مــن كتاب "الرواية الروسية في القرن التاسع عشر"

تأليف: د. مكارم الغمري

من سلسلة "عالم المعرفة"





دستويفسكي أحد أئمة الرواية الروسية الكلاسيكية، فإنتاجه الروائي يشغل مكانة هامة وخاصة لا في تاريخ الرواية الروسية فقط بل وفي الرواية العالمية أيضا.

تشكل تجاه دستويفسكي إلى الرواية كفن تحت تأثير التجربة الروائية لكل من بوشكين و جوجول، كما أشار الكثير من الباحثين أيضا إلى أهمية رواية كل من بلزاك وجورج صاند و فيكتور هوجو وديكنز بالنسبة لروايات دستويفسكي.

برز دستويفسكي في الساحة الأدبية في أربعينيات القرن الماضي، واتسم إنتاجه الروائي منذ أول رواية له وهي " المساكين بالمنهج الفني الجديد، فنجده يبتعد عن الخط الهجائي المميز لرواية معلمه جوجول الذي كان يجذب اهتمامه وصف الحياة الموضوعية المعيشية بأنماطها المتعددة، واتجه دستويفسكي إلى البحث العميق في نفس أبطاله حيث يعطي الكاتب من خلاله صورة للواقع والحياة "الجارية".

كتب دستويفسكي القصة والرواية، وكانت أشهر رواياته " المساكين ( 1845 )، "المحقرون والمهانون" (1861)، "الجريمة والعقاب" (1866)، "الأبله" (1869)، "الشياطين" (1822)،"المراهق"(1875)،"الإخوة كارامازوف" (1880).

ويعتبر وصف حياة فقراء المدينة من أكثر الموضوعات المحببة عند دستويفسكي الروائي وقد اتجه إلى هذا الموضوع في العديد من رواياته، من ذلك "المساكين" "المحقرون والمهانون"،"الجريمة والعقاب".

ودستويفسكي في تصويره لحياة الفقراء ينحو نحوا جديدا، فهو لا يهتم بتصوير اللوحات المعيشية التي تعكس الفقر والتناقضات الاجتماعية التي تحكم وجود الفقراء قدر اهتمامه بتصوير العالم الروحي والأخلاقي للفقراء، والذي يبرز في ارتباط وثيق بوجودهم المادي، فالمشكلة الاجتماعية للفقر تبرز في روايات دستويفسكي من خلال المشكلة الأخلاقية والنفسية. والعالم الداخلي لفقراء دستويفسكي هو عالم صعب ومعقد، فرغم ما يظهر فيه من غيظ وحنق وأنانية ورغم ما يسيطر عليه من أفكار كاذبة أو وعي مريض، فهو مع ذلك عالم الخير والمشاعر الطاهرة ومبادئ الإنسانية والأخوة والضمير الحي والنفس القادرة على التضحية والمعاناة والتصحيح.

حملت روايات دستويفسكي بصمة الواقع المعاصر، فهي تصور الكثير من أحداثه الجارية ومشاكله الملحة كالجريمة، والركض وراء المال، ووقوع الإنسان ضحية الإغراءات والأفكار الشريرة، والانفصام بين الشخصية والمجتمع وبين الطبقات الحاكمة والشعب، وتفكك وسقوط الركائز العائلية التقليدية وأزمة الحياة الاجتماعية المعاصرة، ومشكلة وجود الإنسان بها وخلافه، كما اهتم دستويفسكي أيضا في ستينات وسبعينات القرن الماضي برسم نمط البطل المفكر ذي العقل المتأمل والاتجاه التحليلي تجاه الواقع، وهو الذي برز في أشهر رواياته "الجريمة والعقاب" و "الإخوة كارامازوف". لكن بطل دستويفسكي هذا – ورغم ما يملكه من إمكانات عقلية وفكرية كبيرة- يظهر فريسة للأفكار الكاذبة المضللة ويبدو بعيدا عن الشعب ولا يشارك في الحركة التحريرية لبلاده مع أن فكره يتيه في البحث عن مخرج من أزمة الحياة، وهذا البطل يسيطر عليه شك عميق تجاه المثل الثورية الاشتراكية والليبراليه. ويتأرجح بين الاتجاهات الفوضوية المدمرة وبين الأفكار الدينية التي تدعو إلى الخنوع.

ورغم أن دستويفسكي حاول أن يربط بين هذا النمط من الأبطال وممثلي الحركة الاشتراكية الثورية وأن يسخر ويشوه بشكل أو بآخر ممثلي هذه الحركة، إلا أن روايات دستويفسكي على الرغم من ذلك اعتبرت ذات أهمية بالنسبة لتطور الحركة الثورية في روسيا، فقد كان هؤلاء الأبطال بمثابة تجسيد للأقلية الصغيرة من شباب الحركة الثورية ممن وقعوا تحت تأثير أفكار ونظريات مضللة، وقد أوضحت الدراسة النقدية للأشكال المختلفة لهذه الحركة عدم صلاحيتها وقوتها المدمرة، ومن ثم اكتسبت رواية دستويفسكي قوة تطهيرية كبيرة، وعلاوة على ذلك فأهمية رواية دستويفسكي ترتبط بسماتها العامة وفي مقدمتها الروح الديمقراطية والإنسانية، فدستويفسكي يرفض في رواياته ويهاجم الشر الاجتماعي ويرسم لوحة مريعة للتناقضات بين الأغنياء والفقراء، ويحدق في ألم وتعاطف في مصير الإنسان البسيط المضطهد من الشعب والذي كان يؤمن به إيمانا كبيرا.

كما حملت روايات دستويفسكي حلما حارا بالتغيير وإيمانا بالبعث وبمستقبل مشرق للوطن بغض النظر عن تصورات الكاتب تجاه سبل التغيير. ورواية دستويفسكي هي أيضا نموذج للرواية الاجتماعية النفسية الفلسفية، فإلى جانب الخط الاجتماعي البارز لروايته نجدها أيضا ذات اتجاهات "أيديولوجية" ونفسية في ذات الوقت، فدستويفسكي المفكر كان يسعى في تصويره للحياة الواقعية إلى فهم القوانين التي تحركها، وكان يحاول النفاذ إلى مغزى المشاكل الجوهرية لتطور الإنسانية، ولذا فإن دستويفسكي يصور مصير شخصياته في ارتباط لا ينفصم بالموضوعات الفلسفية والأخلاقية والدينية التي يطرحها في رواياته والتي يضعها في مركز اهتمامه وبحثه، ويتحدد تبعا لها بنيان الرواية وخصائصها، ولذا نجد أن رواية دستويفسكي تتميز بالديالوج الحار وعنصر الإثارة الشكلية الذي يخفف من حدة اصطدامات الشخصيات ومن الديناميكية المتوترة للأحداث التي تنبع من صراع الشخصيات حول ( نعم ) أو ( لا ) حيال الأفكار الواردة في الرواية والتي ترتبط بكل الأحداث وبكل خطوط المضمون والتي تفسر تصرفات الأبطال أنفسهم. وقد أكسبت ديناميكية الحدث وتوتره رواية دستويفسكي طابعا دراميا، ويتدعم هذا الطابع من جهة أخرى بمأساة وجود الشخصيات وبالمصير التراجيدي للإنسان في ظروف التناقضات القاسية. وأيضا بمأساة وجود آلاف العائلات التي يصرعها التناقض الداخلي ، ودراما الانفصام الداخلي للشخصية. إن دستويفسكي قد قدم حقيقة –كما أشار العديد من النقاد- رواية جديدة أطلق عليها لقب " الرواية المأساوية" أو " الرواية المفجعة".

بالإضافة فإن دستويفسكي – كما أشرنا آنفا- أحد رواد الرواية النفسية، فروايته تتسم بتوتر حاد في إحساسات الشخصية وبدقة في تصوير أفكارها ومشاعرها، وبعمق في النفاذ إلى التناقضات الداخلية للإنسان الذي يتكشف في أكثر لحظات حياته الصعبة ومن خلال صراعات عنيفة مع نفسه وتوتر حاد للرغبات، فبطل دستويفسكي لا يتضح جوهره الداخلي في الحالات النفسية العادية بل وهو في قمة معاناته وفي وقت الاهتزازات الروحية المعذبة. ودستويفسكي المحلل النفسي يستند في تحليله لنفسية أبطاله إلى معيار " الشعبية" فنجده يقارن بين أفكار ومعاناة أبطاله الرئيسيين وبين الوعي الأخلاقي للجماهير الذي يقيس به صحة أو خطأ تصرفات الأبطال، وبالإضافة إلى ما ذكرنا فقد اتسمت روايات دستويفسكي بالعديد من الخصائص الفنية الأخرى التي ارتبطت بمهمة تجسد أفكار الكاتب والتي سنتناولها بإيضاح أكثر عند تحليلنا لأهم روايتين لدستويفسكي وهما: "الجريمة والعقاب" و " الإخوة كارامازوف" وهما الروايتان اللتان تظهر من خلالهما أبرز السمات الفكرية والفنية لروايات دستويفسكي..

.


.



.



يتبـــــــع "الجريمـــة والعقــاب"