذاب يحدث عن وعي من جانب البطل، ففي اعتقاد رسكولينكوف أن : " العذاب والألم ضروريان دائما للوعي الواعي والقلب العميق".

    وبعد سلسلة طويلة من العذاب والألم اللذين عاشهما وعي وقلب رسكولينكوف، تقدم بعد ذلك طوعا واعترف بجريمته وأدلى بكل الدقة والوضوح بتفاصيل الجريمة، دون أن يشوه أية حقائق في سبيل مصلحته، كما اعترف بالمسروقات وأوصافها، مما بعث حيرة المحققين والأخصائيين الاجتماعيين في تفسير دوافع رسكولينكوف للجريمة، ولاسيما أنه قد اعترف بأنه لم يستخدم النقود التي أخذها من عند المرابية ولم يحاول حتى أن يتعرف على محتويات المسروقات.

    وقد دفعت هذه الملابسات إلى اعتقاد بعض المحققين بأن أسباب الجريمة ترجع على "اختلال عقلي مع ميل انحرافي للقتل والسرقة، بلا أهداف مستقبليه أو حسابات للفائدة"

    أما رسكولينكوف فقد كان تبريره للجريمة في وقت المحاكمة يرتبط بوضعه المحتاج ورغبته في التدعيم المادي وبناء أولى خطواته في الحياة بنقود المرابية، وأيضا بسبب بعض الطيش بطبعه وصغير شنه. وحكمت المحكمة بعقاب رسكولينكوف بالأشغال الشاقة لمدة ثماني سنوات فقط، وقد كان هذا الحكم مخففا بالنسبة لشخص ارتكب جريمتي قتل مرة واحدة، وقد نطقت المحكمة بهذا الحكم المخفف لأسباب عديدة، فقد أخذت في الاعتبار كل الظروف الذاتية والموضوعية الخاصة بالمجرم، فهو علاوة على تقدمه طوعا للاعتراف في الوقت الذي لم يكن هناك ثمة أدلة مادية ضده، بل على العكس كان هناك شخص مهتز عقليا ونفسيا كان قد تقدم قبل ذلك واعترف بارتكابه لهذه الجريمة، علاوة على ذلك فقد كانت ظروف رسكولينكوف قبل الجريمة قاسية وصعبة بالفعل، وإلى جانب كل ذلك فقد أخذ المحققون برأي أن رسكولينكوف لم يكن في كامل قواه العقلية وقت ارتكاب الجريمة، فشخص ينسى قفل الباب وقت الجريمة لابد أن يكون في حالة اضطراب غير عادية وبالإضافة إلى كل هذه الظروف والملابسات، فقد قدّم صديق رسكولينكوف إلى المحكمة معلومات وإثباتات تكشف الجانب الإنساني الحسن من رسكولينكوف طالب الجامعة السابق، فقد أعطى بيانات عن رفقاء الجامعة الفقراء الذين كان يساعدهم رسكولينكوف في الوقت الذي كان يرزح هو نفسه تحت وطأة الفقر، كما حكت صاحبة الدار التي كان يسكن لديها عن كيفية تطوع رسكولينكوف بإخراج طفلين من شقة تحترق وكيف نالته حروق من جراء ذلك.



    وبعد انقضاء خمسة شهور من محاكمة رسكولينكوف، نقل إلى المنفى في سيبيريا.





    .



    .



    .



    .



    يتبـــــــع ( رسكولينكــوف )



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Feb 2007
    المشاركات
    1
    معدل تقييم المستوى
    0
    السلام عليكم


    الاخوة الكرام

    لدي سؤال : هل يمكنني ايجاد مؤلفات دستويفسكي منشوة على الانترنت ,لا سيما تلك المترجمة على يد سامي الدروبي او التي نشرتها دار التقدم(رادوغا) موسكو.

    يرجى ممن يعرف شيئا عن الموضوع مراسلتي على chatter_lb@hotmail.com
    ولكم جزيل الشكر
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    <<لدي سؤال : هل يمكنني ايجاد مؤلفات دستويفسكي منشوة على الانترنت ,لا سيما تلك المترجمة على يد سامي الدروبي او التي نشرتها دار التقدم(رادوغا) موسكو.>>

    وعليكم السلام..

    تفضلــ/ي الرابط هذا :)

    http://abooks.tipsclub.com/index.php?act=view&id=5541

    توجد المجموعة الكاملة



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    3 – رسكولينكــوف:

    من هو رسكولينكوف؟ هل هو شخص غير طبيعي كان يعاني من أمراض نفسية تدفعه إلى الانتقام من الناس كي يعيش بعد ذلك كل هذه الآلام من عذاب الضمير؟ أم هو شخص يدعي دور المصلح الاجتماعي الذي يحاول التخلص من الشر دون أن يتفادى هو نفسه هذا الشيء؟ أم هو شخص " غير عادي" كما كتب هو نفسه في مقال عمن أسماهم بالأشخاص "غير العاديين" الذين يحق لهم أن يقولوا كلمتهم حتى ولو اضطرهم ذلك إلى تخطي أي عقبة في الطريق؟

    أم هو خليط من هذا وذاك معا في تركيبة متضاربة ومتناقضة معقدة، إن رسكولينكوف ورغم كل الغموض الذي لازم شخصيته إلى أنه في ذات الوقت يمثل نموذجا لأبطال دوستويفسكي المحبوبين، فأبطاله عادة يعيشون حياة روحية مضطربة ويطبعهم الفكر والألم والعذاب. وقد أثارت شخصية رسكولينكوف بالذات من بين أبطال دستويفسكي جدلا طويلا حولها، واختلفت آراء النقاد في تحليلها؟ فقد شاهد البعض فيه نفسا مريضة مهتزة العقل ومن ثم فهو لا يؤاخذ على جريمته، فمثلا الناقد سوفورين يقول:" إن رسكولينكوف شخص مريض، ذو طبيعة عصبية وختل التفكير، ولذا فإن قتل العجوز الشريرة ليس بجريمة".
    ومثل هذا التفسير لا يعتبر صحيحا وكافيا، فهو لا يأخذ بعين الاعتبار كل الظروف الموضوعية المحيطة بالبطل والتي كان لها دور كبير في ارتكابه للجريمة.
    أما بعض النقاد الآخرين فقد شاهدوا في جريمة رسكولينكوف تعبيرا عن "دراما الفكر التي ظهرت في الغرفة الخانقة الضيقة كالنعش"
    ومثل هذا الرأي لا يأخذ في الاعتبار جوانب الضعف بشخص رسكولينكوف والتي كان لها دورها. أما جزء آخر من النقاد فقد رأى في رسكولينكوف والتي كان لها دورها. أما جزء آخر من النقاد فقد رأى في رسكولينكوف " منتقما للإنسانية البائسة ولذل وآلام سونيا مارميلادوف".
    وهذا الرأي لا يعطي أهمية " الفكرة" أو النظرية لدى رسكولينكوف والتي كان لها دورها في ارتكاب الجريمة، وإلى جانب هذه الآراء كانت هناك آراء أخرى تربط بين شخصية رسكولينكوف وممثلي الحركة الاشتراكية الثورية، وهو الرأي الذي هوجم بشدة من جانب ممثلي هذه الحركة. وعموما فرسكولينكوف يعتبر من أعقد شخصيات الرواية الروسية، وربما كان رسكولينكوف نفسه لا يفهم نفسه جيدا فأي إنسان هو؟ أشرير؟ أو ×ير؟ أو مصلح بطريقته..؟ أم هو خليط من كل هؤلاء معا.
    سنحاول في هذا الجزء أن نتأمل شخصية رسكولينكوف، علنا نجد لها بعض التفسير...



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    مـــن هو رسكولينكوف..؟

    إن رسكولينكوف شاب جامعي وهب الذكاء والقدرة على التأمل والتحليل فيما يحيط به، وهو شهم بالطبع، كريم يجود بآخر ما في جيبه من أجل مساعدة الآخرين كما أنه مدافع عن الحق والمظلومين.. ورسكولينكوف حساس بالطبع يحب الطبيعة ويعشق الزهور "التي كانت تشغله بوجه خاص" كما أنه يقدس الأطفال.

    لم يكن لرسكولينكوف بالجامعة أي أصدقاء، إذ كان حسب وصف الكاتب له يتجنب الجميع، كما لم يكن يتزاور مع أحد ولم يكن يسهم في أي نشاط طلابي أو ترفيهي، لكنه كان يدرس بجد ومثابرة، ورغم تقدم رسكولينكوف في الدراسة، إلا أنه فصل لعدم قدرته على سداد المصروفات الدراسية.
    وينغلق رسكولينكوف على نفسه ويعيش وحيدا في صومعته، أو حجرته الحقيرة الكئيبة يجتر فقره وألمه وحرمانه، كان رسكولينكوف يرتدي رث الثياب ويأكل أردأ الأطعمة ويبدو بين شوارع مدينة بطرسبرج كالشحاذ، والكاتب يروي لنا كيف أن رسكولينكوف في إحدى تجولاته بمدينة بطرسبرج اصطدم بعربة سيدة من الأغنياء، فتوقفت العربة، وما أن شاهدته السيدة حتى مدت إليه يدها ببضعة قروش كإحسان، فقد بدا لها من ملبسه وهيئته كالشحاذ. ولكن رغم الفقر الشديد لم يفقد رسكولينكوف كبرياءه وكرامته. وكان ينظر إلى رفقائه بالدراسة " مثلما ينظر على الأطفال، نظره من أعلى، وكان قد سبقهم جميعا في التطور والمعرفة والعقيدة، وينظر غليهم كما لو كان ينظر إلى شيء أدنى.
    كان رسكولينكوف يعيش بمفرد في مدينة بطرسبرج بعيدا عن أمه وأخته وكانت أخته على قسط من التعليم، لكنها كانت تعمل في الفترة الأخيرة كمربية لدى إقطاعي غني وهو سفيرديجالوف الذي أساء إليها كثيرا وخرجت من بيته ومن حولها الشائعات مما جعلها تفكر في الإقدام على الزواج من كهل لا تحبه هو المحامي لوجين كمخرج لها ولأسرتها من الأزمة الطاحنة التي تعتصرهم، وكان هذا الموضوع يؤرق ويعذب رسكولينكوف بشدة، فقد كان يحب أمه وأخته حبا كبيرا، أما هما فقد كانتا تحبانه لدرجة العبادة.
    إن خطاب أم رسكولينكوف الذي تحكي له بالتفاصيل عن مشروع زواج أخته من لوجين قد أثار بشدة أشجان رسكولينكوف وأحزانه إذ كان يقرأ الخطاب ووجهه "مبلل بالدموع" لقد هال رسكولينكوف تضحية أخته بنفسها من أجل إنقاذهم، وهو ما نتبينه من المونولوج الداخلي لرسكولينكوف:"إنها لن تبيع نفسها من أجل نفسها، أو من أجل راحتها، أو حتى من أجل إنقاذ نفسها من الموت، بل تبيع نفسها من أجل شيء آخر! من أجل الشخص العزيز الذي تعبده ففي هذا يتلخص الموضوع كله، من أجل الأخ، ومن أجل الأم ستبيع نفسها".
    ولكن ماذا يملك رسكولينكوف لمساعدة أمه وأخته أو حتى نفسه...؟ ما الذي يستطيع فعله كي يمنع زواج أخته من هذا الرجل..؟ كانت الأسئلة تعتصر ذهن رسكولينكوف دون أن يجد لها جوابا.

    كان رسكولينكوف يعرف فقط أنه من الضروري عمل شيء ما، أما الأسئلة الأخرى فلم يكن هناك جواب لها بعد، وهي الأسئلة التي يصفها الكاتب بأنها لم تكن جيدة أو مفاجئة " بل قديمة العهد وموجعة" وقد خلقت فيه هذه الأسئلة حسرة كانت تزداد يوما بعد يوم،"أما في الوقت الأخير فقد نضجت وتركزت واتخذت شكل سؤال مفزع وقاس، كان يعذب قلبه وعقله ويتطلب حلا دامغا"
    راودت رسكولينكوف فكرة الانتحار كمخرج من عذاب الحياة، لكن حب الحياة كان عنده أقوى، كما فكر رسكولينكوف أيضا في إيجاد عمل يرتزق منه ويساعد به أسرته، لكنه سرعان ما تبين لنفسه عدم جدوى البحث عن عمل فهو في جميع الأحوال لن يحل مشاكله ومشاكل أسرته، ولن يتمكن من الدراسة، ومن جديد دارت "الفكرة" برأسه.
    إن هذه الفكرة لابد أن تكون فكرة مريعة فقد كان مجرد تذكرها " يجعل الرعشة العصبية بداخله تتحول إلى حمى، وكان يشعر بقشعريرة ويحس بالبرد في الحر الشديد".
    إن دوستويفسكي يبرز "الفكرة" عند البطل في ارتباط وثيق بالظروف البائسة وضغط الحياة من جهة، وحياة الوحدة والعزلة من جهة أخرى، فعزلة الشباب في المدينة الكبيرة كانت تجعلهم فريسة لمختلف الأفكار والنظريات الغريبة والأحلام المريضة والمشاعر الشاذة.
    ولكن الوحدة والظروف ليست الأسباب الوحيدة التي تثمر "الفكرة" فهناك أيضا القدر الذي يسيرنا والصدفة التي تلعب دورا في حياتنا.
    إن الكاتب كان كمن يتأرجح بين شرح الأسباب الموضوعية التي تحيط بالبطل والتي كان لها دورها في دفعه للجريمة وبين أسباب أخرى غيبية خارجة عن إرادته. فدستويفسكي يحكي كيف أنه في إحدى المرات التي كان رسكولينكوف فيها عائدا إلى بيته قرر بالصدفة أن يعرج على إحدى الحانات، وهناك "بالصدفة أيضا" سمع رسكولينكوف حديثا بين شخصين كانا يجلسان بالقرب منه، يبدو أحدهما طالبا والآخر ضابطا، وكان هذا الحديث كما يصفه الكاتب "غريبا" إذ يدور حول المرابية وأختها، وكان الطالب يحكي عن أن المرابية شريرة ومتقلبة المزاج، وأنها لا تتوانى عن القصاص من زبائنها إذا تأخروا في سداد المطلوب منهم حتى ولو كان عندهم ظروف قاهرة، وأشار الطالب أنه يود لو قتل العجوز وسرق أموالها وأنه إذا ما فعل ذلك فلن يحس حينئذ بأي توبيخ للضمير، لاسيما وأن العجوز بلهاء وتافهة لا معنى لوجودها، كما أنها شريرة ومريضة وفوق كل هذا وذاك ضارة بالجميع، ولا تعرف هي نفسها لماذا تعيش، بالإضافة إلى كل ذلك وحسب رأي الطالب فإن القوى الشابة اليافعة تضيع هباء بلا سند، وهذه القوى بالآلاف في كل مكان، ونقود العجوز التي ستؤول إلى الدير من بعد موتها يمكن أن تؤتي وتدر بالكثير من الفوائد، فهناك عشرات العائلات التي تضيع بسبب الفقر وتتفكك وتموت، وتضطر للدعارة، ونقودها كان يمكن أن تصنع الكثير لمثل هذه العائلات. وهنا صرح الطالب للضابط:"أقتلها وآخذ نقودها، وذلك كي تستطيع بمساعدتها أن تكرس نفسك بعد ذلك لخدمة الإنسانية جمعاء والخير العام" وأضاف الطالب متسائلا:" ألا تكفر آلاف الأرواح المنقذة من العفن والتفكك عن التضحية بحياة واحدة؟".
    ويعلق الكاتب على شعور رسكولينكوف ورد فعله على هذا الحديث بأن رسكولينكوف كان بالطبع في اضطراب للغاية، فقد كانت هذه الموضوعات عادية ومكررة وكان قد سمعها أكثر من مرة فقط في أشكال وموضوعات أخرى، ولكن لم تحتم الآن بالذات أن يسمع حديثا كهذا وأفكارا كهذه في الوقت الذي ولدت برأسه مثل هذه الأفكار بالضبط".
    إن دستويفسكي يشير على أهمية هذا الحديث وتأثيره فيما بعد على تطوير "فكرة" رسكولينكوف كما لو كان هناك "قدر مسبق وتوجيه"، ولذا فقد عاد رسكولينكوف بعد سماعه الحديث إلى حجرته في حالة شديدة من الإعياء، ورقد بلا حراك، وتراءت له في رقدته أحلام غريبة، كان رسكولينكوف يرى نفسه فيها ضائعا وتائها في بلاد بعيدة.
    وهاهو اليوم المشئوم، يوم تنفيذ "الفكرة"، إن الكاتب يصاحب رسكولينكوف لحظة بلحظة ويسجل كل أفكاره ومشاعره، ورغم أن رسكولينكوف كان قد قرر يرم الجريمة بناءا على معرفته بأن أخت المرابية لن تكون بالمنزل وأن المرابية ستكون بمفردها، إلى أن الكاتب يحكي أن يوم الجريمة قد أتى "بالصدفة" أما في الواقع فلم يكن رسكولينكوف يتحرك بعفوية، وبلا إرادة ووعي وتدبير وتخطيط، فقط كان يراجع نفسه في كل صغيرة وكبيرة تخص الجريمة ورسكولينكوف حين يسأل نفسه عن الجريمة وملابساتها، وعما إذا كانت الجريمة تنتج عن مرض المجرم، أو إذا كانت الجريمة تصاحب بشيء ما شبيه بالمرض، فإنه يجيب على ذلك بأنه بإقدامه على تنفيذ الجريمة لا يمكن "أن تكون هناك انقلابات مرضية كهذه،وأن عقله وإرادته حاضران معه بلا تجزئة" وينفذ رسكولينكوف الفكرة ويقتل المرابية، لم يكن رسكولينكوف شريرا أو مجرما بالطبع، فلحظة أن فتحت له العجوز بنظرات شك انتابه خوف وجزع لدرجة جعلته يضيع "ويفكر في الهرب". ومنذ تلك اللحظة لازمه الخوف والعذاب، وكما اشرنا من قبل فقد كانت محاكمة رسكولينكوف الحقيقية أمام ضميره الذي لم يسمح له بأن يحصد ثمار الجريمة ولم يتركه هادئ البال ولا لحظة واحدة، أما المدعي الحقيقي ضد رسكولينكوف فقد كان هو نفسه الذي أثقل روحه وعقله بالأسئلة حول الجريمة، لقد نصب دستويفسكي بطله حكما على نفسه، ومن خلال ذلك تعرض بالحكم على كل النظريات والأفكار التي كان يؤمن بها والتي لعبت دورها في قيامه بالجريمة، ولكن على ما يبدو فرسكولينكوف نفسه تائه في أسباب جريمته ودوافعها ونحن لا نتعرف في الحال ومرة واحدة على هذه الدوافع ولكن نتبينها بالتدريج.

    في البداية وكما اشرنا برزت ظروف رسكولينكوف الصعبة كعامل رئيسي دفع به إلى الجريمة لكي يحصل على النقود وكل مشاكله ومشاكل أسرته، لكن ما حدث بعد الرحيمة لم يثبت هذا الدافع، فقد فكر رسكولينكوف في التخلص من المسروقات بإلقائها في البحر، ولم يكلف خاطره مجرد التعرف على هذه المسروقات. ورسكولينكوف المدعي يوجه لنفسه سؤالا بخصوص هذا الموضوع:"لو أن هذا العمل قد صنع حقيقة عن وعي وليس بحماقة،و إذا كان بالفعل عندك هدف محدد وثابت، فلماذا لم تحدق حتى هذا الوقت في الحافظة لتعرف ما الذي حصلت عليه، والذي بسببه نلت كل هذه الآلام وأقدمت على عمل نذل وكريه وحقير كهذا؟ نعم، لقد كنت تريد الآن أن تلقي بالحافظة إلى الماء مع كل الأشياء التي لم ترها بعد...كيف هذا" ولكن إذا كان رسكولينكوف لم يكن قد ارتكب جريمته بدافع السرقة ، فما السبب الكائن وراء هذه الجريمة..؟

    إن التعرف على مقال رسكولينكوف عن الجريمة، والذي كان قد كتبه قبل قيامه بالجريمة ونشر له في إحدى الصحف ربما يساعد في الوصول إلى دوافع جريمة رسكولينكوف، لقد لفت مقال رسكولينكوف عن الجريمة اهتمام المحقق القانوني الذي انتابه الشك في رسكولينكوف بسبب مقاله هذا والذي بدأ يناقشه في مضمونه أثناء استجوابه له بصفته أحد الزبائن الذي كان لهم صله بالمرابية القتيل....ورسكولينكوف في مقاله عن الجريمة يقسم الناس على صنفين" على "عاديين" وغلى "غير عاديين". العاديون حسب المقال يجب أن يعيسوا في طاعة وهم لا يملكون الحق في تعدي القانون لأنهم عاديون، أما غير العاديين فلهم الحق في أن يرتكبوا شتى الجرائم وأن يتخطوا القانون بشتى الطرق فهم " غير عاديين"..ويشرح رسكولينكوف بصورة أوشح فكرته هذه بالتالي "إن غير العاديين لهم الحق في أن يسمحوا لضميرهم بإزالة العوائق في حالة وجود "فكرة" يريدون تحقيقها".
    ويذكر رسكولينكوف مثالا على ذلك بأن المخترعين العباقرة من كبار العلماء أمثال "نيوتن" لم يكن من الممكن بحال أن تصبح مخترعاتهم معروفة للناس دون التضحية بحياة شخص أو عشرة أو مائة أو غيرهم ممن كانوا يعوقون هذا الكشف أو الذين يقفون في طريقه، وإلا فإن نيوتن كان سيكون له الحق، أو حتى لزاما عليه أن يبعد هؤلاء العشرة أو مائة الشخص لكي تصبح مكتشفاته معروفة للإنسانية كلها، ولكن لا يترتب على ذلك أن نيوتن كان يحق له قتل كل من يخطر له على بال".
    علاوة على ذلك ففي رأي رسكولينكوف أن "مشرعي ومنظمي الإنسانية منذ القدم وحتى نابليون كانوا جميعا مجرمين، وذلك لأنهم كانوا وهم "يعطون قانونا جديدا كانوا بذلك يحرقون القديم المبجل في تقديس من جانب الآباء السابقين، وهم في سبيل ذلك لم يتوقفوا أمام الدم لو أن الدم استطاع فقط أن يساعدهم".

    ورسكولينكوف لا يدين هؤلاء " الخاصة" من الناس ممن يمتلكون موهبة قول " كلمة جديدة" في بيئتهم إذا ما ارتكبوا الجريمة، وذلك لأن جزءا كبيرا يسعى إلى حل الحاضر من أجل المستقبل ومن ثم فهؤلاء الناس في اعتقاد رسكولينكوف يمكن أن يسمحوا لأنفسهم " بالعبور خلال جثة، خلال الدم".

    وينتهي شرح رسكولينكوف لمقاله دون أن يتمكن المحقق من إمساك أية أدلة مادية ضد رسكولينكوف، فرسكولينكوف نفسه دارس للقانون، وهو على درجة عالية من الذكاء تمكنه من المراوغة في الحديث، وكان على يقين من أن هذه الأحاديث الطويلة من جانب المحقق بغرض إيقاعه لا تعني شيئا سوى أنه ليس ثمة "أدلة مادية" ضده، وأنه ليس عندهم " أي حقائق حقيقية أو شكوك لها أساس بقدر ما".
    ولكن هل كان رسكولينكوف يعتبر نفسه من " غير العاديين " الذين يسعون إلى " حل الحاضر من أجل المستقبل"، ولو عبر الدماء؟

    إن رسكولينكوف نفسه يتيه في دوافعه، ومن الصعب بعد التأكد من دوافع جريمته، فاعترافاته الذاتية متضاربة وهو على ما يبدو ينكر الحقيقة حتى عن نفسه، ويبدأ رسكولينكوف في كشف حقيقة دوافعه بصراحة وصدق أكثر مع سونيا، الشخص الوحيد الذي بقي على صلة به في الفترة التي سبقت توجهه للاعتراف، لقد جمعت رسكولينكوف وسونيا مشاعر العذاب والضياع وتوبيخ الضمير، فكلاهما " ملعونان" كما قال رسكولينكوف نفسه لسونيا.
    وتوطدت علاقة رسكولينكوف بسونيا بعد مصرع والدها مارميلادوف الذي كانت تربطه علاقة معرفة برسكولينكوف، قد أسرع لنجدة مارميلادوف بعد أن شاهده قتيلا في أحد الشوارع، ومنذ ذلك الوقت بدأت لقاءات رسكولينكوف وسونيا، لقد تجسد لرسكولينكوف في شخص سونيا كل "عذاب الإنسانية" مما جعله يسجد عند أقدامها وذلك رغم رفضه في البداية لفلسفتها في الحياة. إن لقاءات رسكولينكوف وسونيا بالرواية والجدل الذي كان يدور بينهما تلعب دورا كبيرا في المضمون الفلسفي للرواية، فرسكولينكوف في أحاديثه مع سونيا كان كثيرا ما يربط بين مصيره ومصيرها ويحاول أن يجد في تصرفاتها وآرائها في الحياة حلولا لمشاكل حياته ووجوده.

    فسونيا رغم احترافها الدعارة من أجل طعام إخوتها الجياع تبدو في ذات الوقت-على خلاف رسكولينكوف- شديدة التدين ومؤمنة بقدرها وعذابها، وهو ذلك التناقض الذي أشار إليه رسكولينكوف وتعجب منه فهو يقول لها:" كيف يتعايش بك مثل هذا العار وهذه الحقارة جنبا على جنب مع مشاعر أخرى متناقضة ومقدسة؟".

    ورسكولينكوف يتعجب بشدة من قدرة سونيا على المعاناة والصمود أمام الحياة المهينة التي تعيشها رغما عنها، فهو لا يستطيع أن يتحمل مثلها هذه المعاناة النفسية، وهو يقول لسونيا بعد ذلك " إنه لأعدل واعقل ألف مرة لو أنك كنت قد ألقيت برأسك مباشرة في الماء وانتهيت مرة واحدة".
    لقد كانت سونيا المهانة الذليلة هي الشخص الذي باح له رسكولينكوف بسره واعترف له بجريمته، ورغم تقبل سونيا لهذا الاعتراف ورغم رفضها لإراقة الدم أيا كانت الدوافع إلا أنها لم تنبذه عن طريقها ولم تستدر له.
    وها هي سونيا هي الأخرى تبرز في دور المحقق فتسأل رسكولينكوف عن الأسباب التي دفعته للجريمة فيجيبها في البداية: "كي أسرق"، فهل هذه هي الحقيقة؟؟.
    إن رسكولينكوف يعرف جيدا أن هذا ليس هو الحقيقة، فهو نفسه يقول لها: لو أنه "قتل بسبب الجوع، لكان عندئذ سعيدا". وسونيا هي أيضا تعرف أن هذا ليس السبب الوحيد، فهي تعلم جيدا أن رسكولينكوف قدم لعائلتها آخر ما بجيبه من نقود..ويحاول رسكولينكوف أن يبرر جريمته أمام سونيا متعللا بنفسه وطبيعتها بعد أن لاحظ أن سونيا لا تصدق أن جريمته بغرض السرقة وهو لهذا يقول لها:" إن قلبي شرير، لاحظي هذا، ولذا يمكن تفسير الكثير" وأضاف بأنه من الممكن أيضا افتراض أنه "محب للنفس وحسود وشرير ورذل وميال للانتقام وأيضا إلى الجنون" ولكن لا، فنفسه الميالة للشر ليست هي السبب المباشر أو الوحيد، إن رسكولينكوف يتراجع في اعترافه هذا، ليبدأ في الإفصاح عن الأسباب الجوهرية التي دفعته إلى الجريمة، فقد أراد "أن يصبح كنابليون" ولم تفهم سونيا البسيطة الساذجة بعض الشيء هذا الكلام، فقد بدا لها غير مفهوم، ولذا فقد بدأ رسكولينكوف يبسط لها "فكرته" التي ولدت في جو "السخط" الذي كان يعيشه، ذلك السخط الذي كان-كما يحكي- نتيجة للحياة الحقيرة التي كان يعيشها، فكما يقول:"إن الأسقف المنخفضة والمجرات الضيقة تضيق على الروح والعقل! آه، كم كنت أكره هذه العيشة! ومع ذلك كنت لا أرغب في الخروج منها، كنت لا أريد عن عمد..كنت لا أخرج أياما ولا أريد العمل، ولم أكن أريد الأكل، وكنت أرقد طوال الوقت، فإذا أحضرت ناستاسيا الطعام ( خادمة الدار ) كنت آكل، وإذا لم تحضر فلا، كان يمر اليوم دون أن أسأل عمدا من السخط! وبالليل لم يكن هناك ضوء، وكنت أرقد في ظلام ولا أرغب في العمل على ضوء شمعة، كان يجب أن أدرس، لكني كنت قد بعت كتبي وكانت المذكرات ترقد عندي على المائدة، نعم والكراسات التي يرقد عليها الآن التراب بعلو الإصبع. وكنت أفضل الرقاد والتفكير، كنت أفكر طوال الوقت...ومع ذلك كانت عندي أحلام غريبة، أحلام مختلفة، لا داعي للكلام، أي أحلام، بيد أنه فقط آنذاك كان قد بدأ يتراءى لي..."

    إن رسكولينكوف في رقاده الطويل وتأملاته الكثيرة في الواقع المحيط به قد وصل إلى أن الناس باتوا يعيشون في مجتمع الغابة، فالقوي يلتهم الضعيف، والقوي هو الذي يحكم الناس، وكما يقول " فالجامد القوي العقل والروح هو ذلك الذي له عليهم سلطان! من سيتجرأ كثيرا فهو على حق عندهم، من يستطيع البصق أكثر يكون هو المشرع، من يستطيع التجرؤ أكثر يكون أحقهم جميعا". لقد بات قانون الغاب هذا "عقيدة وقانون" رسكولينكوف، ومن ثم صارت القوة والسلطة مطمعه وحلمه، لكن السلطة والقوة لا توهبان بل يجدر "التجرؤ" وانتزاعهما، ولذا فقد قرر رسكولينكوف كما قال لسونيا " أردت أن أتجرأ وقتلت".



    رسكولينكوف بين النظرية والتجربة:

    في جو من الحرمان والفقر الشديد الذي يحرم طالبا موهوبا من دراسته وفي الحجرة الكئيبة الخانقة، ولدت عند بطل دوستويفسكي "الفكرة" التي قادته إلى الجريمة، إن الفكرة تعتبر سمة مميزة لروايات دوستويفسكي التي يبرز بها نمط البطل المفكر ذي الأبحاث الفلسفية، ومن ثم فالفكرة عند دوستويفسكي –وكما يقول الناقد تشتشيرين- تصبح في الرواية "مركزا وبدورها بطلا للرواية".

    إن رسكولينكوف ذا الشخصية المتأملة المفكرة قد وصل إلى "الفكرة" بناء على نظرية كاملة لخص بعض نقاطها الأساسية في مقالة عن الجريمة والذي سبق أن تناولناه، وبناء على هذه النظرية خطط رسكولينكوف في عناية لجريمته، وقرر أن يجرب "النظرية" أو مفهومه عن الشخصية "غير العادية" التي يحق لها أن تقول كلمتها وأن تجد حلا للحاضر من أجل المستقبل ولو عبر الدمــا..لقد قرر رسكولينكوف أن يقوم بالتجربة ليتأكد عمليا إلى أي من الناس ينتسب، ومن ثم فهو لم يذهب عفويا أو متهورا إلى الجريمة بل "كالذكي"، فقد كان يلزمه أن يعرف كما قال لسونيا هل هو "قملة كالجميع أم إنسان" هل سيستطيع أن يتخطى أم لا؟ هل سيتجرأ على الانحناء وأخذها أم لا..؟ هل هو "مخلوق مرتجف أم يملك الحق".

    وفشلت التجربة، وسقط البطل، لقد ظهر انفصال تراجيدي بين "حسبة" رسكولينكوف للجريمة وبين الحياة الحقيقة، فقد خطط رسكولينكوف لقتل المرابية "الهراء" الظالمة، لكنه اضطر لقتل شقيقتها البريئة ليزافيتا والتي لم يحسب حسابا لقتلها، والكاتب كما لو يريد الإشارة بذلك إلى أن الشر عادة ما يجر وراءه شرا آخر. وبالإضافة لذلك فإن قتل ليزافيتا "المسكينة"- كما كان يذكرها رسكولينكوف بعد قتلها-اكتسب معنى رمزيا في الرواية فالكاتب كان يقارن كثيرا بينها وبين سونيا المظلومة الذليلة، ولذا فقد أخطأ رسكولينكوف حين كان يتصور أحيانا أنه بجريمته سينتقم من عالم الظلمة، فقد ضل هو بهذه الجريمة على هذا العالم الظالم الذي يظلم ويضطهد الأبرياء أمثال سونيا وليزافيتا.

    والأهم من ذلك كله أن رسكولينكوف كان يتصور وهو يخطط لجريمته أنه سيستطيع أن يقف في جانب الشر دون تهديد للضمير، لكن العكس حدث، إذ لم يستطع أن يتحمل وزر العذاب النفسي الرهيب الذي لازمه بعد الجريمة فهو بطبعه إنسان خير وشهم ومحق، ومن ثم بات واضحا أن طبيعة البطل لم تكن متكافئة مع "الفكرة" وأن هذه "الفكرة" لم تكن سوى مجرد جزء صغير من نفسه، وقد دخل هذا الجزء في تناقض مع طبيعة البطل، وأكدت التجربة لرسكولينكوف وكما قال لسونيا "أنه لم يكن له الحق في الذهاب" لأنه كما يقول "نفس القملة كالجميع".
    لقد بات واضحا بالنسبة لرسكولينكوف أن طريقه كان طريقا خادعا، وفكرته كانت خاطئة لم ينل من ورائها سوى الموت الروحي، وتبدل مثل رسكولينكوف الأعلى، ولم يعد يتطلع على "غير العاديين" فهو لم يجد السلوى والطمأنينة على عند "العاديين"، إذ برزت سونيا المحطمة المعذبة كملاذ أخير له، وكانت هي الشخص الذي "نشد فيه الإنسان حين كان يلزمه إنسان"، كما أصبح طريقها طريقة، ألا وهو طريق المعاناة والصبر والبعث الديني، وهو الطريق الذي كان يسخر منه رسكولينكوف من قبل. إن رسكولينكوف قبل أن يتوجه للاعتراف يسجد على الأرض في أحد الميادين وبين "العاديين" ويقبل الأرض "القذرة" في "لذة وسعادة".

    ورسكولينكوف لا يبتعد فقط عن نظريته، ولا ينبذها فقط عن طريقه، بل تصبح بالنسبة له مصدرا للاشمئزاز، فحين شاهد رسكولينكوف-عند أمه حيث كان ذاهبا إليها لوداعها قبل التوجه للاعتراف- مقالة عن الجريمة الذي يلخص فيه نظريته، اعتراه الحزن والهم،"وتركز به كل صراعه الروحي في الشهور الأخيرة مرة واحدة، فألقى بالمقال في نفور وهم على المائدة".

    ورسكولينكوف رغم معرفته بالحكم الذي سينتظره بعد الاعتراف إلا أنه لم يفقد تفاؤله بالمستقبل، وهو يودع أخته قائلا" سأحاول أن أكون شجاعا وشريفا طوال حياتي، رغم أنني قاتل، وربما ستسمعين اسمي في وقت من الأوقات".

    وفي المنفى حيث كان يقضي رسكولينكوف فترة عقوبته في سيبيريا، وحيث كانت سونيا في جواره، يحدث تحول وبعث برسكولينكوف، ويحدث الالتحام بين روحي رسكولينكوف القاتل السابق وسونيا الخاطئة، فقد رحلت سونيا على سيبيريا وراء رسكولينكوف واستقرت هناك لكي تكون قريبة منه، واستطاعت أن تكون لنفسها معارف وأصدقاء، وأن تجد لنفسها عملا شريفا تعيش منه بعد أن امتهنت مهنة الحياكة، إن رسكولينكوف وسونيا يبعثان من جديد، "فقد بعثهما الحب، واحتوى قلب أحدهما على منابع لا نهائية من الحياة من أجل قلب الآخر".

    لقد طريق رسكولينكوف صعبا وشائكا، بيد أنه ليس من العسير ملاحظة تعاطف الكاتب مع بطله "المجرم" فرسكولينكوف لم يكن فقد جانيا، بل كان أيضا مجنيا عليه، وإذا حاولنا أن نلخص لدوافع جريمته فسنجد أنها مركب متشابك من الدوافع الذاتية والموضوعية، فمن جهة دفعت الظروف الصعبة اليائسة برسكولينكوف إلى حياة الوحدة والانطاء مما أعطاه فرصة الانغماس في التأملات والأفكار، وكشفت تأملات رسكولينكوف عن واقع يسوده الظلم ويسيره قانون الغاب، ومن ثم اهتدى البطل إلى "فكرته" كمخرج من ضائقته وكحل لآلامه. بيد أن ظروف رسكولينكوف ليست الدافع الوحيد للجريمة فهناك أيضا نفسه المهزوزة المريضة، فهو يبرز كشخصية منطوية منفصلة عن الناس ومغرورة ومتعالية، مما يسمح بتغلغل مثل هذه الفكرة التي خلقت به وعيا مريضا بدا من خلاله كل شيء أمام رسكولينكوف قاتما وشريرا.

    وعليه فإن أيا من الأسباب الذاتية البحتة التي ترتبط بنفس البطل وحدها أو الموضوعية الاجتماعية الخاصة بظروفه لا تكفي، فقد كان لكل هذه الأسباب جميعها متضافرة دورها وعلاقتها بارتباكه الجريمة.

    ورسكولينكوف يعتبر بلا شك حلقة جديدة في سلسلة الرواية الروسية التي تصور الشاب المعاصر ومشاكله الاجتماعية والنفسية، وصورة رسكولينكوف ذي التكوين العقلي الفردي النابليوني وذي الأحلام الطائشة ليست بالجديدة على الرواية الروسية فقد سبقتها صور شبيهة، ولعل رسكولينكوف بتجربته الذاتية يذكرنا ببيتشورين بطل ليرمونتوف في رواية "بطل العصر" التي سبق أن تناولناها وبالذات في الجزء من الرواية الذي يذهب فيه إلى "بثامان" مع الفارق في الظروف التي تغيرت بتغير الزمان.

    وشخصية رسكولينكوف تتميز بالعمق في التحليل وهي تعتبر بحق-كما أشار العديد من النقاد-ذخيرة عبقرية لدستويفسكي في تطوير الرواية الروسية. وأهمية رسكولينكوف لا ترتبط فقط بالتحليل النفسي البارع وأيضا الفني لأخطاء البطل وتجربته، بل ترتبط أيضا بتلك الموضوعات الفلسفية والأخلاقية الهامة التي تطرق غليها الكاتب من خلال بطله والتي نلخصها فيما يلي:

    أولا: فيما يخص استخدام الجريمة كأسلوب من أساليب الاحتجاج ضد الظلم الاجتماعي ومن أجل حل مشاكل الحاضر، فقد رفض الكاتب تماما هذا الأسلوب ولا أدل على ذلك من المأساة التي انتهى إليها البطل بعد الجريمة، وخير شاهد على ذلك أيضا تعليق الكاتب على حالة بطله بعد الجريمة وهو في بيت العجوز، فقد كتب عن رسكولينكوف يقول:" لو أنه فقط تمكن أن يدرك كل صعاب حالته، وكل فظاعتها وسخافتها، ولو أنه تفهم آنذاك كم من الصعاب وربما أيضا الشرور مازال أمامه تخطيها كي يخرج من هنا ويصل على منزله، لربما كان ألقى بكل شيء للتو وذهب بنفسه يعلن عن نفسه، لا بسبب الخوف على نفسه، بل بسبب الرعب نفسه والازدراء من ذلك الذي صنعه".

    ثانيا: فيما يخص تفسير الكاتب للجريمة كظاهرة كائنة فقد اختلف دستويفسكي مع علماء الاجتماع الذين يربطون الجريمة بالظروف المحيطة وحدها، فقد شاهدنا الكاتب وهو يحاول أن يجسد تفسيرا لجريمة رسكولينكوف في نفسه هو، إذ كان دستويفسكي يعتبر أن البيئة وحدها لا تكفي لتفسير الجريمة، هي ليست بالمصدر الرئيسي للشر، فهناك أيضا نفس الإنسان ذات الجانبين ( الخير والشر )، وهذه الازدواجية من شأنها أن تكون مصدرا للشر، ولذا نجد الكاتب يسخر صراحة في روايته من الآراء التي "لا تأخذ في الحسبان الطبيعة" وهو لهذا يرى أنه من أجل تحطيم الشر لا يكفي تغيير البنيان الاجتماعي، بل يجب تغيير الإنسان نفسه، وما حدث مع بطله. ومن هنا يصبح واضحا تأرجح الكاتب بين شرحه للمؤثرات الغيبية والموضوعية التي أثرت على البطل.

    ثالثا: تعرض الكاتب من خلال نقده "لنظرية" رسكولينكوف أو "فكرته" لموضوعات الفكر الثوري والثقافي الأوروبي المعاصر له، ففيما يخص موقف الكاتب تجاه الفكر الثوري المعاصر له فقد ربط الكاتب بين احتجاج رسكولينكوف الفوضوي بالجريمة وبين الفكر الاشتراكي الثوري، وقد ألمح إلى ذلك وكما أشرنا في مواضع مختلفة بروايته، منها على سبيل المثال أللقطة التي تحكي عن حديث الطالب للضابط وهو الحديث الذي سمعه رسكولينكوف فجأة، وهو الحديث الذي يمثل حسب وصف الكاتب "الأحاديث" و"الأفكار الشابة" والذي كان يدور مثله تماما برأس رسكولينكوف. كما هاج الكاتب أيضا على لسان رسكولينكوف الفكر الليبرالي المعاصر الذي كان ينادي بالتقدم البطيء التدريجي للحياة والحضارة، فبطله يقول " لا، إن الحياة تعطي لي مرة واحدة، ولكن لن تكون أبدا مرة أخرى، وعليه فلست أريد انتظار "السعادة العامة" فأنا نفسي أريد أن أعيش، وإلا فالأفضل ألا أعيش".
    وقياسا على ذلك يمكن فهم فلسفة الكاتب ونظرته للتغيير فقد كان يسعى إلى أن يجد "الإنسان بالإنسان"، ومن ثم كان بعثه لبطله بعثا دينيا وأخلاقيا وروحيا.
    .



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  9. #21 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    4- في التكنيك الفني للرواية

    تعتبر "الجريمة" والعقاب أول رواية اجتماعية فلسفية لدوستويفسكي وذلك لأن تصوير واقع حياة الشخصيات في الرواية ينفصل عن وصف أبحاثها الفلسفية والأخلاقية.


    وتتصف "الجريمة والعقاب" بتلك السمة العامة المميزة لروايات دوستويفسكي ألا وهي الشكل الدرامي، فالرواية تتصف بديناميكية الأحداث وتوترها، وبالجو المحموم الذي تجري به الأحداث التي تحدث في زمن محدود ومكان محدود، فدستويفسكي عادة ما يتجنب في رواياته البسط الواسع للزمان والمكان.
    والكاتب لا يبدأ روايته بالحديث عن ماضي وحياة بطله السابقة للجريمة، بل يدخل سريعا بالقارئ إلى الأحداث الهامة في الرواية ويقترب للتو من نقطة حاسمة بالرواية، فنجده بعد سرد سريع لأحداث اليوم الذي سبق الجريمة ينتقل مباشرة بعد ذلك لوصف أحداث الجريمة نفسها التي تمثل حبكة الرواية.

    وكما سبق أن أشرنا "فالجريمة والعقاب" تنقسم إلى جزأين: جزء صغير يتناول وصف تنفيذ الجريمة، وجزء أكبر يصف عقاب البطل، وهو الجزء الذي يتسم بالتحليل النفسي العميق، وتغلب عليه السمة التراجيدية فالبطل نتيجة للجريمة التي قام بها موضوع أمام اتخاذ قرار يتوقف عليه كل مصيره التالي ووجوده، وفي جميع الأحوال يبدو هذا المصير مظلما وتعسا.

    إن دوستويفسكي يأتي في الرواية كشاهد عيان يسمع كل شيء، وينصت إلى وجهات نظر شخصياته، وينظر إلى العالم بأعينهم، وهو أحيانا يحكي عن بطله الرئيسي بضمير الغائب، وأحيانا أخرى يلتحم صوت الكاتب بصوت بطله، وأحيانا يبدو أن البطل يحكي بنفسه للكاتب عما يحدث.

    ودستويفسكي لا يصف الأحداث من وجهة نظر المراقب الخارجي الذي لا علاقة مباشرة له بالأحداث، بل يمر بالأحداث خلال استيعاب بطله الرئيسي وتبعا لحالته النفسية الداخلية، ولذا فإن سرعة أو بطء الأحداث تتغير تبعا لحالة البطل، فنجد الأحداث أحيانا تحدث في بطء وذلك مثلما حدث في لقطة قتل العجوز..وأيضا اللحظات التي تصف المعاناة النفسية لرسكولينكوف، وأحيانا أخرى نجد الكاتب يسرع بزمن الأحداث في كثير من اللقطات التي تصف لقاءات رسكولينكوف لمختلف الشخصيات. ولا يلعب وصف المكان والشخصية عند دوستويفسكي دورا مستقلا، بل يعتبر جزءا من الحدث والمضمون، فمثلا وصف الكاتب لحجرة رسكولينكوف الكئيبة أو للحانة التي يتقابل فيها رسكولينكوف في بداية الرواية مع مارميلادوف والد سونيا..لا يعتبر وصف هذه الأماكن شيئا مستقلا بل هو يلعب دورا مساعدا في كشف صورة العالم المادي المحيط بالبطل والذي بعث فيه النفور والسأم.

    وأما وصف الشخصية، فهذا الوصف يساعد كثيرا في تفهم طبيعتها وصفاتها، من ذلك وصف ليزافيتا "المسكينة" أخت المرابية، فقد وصفها الكاتب من خلال استيعاب الطالب الذي كان يجلس بالقرب من رسكولينكوف بالحانة ويتحدث مع الضابط عن المرابية، وصفها بالتالي: "لقد كانت تعمل ليلا ونهارا، وكانت تعمل بمنزلها بدلا من الطباخة والغسالة وعلاوة على ذلك كانت تحيك الملابس وتبيعها وكانت تعمل حتى بالأجر في مسح الأرضيات وكانت تكسب النقود، وكلها لأختها ( المرابية ) ولم تكن تتجرأ أن تأخذ على عاتقها أي قرار كطلب شراء أو أي عمل بدون إذن العجوز....وكان وجه ليزافيتا طيبا وعيونها أيضا طيبة للغاية بدليل أنها كانت تعجب الكثيرين....وهي هادئة ووديعة وحليمة، ومطيعة، مطيعة في كل شيء"
    لقد انطبع هذا الوصف لليزافيتا في ذاكرة رسكولينكوف وقت قتله لها، وبعد ذلك كان يتذكر في عذاب فتله لليزافيتا المسكينة التي كانت بلا وعي منه ترتبط صورتها المستغلة المظلومة في ذهنة بصورة سونيا.

    وفيما يتعلق برسكولينكوف فالكاتب لا يصف للتو لك حياته وظروفه وأفكاره ومشاعره، بل يدخل بالتدريج في الرواية معلومات عن ظروف حياته وعن تلك الأفكار والمشاعر التي تراوده، فمثلا بالنسبة "لفكرة" رسكولينكوف- وكما شاهدنا – فهي لا تبدو واضحة للقارئ في البداية، كما أن معتقدات البطل المختلفة والتي تناولها في حديثه مع المحقق عن مقالته وفي حديثه حتى مع سونيا لا توضح مباشرة أبعاد "الفكرة" بل نتبين هذه الأبعاد تدريجيا كلما انغمسنا أكثر وأكثر في عالم أفكار رسكولينكوف قد تبدو في نظام لا يتسم بالمنطق والتسلسل بل هي تبدو أو تخفى تبعا لحالته النفسية وطبيعة من يتحدث إليه.

    .

    .
    و......
    .

    .

    يتبــــــع.......



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  10. #22 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    من أطل الغياب عاد بالغنائم
    رد مع اقتباس  
     

  11. #23 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة طارق شفيق حقي مشاهدة المشاركة
    من أطل الغياب عاد بالغنائم

    آه ياريت :)

    أهلا بك



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

  12. #24 رد: " دستويفسكــــــــي " .... في أعينهـــم 
    كاتب مسجل
    تاريخ التسجيل
    Jun 2006
    الدولة
    رصاصة في الرأس
    العمر
    48
    المشاركات
    70
    معدل تقييم المستوى
    18
    إضـــافة ليست من الكتاب!..
    " سفيدريكايلوف" __ الوجـه الآخـــر!


    بعد انتهيت من رواية دوستويفسكي الرائعة جدا "الجريمة والعقاب" سألت أخي الذي سبقني إليها عن أي الشخصيات أثارته فكان رأيه "بروفير بيتروفيتش"، قاضي التحقيق، مبهورا بكونه علم منذ البداية بأن رسكولينكوف هو القاتل الحقيقي للمرابية العجوز..

    ولما سألني قلت له بابتسامة من توقع ورغب بالسؤال " سفيدريكايلوف "، فقطب جبينه لثانية وكأنه يتساءل من هو لكنه أبقى تقطيبه ذاك حين عرف من أعني!

    يظهر "سفيدريكايلوف"- أو "سفيرديجالوف" بحسب الترجمة- مع الأحداث الأولى للرواية في رسالة موجهة من أم رسكولينكوف لولدها تحكي له عن محاولة إغوائه- "سفيدريكايلوف"- لـ"دونيا" أخت "رسكولينكوف" التي تعمل في منزل الأول، وكيف تحملت الأخت – الشريفة حتى النهاية- ما تحملته من تشهير من قبل الزوجة حتى اعترف لها زوجها بالحقيقة أخيرا، فاعتراها الذنب وراحت تعتذر بطريقة مبالغ فيها إذ لم تترك أحدا إلا وخبرته سواء بالإعلان العام أو بالطرق على الأبواب!.

    ثم يظهر بعد ذلك شخصيا مع بداية الجزء الثاني من الرواية*، حين يفيق "رسكولينكوف" من كابوس مرعب شاهد فيه المرابية العجوز فيجده أمامه.
    وتكون زوجته قد ماتت، وسبقته الشائعات -التي تصبح كشيء قابل للتصديق بسبب ماهيته، وأحيانا أخرى لا تهم!- بأنه قتلها كما تقول أنه تسبب في موت خادمة وفتاة صغيرة!

    باختصار "سفيدريكايلوف" ماجن يهوى النساء، مستغل ويعترف نفسه بفجوره في أحاديث تمت بينه وبين "رسكولينكوف"، بل وله فلسفته الخاصة عن وضعه فيقول: "إن للفجور شيء من الاستمرار يضفيه على الطبيعة، وليس عليه أن يتحمل نزعات خيالاتنا وأهوائنا، إن فيه شيئا دائما أشبه بالشعلة المتوقدة في الدم، على استعداد أبدا لمتابعة اللهيب الذي لا ينطفئ بمرور السنين"
    وحين يجيبه "رسكولينكوف" بأنه: " مرض، ومرض خطير"، يرد: " إنني أوافقك على أنه مرض ككل شيء يتجاوز حده، والحدود هنا لا يمكننا إلا أن تتجاوز، لكن الأمر الذي قد يكون على غرار هذا بالنسبة للبعض لا يكون كذلك بالنسبة للآخرين"....
    وذلك الحوار تحديدا يصل لنهاية أو استقراء من قبل "رسكولينكوف": " هل أنت على استعداد لقتل نفسك! إذا أخفقت في هذا المضمار؟".. فيشمئز "سفيدريكايلوف" قائلا بأنه يكره الحديث عن الموت!..

    ولعله في الحديث أعلاه يكمن الفرق الجوهري بين الاثنين "فرسكولينكوف" كان على طول السرد محتارا من الأسباب الحقيقية التي أدت به إلى القتل، هل هي فكرية كفكرة "الإنسان المتفوق / الغير عادي" المطروحة في إحدى مقالاته، أم اجتماعية للحصول على المال، أم لأنه ببساطة شرير كما يردد، لكنه وبضمير معذب يعترف بأنه قتل نفسه بفعلته تلك، ويشمئز منها وتطارده حد مقاربة الجنون!.
    في حين يعتبره سفيدريكايلوف كطبيعة فيه، وإن كانت شرا فهي شر لا بد منه!..

    لقد كان دوستويفسكي كريما في وصف الخلفية النفسية والفكرية لكافة الشخصيات وبلسانها، إما عن طريق الحوار أم بسرد حالتها النفسية بتمعن، كأوهام "رسكولينكوف" ومرضه، وكذلك الحال بالنسبة لـ"سفيدريكايلوف".
    ولعل القارئ سيلحظ التشابه بين "سفيدريكايلوف" و"رسكولينكوف" كما هو بين "دونيا" التي أحبها "سفيدريكايلوف" ورأى فيها خلاصه، و"سونيا"- العاهرة- التي كانت حب وخلاص "رسكولينكوف"..

    إن المفارقة تكاد تبدو ساخرة في الحب المربع أعلاه، تشابه آخر يجري بين الاثنين غير كونهم مثقفين، وهي من جهة مشاهدة الأشباح، أشباح ضحاياهم، خوف الاثنين من الموت، حبهم الكبير للأطفال ومساعدة المحتاجين ولو بكامل ما يملكون!..

    كما نقف عند تشابه دونيا من حيث مقاربتها على التضحية بنفسها بالزواج من "لوجين" ،الذي لا يناسبها إطلاقا، في محاولة لمساعدة أمها وأخيها مع إسقاط حساب نفسها لأجلهم، وهو كما يراه الكاتب أو بالأحرى "رسكولينكوف" لا يختلف أبدا عن بيع "سونيا" لجسدها لأجل أسرتها فقط، وإن كان في نواح يعذر للأخيرة فعلتها وأحيانا أخرى يتعمد إهانتها!
    و"سفيدريكايلوف" في أحاين يلوم دونيا على ما يظنه تودد له ولو بحسن نية!

    وكلا المرأتين تتفقان على رسكولينكوف قد أزهق روحا بشرية من غير حق ودفعتاه للاعتراف، إلا أن قرار المرأتين اختلف بخصوص هذين الرجلين، "فسونيا" بقيت حتى النهاية تدفع "رسكولينكوف" –بحب- للتوبة والاعتراف لإنقاذ نفسه وبقيت متفانية ومخلصة حتى بعد ذلك، في حين رفضت "دونيا" "سفيرديكالوف" رفضا قاطعا أدى به إلى نهايته هو!

    كلا المرأتين أحبهما رجلين خاطئين، الأول ،أو لعل كلاهما، قاتل، والثاني عربيد، والاثنان يريان في المرأتين باب أو متنفس للخروج من العفن الذي ولجا فيه لأسباب عديدة..

    ويرى الواحد الآخر صورة معكوسة لنفسه، فحين يتعمد "سفيدريكايلوف" على سرد مجونه "لرسكولينكوف" في آخر لقاء لهما يقول فرحا: " هل تصدق أنني أجد رغبة في الاستمرار في سرد هذه القصص لأصغي إلى استنكارك وصياحك. إنه سرور حقيقي!"
    يغمغم "رسكولينكوف" :" لست أشك في ذلك، أو لست أنا بنفسي شاذا بنظري في هذه اللحظة؟"

    ومن بعدها يفترقان، ليتجه "سفيدريكايلوف" إلى هدفه الوحيد لوجوده في بطرسبرج " دونيا " متسلحا بكونه يعرف حقيقة أخيها القاتل، المرأة التي لعله آمن بأنها ( ستنقذه )! وأنفق كل السبل في سبيل الحصول عليها نبيلة كانت أم غير شريفة!..أو أنه ببســاطة كانت هدف يرغب في الحصول عليه بشتى الوسائل، ولو أنني أميل للسبب الأول بالنظر للنهاية التي انتهى بها!

    يلتقي معها، يهددها ثم يغويها من جديد، لكنها ترفض فيقول: " إنك تعرفين بأنك تقتلينني"، لا يتوقف ويطلب حاجته بالقوة، تفاجئه بمسدسه، تنطلق الرصاصة، تخدشه، ومن ثم تلقي بالمسدس مستسلمة! وتلك اللحظة الرهيبة يصفها دوستويفسكي في "سفيدريكايلوف":
    " لم يكن قلقا بسبب الموت المرتقب إذ أنه كان من المشكوك فيه أن يكون شاعرا بمثل هذا الإحساس في تلك اللحظة. لقد كان مستغرقا في شعور قاتم متطير كان يحار في تفسيره ومعرفة بواعثه"...
    فيقترب من دونيا ويسألها للمرة الأخيرة" على ذلك فلن تحبيني"
    ثم بيأس يكرر " ولا... يمكنك أن تحبيني؟ أبدا؟"
    وحين يجد الرفض في المرتين يوليها ظهره ويتركها تنصرف وكأنه يتخلى أخيرا عن أمله الوحيد في الحياة، لتبدأ بعد ذلك صفحات مخصصة له في الرواية وربما إحدى أكثرها حراكا وسوداوية، يعرج على "سونيا" يقول لها: " أمام "روديون رومانوفيتش" طريقتين لا ثالث لهما: إما أن ينتحر ، وإما أن يمضي إلى سيبيريا". ويترك لها المال، قائلا بأنه كأنه يتركه "لرسكولينكوف" أساسا، يؤدي ما عليه وما يريد، تنتابه الهواجس والكوابيس، وأمام جندي لا ينفك أن يقول:" ليس هناك المكان الذي تريد" يستل مسدسه ويسدده على صدغه الأيمن ويضغط على الزناد منهيا بذلك دوره في دراما فعلا قوية .
    ويتفاجأ "رسكولينكوف"- وهو في قسم الشرطة- و(يرتعد) حين يعلم بمصير "سفيدريكايلوف" ، ويشعر "كأن حملا ثقيلا قد انهار فوقه وسحقه"، ليخرج ويعود في نفس اللحظة ويعترف بالجريمة..

    بالطبع ستختلف الآراء والقراءات حول "سفيدريكايلوف" كما حصل و"رسكولينكوف" ولو عمومها سيتجه لكون الأول صورة المجرم بطبيعته يستغل ماله وصلاته في الحصول على مراده وإشباع ميوله الشاذة، وأنه أمثولة لأشخاص كثيرين موجودون حتى الآن بيننا، وأيضا لكونه صورة للعدمية في الرواية..

    إن دوستويفسكي لم يقصر أسباب الانحراف على المجتمع والأفكار الثورية فحسب بل أيضا جعل للنفس والشر فيها دورا هاما ومؤثرا، وربما كان هذا السبب في كون "سفيرديكالوف" يمثل دور من يكون الشــر فيه أكثر منها ضغوط مجتمع وأفكار ومثل ثورية، والتي ممكن إصلاحها باعتبارها شيء دخيل على نفس نقية، لكن من يعتبره-شذوذه- طبيعيا فيقول مرة:" أعلنت لها استحالة بقائي مخلصا لها كل الإخلاص" ولعل نهايته الدموية هي رأي آخر للكاتب أن من كان الشر فيه فإصلاحه صعب أو حتى مستحيل، وأنه إما سينتهي للجنون أو الانتحار..

    فلم اختلف مصير الاثنين وهل قصد دستويفسكي بذلك كون أنه بذرة الشر هي التي تقضي على الإنسان وليست فقط الظروف الاجتماعية والفكرية وإن أورد لها حسابا هاما في معرض نقده الواضح للأفكار السائدة في ذلك العصر؟!

    صحيح أن الإنسان هو عامل متغير بفعل الزمان والمكان، لكن دستويفسكي- المؤمن بالمسيح- لعله يؤكد هنا حيوية جوهر الإنسان وأنه هو فقط يمتلك الحق في اتخاذ قراراته، فدوستويفسكي- كما يوافق الكل- يقوم في نهاية رواياته بعملية تطهيرية لمعظم الشخصيات، فهل كان انتحار "سفيدريكايلوف" تطهير، أم أنها حالة أخرى لعدم جدوى إصلاح بعض النفوس؟!

    إلى جانب كون الإيمان يلعب دورا كبير في روايات دستويفسكي فهو وعلى الرغم من مقولة البعض أنه تكلم عن العدمية أو تجاوزوا للقول بأنه عدمي!، إلا أن دستويفسكي ينتهي دوما بأولئك غير المؤمنين في رواياته – "الجريمة والعقاب"، "الأخوة كارامازوف"- إلى الجنون كما حصل لـ"ايفان"، والانتحار كما "سمرد ياكوف" في "الأخوة كارامازوف"، و يمكن أيضا أن ندرج "سفيدريكايلوف" فهو مثل للإلحاد والعدمية وهي التي تقول بأنه "مادام الله غير موجود إذن كل شيء مباح"..وإن كنت لا أذكر إن تحدث "سفيدريكايلوف" عن إيمانه من عدمه أم لا حاليا! :)

    الخوض في نفسيات شخوص "الجريمة والعقاب" مغامرة لا تنتهي ولا ينضب معينها!.
    قال جوته مرة "أن تكون عظيما يعني أن لا تنتهي" وقد كسب دستويفسكي ذلك بتقدير عالٍ ومستحق ويثني النقاد على ذلك بقولهم أن روح الجريمة والعقاب ستحلق على روايات القرن الواحد والعشرين..


    جملة دوما تجتاحني في أمر كهذا ولا أدري هل أنسبها لبوارو بطل أغاثا كريتسي أم اختلفت عليّ الروايات الكثيرة في ذلك الوقت، المقولة هي كــ " الرجل يمكن أن تكون نهايته على يد امرأة (شريفة)"..
    ولعل هذه المقولة الآن تنطبق على كل من "رسكولينكوف" و "سفيرديكالوف" الذي اختار كل واحد منهما إحدى نهايتين أو خلاصين قادتهما أو ساعدتهما في ذلك المرأتين التي أحباهما!

    ومن ناحية أخرى قال بوارو أيضا لامرأة أو ذات المرأة فيما معناه " يمكن أن تحبي لصا لكن لا يمكن أن تحبي قاتلا"!



    * "الجريمة والعقاب" الترجمة الكاملة_ الجزء الثاني
    عن دار مكتبة الحياة

    المصدر: هنــــا! :)



    "Who am I ? I am what I am and I am not what I am"

    Sartre
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 31/05/2012, 02:09 PM
  2. مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 12/12/2011, 12:53 AM
  3. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/11/2011, 11:37 PM
  4. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 17/05/2011, 07:39 PM
  5. مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 04/05/2011, 11:38 PM
ضوابط المشاركة
  • تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •