صفحة 2 من 18 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 7 8 9 12 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 13 إلى 24 من 211

الموضوع: أدب السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

  1. #13 أدب السيرة الذاتية واغتراب الذات المسلمة في العصر الحديث 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36

    أدب السيرة الذاتية واغتراب الذات المسلمة في العصر الحديث
    تعتبر مقولة "الاغتراب" من أكثر القضايا إثارة للجدل، ليس بسبب ما يكتنف معناها، أو ما يشوب أبعادها الدلالية من غموض، ولكن بسبب كثرة المفاهيم التي صيغت ووضعت لها، ثم تنوع استعمالها وتوظيفها في سياقات مختلفة؛ إنها من قضايا الإنسان الكبرى التي لا تتغير مع توالي الأزمان، باعتبار صلتها الوثيقة بوجوده ومصيره.
    ولا شك أن الاغتراب ظاهرة إنسانية، ومكون من جملة المكونات الخاصة بالطبيعة البشرية؛ بل إنه معاناة ناتجة عن ذلك الاصطدام بين المؤثرات الخارجية، أو طبيعة الحياة السائدة في محيط اجتماعي معين من جهة والقيم الإنسانية الراسخة من جهة ثانية، سواء في الذات الفردية أم في الذات الجماعية، باعتبار أن الاغتراب حال تعتري الفرد بقدر ما تعتري الجماعة.
    ثم إن للاغتراب آثارا مختلفة ومتضاربة إلى حد التناقض، إذ أن بعض الناس يرون فيه تجربة رهيبة لا تنتهي، بينما يعيشه البعض الآخر راضيا مطمئنا، بعد أن تعذر عليه الانسجام مع محيطه الاجتماعي وبيئته المكانية، التي هيمن فيها كل ما هو دخيل على ما هو أصيل، لكن المعاناة الإنسانية، بدون شك، تزداد شدة وحدة في واقع تهيمن فيه المتغيرات والانحرافات على كافة المستويات، والتي يتم تكريسها بالقوة والإكراه على حساب الثوابت ومناهج الحياة السوية، حتى إن طغيان كل ما هو دخيل وغريب في المجتمع الإسلامي جعل الإنسان المسلم يحس بالاغتراب المتعدد الأوجه، فهو غريب عن ذاته، وعن بني قومه، وعن ثقافته وتاريخه.
    ومن المرجح أن نعثر على جذور اغتراب معين في داخل كل ذات إنسانية وفي كل عمل أدبي، إلا أن الاغتراب كيف ما كانت طبيعته، يزداد حدة و تشعبا مع مرور الزمن، وما تعانيه المجتمعات الإنسانية من اغتراب في العصر الحديث شاهد على هذه الحقيقة، وهو العصر الذي غدا فيه الاغتراب شعارا وسمة غالبة، واكتسب فيه مفهومه عمقاملحوظا، بسبب ما تعرفه العلاقات الاجتماعية من تعقيدات، وما تشهده المجتمعات من تطور، وكذلك بسبب ما خلفه الاستعمار بكل أشكاله من آثار سلبية، وما أفرزته الحضارة المادية مـن سموم مدمرة للإنسان، وقاتلة للحياة الإنسانية.
    أ ـ الاغتراب الديني

    إن الشعور أو الإحساس بالاغتراب يختلف من إنسان إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، تبعا لطبيعة المجتمع والعصر من حيث القيم، والثقافة، والعقيدة الدينية السائدة فيهما، مع أن ظاهرة الاغتراب، سواء في العالم العربي الإسلامي أم في البلاد الغربية، تتخذ في الغالب سمات متنوعة، وتتجسد تبعا لظروف متباينة، لكن ثمة قاسما مشتركا ورئيسا، ذا طبيعة كونية بين الذوات المسلمة، بالإمكان أن نصفه بعبارة " الاغتراب الديني".
    هذا لا يعني أن الاغتراب الديني أو العقدي هو الوحيد الذي يعد قاسما مشتركا بين مجموع الأفراد الذين يدينون بالإسلام ؛ بل إن سمة الكونية تشمل قواسم مشتركة أخرى بين هؤلاء الأفراد، نذكر منها على سبيل المثال: "الاغتراب الاجتماعي" و"الاغتراب الفكري" و"الاغتراب العرقي" و" الاغتراب البيئي"، هذا فضلا عن كون ما نلمسه من اغتراب متمثل في افتقاد حرارة العلاقات بين الأفراد في المجتمع الواحد، وتنامي ظاهرة الإلحاد، والافتقار إلى الشعور بمعنى الحياة.
    والظاهر أن الإحساس بالاغتراب الديني من جهة، ومكابدة الاغتراب المتعدد الصفات من جهة ثانية، كان من أهم البواعث على كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، التي أتاحت لمؤلفيها صياغة شكل من أشكال تجاوز المعاناة، واسترداد بعض التوازن الذاتي من خلال التعبير عن عمق الحياة الباطنية والروحية.
    إن الذات المسلمة، عربية كانت أم غربية، تعاني اغترابا شديدا في العصر الحديث، سواء داخل وسطها الاجتماعي القومي أم في الوسط الاجتماعي العالمي؛ إنها تخوض مواجهة كبيرة ضد قوى الشر المعاكسة، التي تسخر وتحشد جهودها في حرب عنيفة حادة، مكشوفة حينا، ومقنعة أحيانا، من أجل القضاء على الإسلام وطمس الشخصية الإسلامية.
    ثم إن الإنسان المسلم ينظر إلى هذه المواجهة على أنها من سنن الحياة الإنسانية، التي تتجاذبها أسباب الخير والشر، وهي نفس الأسباب الدائرة في حلقة الاكتشاف والاكتساب، والمتدافعة كذلك في أعماق الإنسان، الذي لا تنفصل حياته عن عالمي: المادة والروح، بحيث تنظر الذات المسلمة إلى الواقع ببعديه: المادي والروحي، وتعي جيدا أن الكائن البشري يعاني في حياته الدنيوية من الضعف والضياع، بحكم اضطراب قواعده وقوانينه الموضوعة، وثبوت القوانين والقواعد التي سنها الله عز وجل لعباده في الأرض.
    إن الذات العربية المسلمة في العصر الحديث، سواء المغتربة بعقيدتها أم المغتربة عن عقيدتها، تعيش وضعا مضطربا أشد الاضطراب، وجدت نفسها فيه مكرهة، وقد أحاطت بها عادات وتقاليد، وتصورات وسلوكيات، ومواد ثقافية ومناهج لا صلة لها بالإسلام، فكان حالها بوجه عام يشجع على العزلة والانفصال، أكثر مما يشجع على الاندماج والاتصال، بحكم أن الواقع الذي تم فرضه عليها يناقض التصور والمنهج الإسلامي ويصـطدم به.
    ثم إن الذات العربية المغتربة بعقيدتها، بذلت كل الجهد في سبيل الحفاظ على شخصيتها الإسلامية، فبدأت بالعودة إلى الإسلام، بقصد فهمه على حقيقته وتمثله بكيفية دقيقة، فكانت هذه العودة بالنسبة إليها جد ضرورية وحاسمة، وذلك حتى تستقيم لديها مبادئ الإسلام وقيمه، ويتضح في ذهنها التصور والمنهج الإسلامي الشامل، وقد أقدمت على هذه الخطوة لأنها أدركت بأن قضية العقيدة، المتمثلة في علاقة الكائن العاقل بخالقه، وبالكون، وبالأحياء، هي أولى القضايا وكبراها.
    لقد سعت الذات العربية المسلمة، المغتربة دينيا، في وسطها الاجتماعي أن تجمع بين اعتزال الأجواء الفاسدة والمختلة في الحياة، وربط الاتصال و بناء التواصل مع الجماعة الإنسانية، وذلك بقصد التأثير فيها، والاتفاق معها على رؤية عقدية واحدة، تتمكن الذات العربية المسلمة من خلالها من تجاوز اغترابها الديني من جهة، وتكسير اغتراب مجتمعها العربي عن جوهر عقيدته الإسلامية من جهة ثانية.
    وإذا كان الشعور بالاغتراب يجسد واقعا مشتركا بين الذات العربية المسلمة والذات المهتدية إلى الإسلام، سواء الغربية منها أم الأجنبية، فإن ثمة تمايزا بين الاغترابين من حيث الطبيعة، والمدلول، والرؤية، والموقع الخاص بكل ذات على حدة، بحكم التفاوت في درجات حدة ذلك الإحساس أولا، وباعتبار أن الذات العربية المسلمة تنتمي إلى واقع إنساني واجتماعي معين، له معطيات وسمات ذاتية بارزة.
    وكذلك الذات الأجنبية المسلمة لها واقع فردي وجماعي تنتسب إليه نشأة وثقافة، خاصة قبل دخولها في الإسلام، حيث كانت على دين أهلها، أو كانت على قيد حياة بغير معتقد، هذا بالإضافة إلى أن كثيرا من التناقضات تسود بيئة كل من الذات العربية والأجنبية.
    إن الذات العربية المسلمة تعاني وتقاوم في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام والدعوة إليه، أما الذات الغربية فتعيش معاناة من نوع آخر في سبيل العثور على حقيقتها المفقودة وسعادتها الضائعة، فتندفع بكل قوتها إلى البحث وطرح السؤال العقدي حول الدين الحق وسط تراكمات الجهل بطبيعة الأمور والمعرفة الخاطئة، وفي ظل صراع ذاتي ضد حقد دفين وكره لا حدود له للإسلام والمسلمين، تناقلته أجيال الغرب منذ الحروب الصليبية الأولى توارثا واكتسابا.
    ولا شك أن الأجواء المظلمة والمعاكسة، التي تحيط بالذات الغربية والأجنبية بوجه عام، تفسد عليها الحياة السوية، وتعمل على حجب الوجهة السليمة عنها، ولكن بقدر ما تشتد معاناة الإنسان الغربي، الذي يجتهد في سبيل التخلص من كل وعي خاطئ، أو فكرة موروثة، أو حكم مسبق جاهز، فإن القوة الدافعة له تتضاعف في مسار تحقيق التوازن بين التوازن بين عالمه المادي وحياته الروحية.
    ثم ما إن تعلن الذات الغربية والأجنبية عموما إسلامها جهارا في وسطها الاجتماعي حتى تبدأ أطوار اغترابها بين أهلها وقومها، فتتفاقم الهوة بينها وبينهم، لتدخل بعد ذلك شيئا فشيئا في شبه عزلة، وقد يتم اتهام كل من دخل في الإسلام بما يمكن تسميته بالخيانة الدينية، أو الارتداد عن دين الآباء والأجداد، فيظل في نظر أغلب قومه كائنا شاذا عن القاعدة، ومعتلا في عداد المرضى.
    أما الإنسان المهتدي إلى الإسلام، فينظر إلى الخطوة التي أقدم عليها من زاوية أخرى مغايرة تماما، فهو يرى أن ما قام به من فعل وبادر إليه ، إنما جاء ثمرة لرحلة طويلة شاقة، واهتدى إليه بعد بحث جاد وجهد كبير، تطلب منه الصبر والأناة، وعمرا غير هين أنفقه حتى يتمكن من تجاوز المعرفة الخاطئة حول الإسلام، التي نجد لها جذورا عميقة في الأدب والفكر السياسي الغربي القديم.
    ب ـ الاغتراب العرقي
    لقد شهد تاريخ البشرية على امتداده وحتى يومنا هذا كثيرا من وصمات الغار والتردي، التي ستظل وشما أسود لا يمحي من جبين الإنسانية، ومأساة ذات أثر عميق في الذاكرة الجماعية الحافظة جيدا لتفاصيل الواقع الرهيب، الذي لا يزال معاينا بين الناس، كما عاينه أسلافهم قديما داخل أوساطهم الاجتماعية، حيث كان غير قليل من الأقوام يستعبد بعضهم بعضا، ويدسون في حياتهم اليومية سموم النزعات العرقية والتمييز العنصر، وقد رفع عنترة بن شداد العبسي، المتوفى سنة 22 قبل الهجرة/ 600 للميلاد، صوته في العصر الجاهلي محتجا على قومه الذين نبذوه لسواد بشرته.
    وفي قلب العالم الغربي، وهو أكبر مسرح لظاهرة التمييز العرقي العنصري، صارت وحدة الإنسان متكسرة وممزقة في ذاكرة السود الجماعية، وغدا الكائن الاجتماعي موضوعا للعبث وعرضة للتصنيفات والأهواء، وعلى إثر هذه النظرة المنحرفة، وهذه النزعة العدائية، أرادت قوى الشر للإنسان أن يتحول إلى كائن متعدد، وأن يخضع للتصنيف تبعا لدرجات متفاوتة في القيمة.
    ولم تكن ظاهرة العنصرية الحديثة إلا امتدادا لإرث أوربي قديم، ولقد كان اليونانيون والرومانيون ينظرون إلى أنفسهم على أنهم أهل مدنية، وأن غيرهم متوحشون، ومنذ عهد قديم والأوربيون يتوهمون تفوقهم العرقي على سائر الشعوب، ويعدونه أمرا حتميا لا جدال فيه.
    ثم إن الاعتقاد في العصر الحديث ساد داخل الأوساط الغربية المنحرفة بكون الجنس الأبيض هو أرقى الأجناس البشرية، وأن مجتمع السود أو الزنوج هو أحطها؛ بل إن هذه الآفة لم تقف عند هذا الحد، إذ سعى الكثيرون بدافع الحقد والعدوانية إلى تجريد الإنسان الأسود من هويته الآدمية، بدعوى أن له بشرة سوداء، وأن السواد لون يميز العبيد الضعفاء، والبياض لون يميز الأسياد الأقوياء.
    إن أنماط الاغتراب العرقي كثيرة ومتنوعة، لكن أبرزها على الإطلاق، ظاهرة اغتراب المسلمين السود في البلاد الأوربية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجه خاص، لذلك سنتخذ من هذه الظاهرة نموذجا متميزا في إطار مسألة الاغتراب العرقي، خاصة وأنها تجسد اغترابا مزدوجا، يعانيه المسلمون السود في أمريكا تحديدا؛ إنه اغتراب عرقي من جهة، واغتراب ديني من جهة ثانية.
    ومن أهم القادة الذيـن شاركوا في قيادة جماعة ( المسلمين ) السود وتعاقبوا على زعامتها، نذكر : مالكولم إكس ( MALCOLM X )، الذي نشأ داخل الولايات المتحدة الأمريكية في أجواء تضيق بالتمييز العنصري بين البيض و الزنوج، وبعد أن سلك سبيل الجريمة، دخل السجن، وفيه تعرف على ( الإسلام ) من خلال بعض الكتب ومجموعة من الرسائل، التي كانت تصله من إليجاه محمد، ثم إنه خرج من السجن منتصرا لما تعتقده جماعة أمة الإسلام من أفكار ومبادئ منحرفة عن الإسلام.
    وبعدما دخل الحركة سرعان ما تمكن من منافسة زعيمها إليجاه ( ILIJAH ) في مجال دعوة السود داخل الولايات المتحدة الأمريكية إلى الانضمام لجماعة أمة الإسلام، وفي سنة 1964 للميلاد أتاح له الحج إلى مكة، التعرف أكثر على الإسلام والوقوف على حقيقته، وأسسه، وتعاليمه، فكان من الطبيعي أن يتراجع عن نظرته العنصرية اتجاه الإنسان الأبيض، ويطهر نفسه من الحقد الذي لم يفارقه منذ صباه، ومن ثم رأى من واجبه أن يسعى إلى تصحيح حقيقة الإسلام داخل جماعة ( المسلمين ) السود ، وهذا ما أثار إليجاه
    (ILIJAH )، الذي كان قد أسرف في الانحراف عن التعاليم الإسلامية.
    أما إليجاه محمد، فقد ظل ينادي بقيام دولة مستقلة في الولايات المتحدة الأمريكية خاصة بالسود حتى وفاته، ومنذ هذا التاريخ بدأت تتحسن أوضاع وأفكار جماعة أمة الإسلام، إذ أخذت تقترب هذه الأقلية المسلمة من المفاهيم الإسلامية الصحيحة بالجهود المبذولة من طرف المصلحين، وخاصة منهم وارث الدين (ابن الزعيم إليجاه محمد)، الذي عمل على تصحيح ما نشره والده من أفكار خاطئة عن الإسلام.
    ثم إن جماعة أمة الإسلام عملت على نشر تاريخ أسطوري، غريب الوقائع والملابسات، بين السود في أمريكا حول الكيفية التي ظهر بها الرجل الأبيض أو الشيطان، وأول ما نصادفه في هذا التاريخ، لعله من نتاج ما لحق كتاب التوراة من تحريف، هو أن الرجال السود الأوائل أقاموا في مدينة مكة، وكان يوجد بينهم أربعة و عشرين حكيما اعتزلوا باقي السود وتجمعوا في قبيلة الشاباز ( CHABAZ ) القوية، التي يعتبر أفرادها أجداد السود المتواجدين في أمريكا.
    ولقد ترسخ في أذهان جماعة أمة الإسلام أن البيض حرفوا تاريخ الإنسان الأسود، الذي كان يعيش في القارة الأفريقية، وهو الإنسان الذي شيد ممالك وحضارات عظيمة، في حين كان الرجل الأبيض يسكن الكهوف، ويمشي على أربعة قوائم؛ إنه الشيطان الأبيض الذي استغل، وقتل، ونهب، وانتهك حرمات السود وباقي الأجناس الملونة.
    إن الرجل الأبيض في اعتقاد جماعة أمة الإسلام شيطان كان يلقن السود ما يشاء من الأكاذيب والأوهام ، إذ عمل على حشو أدمغتهم بكون السواد هو لعنة على الزنجي، وأن أفريقية موطنهم الأصلي، وقد كانت آهلة بالمتوحشين والوثنيين السود، الذين كانوا كالقردة يتأرجحون على أغصان الأشجار، وأن عليهم أن يتخذوا (المسيحية) دينا لهم، وأن يعبدوا إله السيد الأبيض، ذي الشعر الأشقر، والوجه الشاحب، والعينين الزرقاوين.
    وبهذا الإقتناع، وهذا الصوت الكامن في أعماق السود بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي يختزل تاريخا داميا مليئا بالأحداث المشينة والمأساوية، صار الرجل الأبيض أو العرق الأبيض عموما رمزا للشيطان في عرف الإنسان الأسود؛ إنه الشيطان الإنسي الذي خدع السود بلون بشرته البيضاء، وأخفى عنهم باطنه الأسود، وقبح نواياه السوداء، وحقيقة مخبره المظلم الخبيث، فهو الذي سلبهم حريتهم و أعز ما يملكون، وهو أيضا من سعى في طمس تاريخهم وذاكرتهم، واجتهد في اقتلاع جذورهم.
    إن أي وسط اجتماعي تضيق فيه الجماعة الإنسانية بكل ألوان الظلم العرقي والتهميش، لا بد وأن يفرز وعيا جماعيا منفصلا ومستقلا عن الواقع السائد والحياة الوضعية، التي تخدم مصالح فئة دون أخرى، خاصة وأن هذا الوعي تدعمه ذاكرة جريحة تنزف بمآسي كبيرة عاشها الإنسان الأسود، وذلك عندما قضى زمنا طويلا في أسر العبودية، وحيل بينه وبين معرفة هويته، ولسانه القومي، وموطنه الأصلي.
    وإذا كان العالم الغربي مسرحا لتنامي النزعة العنصرية، فإن العالم العربي الإسلامي قد احتضن القوة المضادة لتلك النزعة؛ فبفضل الإسلام اكتسب الإنسان الأسود في أمريكا وعيا جديدا، ووقف بنفسه على مختلف أسباب وأبعاد معاناته وقضيته، فكان من الطبيعي جدا أن يعيد النظر في رؤيته السابقة، ويغير أفق انتظاره دفعة واحدة، بعدما كانت معاناته مسألة التمييز العنصري أمرا مرتقبا ومحتوما داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
    هذه شهادة وخلاصة في آن واحد، وقد انتهى إليها مالكولم إكس (MALCOLM X) أخيرا، بعدما أسهمت آثار الظاهرة العنصرية في تأليف و ترسيخ وعي خاطئ ورؤية عمياء في وسط المجتمع الأسود، الذي قرن أفراده النزعة العرقية على الإطلاق ودون استثناء بالإنسان الأبيض حيثما كان.
    ثم إن الظلم الذي عاشه الإنسان الأسود في أمريكا، والصراع العنيف الذي فرض عليه خوض غماره كرها من أجل الحياة الكريمة، والحرية وإثبات الوجود، ثم بحثه عن جذوره وتأكيد إنسانيته؛ جميع هذه العوامل جعلته من جهة يصدرأحكاما من قلب واقع اجتماعي فاسد، تفشى فيه التمييز العرقي وبلغ أقصى الحدود، ويواجه من جهة ثانية حقد الأمريكيين البيض بحقد أقوى منه وأشد؛ بل جعله يستسلم بالرغم منه لسلطة الغضب.
    تلك كانت عقدة الإنسان الأسود في الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك هو الواقع المأساوي الذي شغل كل تفكيره وما يزال حتى يومنا هذا، بعدما تحولت معاناته الشديدة إلى لازمة منكرة، تقتحم حياته الخاصة، وتلاحقه في يقظته ومنامه؛ إنها الشر الذي لا يمل من مطاردته ولا يكف عن ترصده لحظة واحدة، حتى إنه يكاد يشل قدرته على تمييز داء الميز العنصري ووضعه في حجمه الحقيقي.
    د. أبو شامة المغربي
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 27/09/2006 الساعة 10:15 AM
    رد مع اقتباس  
     

  2. #14 بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الأول) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

    (الجزء الأول)
    يتفق معظم النقاد والباحثين على أن إقبال القراء على قراءة أدب السيرة الذاتية، لا يرجع إلى إعجابهم بهذا النوع من التعبير، وإنما هو نتيجة لنزوعهم نحو البحث عن ذواتهم في سير الآخرين، ورغبتهم في الكشف عن مختلف جوانب الحياة المشابهة لما عاشوه ومروا به من تجارب.
    ولا شك أن القارئ الحديث والمعاصر يرغب في أن يرى ذاته في حياة غيره من الأدباء، والدعاة، وأهل الفكر، والعلماء، والمؤرخين، والساسة وغيرهم من ذوي الخبرة، والاختصاص، والموسوعية، والتجارب الإنسانية الحية.
    ثم إن متلقي هذا اللون الأدبي حريص على المشاركة الوجدانية، يبعثه على ذلك التطلع إلى المثل العليا، والوقوف على ما يزخر به واقع الحياة من صور وتجليات، وكذا النفاذ إلى ما هو ماثل في مختلف السير الذاتية من مظاهر القوة وأسباب الضعف، ثم اتخاذ هذه الأعمال الأدبية مراء تساعده على اكتشاف نفسه، فيتنامى شعوره بها وإدراكه لها، من خلال ما يصادفه ـ في كل سيرة ذاتية يقرأها ـ من تجارب ومواقف كثيرة ومتنوعة، منها ما يبعث على التفكير والتأمل، ومنها ما يثير في النفس انفعالات متفقة وأخرى متناقضة، ومنها ما هو للذكرى وللاعتبار.
    ومما لا ريب فيه أن الذات المتلقية في حاجة دائمة إلى نتاج الذات الكاتبة، بقدر ما أن مؤلف الأعمال الأدبية عموما، وصاحب السيرة الذاتية بصفة خاصة هما في حاجة مستمرة كذلك إلى القارئ، علما بأن الذات، سواء كانت كاتبة أم متلقية، تحاول الانفصال عن نفسها إلى حين، وذلك بقصد تعميق تجربتها الفردية في ضوء تجارب الآخرين وخبراتهم، وهذا النزوع الجدلي هو الذي يمكن الكائن الاجتماعي من تحقيق ذاته عبر التواصل الإنساني.
    وبناء على ما تقدم من استقراء، نلاحظ أن في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ما يثير لدى القارئ جملة من ردود الأفعال، وهذا طبيعي إذا ما علمنا أن الذاكرة المشتركة بين الكاتب والقارئ هي الأساس في اشتغال نظام الأفعال ومختلف ردودها ضمن سياق فني معين، لا سيما وأن لجميع الناس تجارب وخبرات مماثلة، هي من بين القواسم المشتركة بينهم، حتى إنه لا نستطيع أن نقر بشيء لا يعني غير فرد واحد دون سائر الناس.
    ثم إن المقصود بالذاكرة المشتركة أو الجماعية، تلك المواضعات الأدبية والقيم المتنوعة من جهة أولى، ومجموع العوالم، والظواهر ومناحي الحياة، التي تمثل قواسم مشتركة بين الذوات من جهة ثانية، وكذا تلك التجارب الواقعية التي تتشابه ملامحها ومعطياتها، وتصل بخيط رفيع حياة الكاتب بحياة القارئ.
    إن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة خطاب مثير بالنسبة إلى القارئ، الذي يتوفر على مرجعية وشبكة معقدة من التجارب الفردية والجماعية، فضلا عن مخزونه الثقافي، إذ الملاحظ أن ثمة توازيا بين التأثير الذي يحدثه خطاب السيرة الذاتية ذات الصفة الإسلامية الحديثة في ذهن المتلقي، والأثر الذي يستشعره الكاتب أثناء قيامه بعملية السرد أو الحكي الذاتي.
    ولا شك أن فعل القراءة المنجز من طرف المتلقي هو المسؤول الأول، والعامل الأساس في تحديد طبيعة التواصل الأدبي بين صاحب السيرة ومتلقيها، الذي يجد نفسه متقلبا بين التماهي والقبول، والانفصال والتعارض؛ إنها قراءة ذاتية في المقام الأول، يتفاعل من خلالها المتلقي مع هذا اللون من الإنتاج الأدبي، ذي الطبيعة المتميزة والرؤية الخاصة، وهذا من شأنه أن يغذي فضاء الإنتاجات المقروءة بكثافة حوارية، ويبعث في مسارها حركة نقدية منتجة.
    فما يسرده المؤلف من تجارب ذاتية لا يعكس فقط حياته الخاصة؛ بل إنه يجلي في آن واحد حياة القارئ، وهذه الوظيفة التي تبدو للوهلة الأولى ـ في نظر البعض ـ غريبة عن جنس السيرة الذاتية، قد أقرها كثير من المتمرسين في هذا الفن الأدبي، الذي يمثل مرآة إبداعية ينظر فيها المتلقي إلى نفسه، ونافذة يطل منها على ذاته، وغالبا ما يعثر على ما يماثل بعضا من تجاربه الحياتية معروضا أمامه إلى درجة التماهي في كثير من الأحيان.
    ومؤكد أن القارئ يتحول إلى شخص معني بما تفشيه العديد من المقامات الخطابية، والمقاطع السردية، والوصفية، والحوارية من أسرار، ومواضيع، وقضايا، ومن بين ما يثبت لنا هذه الحقيقة ويشهد لها ـ على سبيل المثال ـ تجارب الطفولة والمراهقة، التي تشغل حيزا جد هام في أدب السيرة الذاتية، وتأخذ من ناحية ثانية باهتمام القارئ، بحيث إذا كان الكاتب يحاول أن يبعث ماضيه ليحياه ثانية، فإن القارئ يطمح إلى الغاية ذاتها دون أدنى شك، لا سيما وهو يلتمس لدى صاحب السيرة الذاتية تلك القدرة على الإفصاح عما يحس ويشعر به؛ إنه يطمع في أن ينجح الكاتب، باعتباره مؤهلا بامتياز، في ما فشل فيه هو.
    ثم إن ما نستطيع تسجيله من جملة الملاحظات في المتن العام لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وإن كانت هذه الملاحظة/ الظاهرة ليست وقفا عليه بطبيعة الحال، تلك الفراغات أو البياضات المتمثلة في نقط الحذف المبثوثة هنا وهناك في سياقات مختلفة، وهي في الغالب تفشي للقارئ بحمولتها المخفية أو الضمنية، وكأن الذات الكاتبة توجه دعوة من خلال تلك الفراغات إلى القارئ حتى يسهم بمخيلة وسرعة بديهته في ملئها وإنطاقها، وسيكون بذلك قد أضاء ما هي فيه من عتمة، وخلصها من قيود الصمت.
    ونحن نعتقد بأن القارئ يبحث جاهدا عن التعبير الذي يعكس حقيقة نفسه من خلال أدب السيرة الذاتية، ولا يخفى ما لنهج كتاب السيرة الذاتية في الحياة من تأثير كبير على سلوك المتلقين لأدبهم الذاتي، وهو في الغالب تأثير مفيد، لأن قراءة العديد من السير الذاتية من طرف المتلقين تسمو بهم إلى حيث يتكامل الفكر والإبداع.
    إن الخلاصة التي بإمكان المتلقي أن يخرج بها من مجموع التجارب الإنسانية، التي يصادفها عند قراءته لأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، لا تخلو من متعة ذهنية، بقدر ما أنها لا تفتقر إلى مواد معرفية متنوعة ومفيدة تغني حياة القارئ، ويكفي أنها تشتمل على عصارة التفاعل المتبادل من جهة بين الإنسان ومجموع أفكاره، واقتناعاته، ومعتقداته، وبينه وبين الجماعة الإنسانية التي ينتمي إليها ـ بحكم ما هو مشترك بينهما من بيئة، وثقافة، ودين، ولغة، و غيرها من الخصائص الرئيسة المجسدة للهوية الإسلامية من ناحية ثانية.
    وعلى هذا الأساس سيظل أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من أبرز الآداب العالمية تميزا وإثارة، ويكفي أنه يمثل علامة ثقافية مضيئة، وإسهاما معرفيا لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، في وقت أخذت فيه السيرة الذاتية بوجه عام شكل الظاهرة الثقافية في العالم بأسره، وإذا كانت السير الذاتية تشهد إقبالا كبيرا من طرف القراء في العالم الغربي المعاصر، فإن هذه الحقيقة بدأت تشمل قراء العالم العربي الإسلامي.
    وإذا كان الكتاب يفصحون عن بعض البواعث لهم على تأليف سيرهم الذاتية، فكيف السبيل إلى الكشف عن بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والقراء خلافا للكتاب لا يفصحون عادة عن الأسباب الباعثة لهم على قراءة السير الذاتية؟
    ثم إذا كان أصحاب السير الذاتية عاجزون عن بلوغ المعرفة الدقيقة باهتمامات القراء المسبقة بأدب السيرة الذاتية، وبحقيقة ما يبعثهم على تلقي هذا الضرب من الأدب، فإنهم على ما يبدو يراهنون على فضول القارئ في المقام الأول، ولا يعملون على إثارة هذه الخاصية أو القوة الكامنة فيه أصلا، وكثيرا ما يتمكنون من استدراج المتلقي، وتوجيه اهتمامه إلى النص السير الذاتي، باعتباره علامة مجهولة بالنسبة إليه، وبؤرة أسئلة وحقائق متعددة، ومتشابكة، ومثيرة أحيانا.
    وما نعتقده كذلك في سياق هذا المحور، هو أن بواعث قراءة السير الذاتية عموما، والسير الذاتية الإسلامية الحديثة خاصة، تتجسد في نمطين من الفضول الفردي:
    الأول: فضول فردي صريح، لا يجد القارئ المتلقي حرجا في الجهر به، والكشف عنه، بناء على إدراك يطمئن إليه، ووعي يتمثل فصوله من خلاله، باعتباره رغبة إنسانية سوية غير منحرفة، تبعثه على معرفة أمور يجهلها، وتوجهه إلى قراءة أدب السيرة الذاتية، لكونه من الآداب التي تستجيب لحاجاته، الثقافية، والنفسية، والروحية، وتتلاءم مع طبيعة فضوله ورغبته في توسيع مداركه المعرفية.
    الثاني: فضول فردي غير صريح، لا يتم الإعلان أو الكشف عنه من طرف القارئ، بحيث يحتفظ به لنفسه ويخفي حقيقته؛ إنه ضرب من الفضول الذاتي الذي ينشأ من بواعث يصعب على المتلقي الإفصاح عنها، وهي غالبا متمثلة في نزوعه ـ بناء على رغبة فردية واعية أو عير واعية ـ إلى رفع الحجاب عما يجتهد صاحب السيرة في ستره ومواراته، إما لأنه من العورات، وإما أنه من جنس ما يخدش الحياء، ويمس بالأخلاق والمروءة.
    أما المؤكد، فهو أن ثمة ذاكرة مشتركة بين بواعث التلقي وبواعث الكتابة في دائرة أدب السيرة الذاتية على المستوى العام، وفي فضاء أدب السيرة الذاتية الإسلامية بصفة خاصة، إذ أن بواعث التلقي والكتابة، على تعددها وتشعبها، يذكر بعضها ببعض، إلى حد توحي فيه بالتماهي والتطابق في ما بينها.


    د.أبو شامة المغربي
    kalimates@maktoob.com
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 05/10/2007 الساعة 10:20 AM
    رد مع اقتباس  
     

  3. #15 بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

    (الجزء الثاني)
    بالإمكان أن نتحدث عن ضرب آخر من البواعث على قراءة أدب السيرة الذاتية، ومنه بطبيعة الحال أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهو نمط مغاير يتجاوز دائرة الفضول العفوي أو التلقائي إلى دائرة الفضول المنهجي أو العلمي، القائم على طلب المعرفة القصوى بقضايا وظواهر معينة، وجميع البواعث المندرجة في حقل هذا النمط من الفضول الذاتي المكتسب صادرة عن هاجس علمي، يكتسبه القارئ بفعل تراكم الخبرات لديه، وتفاعله مع التجارب التي عاشها في حياته العامة والخاصة، ومن بين أهم بواعث قراءة أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ـ بناء على ما وقفنا عليه من قراءات وتلقيات في كتابات طائفة من نقاد هذا الأدب ـ الصادرة عن هذا الجنس من الفضول، نذكر:
    أولا: باعث المقارنة و البحث عن الذات، وهو أحد الأسباب التي تدفع بالقارئ إلى عقد مقارنة بينه وبين صاحب السيرة، وهو في هذه الحال يهدف إلى التعرف على ذاته، وإيضاح غموض شخصيته، والنفاذ إلى عمق حياته الفردية، أكثر مما يهدف إلى الإحاطة النسبية بذات المؤلف، ومن الخطأ أن يعتقد المرء بأن شريط ذكرياته لا يؤثر إلا فيه دون غيره؛ بل إن صدق كاتب السيرة الذاتية في الكشف عن نفسه كفيل بمنح الفرصة للآخرين حتى يكتشفوا ذواتهم.
    ثانيا: باعث الاكتساب المعرفي، وهو سبب آخر يثير ما لدى القارئ من فضول منهجي أو علمي، فيجعله يتناول أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رغبة منه في تحصيل معرفة محددة أو جملة من المعارف الإنسانية: تاريخية كانت، أم أدبية، أم نفسية، أم اجتماعية، أم فكرية وغيرها، أو محاولة منه لاكتساب خبرة معينة أو نهج في الحياة، وهذا الباعث متعدد الأوجه، لأن المتلقي غالبا ما يترصد في السيرة الذاتية ما يكتبه صاحبها بصفته شاهدا على نفسه من ناحية، وشاهدا على ما يحيط به من جهة ثانية.
    ثالثا: باعث البحث عن الحقيقة، وهو دافع يلتمس القارئ في ظل تأثيره وفاعليته معرفة حقيقة معينة أو مجموعة من الحقائق، ظل يستفهم بشأنها ـ لمدة قصيرة أو طويلة ـ كثيرا، وربما تحول لديه بعضها إلى هاجس وقلق ملازم له طوال الوقت، وهذا الباعث بدوره له مظاهر متنوعة، إذ قد يسعى القارئ إلى العثور بين ثنايا أي سيرة ذاتية على حقيقة تاريخية، أو اجتماعية، أو عقدية، أو سياسية وغيرها.
    ومن المؤكد أن بواعث قراءة السيرة الذاتية الحديثة ذات الصفة الإسلامية، ترتبط أصلا ببواعث كتابتها والغايات المرجوة منها، بالإضافة إلى صلتها الوثيقة بمنازع الجنس الأدبي الذي تنتمي إليه عموما، فشأن بواعث القراءة والتلقي ـ من حيث الكثرة والتنوع ـ كشأن بواعث الكتابة، باعتبار أن هذا اللون من الأدب الإسلامي لا يتم إنتاجه استجابة لباعث واحد، وإنما يتشعب منحى الدافع إلى التأليف، بقدر ما يتشعب مسار الباعث على الكتابة.
    فما هي بواعث القراءة القائمة و الكائنة من ناحية، والممكنة والمحتملة من ناحية ثانية، إذا ما حاولنا استخلاصها وتحديدها من خلال طبيعة، ومضامين، وعوالم هذا الضرب من الأدب الإسلامي الحديث؟ وفي ضوء الكيفية التي يتم بها تلقيه من طرف نقاد أدب السيرة الذاتية؟
    في مستهل الإجابة على هذا السؤال، تقتضي الضرورة المنهجية أن نشير إلى أن قراء هذا اللون من التعبير الأدبي ذي الصبغة الإسلامية ليسوا طائفة واحدة، تتواصل مع أصحاب السير الذاتية أو في ما بينها بلغة واحدة ، كما أنهم لا ينتمون إلى حضارة وثقافة واحدة، ولا يدينون بنفس العقيدة؛ بل إنهم متلقون تختلف ألسنة تخاطبهم وتواصلهم، وتتمايز بيئاتهم وعقائدهم، إذ هم باعتبار عنصري اللغة والدين أربع طوائف:
    أولا: طائفة القراء العرب
    ثانيا: طائفة القراء العرب المسلمين
    ثالثا: طائفة القراء الأجانب
    رابعا: طائفة القراء الأجانب المسلمين.
    فتبعا لهذا التصنيف، نلاحظ أن بين الطائفتين: الأولى والثانية قاسما مشتركا يتمثل في عنصر اللغة، ومن ثم فإن لهما ذاكرة لغوية مشتركة، كذلك نفس القاسم يجمع بين الطائفتين: الثالثة والرابعة، في حين أن عنصر العقيدة الإسلامية يمثل قاسما وذاكرة مشتركة بين الطائفتين: الثانية والرابعة.
    ومن جهة ثانية نرى أن نذكر في هذا المقام بأن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة غير صادر عن ذات واحدة، بحكم الخصائص التالية المميزة له، وهي: الانتماء القومي والتواصل اللغوي، والتراث الثقافي؛ إنها خصائص تدل على أن هذا الخطاب موزع بين فئتين من الكتاب:
    الأولى: يمثلها الكتاب العرب المسلمون.
    الثانية: يمثلها الكتاب الأجانب المسلمون.
    ثم إن لكل قارئ، ولكل طائفة من القراء ـ كما سبق ورأينا ـ زوايا اهتمام مفترضة ومحتملة بأي سيرة ذاتية إسلامية حديثة، وهي كثيرة يصعب حصرها، ومختلفة يعسر ضبطها، لكنها شديدة الارتباط بنوع التساؤلات من ناحية، وبطبيعة الانشغالات الفردية والجماعية من ناحية ثانية، وهي استفهامات واهتمامات يغذيها حظ غير قليل من الفضول والحدس، سواء كانا ذوا طبيعة تلقائية أم منهجية، وبإمكاننا أن نلمح بجلاء مدار احتفال المتلقي بأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، والذي يتمثل في ثلاثة محاور: الأول: محور الإسلام (العقيدة).
    الثاني: محور الذات المسلمة (الإنسان المسلم).
    الثالث: محور التجربة الإسلامية الواقعية (الفعل والحدث).
    إن أهم بواعث القراءة والتلقي، المتصلة بهذه المحاور الثلاثة، هي بواعث كبرى، يكاد خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينفرد بها، بفعل الخصائص الإسلامية المميزة له، دون سائر الخطابات الأدبية، التي لا يدين أصحابها بالإسلام، وهي ذات الخصائص التي ستجعله يستقطب اهتمام مختلف القراء، سواء العرب منهم أم الأجانب.
    فالمسألة تتعلق أصلا بالرغبة في التعرف على حقيقة العلاقة التي تجمع بين الإنسان والعقيدة الإسلامية، وبين الإنسان والتجربة الإسلامية الواقعية من ناحية ثانية، مما يسمح للمتلقي بتمثل ومقارنة تجليات التواصل بين الذات العربية والإسلام مع تجليات التواصل بين الذات الأجنبية والإسلام، ثم مساءلة التجربة الإنسانية ذات الطابع الإسلامي في إطار هذه الشبكة من العلاقات التواصلية.
    والراجح في ما يجعل من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة محط اهتمام من طرف الذات المتلقية، وباعثا متشعب الأبعاد والغايات على إنجاز قراءات خصبة و عميقة، هي مادته المتنوعة، وكثافة القضايا والمواضيع الغنية المطروحة فيه، ولم يكن هذا الخطاب ليعدم قاعدة واسعة من أصناف القراء وأنماط القراءات، بدليل انفتاحه على مجالات ينشط فيها الإنسان كثيرا، ويكفي أن نذكر أهم المحاور الخطابية الأكثر حضورا، والتي تبعث المتلقي في الغالب، سواء كان عربيا أم أجنبيا، على تغذية فضوله المعرفي، وعلى اكتشاف ما انفردت به الذوات من تجليات، واستطلاع ما اختزنته الذاكرات من فضاءات زمانية، ومكانية، وحدثية:
    الأول: يتجسد في ظاهرة الصحوة الإسلامية الحديثة في العالمين: العربي وغير العربي، بحيث أن جانبا كبيرا من خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يشغله فعل التأريخ للصحوة الإسلامية بمختلف مظاهرها وآثارها، وهو تأريخ في ذات الوقت لمعاناة الذات العربية المسلمة في سبيل التمسك بتعاليم الإسلام و الحرص عليها، ثم الدعوة إليها بعد ركود حضاري طويل، وفي عصر نشط فيه الاضطهاد، وصار فيه الفراغ الروحي شبه سائد، واستشرى أمر العداء ضد كل ما هو نابع من الإسلام، أو له صلة بالعقيدة الإسلامية.
    الثاني: يتمثل في ظاهرة اعتناق الإسلام، والتي تعتبر بدورها موضوعا مثيرا لفضول القارئ، وإن كانت تمثل مظهرا للصحوة الإسلامية، التي يشهدها العالم اليوم قاطبة، وهي لا تخلو من أهمية في تقدير المتلقي لها وحكمه عليها، باعتبار أن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة ينطوي على فعل الشهادة من جهة، والتأريخ لتجربة الاهتداء إلى الإسلام، الغنية بما تجتازه الذات الأجنبية من معاناة من أجل العثور على الدين الحق، وذلك في وسط اجتماعي ينتقص ويزدري كل إنسان يهتدي إلى الإسلام و يدخل فيه.
    ثم إن الذات القارئة تحاول إعادة التوازن المفقود لديها من خلال الاحتفاظ بقيم معينة، وتجاوز الأخطاء والعثرات؛ إنها تجربة يدخل المتلقي غمارها لبناء ذاته من جديد في ضوء تجارب وخبرات الذات الكاتبة، ومن ثم فإن أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة يحقق غاية مزدوجة يتقاسمها الكاتب والقارئ على حد سواء، باعتبار أن فعلي: الكتابة والقراءة يمثلان متنفسين متميزين، ينفرد الإنسان بالاستفادة منهما، ومن خلالهما تستعيد كل من الذاتين: الكاتبة والقارئة الكثير من انسجامهما وتوازنهما الطبيعي، وتتأملان بعمق وجودهما بمختلف أبعاده.
    هذه حلقة نقدية نضيفها إلى سلسلة المقالات التي سردناها في باب أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي حلقة تثير موضوع تلقي هذا الضرب من الأدب، وعسانا مستقبلا، بتوفيق من الله تعالى وسداد منه، نسهب الحديث في شأن هذا الموضوع المحوري الهام ...

    د. أبو شامة المغربي
    kalimates@maktoob.com
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 05/10/2007 الساعة 10:27 AM
    رد مع اقتباس  
     

  4. #16 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سلام الله عليك الدكتور أبو شامة الكريم
    نرى فيما نرى أن نجمع هذه المقالات والبحوث في موضوع واحد يجمعها، وقبل الدمج نطرح عليك الفكرة كما عادة المربد في هذه المقالات، وليكن العنوان:
    ملف خاص عن السيرة الذاتية
    ثم لو أحببت كذلك، فبعد أن تكمل هذه البحوث أن أجمعها لك في كتاب إلكتروني نضعه في مركز التحميل، ويستفيد منه الجميع
    ماذا قلت؟
    تقبل تحياتي
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 27/09/2006 الساعة 10:46 AM
    رد مع اقتباس  
     

  5. #17 درجة الصدق في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    درجة الصدق في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    ***

    إذا ما ألقينا نظرة على أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وجدناه فضاء تنشط فيه الذاكرة الفردية بامتياز كبير، ففي هذا اللون من الأدب يمارس الكاتب المسلم عملية الاسترجاع بشكل مكثف، فنراه يبحر بذاكرته عائدا من الزمن الحاضر الذي يشهد فعل الحكي بالكتابة إلى الزمن الماضي الذي شهد مختلف التجارب التي خلفت في نفسه عظيم الأثر، واحتمل جميع الوقائع والأحداث التي نحتت في قلب حياته آثارا ومعالم جد هامة.
    ومن المؤكد أن الذات الإنسانية تستعيد سيرتها الماضية كي تسجل حضورها الفاعل في زمنها، الذي هو في نفس الوقت زمن الآخرين؛ إنها لحظة معرفة جذرية، تتأمل فيها الذات ذاكرتها، ولا شك أن من يكتب سيرته الذاتية يتحدث عن بني جنسه من خلال الحديث عن نفسه.
    ثم إن عملية الاسترجاع لازمة أساسية بالنسبة لكاتب السيرة الذاتية، الذي لا يستطيع أن يسرد تاريخه دون أن يطرق باب ذاكرته باستمرار، وذلك حتى يستقي منها مادة مشروعه الإبداعي، ويعيد من خلالها ماضيه من جديد.
    ثم إن القصد المبدئي من عملية الاسترجاع، يتمثل في تحقيق قراءة حاضرة، تساعد الذات الكاتبة على التعريف والوعي بنفسها، وبيئتها، ونهجها في الحياة.
    ثم لا شك أن الذاكرة هي المبدأ الإبداعي الفاعل في كتابة السيرة الذاتية، فهي لم تعد حضنا للذكريات؛ بل صارت عنصرا فاعلا في تقديم تلك الذكريات، بالإضافة إلى كونها تمثل الأساس الذاتي للماضي، ولا تشكل ترتيبا موضوعيا مطردا، متتاليا، وإنما تعكس حالة من التداخل بين الأحداث والوقائع؛ إنها ينبوع الهوية الشخصية لدى الكائن البشري، إذ تدخل كجزء رئيس في عملية بناء الهوية الذاتية للشخص، بحيث أنها ليست سجلا ينفعل فحسب؛ بل إنها مشارك فاعل بامتياز، وليست الذاكرة خازنة فقط للأفعال، والأحداث، والأمكنة، والأصوات، والأشياء.
    ثم إنها تضفي على ما تختزنه جملة من القيم الإيحائية، ومن المؤكد أن التماهي بين الذاكرة والواقع، ومعادلة هذه الملكة لماضي الإنسان وحياته أمر غير وارد في أدب السيرة الذاتية بوجه عام، في حين أن الذاكرة هي وعي بمختلف هذه المرجعيات، وإدراك منظم لما تعرفه من تعقيدات وتشابكات.
    لقد اجتمع واتفق رأي الأدباء والنقاد معا على خصائص ذاكرة الإنسان، بحيث ساقوا في شأنها الأمثلة، والشواهد، والخلاصات في كثير من كتاباتهم، بناء على كون الذاكرة ملكة عقلية مستبدة، والظاهر أن السيرة الذاتية في العمق ما هي إلا فعل أدبي وتاريخي، يستعين به الفرد ليعكس بالجهد بعض مخزون ذاكرته، المتمثل في جملة من المكونات الإسترجاعية الكبرى، التي تقتسمها الأطوار الحياتية المتلاحقة.
    ولا شك أن الكثير من الأحداث والموضوعات المسترجعة تبقى راسخة بقوة في الذاكرة، لا تمحي وإن مر عليها زمن طويل، كما أن للزمان فعلا مباشرا، وسلطة واضحة الأثر في نسيان الكثير من الوقائع والمشاهد، إذ ـ في الغالب ـ كلما طال الزمن بالشيء إلا وصعب علينا تذكره، ومع ذلك لا يجب إغفال مفهوم الزمن الذي يقوم في أذهاننا، ويمكننا من تصحيح الشعور الذاتي بزمن الذكريات، فندرك أنها أحداث وتجارب لها صلة بالماضي.
    ثم إن تحصيل الخبرات المختلفة، أو معاينة عدد من المشاهد في آن واحد، يمنع الإنسان من استرجاعها جميعا، وقد يعود النسيان أيضا إلى وجود دوافع وأسباب شعورية معينة، بحيث يثير تذكر بعض الأسماء و جملة من الأشياء مثلا، أو بعض الأماكن، والمشاهد، والمواقف الشعور بالألم والمعاناة في أعماق الإنسان.
    ومؤكد أن الذات تحاول قمع ما لا ترغب في استرجاعه والاحتفاظ به في العقل الباطن، لأنه يمثل في الأصل تجارب مؤلمة: هي إما رغبات لم يتم تحقيقها، أو مخاوف هزت كيان النفس، وليس بإمكان الذات الإنسانية أن تنفصل عن ماضيها، ذلك أن الحياة لا تغادر هذا الماضي وما يمثله من حمولة جد هامة، قد تنبعث أصداء أحد مكوناتها في أي لحظة من الزمن الحاضر، فتبسط سلطانها على الذات الفردية.
    ثم إن أدب السيرة الذاتية هو احتفال في حد ذاته بالذاكرة، ومحاولة تهدف إلى إنقاذ حمولتها من آثار النسيان، الذي يترصدها على الدوام، كما أن هذا الأدب يفصح عن الرغبة في العودة إلى الماضي البعيد، ويفشي سر الحنين إلى البدايات والتجارب المبكرة، وذلك بقصد بعثها في الزمن الحاضر، ونحن نتفق مع من يرى بأن النسيان مصفاة لا تبقى إلا على ما هو أساسي، ولا تسمح بالمرور إلا لما هو جوهري.
    ونحن نسجل هنا فارقا دقيقا بين الاسترجاع والاستعادة ـ حسب ما هو متعارف عليه في علم النفس ـ إذ العملية الأولى (الاسترجاع) هي بمثابة استحضار تلقائي لمكتسب أو واقعة حدثت في الماضي، أما العملية الثانية (الاستدعاء) فهي استرجاع إرادي متعمد لموضوع قديم.
    ثم إن كل مادة مسترجعة يتم تذكرها بمساعدة مثير خارجي أو داخلي، يكون في الغالب من جنس المادة أو الذكرى، كأن تكون المثيرات المرئية مثلا، باعتبارها موضوعات قائمة في العالم الخارجي، وشواهد على تجارب وأحداث ماضية ـ سببا في استرجاع الإنسان ذكريات مرئية.
    لكن المثير المساعد على التذكر، قد يكون من جنس ذكرى أخرى مغايرة، إذ في بعض الحالات يكون المثير المرئي سببا في استحضار ذكرى مسموعة، أو مادة صوتية معينة، أو يكون المثير الصوتي المسموع عاملا مساعدا على استعادة ذكرى مرئية في الماضي.
    إن المسافة الزمنية الفاصلة بين تاريخ السرد أو زمن الحكي في الحاضر وتاريخ وقوع الحدث المسترجع والتجربة المستعادة من الزمن الماضي، هي العامل الرئيس الذي يمكن الكاتب من كتابة سيرته الذاتية بقدر ملحوظ من التنظيم والتماسك، ومن إعادة ترتيب وقائع حياته الماضية، وهذه أهم السمات المميزة لأدب السيرة الذاتية.
    والملاحظ أن عددا من الأحداث والتجارب الذاتية تحتوي بعد وقوعها دلالة عميقة أكثر من غيرها، وتظل منفردة بقوة انبعاثها ومهابة حضورها، وذلك في كل مرة يبعث على استرجاعها أحد العوامل المثيرة، داخليا كان أم خارجيا.
    ولا شك أن كتابة السيرة الذاتية تعكس واقعا ذاتيا غير مطلق، وذلك لكون هذا الواقع يجمع بين الحقيقة والتخيل في حدود معينة، وهي ازدواجية تقيم صلب الحياة الواقعية للذات الفردية، ولهذا السبب نرى من يكتب سيرته الذاتية، يجد نفسه مضطرا إلى ترميم ماضيه المسترجع بنسج تخيلي، لكن بشرط أن لا يخل بدعامة الصدق، وأن لا يحجب وجه الحقيقة، وهذا شرط لازم ودقيق، يتطلب من الكاتب قدرا من المرونة، وكثيرا من الحذر ساعة يعجز عن تذكر ما تنطوي عليه التجربة أو الحدث المسترجع من تفاصيل، يجهد نفسه في إحيائها من جديد بالكتابة.
    إن كاتب السيرة الذاتية غالبا ما يلجأ إلى عملية الربط بين ذكرياته، محاولة منه لسد ما يصادفه من فراغات في سرد حياته المسترجعة، ومن ثم فإن الإبداع السيرذاتي يقوم على المزج بين حمولة الذاكرة الفردية وعنصر الخيال، فكاتب هذا الضرب من الأدب يستعين بذاكرته ومخيلته لبناء وترميم قصة حياته، وبذلك لا محيد عن الإقرار بضرورة وجود قدر من التخيل في تركيب خطاب السيرة الذاتية.
    فهل يحق لنا أن نعتبر "الصدق" و"الحقيقة" في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة قضيتين أو قيمتين زائفتين؟
    هل بالفعل أن ما سنطلع عليه من خطاب ينتمي إلى هذا النوع الأدبي الإسلامي هو زيف بعيد عن الحقيقة، وكذب بعيد عن الصدق؟
    ثم هل من المستحيل أن يسترجع كاتب السيرة الذاتية ماضيه مطابقا للحقيقة والصدق التامين؟
    ومن الأسئلة التي يطرحها نقاد السيرة الذاتية عموما، ما يتعلق بمدى وفاء الذاكرة الفردية للماضي؟ ومدى وفاء الكتابة للذاكرة؟ وما إذا كانت السيرة الذاتية قادرة أن تكون وفية للحياة الحقيقية لصاحبها؟
    ثم هل الحقيقة معرفة لا تخضع للتغيير والتحول؟ وهل صدق الكاتب في سيرته الذاتية يظل مشوبا بالنقص؟ وأن قارئ الرواية يكون قريبا من الحقيقة أكثر من قارئ السيرة الذاتية؟
    لا شك أن الاعتقاد في كون الرواية أصدق من السيرة الذاتية هو وَهم ساذج، وبقدر ما يتساءل النقاد يتساءل القراء عن الحد الفاصل بين الحقيقة والخيال في أدب السيرة الذاتية؟ وما نلمسه ـ في ضوء هذا التساؤل ـ من قلق ورغبة، ينزعان بالمتلقي إلى تحري كل من الحقيقة والصدق في ما يقرأه من سير ذاتية، هو أمر طبيعي، يعود إلى الأصل الاجتماعي للكائنات البشرية، التي يرجع بعضها إلى بعض، باعتبارها مصادر معلومات.
    وإذا كان كل من كاتب السيرة الذاتية ومتلقيها يمتلكان ذاكرة، وهي الملكة الفردية الحافظة التي تمكنهما من التواصل المشترك، فإن السيرة الذاتية المكتوبة بالنسبة إليهما معا تمثل ذاكرة نصية مستعادة بوسائل لغوية وأدبية، وهي التي تتيح لهما ذلك التواصل.
    إن من الواجب التمييز بين مفهومي: "الصدق" و"الحقيقة"، وما تعنيه "عملية الاسترجاع" الموسومة بالنسبية، وإلا فإن النظرة النقدية المتعلقة بهذه المسألة ستكون معرضة للخلل الاصطلاحي لفظا، ومعنى، ودلالة، وهذه ثغرة لن تخدم البحث العلمي في شيء، إذ ليس من الكذب أن يقيم كاتب السيرة الذاتية ـ بعد انتقاء مادته المسترجعة ـ جسرا من الخيال ييسر للحقيقة عبورها، وهو بالطبع عنصر جوهري محكوم بحدود الصدق.
    ثم إن إمكانية العثور على عقد أو ميثاق للسيرة الذاتية، يلتزم من خلاله الكاتب مع القراء بقول الصدق وذكر الحقيقة غير مستبعدة تماما أو مستحيلة، وأدب السيرة الذاتية الإسلامية ـ الحديثة منها والقديمة ـ خير دليل على ذلك.
    ثم هل من الصواب أن نقرن من جهة ثانية الحقيقة والصدق بسير المشهورين دون المغمورين؟
    ومن الخطأ أن تتم استعارة النموذج الغربي جملة وتفصيلا لكتابة السيرة الذاتية الإسلامية، فمفهـوم الجرأة ـ المحكـوم بالـنزوات والأهواء ـ لدى الغرب ليس هو نفس المفهوم ـ المشبع بروح العقيدة والأخــلاق الإسلامية ـ لدى العرب المسلـمين، ولا شك أن الأدب الإسلامي لا يبيــح (الكتابة) الجنـسية الصريحة، لأنها تشيـع الفاحشة وتنشر الفتنة.
    ثم هل عيب السيرة الذاتية كامن في ذاتية مؤلفها؟ بدعوى أن الإنسان لا يستطيع تحليل نفسه، وعرض تاريخه بكيفية موضوعية، لأن كثيرا مما يراه غيره فيه يتعذر عليه رؤيته في نفسه، والنفس لا ترى نفسها إلا بمرآة، والشيء إذا زاد قربه صعبت رؤيته؟ وهل صحيح ما يعتقده البعض من انعدام العلاقة بين الأخلاق والصدق والأدب؟!
    إن الأدب الإسلامي لا يقيم أي وزن لما يسمى (الأدب المكشوف / الأدب الإباحي)، المتصف بالعري والإباحية، والذي عرفه الأدب العربي القديم كما يعرفه اليوم الأدب العربي الحديث، ولا شك أن العلاقة الوثيقة بين الأدب والأخلاق دليل على مدى تفاعلهما الحتمي والمتواصل، وأن المذهب الذي ينادي أصحابه بإجراء القطيعة بينهما لا يشهد له ولا يزكيه أبسط ما في الكون من حقائق.
    ثم إن الدعوة إلى (الأدب المكشوف/ الإباحي) الذي تنادي به طائفة من (الأدباء)؟
    و(النقاد)؟ المنتمين إلى (مدارس نقدية)!؟ نابعة من الاعتقاد الشاذ في ضرورة إقامة القطيعة ووجوبها بين الأدب والأخـلاق، أو بين الأدب والدين، استنادا إلى نظرية الفن للفن، التي راجت في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
    إن الكاتب المسلم ملزم أن يضع الصدق الفني في خدمة الصدق المجرد الطبيعي، وهو الصدق اللازم أصلا لنقل التجارب الذاتية بما تنطوي عليه من حسنات وسيئات، وأخطاء، وعيوب، لكن في غير ميع أو انحلال خلقي، ودون مزجها بالمتخيل والمتوهم من الأحداث، والوقائع، والمواقف.
    ثم إن من حق القارئ أن يطالب من يكتب سيرته الذاتية بالتزام الصدق في ما ينقله إليه كتابة من تاريخ حياته الخاصة، وأن يفصح بوضوح عن نيته في ذلك، وليس قارئ السيرة الذاتية وحده الذي يرغب في معرفة الحقيقة والوصول إليها في سيرة الكاتب الذاتية؛ بل إن كثيرا من كتاب هذا الجنس الأدبي، يحرصون على التزام ذكر الحقيقة وبلوغها في سرد تاريخهم الفردي.
    لكن من الخطأ ـ كما أسلفنا الذكر ـ أن نخلط بين قول الصدق والكشف عن الحقيقة، فقد يكون صاحب السيرة الذاتية صادقا دون أن يذكر كل الحقيقة.
    وإذا كان التزام الصدق في كتابة السيرة الذاتية هو المطلب الوحيد، الذي بإمكـانه أن يدفع كل شبهة عن ضمير المتكلم (أنا)، وكل ما قد يـوحي به من نزوع صـاحبه إلى الكذب، فإن قارئ الـسيرة الذاتية يعمل على تقدير درجة الصدق فيـها، وموقفه رهين بمدى شعوره بالصـدق في كل سيرة ذاتية يقرأها.
    ثم إن كان أصحاب الكتابات التاريخية الجادة يحرصون أشد الحرص على اقتفاء أثر الحقيقة، باعتبارها النواة الجوهرية في هذا الضرب من التأليف، فإن كتاب السيرة الذاتية مطالبون بذكر الحقيقة وملازمتها في ما يسردون من أحداث وتجارب ذاتية على القراء، لكنهم عاجزون عن تحقيق وإنجاز سيرة ذاتية لا تغادر صغيرة ولا كبيرة، بدءا من الميلاد وانتهاء إلى قبيل الوفاة، فهذا بالطبع أمر يلحق بالمستحيل، إذ لا تستطيع السيرة الذاتية أن تحيط بحياة صاحبها كاملة، لأن نصها المكتوب ينطوي على مسافات شاسعة من الصمت المضروب حول وقائع، وأحداث، ومحطات حياتية كثيرة.
    ثم إنه من المتعذر تماما ـ وإن كان الإنسان يعيش مرة ثانية، حين يعود من خلال الذاكرة ليسترجع حياته بأكملها ـ أن يعيد من يكتب سيرته الذاتية خلق الحياة التي عاشها خلقا حقيقيا وبكيفية محكمة.
    إن السيرة الذاتية لا تعني تمام حياة صاحبها يوما بيوم؛ بل هي جنس أدبي يعكس لنا ذات الكاتب ومخزون ذاكرته في حدود نسبية، وهذه الخاصية ليست مؤشرا على نية صاحب السيرة في إخفاء الحقيقة، أو قناعا يخفي وراءه نزوعه إلى الكذب؛ بل هو الدليل على قصور الكائن البشري، وعجز الإنسان عن بلوغ الكمال، والملاحظ أن كتاب السيرة الذاتية لا يسردون سوى التجارب التي أسهمت في تشكيل مسار حياتهم، وتدخلت في تكوين شخصيتهم، وأنى لهم أن يعرفوا أنفسهم وذواتهم ليكتبوا عنها في ظل قصورهم وعجزهم الطبيعي؟!

    د. أبو شامة المغربي
    kalimates@maktoob.com
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 05/10/2007 الساعة 10:33 AM
    رد مع اقتباس  
     

  6. #18 رد : بواعث تلقي أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة (الجزء الثاني) 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سلام الله عليك د أبو شامة مما سرني أن داء الدال لم يصبك كما أصاب غيرك

    ويروق لي أن أناديك أخي الكريم

    قد لامست معمل الفكر والقلب حين يعمل وأنت تفصل القول في البواعث وما هي إلا انعكاس منظم للعمل الأدبي القائم في المذكرات او السيرة الذاتية

    قد كتبت نمطاً لا أعرف ماذا تسميه أنت وأترك لك ذلك : قصة بعنوان مذكرات شيطان مستجد
    على الرابط

    http://www.merbad.org/vb/showthread.php?t=1085


    الفكرة راقت لي نوعاً ما وراقت للبعض وقد طالبني البعض أن اكملها وقد قلت ربما تكون مشروع رواية عربية وهي تعكس ما يمر على الإنسان من خلال تجاربه بالرغم من القناع المتحرك من شخصية لأخرى

    لكني كما كنت أعترض على تقليد الرواية الغربية بمقوماتها وافرازاتها التي تليق بمجتمع غربي ولا تليق بنا


    ثم أقول هناك من أطلق لقب سيرة ذاتية على الرواية ولم يفرق بينهما وفي الواقع الراوي أو الروائي لا يستطيع كتابة رواية إلا بعد كم وتراكم معرفي من خلال التجارب التي يمر بها

    هنا أقول أننا علينا أن نكتب الرواية العربية او السيرة العربية لا الفن المستورد


    لك تحياتي
    رد مع اقتباس  
     

  7. #19 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    سلام الله عليك أخي الكريم طارق
    في البداية أحييك على بالغ اهتمامك بمقالاتي حول أدب السيرة الذاتية، وإني لا أجد عبارات الشكر الأخوية التي توفي حق شكرك سوى مبادرتي إلى القول: جزاك الله عني خير الجزاء، وإني أحب أن أهمس لك أخي بأن أبا شامة ما هو إلا اسم مستعار لشخصي ..أما اسمي الكامل، فهو عبد الفتاح أفكــوح .. ويسعدني أن تكون أول من يعرف اسمي تاما غير منقوص، هذا من جهة ...
    أما بشأن ما تفضلت باقتراحه حول تجميع مقالاتي حول أدب السيرة الذاتية، فلا مانع لدي أخي الكريم .. وسأكون شاكرا لك بجزيل الشكر إن بادرت إلى ما اقترحته علي مشكورا ... كذلك سأكون جد سعيد إن تم تجميع مختلف المقالات في كتاب إلكتروني ..وإنها لفكرة جميلة أخي طارق ...
    تحياتي لك وللإخوة الساهرين على المربد مرفوقة دائما بالشكر والتقدير، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    أخوك: أبو شامة المغربي .. عفوا، بل أخوك: عبد الفتاح أفكوح.

    د. أبو شامة المغربي
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 05/10/2007 الساعة 10:36 AM
    رد مع اقتباس  
     

  8. #20 أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية وموضوعة المكان (الجزء الأول) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية وموضوعة المكان
    (الجزء الأول)
    إن آصرة الذات المسلمة بعنصر المكان قوية عموما، والسيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من بين أنماط الأدب الإسلامي، التي تعكس طبيعة وتماسك تلك العلاقة، خاصة عندما يرتبط عدد من التجارب الفردية بأمكنة متميزة، تعثر فيها الأنا على امتدادها الروحي، ولا شك أن التأثير جد عميق ومتبادل بين الذات المسلمة والمكان الخارجي، ثم إن من الأمكنة ما يمتلك سلطة وقوة فاعلة في حياة الإنسان، هذا فضلا عن اشتمال المكان على قيم، ودلالات، وإيحاءات.
    وإذا كان المكان فضاء يختزل شحنات دلالية، فإنه ينطوي على قيم ترتبط أساسا بالحياة الاجتماعية، والفكرية، والدينية، التي خاض غمارها كتاب السيرة الذاتية الإسلامية في العصر الحديث، ومن ثم فإن المكان سيظل ذاكرة موضوعية، تتكامل مع ذاكرة الذات المسلمة إلى درجة التمازج، ويمكن اعتباره ـ بكل ما يشتمل عليه من معالم وموضوعات خارجية ـ موطنا خصبا للتأمل، والذكرى، والاعتبار، ومثيرا مساعدا على استرجاع أدق تفاصيل رحلة الفرد الحياتية؛ فالمكان يكاد يكون مدارا و نواة، بحكم ارتباط الذات المسلمة به، لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
    ثم بالإمكان أن نقترب أكثر من تجليات المكان، ومظاهر الامتياز التي ينفرد بها في إطار هذا الفرع الأدبي المندرج في دائرة الأدب الإسلامي، والتي تكشف لنا بالتالي سبل توظيف الذات المسلمة الكاتبة لهذا العنصر الحيوي، وذلك في سبيل نشر تجربته الحياتية المتميزة، والإسهام في الدعوة إلى ما يعتقده و يؤمن به، ثم من أجل تحقيق تواصل فاعل مع المتلقي ، إذ من خلال المكان يبسط الكاتب المسلم أمام القراء مشاعره وانشغالاته، ويضفي عليه بعقيدته حلة إيمانية، يتجاوز بها ما يقبع فيه من آثار القلق، واليأس، والغربة، والتمزق.
    إن القيمة الإضافية للمكان كامنة، كما أسلفنا، في خصب إيحاءاته ودلالاته من جهة، ورهينة بطبيعة الأحداث ومدى تأثيرها من جهة ثانية، إذ أن من الوقائع الحاسمة ما يذكر بأمكنة معينة، ومن الأمكنة كذلك ـ بكيفية جدلية ـ ما يذكر بلحظات سعيدة وإنجازات كبيرة في حياة الإنسان، ومنها بطبيعة الحال ما يذكره بنقيض ذلك كله.
    ثم إن من الأماكن ما يذكر الإنسان بأحداث طفولته، ومنها ما يذكره بأحداث فتوته وشبابه، ومنها ما يذكره بتجاربه المتميزة، وبأحداث متفردة عاشها في أحد أطوار حياته المتأخرة، وقد تتفق بعض المواقف مع بعض في مكان معين و قد تتباين في آخر، وقد تنسجم جملة من الإنجازات في أحد الأمكنة وقد تتنافر في غيره، وربما تعايش بعض الأفراد في مكان، لكن بعضهم يصد عن بعض في مكان آخر، إلا أن المؤكد هو امتلاك عنصر المكان تأثيرا وسلطة على سلوك الإنسان، عادة ما تكون منسوبة إلى عنصر الزمان.
    وإذا كان الروائي يصطنع بعض الأمكنة في ما يكتبه من رواياته، فإن الأمكنة في أدب السيرة الذاتية غير مصطنعة، لأن لها وجودا حقيقيا في العالم الخارجي، ثم إذا كانت للغة إمكانات التعبير عن المشاعر والرؤى الوثيقة الصلة بالمكان، فكذلك لها ذات الإمكانات على التعبير عما يختزنه خطاب السيرة الذاتية من شحنات الانطباعات والأحاسيس، النابعة من تفاعل الذات الإنسانية بالأمكنة على اختلاف طبائعها وإيحاءاتها.
    ونحن نرى عنصر اللغة مفتاحا لبلوغ الحقيقة ومعرفتها، بقدر ما نراها ـ أي اللغة ـ كشفا للذات والتاريخ، إلا أن لها حقيقة خاصة تميزها في قلب خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وهي التي تسمح بإنتاج قناة خطابية تواصلية، وإنشاء جسر رابط بين الفرد والمجتمع.
    فما من شك في كون المكان في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة عنصرا جد هام، يسهم في إنتاج العديد من المشاهد والخبرات، ويشارك في إغناء الخطاب، فهو متعدد ومتنوع، قد يكون على سبيل المثال مغلقا أو مفتوحا، وقد يكون رئيسا أو ثانويا، فرديا أو جماعيا، ثابتا أو متحركا، وقد يكون إيجابيا أو سلبيا، مساعدا أو معاكسا، موحشا أو مؤنسا، ثم إن المكان يتميز بصفات أخرى غير هذه، كما أنه قد يجمع بين صفات متآلفة أو متناقضة، هذا بالإضافة إلى أن ثمة فضاءات مكانية مرئية في اليقضة والمنام في سياق رؤى معينة أو أحلام، وفضاءات مكانية متخيلة نادرا ما نصادفها.
    ولا شك أن صفات المكان الكثيرة والمختلفة تدخل في علاقات متشعبة مع نفسية الكاتب، ومن ثم يضفي عنصر المكان تلقائيا جمالية معينة على فضاء السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، لا سيما عندما يقترن بأجواء الطفولة، أو الحياة العقدية والروحية للذات الكاتبة، وهو بالتالي يقوم وسيطا بين المؤلف والمتلقي في نقل كثير من الأحاسيس والإيحاءات، الدلالات والرؤى.
    وقد يختزل المكان رؤية كاتب السيرة الذاتية، وكثيرا ما يكون أول عنصر يطالعنا في أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، خاصة عندما يتخذ منه الكاتب عنوانا ونافذة يطل منها المتلقي على فضاءات النص والخطاب، ويكفي أن نذكر على سبيل المثال العناوين التالية: (الزاوية)، (عالم السدود والقيود)، و(الإلغيات)، و(عن السجن والحرية)، و(الطريق إلى مكة)، و(رحلتي من الكنيسة إلى المسجد .. لماذا ؟!)، و( لماذا اعتنقت الإسلام؟ .. من روما إلى مكة).
    إن للمكان في مختلف السير الذاتية الإسلامية الحديثة حضورا مكثفا، يفوق بكثير الواقع الزماني في أغلب المواقف والتجارب، ذلك لأنه عنصر و عامل مثير في حياة الإنسان المسلم، وفضاء واسع للاعتبار، والتدبر، والأمل، وهو من ثم عالم للاستفهام، والتطهير، والذكرى، ثم ليست مختلف الأمكنة ـ التي نصادفها في أي سيرة ذاتية إسلامية ـ عبارة فقط عن بؤرة تتجمع فيها العديد من القيم؛ بل إنها تمثل محاور معينة، منها الثابت القار، ومنها المتغير المتحول، وبعبارة أخرى نقول: إن من الأمكنة ما يمثل قوة موجبة، ومنها ما ينطوي على قوى سالبة.
    فالصحراء ـ مثلا ـ والبحر، والقرية، والكتاب، والمسجد، والمقبرة، والمستشفى، والأماكن الإسلامية المقدسة (مكة و بيت المقدس)، جميعها أماكن تبعث في الذات المسلمة شعورا متفردا بقوة العقيدة، وأصداء مترددة من عالم الغيب ؛ إنها علامات بارزة راسخة في الذاكرة الإسلامية، يجدها الباحث ماثلة في الفضاءات التي يشتمل عليها خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، ثم إنها شحنات دلالية كثيرا ما تجسد رمزا كثيف الدلالة ، يفصح عن التحولات النفسية والفكرية للذات المسلمة.
    إن الوجود بأكمله خطاب مفتوح من الله عز وجل موجه إلى الذات الإنسانية لتقرأه وتتدبره، ثم لتنظر في خلقه تعالى نظرة معتبر، ولتصغي في النهاية إلى صوت الفطرة، وتتمسك بالنهج الذي ارتضاه لها في حياتها الدنيوية، لكن ثمة أماكن أخرى، أبرزها السجن و المنفى، تشكل فضاء كثير من التجارب الحياتية بالنسبة للذات العربية المسلمة، ومجالا ضيقا معزولا عن العالم الخارجي، يحتد فيه الإحساس بالزمان والمكان، وتتضاعف فيه المعاناة النفسية بالدرجة الأولى.
    إلا أن قوة العقيدة تفرغ كل تلك الأماكن المعاكسة من معناها المتواضع عليه بين سائر الأحياء من الناس على الأرض، لتكسب فيها معاني و مدلولات مغايرة تماما، لا تزيد الأنا المسلمة، سواء الفردية أم الجماعية، إلا قوة وارتقاء، واقترابا من الله عز وجل، ولا تزيدها إلا دنوا من حقيقة عقيدتها ومغزى خلافتها في الأرض.
    هكذا تتمثل حياة الذات المسلمة ، بدءا وانتهاء، من الكون الفسيح وسط أحيائه وجميع موضوعاته إلى سجن النفس ومجاهدتها، ومن الاغتراب بين الأهل والناس وسط المجتمع إلى المنفى حيث العزلة عن العالم الخارجي، ثم من قلب الحرية وأحضان الحياة الكريمة إلى قلب المعتقل والسجن وما وراء قضبانه، ومن بهرجة واختلال المدينة وزيفها إلى توازن و تلقائية وبساطة القرية.
    وإذا كانت للذات المسلمة، عربية أم أجنبية، تجارب مشتركة مع عنصر المكان، الذي تتماهى إيحاءاته مع شعور الإنسان المسلم، على أساس أن المكان هو جزء من تجربته الإنسانية، فإن ثمة أمكنة ترشح بالهدوء والسكينة، وأخرى تضيق بالقلق، والتمزق، والاغتراب، كما أن هناك أمكنة تزخر بالأسرار وتدعو إلى التأمل، وأخرى تعد ملجأ لمن ضل وأراد الاهتداء، ساعة هيمنة الشك وسواد الاضطراب.
    إن للمكان إيحاءات ودلالات في حياة الإنسان المسلم ، الذي له بدوره انطباعات معينة عن الأمكنة التي عاش فيها وعرفها في حياته، ثم إن للمكان طبيعة خاصة، تتحدد من خلال جغرافيته أو معماره، فمن الأمكنة ما يتميز بجغرافية بسيطة، ومنها كذلك ما يتسم بجغرافية معقدة، ومن الأمكنة بالتالي ما يتصف بمعمار بسيط، ومنها ما يقوم على معمار معقد، وجميعها تخلف آثارا في ذهن الفرد المسلم، ومؤكد أن المكان مسرح لكثير من الأحداث والوقائع، التي تحتفظ بها الذاكرة الفردية والجماعية الإسلامية؛ إنه فضاء يوقظ في الإنسان المسلم أحاسيس ومشاعر تختلف بواعثها.
    ولا شك أن المكان قد أصبح عنصرا حيويا في حياة الكاتب المسلم بامتياز، ذلك لأنه ارتبط بتجاربه الإنسانية، وبمسيرته الفكرية و العقدية، حتى صار ملجأ للتطهير ومحاسبة النفس، وباعثا على التأمل والتدبر، ومتنفسا للذات المسلمة المحتقنة بالأحزان والهموم الثقال، وفضاء مساعدا لهذه الذات على السمو و تجاوز ما يزج بها فيه من محن، وما تتلقاه من صدمات مدمرة.
    وفضلا عن كون المكان يمثل مثيرا خارجيا وموضوعيا، يبعث على استرجاع حدث معين، أو تذكر تجربة فردية أو جماعية، فإنه محط اهتمام الذات المسلمة، باعتباره ظرفا ماديا مسخرا لبذل الجهود، وتحقيق الأفعال، وخوض التجارب، والتعرض للابتلاء؛ إنه وعاء موضوعي، يحتوي تفاصيل التاريخين :الفردي و الجماعي، وفضاء مساعد على اكتساب الخبرات، وبناء الحقائق، وتطهير النفس.
    ثم إن أغلب التجارب التي يخوض الإنسان غمارها في مختلف أطوار حياته، ومعظم الأحداث التي يكون سببا مباشرا في وقوعها أو طرفا فيها، هي أحد المكونات الرئيسة للتاريخ الفردي الأكثر ارتباطا بعنصر المكان، الذي يظل بدوره المثير والباعث الأساس على استرجاعها.
    إن ما يثير الانتباه من بين هذه الأنماط المكانية المختلفة، التي تطبع خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة بمنحى خاص، هي تلك الأمكنة المرتبطة بطور الطفولة، والمساعدة في كثير من الأحيان على تشكيل أحد أهم المكونات الإسترجاعية، الذي يمثل لوحده وبغير منازع معلما بارزا وسلطة قوية، تبسط ظلالها على محكي السيرة الذاتية بوجه عام.
    هذا بالإضافة إلى أن الطفولة هي أهم طور تختزنه ذاكرة الإنسان، وإن كان من المتعذر الوقوف في أدب السيرة الذاتية على مستويات لغوية لفظية، تتدرج الذات الكاتبة عبرها من لغة الطفولة إلى لغة الشيخوخة، مرورا بلغة الفتوة، والشباب، والرجولة، والكهولة، بحكم أن أغلب السير الذاتية تكتب في مرحلة متأخرة من حياة أصحابها .
    ولا شك أن الامتياز الذي ينفرد به المكون الإسترجاعي الطفولي، يعود من جهة إلى انجذاب الإنسان نحو زمن طفولته في المقام الأول، وإلى حنينه المتنامي ثانيا إلى ذكريات سنه المبكرة والحياة في الصغر، خاصة وأن الإنسان كلما شعر بالحاجة إلى الأمن والسكينة إلا ويعود بذاكرته إلى عهد طفولته، الذي يمثل المهد، والبداية السعيدة، هذا فضلا عن كون كاتب السيرة الذاتية يجد فضولا شديدا في أعماقه، ورغبة جامحة في التغلب على استفزاز الذاكرة الطفولية، ولا شك أن من يكتب تاريخه الخاص لا يقدم على هذا الفعل إلا طلبا للإحاطة بجذوره ومنطلق حياته ووجوده، وفي هذاالطلب دلالة على المكانة الهامة جدا لطور الطفولة، وما للذكرى الأولى من قيمة متميزة في تاريخ الفرد و في أدب السيرة الذاتية.
    ثم إن الطفولة في حد ذاتها تعتبر من بين أهم ما تختزنه الذاكرة، وهي تمثل أداة دفاعية ووقائية بالنسبة إلى الفرد، الذي يستعين بها عن طريق الاسترجاع لمواجهة قسوة الواقع في الزمن الحاضر، وقد يتم اختزال العودة إلى الماضي في طفولة الإنسان، التي هي بدون شك فاعل أساسي في بناء أدب السيرة الذاتية، ولا شك أن المكان غالبا ما يشكل معالم الصور الأولى المختزنة في الذاكرة، والمسترجعة من طرف كتاب السيرة الذاتية.
    ثم لا بد من الوقوف عند الهوية الحقيقية لمؤلف السيرة الذاتية، وذلك من خلال التمييز بين السيرة الذاتية التي يتخذ صاحبها طور الطفولة محورا في جزء منها، والسيرة الذاتية التي يحتفل كاتبها بطور أو أطوار حياتية معينة في جزء منها، خاصة وأن الهوية الإسمية تجمع بين السارد وما تجسد في ذاته من أطوار حياتية .
    إن المكان عموما بالنسبة إلى الإنسان، والمكان الطفولي بوجه خاص، يمثل ذاكرة موضوعية ماثلة أمام عينيه، وقد اكتسبت هذه الذاكرة المادية قوتها ورسوخها على مر السنين لسبب واحد، هو أن الذات الفردية قد تستطيع أن تتمثل نفسها بدون مساعدة العنصر الزمني ، لكن ليس بمقدورها أن تستغني عن الظرف المكاني في تمثلها الذاتي، وهذا العجز هو الذي جعلها أكثر قربا من المكان وأكثر ارتباطا به.
    وإذا كان بمقدور الإنسان أن يدرك الزمان بشكل غير مباشر من خلال فعله في الأشياء، ويحدد الأحداث عن طريق التأريخ لها، فإنه يستطيع كذلك أن يدرك المكان حسيا وبكيفية مباشرة، ويميز ما بين الموضوعات المتواجدة فيه، ثم إن المكان يمارس على الإنسان سلطة من خلال تأثيراته البالغة الأهمية، وبناء على ما تعكسه طبيعته، وما يوحي به شكله ، فهو يثير فضوله ويشد انتباهه، ويوحي له بأفكار، ويخلف لديه انطباعات.
    وكلما ارتد سارد سيرته الذاتية إلى عهد طفولته، إلا ويجمعه اللقاء بهذه الذكرى أو بتلك، وهي في الأصل وقائع أو تجارب تجري في مكان معين، ولا تزيدها الأيام إلا رسوخا في الذاكرة الفردية؛ بل إنها قد تصير مصنفة لدى كاتب السيرة الذاتية إما من بين أجمل وأحسن الذكريات، أو من أقبحها وأسوئها.
    وغالبا ما يدخل عنصر المكان طرفا في تشكيل جمالية الذكرى، التي يرتبط سر المتعة فيها بالحركة عموما، وهي تعد بمثابة الروح المانحة لعالم الطفولة معناه الحقيقي المتميز، إذ الحركة تختزل عالم الصغار (الطفولة)، بقدر ما يختزل السكون عالم الكبار (الشيخوخة)، ثم إن كل الأحداث / الذكريات التي تقوم على مبدإ الحركة في أمكنة محددة زمن الطفولة، يستعصي على من هم ليسوا أطفالا أن يدركوا حجم معناها، وعمق دلالتها، وكذا أبعادها الإنطباعية.
    من المؤكد إذن أن لطور الطفولة في حياة الإنسان تأثيرا مميزا، وأن الطفولة باعتبارها موضوعا، ورمزا، ودلالة، لها من العمق والرسوخ في ذاكرته ما لاسبيل إلى إغفاله، إنها بحق موطن التجارب الإنسانية الأولى، ونبع إشعاع حيوي يستعصي جوهره على الوصف، ويعز عمقه على التحليل.


    د. أبو شامة المغربي
    الرباط .. المملكة المغربية

    رد مع اقتباس  
     

  9. #21 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سلام الله عليك د أبو شامة
    تم دمج المواضيع بملف السيرة الذاتية

    تقبل فائق الاحترام على هذا الابداع والجهد
    وسنحاول بعد أن تكمل هذه السلسلة أن نجمعها بكتاب الكتروني

    تحياتي لك
    التعديل الأخير تم بواسطة طارق شفيق حقي ; 26/03/2007 الساعة 11:19 AM
    رد مع اقتباس  
     

  10. #22 أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان (الجزء الثاني) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
    (الجزء الثاني)

    أ ـ الكتاب القرآني
    لا شك أن الكتاب القرآني يعد من بين الموضوعات، التي ينفرد بها الأدب العربي الإسلامي دون سائر الآداب في العالم، ويتميز بها الأدب العربي الإسلامي في العصر الحديث بوجه خاص، لكن حال الكتاب القرآني اليوم، تختلف عن حاله في السابق، حين نشأته وظهوره في المجتمعات العربية المسلمة، ويعود السبب في هذا الاختلاف والتباين إلى انحراف دور هذه المؤسسة التعليمية التقليدية، وغياب الالتزام بمبادئها وبكل أهدافها الأصلية ومناهجها الأساسية، وقد ظهر هذا الزيغ ابتداء من العصور التي شهد فيها العالم العربي الإسلامي انحطاطا فكريا واقتصاديا.
    وقد شغل موضوع الكتاب القرآني اهتمام كتاب الرواية والسيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، إذ أجمعوا في إبداعاتهم على تناول نفس المشاهد والتجارب، والتمثلات والانطباعات المتعلقة بالكتاب، وهو المكان الذي يجسد إحدى العلامات المميزة للمكون الإسترجاعي الطفولي، والتي تندرج في إطار تشكيل فضاء الذاكرة الجماعية العربية الإسلامية.
    ثم إن الكتاب هو المكان المتفرد بصلته الوثيقة بطور الطفولة، الذي قل بين مؤلفي السيرة الذاتية العرب من لم يعرج عليه متذكرا في سياق سرد تاريخه الخاص، وذلك بالنظر إلى طبيعته وإلى ما يحفل به من متناقضات وذكريات، يقتسمها الخوف، والألم، والغرابة .
    لقد تم اختزال تلك الحياة المرعبة والمتقلبة، التي يحياها الطفل داخل الكتاب القرآني، في وقائع مرئية ومسموعة، ظلت مختلف طقوسها وتقاليدها منـزوية في ذاكرة كتاب السيرة الذاتية العرب، بحيث أن الكاتب العربي لا يجد أدنى صعوبة في استعراض مجريات أولى مراحل حياته التعليمية، وأكيد أن هذه المرحلة وما رحبت به من الآثار الموشومة في الذاكرة، كانت عاملا حاسما أسهم بكيفية مباشرة في تحنيط أجواء الكتاب القرآني في ذاكرة الإنسان العربي، حديثا وقديما.
    ثم إن الحديث عن الكتاب القرآني في مرآة الذاكرة الإسلامية الحديثة يُلازم الإشارة إلى موضوعات كثيرة إذ يكاد الكتاب القرآني يكون ذاكرة موضوعية مشتركة بين الذوات العربية المسلمة، فذات الأجواء ونفس المشاهد والمواقف، والمعالم المكانية المرتبطة بالكتاب القرآني هي قواسم مشتركة بين الخطابات التي يشتمل عليها أدب السيرة الذاتية العربية عموما والإسلامية بوجه خاص، وهي خطابات يشهد بعضها لبعض في العمق والجوهر، ثم إنها دالة على التشابه والمماثلة القائمة بين طبيعة الكتاتيب القرآنية في أقصى المشرق العربي وطبيعتها في أقصى المغرب العربي.
    أما الموضوعات المقرونة بالكتاب القرآني، والتي تكاد تسمه وترمز إليه، فيكفي أن نذكر منها القمع، والرعب، والضرب، والقسوة، وهي ممارسات تلحق الأذى النفسي والجسدي بالطفل في حاضره ومستقبله، ثم إن جميع هذه الممارسات وغيرها تصير صورة (الفقيه) أو (سيدنا) مختزلة لها في ذاكرة الطفل.
    ثم إن ما يعتمد في الكتاتيب القرآنية من نهج غير سليم لا علاقة له بالتربية والتعليم، بل هو في واقع الأمر وحقيقته نهج قمعي مدمر لحياة الطفل المبكرة : النفسية والجسدية، وقد ساد ـ وربما لا زال يسود في حدود معينة داخل البلاد العربية الإسلامية ـ الاعتقاد لدى طائفة من الآباء في إيجابيته وفاعليته التربوية والتعليمية، ولم يشكوا لحظة واحدة في مصداقيته، وقد ظلوا راعين له مدافعين عن بقائه واستمراريته، لأنهم وجدوا آباءهم عليه معتادين؛ بل صار لديهم عرفان وميراثا تجب حمايته من الاندثار، فكان الأطفال ضحية لذلك النهج العقيم، وكانت آثاره ومخلفاته سيئة وجلية طوال مسيرتهم الحياتية.
    تتفق إذن معظم الانطباعات عن الكتاب القرآني، وتتماهى الأوصاف لما يجري داخل هذا المكان من أحداث؛ إنها انطباعات سلبية و أوصاف مثيرة ومخيفة، تجمع على أن الطفل العربي المسلم يخوض تجربة قاسية في أولى مراحل حياته التعليمية، ويعاني منها أشد العناء، فهو مطوق بالقمع والخوف، ومهدد بالضرب والزجر لأتفه الأسباب في أي لحظة من طرف (الفقيه).
    إن المعاناة النفسية تبدأ عند هذا الطفل، وتظهر آثارها عليه قبل أن يلتحق بالكتاب القرآني، بحكم ما يتراكم في ذاكرته من مشاهد، ووقائع مسموعة منفرة ومنكرة حول ما يدور في داخل هذه المؤسسة التعليمية التقليدية؛ لقد صار الكتاب القرآني، من خلال شكله المعماري والطقوس التي تجري فيه، مؤسسة تكرس نشاطا تعليميا قائما على ممارسات قمعية.
    وتكاد تكون الأجواء السائدة داخل الكتاتيب القرآنية الحديثة صورة مرئية وسمعية واحدة، فإذا ما استعرضنا مختلف الشهادات الواردة في متون السير الذاتية العربية الإسلامية الحديثة، خلصنا من خلالها إلى مشاهد، وانطباعات، وأوصاف دقيقة للكتاب القرآني من الداخل؛ هذا العالم البسيط في مظهره، والمثير في مخبره، لا نعثر له غالبا في شهادات كتاب السيرة الذاتية العرب المحدثين إلا على صور سيئة، لا علاقة لها بتربية الطفل وتعليمه.
    ولا شك أن مجموع تلك الصور السيئة تشكلت بناء على معطيات واقعية، إذ أن إرهاب الطفل وقمعه، ثم إكراهه على الخضوع لتقليد صارم ومنحرف منتهج في التعليم، وتعرضه لسوء المعاملة من خلال ممارسة العنف البدني عليه؛ هذه كلها أفعال تراكبت سلبا في ذهن الطفل، وخلفت لديه جراحا نفسية بليغة في حياته الدراسية، كما أسهمت في تكوين شخصية مضطربة وفاقدة للثقة في نفسها، فلم يكن الأسلوب المتبع لتعليم الأطفال داخل الكتاتيب القرآنية غير فعل تكميلي لمنهجية القمع المتبعة في الوسط الأسري، وهو حصار قمعي يتحول لدى الطفل إلى مصدر للرعب والانطواء على النفس نهارا، وإلى كوابيس متلاحقة ليلا.
    لقد كان الحديث عن موضوعة الكتاب القرآني في أدب السيرة الذاتية العربية الإسلامية الحديثة مرآة عاكسة لكل ما له صلة وثيقة بهذه الموضوعة التي شغلت مكانا متميزا في الذاكرة العربية ذات الطابع الإسلامي الحديث، فهي تجسد إحدى أهم محطات طور الطفولة في البلاد العربية؛ بل إنها وشم في ذاكرة الإنسان العربي على وجه العموم.
    ومما لا شك فيه أن موضوعة الكتاب القرآني قد أمدت من تحدثوا عن أنفسهم بنفس إبداعي مثمر، ومكنتهم من امتلاك شحنة سردية ووصفية بليغة وفنية، قد سرى مفعولها واتضح أثرها في الصياغة الأدبية لجانب متميز من مرحلة الطفولة.
    ونستطيع أن نقول ـ بناء على ما اطلعنا عليه وسبرنا أغواره في شأن موضوعة الكتاب القرآني ـ إن هذه الموضوعة هي بمثابة عنوان رئيس وعلامة أساسية في مسار حياة من كتبوا سيرتهم الذاتية، إنها تجربة خصبة على مستوى ما توحي به وتفصح عنه من حقائق وإشارات، وعلى الرغم من قساوتها، فقد أفادت كثيرا في بناء قناعات مغايرة لتلك التي سادت في الماضي، وكانت سببا في إعادة النظر وتقييم العملية التربوية والتعليمية من جهة، وباعثا على التجديد، والاجتهاد، ثم بذل الجهد في سبيل تجاوز مختلف الانحرافات السابقة وكافة الممارسات العدوانية والمرضية التي يتبرأ منها العلم جملة وتفصيلا.

    ب ـ القرية والمدينة
    في البدء كان المجال الجغرافي والاجتماعي، الذي اصطلحت عليه الجماعة البشرية بالبادية، والريف، والقرية، أما المدينة أو الحاضرة فهي مكان جغرافي واجتماعي آخر، هو وليد منعطف تاريخي في دنيا الإنسان، ومن ثم فهو مجال محدث بالمقارنة مع الريف أو البادية، وقد كان الارتباط قويا وما يزال بين الكائن الإنساني والبيئة القروية، وربما بسبب قدم تاريخ القرية وعراقتها كان هذا النوع من الارتباط، وربما للسبب ذاته لا يغادر الحنين الإنسان إلى الوسط البدوي الريفي، الذي تتردد معالمه وخصائصه وأجواؤه كثيرا في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة.
    ويظهر جليا في ضوء كثير من القيم والأبعاد المرتبطة بعالم القرية أن الذات المسلمة تنجذب إلى امتداد فطرتها وحسها الإنساني في المجال الطبيعي الأول، المتمثل في الريف، وهذا الانجذاب يتخذ شكل موضوعة دالة على الطبع السليم في إطار رؤية إسلامية، إذ في القرية، حيث التواصل الحميم والألفة الشديدة، يجتمع الناس لينعموا بالحديث على طبيعتهم وبكل تلقائية في أجواء بسيطة، فيصير الإنسان مسكونا بروح الجماعة، بخلاف ما تشعر به الجماعة البشرية في المدينة، حيث يسود الزيف، والغربة، والوحشة، وحيث يتفشى الخداع ويكثر ارتداء الأقنعة .
    إن المدينة مكان مفتوح، لكنها مع ذلك مكان يسوده الاغتراب والاضطهاد الإنساني، وهي في الغالب تحمل معاني معادية ونقيضة لمعاني القرية، وتأخذ في متن السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة رمز السلبية، والدخيل، والمصطنع، وذلك في مقابل الريف، والصحراء، والبحر، وهي أماكن من بين رموز الطهر، والأصالة، والسكينة، خاصة أن للمكان علاقة جوهرية بالإنسان، كما أن للموضوعات الطبيعية صلة جد وثيقة بالحالات النفسية للكائن البشري.
    إنه الاصطدام الذي تعانيه الذات المسلمة مع بيئة مدنية، تناقض طبيعة الإنسان المشبعة بصفاء القيم، وقوة الفطرة التي تشكل مناعة ذاتية، تدفع بالكائن الاجتماعي إلى الانتصار للبيئة الريفية، المحافظة على نقائها وتلقائيتها، وإعلان المواجهة والحرب على قساوة الوسط المدني، فالقرية بيئة هادئة ومونسة، بينما المدينة بيئة مضطربة وموحشة، ثم إن الحركة التي تدب في أنحاء الريف تختلف عن الحركة التي تسود أرجاء المدينة، ومن أهم ما ترتبط به الحاضرة القلق الإنساني، والفقر المادي، والفراغ الروحي، والأمل الضائع، والطموح المتكسر، وبمراحل العمر الفارغة، التي تنتقل الذات بين شعابها تائهة من جدب إلى جدب، وسط أجواء عدالة مختلة، وهذه الثغرات هي مصدر أدواء المدينة.
    ثم إن أفعال الإنسان غالبا ما تصرف في الوسط المدني وتذهب سدى عبر مسالك منحرفة ـ تفضي إلى فساد السلوك البشري، بحيث تتحكم الأهواء وتعمل على تنوعها ضد قيام وبناء وسط اجتماعي سليم، كان من المفروض أن يتحقق ويسفر عن وجهه بغير أقنعة مخيفة وصور مريبة، أما اليوم وقد تحولت المدينة إلى عالم كئيب يبعث الرعب في قلب الإنسان، ويذهب بعقله مذاهب شتى، فإن الذات المسلمة تستشعر قربها من الوسط الريفي، خاصة عندما تكون في أوج صفائها الذهني والروحي، باعتبار ما تعثر عليه من حياة مغايرة، مبنية على الانسجام والاعتدال، وهي حياة تظل الذات في شوق دفين إليها على الدوام ، لأنها الأصل والقاعدة البيئية الاجتماعية.
    لا يخفي الإنسان حبه الشديد للقرية، لكن شوق الذات المسلمة إلى الحياة الريفية البسيطة في العصر الحديث، سرعان ما سيخبو ويصطدم بحقيقة القرية ، التي لم تسلم من سيئات المدينة، وإذا أمعنا النظر جيدا، فإننا لا محالة سنكتشف أن الأديب المسلم عاش تجربة الهروب من المدينة واللجوء إلى القرية منقوصة وغير مستوفية لشروطها، لأنه أدرك بأن المدينة صارت قدوة وحلما بالنسبة إلى الريف.
    وقد نتج عن هذه الصدمة غربة مزدوجة تلاحق الذات المسلمة وتحاصرها، ثم إن الإنسان في هذه الحال سيجد نفسه مضطرا للعودة من جديد إلى البحث عن وضعه السليم ووظيفته المحددة داخل وسط اجتماعي آخر وبيئة مغايرة، بعد أن يكون قد أعياه الجري وراء سراب السعادة الوهمية، وأنهكته الحياة المادية الجافة بمتاهاتها، ثم إنه سيستشعر الحاجة في أعماق نفسه إلى طرق باب البساطة والاعتدال في الوسط الجديد، واتخاذهما بديلا للتعقيد والتطرف، فتصير لديه البداوة السوية عوضا للمدنية المنحرفة، وهذا الخيار طالما ازدراه وحط من شأنه، لما كان في غمرة انبهاره بالمظاهر دون الجواهر .

    ج ـ البحر والصحراء
    إن خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من بين الخطابات الأدبية الغنية بجملة من الموضوعات المحورية المتميزة، التي تدخل في تشييد بناء ومعمار دلالي متكامل ومحكم، باعتبار أن لها حضورا مكثفا وقويا في مسار هذا اللون الخطابي، فالصحراء مثلا موضوعة أساسية فاعلة في الذات المسلمة، وكذلك الشأن بالنسبة للبحر، إذ أن كلا من الموضوعتين يمثل فضاء رحبا للنظر، والتأمل، والمناجاة، وعالما جد مثير لطلب السكينة والاستقرار النفسي؛ هذا فضلا عن كونهما متنفسان تعاد في قلبهما صياغة الأسئلة الحاسمة، وصفحتان مجردتان من كل زيف أو تمويه، تتلاشى فيهما حيرة الإنسان وارتيابه، ونزواته وأوهامه، فالبحر والصحراء من الأماكن الغنية بالدلالات، ومن العوالم التي تكسب الإنسان معارف متجددة وخبرات متميزة.
    ولا غرابة في كون البحر و الصحراء موضوعتين كونيتين ، دخلتا التاريخ الإنساني من أوسع أبوابه، واحتلتا ببساطتهما مكانة في حياة الأفراد، فهما من بين الفضاءات والعوالم الطبيعية، التي صاحبت الإنسان على امتداد وجوده، فكانت الصحراء مهدا احتضن رسالات التوحيد، التي كلف الأنبياء والرسل عليهم السلام بتبليغها للناس، فالبحر والصحراء منذ وجدا وهما بمثابة مرآة تنزع الأقنعة من الوجوه، ولسان كوني فصيح، يكشف حقيقة الإنسان كلما حاول الاستعلاء أو توهم القوة؛ إنهما فضاءان يلجأ إليهما الكائن الاجتماعي، عندما يضيق باختلال حياته وفسادها طلبا للحقيقة ، و بحثا عن الاستقرار و التوازن .

    1 ـ البحر
    والبحر واحد من تلك المخلوقات الكونية، التي تذكر الإنسان بوهنه وقلة حيلته في هذا الوجود، وهو واحد من تلك الآيات الشاهدة على قدرة الخالق و عظمته، وسعة رحمته سبحانه وتعالى، وواقع قائم في عالم الشهادة، وخطاب مفتوح يفصح للمخلوق العاقل عن حقيقته و يعظه؛ إنه كائن مسخر لدعوته إلى التأمل، والتدبر، واستخلاص العبر والحقائق، ثم إن اهتمام الإنسان بهذه الآية الكونية: (البحر)، ينشأ في وقت مبكر سابق عن لحظة المعاينة الفعلية، التي تمثل حدثا متميزا في حياة كل فرد، وتحقيقا لرغبة مؤجلة، وإشباعا لبعض الفضول.
    إن لقاء الإنسان بالبحر هو حدث يجمع بين كائنين، تمتد بينهما جسور من الخطاب الرمزي، والتواصل الكوني، والشبه المجازي، إذ كل من الإنسان والبحر يعتبر كائنا غامضا، ينطوي على أسرار كثيرة، ويتسم بشكل ظاهر وعالم باطن، وكلاهما متقلب لا يستقر على حال؛ إن آثار اللقاء الأول للإنسان بالبحر، التي تختزلها وتمتصها الدهشة، ويتملكها الانبهار والإعجاب وتلك المعاينة الأولى للبحر كافية لتخلف لدى الإنسان انطباعات شتى ستحفظها ذاكرته على الدوام، ذلك لأن رؤية البحر لأول مرة، يندرج بين الأحداث واللحظات الحميمية، التي لا تمحي من ذاكرة الإنسان.
    ثم إن البحر، باعتباره واحدا من بين الكائنات الطبيعية أو المخلوقات الكونية، يفضي إلى الإنسان ـ من خلال حوار خفي _ ببعض أسراره ودلالاته، بقدر ما يفضي إليه الإنسان بهمومه وانشغالاته، فتمتزج إيحاءات البحر ومظاهره بمشاعر الكائن العاقل ووجدانه، إلى الدرجة التي يبلغ فيها ذلك التمازج نوعا من الاتحاد الرمزي أو المجازي، ففي هدوء البحر واضطرابه، وفي مده وجزره، وفي سعته، وعمقه، وأسراره إشارة إلى طبيعة الإنسان وإحالة على تنوع انفعالاته، من سكون وحركة، وصمت وصخب، وسكينة وغضب، واندفاع و تراجع، وقلق واطمئنان، وظاهر جلي وباطن غامض.
    وعندما تتمكن الذات من إبرام ميثاق تواصلي بينها و بين الأمكنة و غيرها من الموضوعات في العالم الخارجي، فتجري معها حوارا حميما و مسترسلا، فإن وقع الاغتراب يكون في هذه الحال قد اشتد عليها بين بني جنسها، وتكون حدة السؤال قد شغلت كل تفكيرها، فتزداد الهوة اتساعا بين مركز الذاتية وضفاف الغيرية، مما يحتم على الإنسان البحث عن محاور بديل، بقصد أن يلتمس عنده بعض الإعانة على تبديد قوة الشك والحيرة المتنامية، وأيضا بهدف العثور على الإجابة الشافية على كثير من الأسئلة عنده، بعد أن تكون قد استفزته واستعصى عليه أمرها.



    د. أبو شامة المغربي


























    رد مع اقتباس  
     

  11. #23 أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان (الجزء الثالث) 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وموضوعة المكان
    (الجزء الثالث)


    2 ـ الصحراء
    إن الصحراء مرآة للنفس البشرية المجردة، وللحياة الطبيعية دون قناع، ففي شساعتها وبساطتها ونظافتها عودة بالإنسان إلى فطرته وأصله ، و تطهير له من انحرافاته وأهوائه، ولا شك أن الصحراء بما هي عليه من صفات ومعالم، تجرد حياة الإنسان من كل الأقنعة والأوهام، ففي نظافتها وطهرها شفاء لما تراكم في أعماق الكائن البشري من علل وأدواء؛ إنها صارمة في كشف ضعف الإنسان ورفض عبثه وضلاله، وليست الصحراء ـ كما يعتقد أكثر أهل البلاد الغربية ـ مكانا تسوده قسوة البداوة وتمزق المجتمع؛ بل هي عند العرب وغير العرب المسلمين فضاء رحبا موحيا بأبلغ وأسمى القيم الإنسانية، ومجالا يفيض طهرا وصفاء، وخطابا كونيا مفتوحا، يوحي بالتوحيد والحياة المجردة من كل زيف وقناع.
    إن الحالات التي تعتري الإنسان وهو في قلب الصحراء متكاملة الوظائف، إذ أن هذا الفضاء الجغرافي يمثل مسرحا لاكتشاف قيمة الحياة، واختبار الطباع البشرية مجردة من كل مظهر مزيف، وعلى الرغم من بساطة الصحراء والفراغ السائد فيها، فالجديد مباغث للإنسان على امتداد أرجائها، والإنسان الذي يخوض مشقة الرحلة والسفر فوق رمالها، وبين تلالها وكثبانها المتلاحقة، يكتسب باستمرار معرفة جديدة، ويكتشف أشياء كثيرة.
    فالرحلة في الصحراء أشبه ما تكون بركوب البحر، بحيث إذا كان ركوب البحر يوحي بترقب سفينة أو رؤية يابسة قد تلوح في الأفق، فكذلك الرحلة في الصحراء توحي بترقب قافلة أو رؤية واحة قد تلوح وسط السراب، ثم إن كثبان الصحراء وتلالها تذكر كل من شاهدها بأمواج البحر.
    أما اللقاء بين الناس المتنقلين في هذه الأجواء الصحراوية القاسية، والتحدث في ما بينهم، فذو طبيعة متميزة وألفة شديدة، وتمثل الصحراء إذن منبعا للحكمة، والمبادئ، والقيم الأصيلة، فالحضارة في أبهى صورها الروحية قائمة في الصحراء، وتحديدا في شبه الجزيرة العربية، بفضل الإسلام الذي أنار أرجاءها.
    ومن ثم فالصحراء تعد سرا من أسرار الحياة، ومكانا يحث الإنسان على التخلص مما علق به من نواقص ورذائل، واكتسبه من شرور وآثام، ثم إن الصحراء آية سخرها الله لعباده لتوحي إليه بما عليه من مجاهدة نفسية، تقتضي الصبر والإيمان، وذلك في سبيل الوصول إلى الحياة الدنيوية المثلى.
    إن ثمة فضاءات لا يملك الإنسان دفع تأثيرها، فهي بمثابة مثير خارجي للمشاعر والأفكار؛ بل إنها بواعث قوية لما تحتفظ به الذاكرة الفردية من أحداث ومواقف، خاصة منها تلك التي تتصل بالحياة العقدية للإنسان، فبإمكان المرء أن يستوعب التأثير المكثف لبعض الأمكنة المتميزة، التي تبعث في النفس انطباعات مختلفة، وتعمل على إحياء مشاعر دفينة في أعماق الإنسان، كما أنها توقظ في الذهن جملة من الإدراكات والتأويلات، حتى إن الذات تستشعر جاذبية الفضاء المكاني، وتتجاوب إيجابا مع جميع ما يشتمل عليه من موضوعات وآثار فعلية بالقدر الذي تعي به غنى وخصب إيحاءاته الرمزية.
    ثم إن كل أدوات الاستقبال الطبيعية لدى الفرد، تسهم بتكامل وظائفها في تشكيل علاقات جديدة من داخل العالم الخارجي، فضلا عن كونها تمثل جسرا واصلا بين ذات الإنسان ومحيطه، حيث تختزل الأشياء ومختلف المعالم المكانية شحنات من الأفكار، والمعاني، والدلالات، وما هذه الشحنات في الأصل إلا نتيجة لما يخلفه الفرد من آثار خارج ذاته، ولما يضفيه من إنسانيته وروحه على كل الموضوعات المادية، التي تنخرط بهذا الفعل ومن هذه الزاوية في دائرة التجريد، لتدخل بعد ذلك في علاقات معقدة مع الذات.
    وعندما يحتد انفعال الأنا بالمكان، يجد الإنسان نفسه في قلب فضاء يتأمله بكل ما أوتي من قوة تركيز، وكأنه يكتشفه لأول مرة في حياته، لكنه لا يستغرب وجوده بداخله، ويرى نفسه بعضا من الحياة التي يوحي بها المكان، وجزءا من حركة في مدار، ومن ثم يدرك بأن الذات الإنسانية ليست مركزا أو محورا، وإنما هي ذرة تسبح في فلك دائري، وبالتالي يظل المكان عاملا مساعدا على اكتشاف حقيقة بهذا الحجم و هذه القيمة.

    د ـ المسجد
    يعد المسجد من بين الأماكن الرمزية والهامة في العمران الإسلامي، فهو رمز للإسلام القائم على مبدأ التوحيد، وهو كذلك رمز لوحدة المسلمين، وعلامة بارزة تطبع الحياة الإسلامية اليومية، ثم إنه دعوة في حد ذاته إلى اتباع تعاليم العقيدة الإسلامية والتمسك بها، فهو فضاء ينطق ببساطته، وهدوئه، وإيحاءاته، ومكان تطمئن إليه النفس وتنجذب إليه، وعالم يذكر الإنسان بخالقه سبحانه وتعالى و بالدار الآخرة، ويذكره بحقيقة نفسه وبوظيفته ورسالته في هذه الحياة الدنيا.
    وإذا كان المسجد يحتل مكانة كبيرة في نفوس العرب المسلمين و حياتهم اليومية، فإنه بالتالي ذو أثر بليغ في حياة الإنسان، الذي يهتدي إلى الإسلام ويدخل فيه بعد ضلال وبحث جهيد، رغبة منه في العثور على الدين الحق، ومن ثم فهو معلم جد هام وإشارة متميزة في تجربة الاهتداء، التي تعيش الذات الغربية و غيرها فصولها المثيرة، ويكفي أن المسجد (بيت الله تعالى) يرتبط في الغالب لدى الذات المهتدية بحدث دخولها في الإسلام، وذلك من خلال النطق بالشهادتين،.
    ثم إن لفضاء المسجد ولجغرافيته وهندسته الأثر الروحي البليغ في نفس الإنسان المسلم، كما أن لأصوات المؤذن الذي يرتفع بالأذان عاليا من قلب المسجد ذات الأثر، فالفضاء الفسيح، وجمال الهندسة، وعذوبة الصوت، ثم ما يظهر على وجوه المصلين من سكينة وخشوع، جميعها عناصر تمارس جاذبيتها على الذات الإنسانية؛ بل وتمنحها من قوتها الروحية وإيحاءاتها العميقة حظا وافرا، وتعكس عليها جوهر البساطة ومنتهى التواضع.
    ولا شك أن المسجد بالنسبة إلى الإنسان خطاب مفتوح على العين، والنفس، والروح، وبقدر ما هو خطاب موضوعي قائم في العالم الخارجي، بقدر ما هو دعوة إلى توحيد الخالق عز وجل، ثم إنه مثير روحي وباعث على معرفة الإسلام والتطلع إلى الحياة الآجلة الباقية؛ إنها الانطباعات، والشهادات، والأوصاف تدل على التأثير البالغ للمسجد في حياة الإنسان العربي المسلم، وهي عبارات تفضي بنا إلى حقيقة مؤداها أن المسجد مكون أساس وموضوعة مكانية رئيسة، لا يكاد يخلو منها متن السيرة الذاتية الإسلامية بوجه عام، ومتن السيرة الذاتية العربية الإسلامية بصفة خاصة.
    ومن المؤكد أن تأثير المسجد في الذات العربية المسلمة، يتمثل في عمق العلاقة القائمة بينهما، فالمسجد مدرسة تصقل فيها أخلاق الإنسان المسلم، وتسدد في رحابه سلوكاته، ويتعلم فيه الكثير من القيم الإسلامية، حتى إن تنظيمه المعماري يعكس جوهر تلك القيم، هذا بالإضافة إلى أن المسجد يلزم من يلج إليه بسمات معينة، ومعنى هذا أن هذا المكان كغيره من الأمكنة لا يشكو فراغا أو سلبية، وأن الكيفية التي يتم إدراكه بها، تزكي فيه ما يكتسيه من دلالات خاصة.
    ثم إن المسجد مكان يثير فضول الذات الحديثة العهد بالإسلام، ذلك أن أول ما يحرص عليه الإنسان المهتدي هو التعرف أكثر على هذا المكان ووصفه من الداخل بدقة متناهية، والاجتهاد في استقراء كل ما يجري فيه، ومحاولة النفاذ إلى عمق كل جزئية وثيقة الصلة به، وكأنه يحاول من خلال الكلمات أن يلتقط له صورة معبرة أساسا عن الأجواء الروحية الماثلة فيه، وأن يفضي إلى جوهر الإسلام من خلاله.
    إن المسجد بالنسبة إلى الإنسان الداخل حديثا في الإسلام فضاء يحثه على القيام بمقارنة بين أجواء التوحيد السائدة فيه، المحكومة بالخشوع والنظام، وأجواء الكنيسة التي يسودها الشرك، والضلال، والتحريف، ومن ثم تخلص الذات المهتدية إلى تلمس الفرق الكبير بين وظيفة المسجد ومدى تأثير الحياة التي تسري فيه، ووظيفة الكنيسة المفتقرة إلى روح العبادة الحقيقية، فما يستشعره الإنسان في المسجد بعيد كل البعد عما يستشعره المرتاد للكنيسة ومناقض له تماما.
    ثم إن المسجد مكان يثير فضول الذات الحديثة العهد بالإسلام، ذلك أن أول ما يحرص عليه الإنسان المهتدي، هو التعرف أكثر على هذا المكان ووصفه من الداخل بدقة متناهية، وكأنه يحاول من خلال الكلمات أن يلتقط له صورة معبرة بالدرجة الأولى عن الأجواء الروحية الماثلة فيه.
    ثم إن ما يختلج في أعماق الإنسان الغربي، المقبل على الدخول في الإسلام، أو الداخل فيه، من مشاعر وتحولات، قد يكون باعثا قويا له على استكشاف المسجد الذي يرمز في وجه من وجوهه إلى إقامة الصلاة، باعتبارها أحد أركان الإسلام الخمسة، وغالبا ما ستكون للمهتدي عين واصفة دقيقة، سيحرص من خلالها على النفاذ إلى جوهر العلاقة القائمة بين ظاهر المسجد وباطنه، وسيجتهد ما وسعه الاجتهاد في استقراء حقيقة ما يجري داخل هذا المكان المميز عن غيره من الأمكنة.

    هـ ـ مكــــة / الحج
    موضوعة مكانية أخرى نعثر لها على أصداء، وإيحاءات، ودلالات في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة؛ إنها مكة المكرمة، وعندما يذكر هذا المكان نستحضر فريضة الحج والركن الخامس في الإسلام بكل حمولته العقدية والشعائرية ذات الأبعاد الرمزية الكبرى في حياة الإنسان المسلم، الذي يتملكه الشوق والحنين إلى حج بيت الله تعالى وزيارة مدينة مكـة، تلك الأرض الطاهرة التي ترتدي حلة من البساطة والهيبة، والتي كانت مسرحا لكثير من الأحداث التاريخية الكبيرة في صدر الإسلام، بقدر ما كانت فضاء لمشاهد ومواقف عظيمة ومازالت، ويأتي في مقدمتها مشهد الحج الذي يتكرر مرة في كل سنة هجرية.
    إن مكة موضوعة مكانية حاضرة في خطاب السيرة الذاتية الإسلامية العربية والأجنبية على حد سواء، وتكاد قراءة هذه الموضوعة أو استعادة مشهد الحج، سواء من طرف الذات العربية أم الأجنبية، تكون واحدة، ثم إن مكة / المكان، والحج / الحدث والمشهد، يجسدان في تكاملهما ذاكرة مشتركة بين الذاتين، مثلها في هذه السمة كمثل ذلك التكامل القائم بين المسجد / المكان والصلاة / الحدث، والذي يجسد بدوره ذاكرة مشتركة بينهما.

    وثمة إشارات جد مركزة تثير انتباه من يقصدون مكة وبيت الله الحرام، فاختلاف الأجناس والألوان، واللغات، واللباس الأبيض الموحد والبسيط، ثم الكعبة، والطواف، وعرفة والوقوف بها، جميعها مثيرات خارجية تذكر الإنسان بفناء الدنيا وزوال زخرفها ونعيمها، وتبعثه على تدبر آيات الله عز وجل، وإدراك ماهية النفس وقدرها، ثم تحثه على محاسبة الذات والإعداد ليوم الرحيل واستقبال الدار الآخرة.
    إنها علامات دالة في جوهرها على توحيد الله تعالى، وعلى وحدة المسلمين ومساواتهم، ولا شك أن مشهد الحج يوحي بعالم آخر جديد، كل ما فيه يشهد له بالسمو والتجرد، ويتوجه إلى الإنسان بالدعوة إلى الله عز وجل، ويذكره في العصر الحديث بذلك المجد والإرث الإسلامي القديم الذي ملأ الدنيا بنوره وأصدائه الإيمانية.



    د. أبو شامة المغربي





    رد مع اقتباس  
     

  12. #24 المكونات الخطابية الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36

    المكونات الخطابية الكبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة

    لقد أجمع أكثر النقاد والدارسين على أن السيرة الذاتية الفنية ترتكز على وحدة البناء، وتطور الشخصية، وقوة الصراع، والحقيقة التاريخية، ومصداقية السرد الأدبي الواضح والمباشر، هذا بالإضافة إلى رصد العالم الداخلي للذات الكاتبة، دون إغفال النظر إلى العالم الخارجي، ثم انتقاء كل ما يتناسب من المواد مع الصياغة المعتمدة من قبل المعني بالسيرة في هذا اللون من الأدب.
    والملاحظ هو أن السيرة الذاتية المكتوبة، تختزل بشكل جلي ذات الكاتب والحياة التي اقترنت بها، وتسعى من جهة ثانية إلى الإحاطة نسبيا بما تبقى للكاتب من ماضيه، الذي يكتسي معنى ومدلولا ذاتيا وفقا لرؤية معينة، ثم إن هذا العمل الأدبي ـ الذي يجسد المعادل الموضوعي لسيرة المؤلف ـ يحمل في ثناياه نوعين من الازدواج: الأول متمثل في تكامل البواعث/ الأغراض الظاهرة مع البواعث / الأغراض الباطنة ، والثاني تترجمه تلك العلاقة الوثيقة القائمة بين الاستقراء الموضوعي مع التسويغ الذاتي، ومن ثم فإن مدار نجاح الكاتب في صياغة سيرته الذاتية على هذه الطبيعة الازدواجية ، التي تسم جنس السيرة الذاتية عموما.
    ولا شك أن صاحب هذا المشروع الأدبي ، يدرك جيدا ما تعنيه الأبعاد المزدوجة ، التي تنطوي عليها سيرته الذاتية، خاصة إذا علمنا بأن هذا الضرب من الأدب له الكثير من أسرار الحكي ولذة القص وإمتاعه، وله من قوة التحليل النفسي وقوته، وكل ما يمنح العمل الفني ذلك الإشراق الإبداعي المتميز.
    ثم إن كل من يكتب سيرته الذاتية، نراه يجد في بعث ماضيه و إحياء ذاته من جديد عن طريق الكتابة، وحتى يكتب له التوفيق في هذه المبادرة، لا بد من أن تشتمل سيرته المكتوبة على العبارة الموحية، والتجربة الشعورية، وذلك لتبلغ كل من التجربة والعبارة درجة التماهي النسبي عند الذات الكاتبة والذات المتلقية على حد سواء.
    صحيح أن هذه الثوابت تمثل في واقع الكتابة الأدبية أركانا لا تقوم بدونها السيرة الذاتية الفنية، ونحن لا نرى لنا حولها جدالا أو عليها اعتراضا؛ لكننا لا نتفق ـ في سياق آخر ـ مع من يعتبر كتابة (الذكريات
    و(المذكرات)، و(اليوميات)، و(الاعترافات) أشكالا من أدب السيرة الذاتية؛ بل نعتقد بأنها مكونات كبرى خاصة بخطاب السيرة الذاتية، أو هي أجناس أدبية صغرى، متفرعة من جنس السيرة الذاتية.
    ثم إننا نعتقد اعتقادا راسخا بكون أدب السيرة الذاتية ليس مفهوما مرادفا أو مطابقا لأدب الترجمة الذاتية ـ وقد أفضنا الحديث في هذا الشأن في مدخل هذه الأطروحة، واجتهدنا ما وسعنا الاجتهاد في إيضاح مدلول كل من (السيرة الذاتية)، و(الترجمة الذاتية) من جهة، وفي التمييز بين الاصطلاحين من جهة ثانية ـ وانطلاقا من هذه القناعة، يقتضي المنهج العلمي السليم ضبط وتحديد مختلف الاصطلاحات التي تدور في فلك جنس السيرة الذاتية ، خاصة بعدما تحولت الذات الفردية إلى بؤرة اهتمام دقيق، وصارت مادة خصبة لعملية السرد الأدبي، إذ أنها ماثلة بدرجات متفاوتة في عدد من الإنتاجات الأدبية.
    إذن من الضروري تحكيم ثلاثة معايير أساسية قبل الحكم على أي نص أدبي، يندرج في الإطار العام لجنس السيرة الذاتية، وذلك بقصد تصنيفه، ومعرفة ما إذا كان سيرة ذاتية مستوفاة لجميع شروطها وأركانها؟ أم أنه فقط أحد مكوناتها الكبرى وأجناسها الصغرى؟ أما المعايير فهي:
    أ ـ شكل النص الأدبي: حكائي، ونثري أو شعري، ثم إرجاعي.
    ب ـ الموضــــوع: التاريخ الفردي الخاص.
    ج ـ وضع الكاتــب: مؤلف، وسارد، وشخصية رئيسة.
    إن (المذكرات)، و(الذكريات)، و(الاعترافات)، و(الترجمة الذاتية)، لا تستجيب للمعيار الثاني، المتمثل في طبيعة الموضوع، الذي يجب أن يكون تاريخا فرديا خاصا وشاملا، و(اليوميات) لا تستجيب للمعيار الأول، المتمثل في شكل النص الأدبي، الذي يجب أن يتصف بالحكائية، ويتسم باسترجاع الماضي، أما السيرة الذاتية الروائية، فلا تلبي شرط المعيار الثالث، الذي يقضي بأن يكون الكاتب في ذات الوقت مؤلفا، وساردا، وشخصية رئيسة.
    إن السيرة الذاتية ، باعتبارها جنسا أدبيا، تتسع لجميع تلك المكونات الخطابية الكبرى/ الأجناس الأدبية الصغرى، ووحدها تستجيب للمعايير الثلاثة، وبذلك استطاعت أن تنفرد بصفة الجنس الأدبي عن أدب المذكرات، والذكـريات، واليوميات وغيرها من مكوناتها الخطابية الكبرى، ولا بأس أن نسترسل قليلا في الحديث عن المكونات الكـبرى لأدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديـثة ـ والتي بطبيعة الحال ليست حكرا على هذا اللون من الأدب الإسلامي ـ أو ما يسمى تارة بالأنواع أو بالأنماط، ويطلق عليه تارة أخرى الأجناس الأدبية المجاورة لجنس السيرة الذاتية، فهل بالفعل ثمة صعوبة في الوصول إلى تحديد الفوارق القائمة بين (السيرة الذاتية) ومكوناتها الكبرى؟!
    1 : أدب الترجمة الذاتية: وهو بإيجاز فن تأريخ الحياة الموجز، الذي يهدف به الكاتب إلى تقديم نفسه والتعريف بشخصه في صفحات قليلة، ونقتصر هنا على الإشارة إلى أن الترجمة الذاتية مكون لا تخلو منه أي سيرة ذاتية إسلامية حديثة بوجه خاص، وأي سيرة ذاتية على العموم.
    2 : أدب المذكرات : هو ما يكتبه عادة شخص قام بدور بارز في مجرى الأحداث، سياسية كانت على سبيل المثال أم اجتماعية، ويهتم فيه أساسا بالأحداث التاريخية التي شارك فيها من بعيد أو قريب، وبالأحوال المحيطة به أكثر ما يحفل بوقائع حياته الخاصة، ذلك أن المذكرات تحتفل في المقام الأول بالشخصيات والأحداث، وكل ما يجري خارج وحول الذات الكاتبة؛ لكن هل صحيح أن جنس المذكرات هو أصل أدب السيرة الذاتية وباقي الأجناس الأدبية المتقاربة؟
    وغالبا ما تجمع المذكرات الإسلامية الحديثة بين ما شاهده و سمعه الكاتب، وبين ما صدر عنه من أحاديث وأقوال وما أتاه من أفعال، وثمة بالفعل علاقة قائمة بين كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة وكتابة تلك المذكرات، إذ نادرا ما لا يتدخل كاتب المذكرات من حين إلى آخر في ما يكتب، وكذلك مؤلف السيرة الذاتية، قل ما تخلو كتابته من الأحداث العامة التي سبق له أن عاشها.
    ولا شك أن "المذكرات" لها مكانتها العضوية، وحضورا طبيعيا لا ينكر في قلب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، باعتبارها مكونا فاعلا، بحيث من الخطأ أن ننتظر من كاتب هذا الضرب من الأدب الإسلامي التغاضي ـ حين سرده لتاريخه الشخصي ـ عما يجري حوله من أحداث ووقائع، وعما يشهده محيطه من الأوضاع والظروف، إذ لا يستطيع أي كاتب أن يتجرد من مشاعره وأحاسيسه إزاء ما يحتك به من مجريات العالم الخارجي.
    إن "المذكرات" مكون أساس في كتابة السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة، وليس بالإمكان أن نتمثل أي سيرة ذاتية مكتوبة في غياب هذا المكون وغيره من المكونات الخطابية الكبرى، إذ أن السيرة الذاتية في النهاية ما هي إلا صياغة فنية، تجمع بين سائر مكوناتها، وليس صحيحا ما يعتقده البعض من أن لا خط يفصل ما بين السيرة الذاتية والمذكرات، وما بين السيرة الذاتية والرواية، وأن الأمر لا يعدو أن يكون مسألة نسب ودرجات.
    ثم إن "المذكرات" ذات فائدة كبيرة، وتكتسي أهمية بالغة، وهي مدرجة في السيرة الذاتية، لأن التفاعل قائم بالضرورة بين شخصية الكاتب و الأحداث الخارجية، ومن ثم تتخذ صفة الوثيقة التاريخية، التي تكشف عادة عن خفايا ومجاهل تتصل أساسا بالذات الكاتبة، وتجلي طبيعة ما يربطها من علاقات متشعبة بعدد من الشخصيات، والمؤسسات وغيرهما، ثم إنها تعكس مختلف مستويات ومناحي الحياة السائدة في الوسط الذي نشأ فيه المؤلف.
    3 ـ أدب الذكريات : هو فن تعبيري يحتفل بالمسترجعات من المشاهد و الأحداث، والمواقف واللحظات الأكثر إثارة و دلالة في حياة الإنسان، والأكثر رسوخا في ذاكرته، وكتابة الذكريات أوثق صلة بأدب السيرة الذاتية، إذ تتخذ "الذكرى" محورا ومدارا، وقد لا يعتمد فيها الكاتب الترتيب الزمني، بحيث يكتفي بالتذكر والاسترجاع التلقائي لأهم ما رسخ في ذاكرته وخلف في نفسه أثرا متميزا في الماضي، لكن عندما يتعلق الأمر بصياغة السيرة الذاتية، فإن الذكريات يجب أن تستجيب لشرط الترتيب الزمني، ولتحقيق هذه الغاية، يلزم أن يتمتع المؤلف بذاكرة قوية، تساعده على ضبط زمن كل ذكرى على حدة.
    لكن إنجاز مثل هذا العمل، يظل متعذرا في الغالب، مما يحتم على الكاتب اللجوء إلى عملية الاسترجاع التلقائي أو التذكر العفوي لما مر به من تجارب في حياته، ثم إنه كثيرا ما يلجأ إلى عملية التخيل ليستعين بها في ترميم بعض ذكرياته والربط بين العناصر المكونة لها، خاصة تلك التي تؤرخ لطفولته.
    4 ـ أدب الاعتراف: هو ضرب من الكتابة الأدبية، يفشي من خلاله المؤلف أسرارا شخصية جديرة بالذكر، ومفيدة بالنسبة إلى الآخرين في إضاءة جملة من الخبرات: من ميولات، وأهواء، وعثرات، ونزوات، ومشاعر، وأخطاء، و آثام، وأفكار، وآراء وغيرها مما له سمة الأسرار والمكتومات الشخصية، التي يضن ويحتفظ بها الإنسان لنفسه في الغالب، فنرى كاتبها يبوح ببعض ما يحرص الكثيرون على كتمانه وإخفائه عن غيرهم، و"أدب الاعتراف" مكون رئيس في كتابة السيرة الذاتية.
    لكن الكاتب المسلم لا يذهب في اعترافاته إلى حد ذكر عوراته و كشفها أمام القارئ المتلقي، ولا يبلغ في ما يكتب من اعترافات درجة خدش الحياء، وإثارة الميع الخلقي في القراء، وإفساد الذوق العام؛ بل نجده يحرص على القيمة الأخلاقية في كل ما يعترف به، ويكتبه من ألفاظ وعبارات.
    5 ـ أدب اليوميات: ضرب آخر من الكتابة الأدبية، وأحد المكونات الخطابية لأدب السيرة الذاتية، بحيث يتم من خلاله رصد الأحداث اليومية، أو وقائع أيام دون أخرى، حسب أهميتها التاريخية، وباعتبار ما تمثله في حياة الكاتب، وما حفلت به مميزات، وهي أيام كثيرا ما يجتمع ويتداخل فيها الذاتي والموضوعي من العناصر؛ إنها تسجيل مباشر للتجارب، لا يغيره أي تأمل لاحق.
    ثم إن من طبيعة "أدب اليوميات" أنه يمتاز بالمباشرة الآنية، والتمكن من رصد ومتابعة الأحداث والمستجدات اليومية، مما يسمح للكاتب بتدوين ما مر به في يومه من وقائع هامة ومثيرة بدقة، باعتبار أنه يتخذ من مجريات الزمن الحاضر موضوعا لكتابته، وفي هذه الحال لا يسترجع ماضيا، ولا يسجل مستقبلا، لكن "اليوميات" تظل الأقل اعتمادا على تأمل الأحداث وتحليلها، والأقل ارتباطا و تماسكا.
    وإذا كان من بين كتاب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة من يحرصون على إفراد يومياتهم بمؤلف مستقل أو إدراج بعض منها في ثنايا ما يؤلفونه حول ذواتهم ، فذلك لأن لها قيمة أدبية وتاريخية لا يستهان بها، فهي قريبة جدا من الأحداث التي تحيطها بالوصف، وبذلك فهي مؤهلة لتجنب عامل النسيان، ثم إنها الأكثر تميزا بسمة الصراحة المباشرة، والكشف عن الكثير من طباع كاتبها، وهي فضلا عن هذا تسجيل دقيق، واقتفاء متواصل لانفعالات وأحاسيس صاحبها، وتطور شخصيته بوجه عام، ونذكر من بين كتاب اليوميات الإسلامية الحديثة، زينب الغزالي، وأحمد أمين، محمد المختار السوسي، وأحمد رائف، و مراد ويلفرد هوفما ( MURAD WILFRIED HOFMANN ).
    6 ـ أدب الرسائل: فن تعبيري غالبا ما يتواصل كتابة من خلاله الأدباء، والعلماء، والمفكرون وغيرهم، وهو مكون خطابي في أدب السيرة الذاتية، يتخذ في معظم الأحيان صفة الوثيقة داخل هذا الأدب، والتي قد يقصد بها صاحب السيرة الذاتية استعادة الحقيقة التاريـخية المشوبة بالزيف والتحريف، ولتكون شاهدا على صدق حديثه من جهة، أو ليتخذها سبيلا إلى بعث مشـاعر، وأحاسيس، وانفعالات خبت جذوتها بفـعل طي الزمان لها، إذ يحاول بإحيائها استرجاع اللحظات المثيرة والمميزة التي كانت في تاريخ مضى فضاء لجملة من المواقف، والتجارب وغيرها من جهة ثانية.
    ومن بين ما تتميز به المراسلات الشخصية، تلك المعلومات الثمينة التي تشتمل عليها في موضوع جملة من المواقف والأحداث، وفي ما يتصل بعدد من الأشخاص، إنها بحق أداة مساعدة ومكملة لما تنطوي عليه كتب التاريخ والحضارة الإنسانية، وليست مجرد وسيلة نتعرف من خلالها على شخصية كاتبها، أو أنها مجرد تعبير عن طبيعة مشاعره.
    ثم إذا كان أدب الرسائل يشكل رافدا أسلوبيا ودلاليا بالغ الأهمية لمختلف ضروب التعبير الأدبية، وفي مقدمتها أدب السيرة الذاتية، فضلا عن الخصائص التي تسمه باعتباره خطاب شخصي في المقام الأول، فإنه في ذات الوقت يمثل جزءا هاما من ثقافة الشعوب، وشاهدا على الظرف التاريخي الذي عاش فيه مبدعوه، بقدر ما هو إنتاج إبداعي يساعد على اكتشاف جوانب خفية من حياة الأفراد...
    هذه جملة من الأفكار النظرية والنقدية المتواضعة نبسطها أمام الباحثين، والدارسين، والمهتمين بأدب السيرة الذاتية، الذي لقي للأسف الشديد قدرا غير هين من التهميش والإهمال في البلاد العربية الإسلامية، فكان بالأحرى أن تتم العناية به، وإحاطته بما هو أهل له، وعسى أن تبعث هذه المقالة على السعي مستقبلا إلى تكريم جنس أدب السيرة الذاتية ...
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. ما هي السيرة الذاتية لـ ( أ.د محمود حسني مغالسة)
    بواسطة رائد المعاضيدي في المنتدى سؤال
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02/08/2010, 07:45 PM
  2. لمحات في أدب السيرة الذاتية
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/03/2008, 05:28 PM
  3. خطاب السيرة الذاتية فى نوار عين الصقر
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28/02/2008, 05:10 AM
  4. السيرة الذاتية بين الشعر والنثر
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 12/04/2006, 11:14 AM
  5. وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/03/2006, 10:25 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •