صفحة 6 من 18 الأولىالأولى 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 16 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 61 إلى 72 من 211

الموضوع: أدب السيرة الذاتية بين الشعر والنثر

  1. #61 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36



    السيرة الذاتية جنسا أدبيا
    الدكتور
    عبد الإله الصائغ
    (الجزء الأول)
    السيرة الذاتية Auto Biography: نص نثري (غالباً) مكتوب بطريقة أدبية جذابة، يرصد حياة علم مشهور أو إنسان مغمور أو جماعة متجانسة أو مدينة هاجعة… بطريقة تجمع بين جمال العبارة ورشاقة الصياغة للإفصاح عن معلومة تهم الكاتب وتستثير القارئ.
    وقولنا نص نثري (غالباً) فيه احتراز منهجي، فقد انجز عدد من الشعراء نصوصاً يمكن تصنيفها ضمن السيرة، كما انجز بعض القصاصين نصوصاً قصصية اقتربت من السيرة الذاتية حتى كادت أن تطمس الحدود، وذلك ما سنعززه لاحقاً بالأمثلة المناسبة،
    وهذا القول جزء من إشكالية دراسة فن السيرة الذاتية، الإشكالية التي استقامت أسئلة مهمة: هل يمكن اعتداد السيرة الذاتية جنساً أدبياً؟ أو نوعاً أدبياً؟ أم انها مندغمة مع فنون أخرى؟ مع المقالة –كما مر بنا في المشجرة مثلاً.
    إن الاتفاق لم يحصل بشأن فن السيرة، هذا الفن الجذاب الجميل الذي يستقطب مئات الآلاف من القراء! فالدكتور محمد يوسف نجم وضع فن السيرة ضمن فن المقالة، وهو وضع فيه نظر، أما الدكتور إحسان عباس فقد صنفها فناً منفرداً واعتدها نوعاً يندرج ضمن السرد، وإذا كانت السيرة فناً مرغوباً يلبي فضول القارئ، فان ظهورها كان مبكراً رافق عصور الأدب الأولى، يوم كانت الشفاهية غالبة عليها، فهي قوالب جاهزة وصياغات مكرورة. وربما تفوّقت الندابات والنائحات البابليات في فن السيرة، إذ كن يجمعن معلومات مكثفة وقيمة عن الميت ليصغنها بأسلوب مبك مؤثر يختلط فيه الشعر بالنثر والغناء بالنحيب، ثم ظهر دور المنشد وكان يضع اسم صاحب السيرة المراد مديحه في الصياغة الكلية أو وضع اسم صاحب السيرة المراد هجوه، ويحيلنا –هذا- إلى ان المقصود بالسيرة هنا: المديح أو الهجو دون ان يمت هذان إلى واقع المتحدث عنه بصلة اكيدة.
    ويمكن القول دون تردد أن الأدب - على أي نحو كان هو سيرة الأديب أو سيرة افكاره أو احبابه أو اعدائه، فالكون الإبداعي قائم على الذات الفردية أو الجمعية، وقد أورثت الندابات البابليات الندابات العربيات في زماننا شيئاً من خبرتهن، فهن يؤجرن مواهبهن وأصواتهن ودموعهن في الوفيات ويحفظن نصوصاً في مديح الميت، وإذا انتدبن لمرثاة ميت ما.. سألن عن اسمه وأفعاله المأثورة ثم يدخلن ذلك في سياق محفوظاتهن وتقنياتهن المتوارثة.
    أما اليونان القدماء فقد اتكأوا والرومان على فن السيرة، وكانت الجماهير محتاجة إلى تزجية الوقت اثناء السلم وتوثيب العزائم وقت الحرب، فظهرت شخصية (راوي السيرة) وغالباً ما يكون الراوي فرداً يقف على مسرح أو نشز من الأرض بمواجهة الجماهير الغفيرة، ليروي سيرة بطل أسطوري أو حقيقي أو سيرة الآلهة المعروفة آنذاك، وأحياناً يضع الراوي على وجهه قناع صاحب السيرة، وربما وقفت الجوقة على المسرح لتؤدي من خلال تبادل الأدوار والإنشاد سيرة واحد من العظماء الساطعين.. أما السومريون في العراق فقد ابتدعوا من القرن 30 إلى القرن 25 ق.م أنماطاً من السير التي كتب لها الذيوع والإنتشار وترجمت إلى اللغات الأخرى مثل الآشورية والبابلية واليونانية والفارسية. والغريب أن السومريين كانوا مولعين بالسيرة التي تفلسف تكوين الوجود وفناءه من خلال البطل الخارق ثم تصاغ السيرة بعبارات مؤثرة ومشحونة بالأحداث الباهرة بما يقرّبها من الأفانين العجائبية أو الواقعية السحرية لأنها تردم الفجوة بين الواقع والمجاز والنبوءة والتاريخ.
    أما أبطال السير المركزيون فهم الهة أو انصاف الهة مثال ذلك سيرة عشتار، وسيرة تموز وسيرة مردوك وسيرة تياما وسيرة تنتلوس…الخ وربما تجوّز الكاتب المنشد (أو الراوي وهما الضمير الجمعي أو الذاكرة الجمعية غالباً) فأطلق على سيرة جلجامش الخبـر أو الملحمة أو النشيد أو الترانيم أو الحكاية أو السيرة‍‍.
    وقد حفظ لنا التاريخ هذه الاعمال التي كشفت الكثير الكثير مما غيّبه التاريخ، أما العرب الجاهليون وهم ورثة السومريين والبابليين، فكانوا يشكون ثقل الشتاء (فليله طويل ونهاره ضئيل ونوؤه مطر وقرّ ولذا كان الموقد مهجة الجلسات الليلية والرواي غرّة السمر والسهر) فالسرادقات كانت تجمع تحت سقفها عشرات الساهرين الضجرين الذين يطالبون الراوي أو الحكاء بقول شيء جديد وجميل وطويل.. وليس بعد قراءة الشعر سوى سيرة بطل همام دوّخ الناس بآثاره وأخباره مثل سيرة الزير سالم وسيرة ليلى العفيفة وسيرة عنترة والمرقّش والجرادتين[1] وكان راوي السيرة مُفِنّاً في سرد السيرة، فهو ينتقي الصياغات المستفزّة بسلطة العبارات والصور المقترنة المتحركة التي تشد الانتباه وتطلق الخيال، وقد يزيد الراوي في السيرة أو ينقص محتفظاً بمحور السيرة وأعني به ملامح صاحب السيرة.
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  2. #62 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    السيرة الذاتية جنسا أدبيا
    الدكتور
    عبد الإله الصائغ
    (الجزء الثاني)
    أهداف السيرة الذاتية الجاهلية وخصائصها

    1- تعتمد القوالب الشفاهية الجاهزة، فهي قابلة للحذف والإضافة دون أن تخرج عن السياق العام للبطل صاحب السيرة.
    2- مناسبة حجم السيرة للوقت المخصص لها، فقد يروي سيرة عنترة في وقت قصير.. أو متوسط وقد ينجّمها على ليالي الأسبوع.
    3- استثمار السيرة آليات الحكاية أو الرواية: البطل المساعد والأمكنة والأحداث والحوار والعقدة…الخ.
    4- الأسلوب الأدبي الشفيف الذي تأنس اليه النفس.
    5- المبالغة في توسيع السجايا الطيبة لصاحب السيرة والخصال المقززة لغريمه.
    6- استثمار تقنية القناع: أي أن الراوي يغيّب صوته في صوت صاحب السيرة فيقلّد نبرة صوته وحركات رأسه وأطرافه وجذعه وهيأته.
    7- التركيز على الهدف المركزي للسيرة وهو مستقى من أهداف السامعين، مثل الهدف الترفيهي أوالوعظي أوالتوثيبـي أوالمدحي أو الهجائي أو التسويقي.
    ثم ظهرت السيرة فناً شبه متكامل مع مجيء الإسلام الحنيف، وقد تكفل الرواة بسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) أو أحد الخلفاء الراشدين أو أحد الفرسان المجاهدين الخارقين أو شهيد مشهور، أو سيرة عاد وثمود للعـبرة والترهيب، وكان الهدف من السيرة هو تعزيز صورة الدين الجديد في النفوس وبث مكارم الأخلاق في النفوس.
    وحدث بسبب رواج سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) بين الجموع الغفيرة في المساجد والأسواق والمضائف أن انحرف بعض الرواة فنسب إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) أفعالاً وأقوالاً بعيدة عن شخصيته الرفعية، مما سبب المتاعب للعلماء والغيارى.. وللأجيال فيما بعد، وربما جاء علم الجرح والتعديل حلاً مناسباً لمقاومة الوضع الطارئ على السيرة النبوية الغراء. وقد لفت القرآن الكريم انتباه العرب إلى ضرورة الاستعبار والانتفاع بسير الغابرين.
    وبات مألوفاً أن يتحلَّق المسلمون في فسحات المساجد وغيرها حول شخصية الراوي الذي يتقن حرفته تماماً ويعرف جمهوره بدقة فينتقي لهم من أخبار البائدين من نحو زرقاء اليمامة والنضيرة بنت الضيزن ملك الحضر وسيف بن ذي يزن وشق وعبد السطيح… ثم اتجهت انظار المسلمين إلى كتاب سيرة النبي لفحصه والانتفاع به (فكان أول كتّاب السيرة هو عروة بن الزبير بن العوام ت 92ه‍، وأبان بن عثمان ت 105ه‍، ووهب بن منبّه ت 110هـ‍، وشرحبيل بن سعد ت 123ه‍، وابن شهاب الزهري ت 124ه‍ وعبد الله بن ابي بكر بن حزم ت 135ه‍)، وتلفت الأوراق التي كتب عليها هؤلاء أو ضاعت أو طمرت في الدياميس ولبث منها الضئيل المنثور في بطون كتب التاريخ كتاريخ الطبري، واستجدت جماعة من كتاب السيرة، وكان هؤلاء شغوفين بفن السيرة من نحو موسى بن عقبة ت 141ه‍، ومعمر بن راشد 150ه‍، ومحمد بن اسحاق ت 152ه‍?، واعقبتها كوكبة أخرى أشد عناية بالسيرة منها زياد البكائي ت183ه‍? ومحمد بن عمر الواقدي ت 207ه‍، وابن هشام ت 218ه‍? ومحمد بن سعد صاحب الطبقات.. فظهرت كتب مهمة في السيرة جاء أشهرها سيرة محمد بن اسحاق التي ألفها اثر حوار بينه وبين المنصور، فحين دخل عليه المنصور أثناء تدريسه لابنه المهدي واعجب بطريقته في ايصال المعلومة، ولاحظ شغف المهدي بالدرس، فقال المنصور وهو يشير إلى ولده المهدي: أتعرف هذا يا ابن اسحاق؟ قال: نعم هذا ابن أمير المؤمنين، فقال له المنصور: إذهب من ساعتك وصنف له كتاباً واسعاً وموضوعه منذ خلق الله آدم (عليه السلام) إلى يومك هذا.
    فاستجاب ابن اسحاق، وصنف له كتاب السيرة، فقال له طوّلته يا ابن اسحاق! اذهب فاختصره؛ وكان له ما أراد، ثم جاء بعده ابن هشام (أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب الحميري ت 218ه‍ ) فأعاد صياغة السيرة ونقّحها، حدث ذلك بعد توليف ابن اسحاق بنحو خمسين عاماً بوساطة الحافظ أبي محمد زياد بن عبد الملك البكّائي العامري الكوفي ت 138ه‍.[2]
    ولبثت السيرة خيطاً مشدوداً بين التاريخ والدين، فلم تحز الياتها الفنية بالشكل المتفق عليه الا بعد انفتاح فن السيرة العربية على فن السيرة الغربية، ويبدو أن الغرب قد فصل فن السيرة عن الغائيات التاريخية والدينية والوعظية، وامتلك تجربة رائدة في ديباجة السيرة منذ سقراط، وقد هوّن الفيلسوف الألماني أزوولد شبنغلر (1880-1936) في كتابه The decline of the west من شأن التجربتين اليونانية والرومانية في فن السيرة ورأى ان المصريين القدماء أنجزوا نصوصاً مهمة في فن السيرة، وقال ان الحضارتين اليونانية والرومانية توصلتا إلى احراق جثث الموتى واهمال تدوين أعمالهم، فإذا تقادم عهد وفاة أحد العظماء بنصف قرن مثلاً اختلطت اخباره الأكيدة بالخرافات والأساطير وأخبار الآلهة فكان احساس شعوب الحضارتين بالتاريخ هشّاً، وكان اليونان والرومان يشخصون أبطال أساطيرهم بهيئة تماثيل أو أناشيد أو مسرحيات، ولم يفكر أي عظيم منهم بكتابة سيرته الذاتية بما في ذلك سقراط وأفلاطون وأرسطو.
    أما المصريون فكانوا لفرط احساسهم بالتاريخ يحنّطون موتاهم ويدوّنون سيرهم ويصنعون تماثيلهم من البازلت والجرانيت مما يشجع على القول ان المصريين ذوو حساسية مفرطة مع الزمن والتاريخ، إ.ه‍ [3]
    وهذا الرأي المهم يجاور رأي أرنولد توينبي (1889-1975) الذي شكك بقدرة الغرب على مواجهة التحديات القادمة وأشاد بالمقابل بقدرة العرب، وتأيد له أن الإبداع العربي الأدبي كان عنصراً أساساً في مواجهة التحدي[4]
    وقد أسس الجدل الغاطس أو الواضح بين (السيرة) و(التاريخ) كتابات مزدوجة فكتابة –فلوطارخس- عن عظماء اليونان والرومان كانت مزيجاً من التاريخ و السيرة.
    ولذا أنكر -كولنجوود- ذلك الجدل في كتابه (مفهوم التاريخ) وذلك الرأي يشاكل رأي توينبي الذي نفى أن تكون السيرة تاريخا فأقصى سيرات القديس أوغسطين، وجان جاك روسو والملكة فكتوريا عن التاريخ لأنها سيرات ذاتية (إذا خلطنا التاريخ بالسيرة وقعنا في الخطأ)!!
    لكن هذا الفصل الإعتسافي بين التاريخ والسيرة غير صحيح وبالقدر نفسه يكون ارتباط السيرة بالتاريخ خطأ أيضاً، ومع إقرارنا بأن السيرة غير التاريخ، فان السيرة ربما نهلت من التاريخ واستثمرت ذلك لتدخله ضمن قالبها الفني، وكذلك الشأن مع التاريخ، فربما استثمر السيرة كوثيقة، ولا يمنع الفرق بين لغتيهما ووظيفتيهما من الاستفادة المتبادلة.
    لقد عانت السيرة من انفتاح دائرتها على التاريخ، والدين، والأخلاق والحكمة فضلاً عن اختلاط المفهومات بينها وبين المقالة والمذكرات والحكاية كما عانت من تكريس بعض كتابها التقليديين هذا الفن على الأسماء الكبيرة وتنكبها عن الإصغاء لنبض قلوب الناس الاعتياديين، وكتاب السيرة ذوو هموم وأهداف وأساليب ومروءات مختلفة وذلك جانب صحي ينتفع منه القارئ كما تنتفع منه السيرة.
    إن للسيرة الذاتية حدوداً مضطربة، مع أنها الأكثر شهرة وجاذبية بين فنون الأدب الأخرى، وسيمر وقت غير قصير كي ترسم السيرة حدودها التي تفصل بينها وبين فنون الأدب الأخرى.. ونحاول في الآتي صياغة المحاولات التي سعت إلى ترسيم حدود السيرة الذاتية! قارن (حدود السيرة).
    1-السيرة نص أدبي يحكي حياة إنسان مشهور أو إنسان مغمور تستحق حياته أن يكتب عنها لتوفرها على عناصر مهمة، فقد كتب أدولف هتلر مثلاً سيرته الذاتية وأسماها (كفاحي)، وكتب المهاتما غاندي (قصة تجاربي مع الحقيقة)، وكتب عبد الله ملك الأردن مذكرات الملك عبد الله، ثم كتب الملك حسين بن طلال مذكراته، وكتب الملك المغربي الحسن الثاني مذكراته، وهؤلاء أعلام مشهورون تجتذب حياتهم الخاصة آلاف القراء الذين يتحرّقون شوقاً لمعرفة خبايا حياتهم وثمة أناس آخرون وجدوا أن حياتهم غنية بالتجارب العميقة والأحداث المهمة فكتبوا مذكراتهم، وقد قرأنا كماً غير قليل من الكتب التي أصدرها معلمون أو طلبة ذاقوا الغربة أو مرافقو رجال مهمين كما كتبت بعض الفنانات (أو كتب لهن) سيرتهن الخاصة وتحدثن عن علاقاتهن العاطفية مع أعلام كبار مثل الراقصة بديعة مصابني والممثلة السينمائية برلنتي عبد الحميد..
    2-تكتب السيرة بضمير المتكلم، فصاحب السيرة هو الراوي وأحياناً بضمير المخاطب كأن يقول صاحب السيرة.. انك يا صاحبي صيّاد ماهر للمشاكل ويعني: إنني صياد ماهر للمشاكل!! وقد تكتب السيرة بضمير الغائب، فلكل كاتب ذوقه الخاص وأدواته الذاتية في انتقاء الضمير الذي يناسبه، وأياً كان الضمير.. فالسيرة تدور حول اسم صاحبها.
    3-السيرة نص يهتك حياة صاحبها، وهي مختلفة عن المذكرات أو الخواطر أو اليوميات مع الإقرار بوجود حالة من التداخل.
    4-كأن السيرة تجيب عن هذه الأسئلة:
    س: أيها القارئ إنني أعرض عليك صداقتي.. أموافق أنت على ذلك؟
    س: أنا مشهور كما تعلم، هل ترغب في معرفة الطريق الدامي الذي سلكته لأصل إلى ما أنا عليه؟
    س: هناك أناس (رجال أو نساء) مشهورون، يبدون ورعين، وأنا كفيل بكشف الغطاء عن فضائحهم التي تزكم الأنوف!
    س: لدي حماقات عاطفية تستحق الحديث عنها، ومغامرات سياسية مروّعة، وتجارب في الغربة لا تنسى.. أمصغ أنت لها؟.. إلى آخر الأسئلة.
    5-قد تتحدث السيرة الذاتية عن رجل أو امرأة أو مدينة أو قرية أو حقبة زمنية أو حادثة أو مجتمع..
    6-قد تحكي السيرة حياة الكاتب من خلال حديثه عن المدينة، أو نكتشف سيرة المدينة من خلال سيرة الكاتب.
    7-بعض السير يمكن استثماره وثائق تنفع المؤرخين أو علماء النفس أو علماء الإجتماع أو علماء النظرية.. سواء أتعمّد الكاتب ذلك أم جاء عفو الخاطر..
    8-تكتب السيرة –أحياناً- لدوافع غير فنية، وبخاصة إذا كان الكاتب ممسوساً بداء العظمة أو مدعيّاً أو كذاباً.. أو إنسانا قزماً يستعير قامة غيره واحيانا تكون السيرة ترويجاً للسلطة أو مذهب ما.. أومؤسسة مالية، ودعاية لتاجر مثر،أومهرج يتقن المشي على الحبال وصباغة وجهه..فما العمل؟!
    9-بعض المخفقين من كتاب السيرة.. يجعلون السيرة تعويضاً عن الفرص التي افتقدوها.. والمواقف التي لم يحسنوها.. والكلمات التي أساءوا بها وإليها.. فيتحدثون عن أسماء موهومة وبطولات مزعومة.. نظير السيرة التي كتبتها ثريا اسفنديار زوج شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي.
    10-سيرة الفضائح، تنـزل الحضيض لإرضاء القارئ ويتحكم في صياغتها وَهْمُ قَوْلِ الصدق فيفضح الكاتب نفسه والأبرياء من أصدقائه ومعارفه.. نحو ما فعله جان جاك روسو.. فقد ذكر فضائح أساءت إلى أناس كان يمقتهم ونحو ما فعلته الفنانة بديعة مصابني.. فقد زجّت بأسماء سياسية مهمة ووجوه اجتماعية ذات شأن ورجال دين ورعين وادعت أنهم أقاموا علاقات (ماجنة) معها.. وتذكر الأسماء والتواريخ والأمكنة لتدخل في روع القارئ أنها صادقة.
    11-سيرة القصاص.. وهي تعتمد على تصفية الحسابات كأن يذكر صاحب السيرة –عرضا- اسم زعيم وطني ويدعي انه كان يقبض من سفارة أجنبية مبلغاً من الدولارات لقاء تقارير يقدمها عن وطنه، أو يذكر اسم أستاذة قديرة، ويدعي أنها راودته يوم كان تلميذاً.. وبعض الأدباء النرجسيين الذين قصرت قاماتهم عن مطاولة قامات زملائهم.. فإنهم يزعمون أن زوجة الأديب الرائد فلان كانت تعرض نفسها عليه أو على أي ضيف وزوجها لا يعلم.. هي تصفية حسابات بطريقة شيطانية…
    وقد كتب الروائي القاص الرائد ذو النون أيوب سيرته الذاتية وحشاها بالأباطيل والأكاذيب لكي يسيء إلى كثير من الأدباء والفنانين، وقيل إن حوادث قتل وطلاق جرت بعد صدور سيرته الذاتية.
    12-يمتلك (فن السيرة الذاتية) جمهوراً عريضاً لا يدانيه جمهور أي فن أدبي آخر، لأنه أقرب إلى مزاج القارئ من الفنون الأدبية الأخرى، بيد أن هذا الفن لم يتطوّر عربياً، ولم يحصل على مساحته المشروعة بسبب غياب الحرية أو غياب الوعي لدى بعض الكتاب والقراء أو الخوف الشخصي من قول الحقيقة..
    فقد يكتب الروائي سيرته الذاتية بهيئة رواية لكي يسقط على البطل كل مشاعره، فيتحرك البطل بحرية تامة دون أن ينال كاتب الرواية أي شعور بالخوف أو الذنب وقد تصدر السيرة بهيئة قصيدة أو ديوان، فكل نص ممكن أن يكون في الآخرين إلا نص السيرة.
    13-نمطان من السيرة الذاتية –ثمة- الأول يصف الخارج من بيوت ووجوه وأحداث، والآخر يصف الداخل، فيحلل المشاعر ويستبطن السلوك.
    14-يمكن النظر إلى بعض الحكايات الموجودة في كتب التراث على أنها شكل من أشكال السيرة.. من نحو ما ذكره ابن حزم الأندلسي في طوق الحمامة وابن خلدون في التعريف وأسامة بن منقذ في الاعتبار.
    15-توفرت عناصر السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين، وتربية سلامة لسلامة موسى، وحياتي لأحمد أمين، وكذلك مذكرات محمد كرد علي، ومذكرات الرافعي، ومذكرات محمد شفيق باشا، ومذكرات محمد حسين هيكل.
    16-ويرى د.إحسان عباس، ان الأيام سيرة ذاتية فنية أدبية لو أن طه حسين أجرى فيه بعض التعديلات لأصبح قصة كما فعل توفيق الحكيم في عودة الروح والمازني في إبراهيم الكاتب والعقاد في قصة سارة، ثم يؤكد د.عباس ان في هذه الكتب شيئاً غير قليل من العناصر الذاتية والترجمة الشخصية بيد انه موضوع في اطار قصصي (ممزوج بقسط غير قليل من الخيال؛ فهي كتب لاحقة بالقصص لا بالسير الذاتية).[5]
    17-السيرة الذاتية للكاتب أو لمن ينتقيه للكتابة تشكل بؤرة الأعمال القصصية والروائية والحكايات والقصائد لأن السيرة تقول أشياء تهم المنتج كثيراً فهي بانوراما مرسومة في وجدانه بالأسماء والأحداث والأمكنة والتواريخ دون مواربة أو تمويه! في حين ان الرواية تضلل القارئ بتقنيات فنية لكي لا يشتبه بالروائي، ويمكن القول: إن رواية الوشم سيرة ذاتية للروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي وأصدقائه ورفقائه وإن حاول إبعاد شبح هذه المقولة عن روايته.
    18-(أول سيرة ذاتية عربية ظهرت في العصر الحديث هي كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق لأحمد فارس الشدياق، وفيها حديث عن تنقلات الشدياق وبعض أحواله ولكن هذا كله غارق في الاستطرادات والمترادفات اللغوية وفي السخرية والمجون وهما من أبرز خصائص الكتاب، د.احسان عباس ص 130).
    نصوص من فن السيرة الذاتية

    * دعني أخبرك اني أحد من دهي بهذه الفادحة وتعجلت له هذه المصيبة، وذلك اني كنت اشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي، كانت فيما خلا اسمها نعم، وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخُلقاً وموافقة لي، وكنت أنا صاحب عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة ففجعتني بها الأقدار واخترمتها الليالي، ومر النهار، وصارت ثالثة التراب والأحجار، وسنّي حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد اقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفترّ لي دمعة على جمودعيني وقلة اسعادها‍ وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الان، ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من خالد وطارف، وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعاً طائعاً، وما طاب لي عيش بعدها، ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها؛ ولقد عفا حبي لها على كل ما قبله وحرم ما كان بعده. ابن حزم الأندلسي[6]

    * ومرة كنت معه وهو واقف في قاعة داره، وإذا حية عظيمة قد اخرجت رأسها على افريز رواق القناطر التي في الدار فوقف يبصرها فحملت سلماً كان في جانب الدار اسندته تحت الحية وصعدت اليها وهو يراني ولا ينهاني، واخرجت سكيناً صغيراً من وسطي وطرحتها على رقبة الحية وهي نائمة وبين وجهي وبينها دون الذراع، وجعلت أحزّ رأسها، وخرجت فالتفت على يدي إلى ان قطعت رأسها والقيتها إلى الدار وهي ميتة. أسامة بن منقذ[7]

    * زرت اليوم مكاناً لعله أرعب الأمكنة بعد مسارح الجرائم الخفية، أعني القاعة الكبرى في محكمة الجنايات، ذهبت إلى تلك القاعة حيث تنعقد المحكمة العسكرية لمحاكمة المتهمين.. دخلت الدهليز الواسع بين الجنود المنتصبين يمنة ويسرة، فتلقاني جندي حاجب، قدمت له تذكرة الدخول فأوصلني إلى آخر، وسار بي هذا إلى ثالث وأنا أعدّ الأزرار الذهبية المنضّدة على كتف كل منهم واتظاهر بعدم الإكتراث لاسكت دقات قلبي فوجدتني بغتة في قاعة متوسطة الإتساع وبدلاً من أن أخطو وراء الجندي الذي سار ليدلني على مكاني ظللت واقفة وانا في اجفالي اتفرس في الوجوه المستوية في صدر القاعة.. الجميع يحدّقون فيّ أم انا في هلوعي اظنهم فاعلين؟ رفعت بصري اتبين الأمر في سيماء القضاة فإذا بهم يرقبونني وقد ادركوا في سرهم مقدار جزعي واضطرابي. مي زيادة[8]

    * خرجت من ظلمات المجهول إلى عالم غير مستعد لتقبلي. أمي حاولت التخلص مني في الشهور الأولى من حملها بي. حاولت وكررت المحاولة ولكنها فشلت. عشر مرات حملت أمي خمسة بنين أعطت إلي الحياة وخمس بنات، ولكنها لم تحاول الإجهاض قط إلا حين جاء دوري.. هذا ما كنت أسمعها ترويه منذ صغري. كانت مرهقة متعبة من عمليات الحمل والولادة والرضاع.
    يوم تزوجت كانت في الحادية عشرة من عمرها، ويوم وضعت ابنها البكر كانت لم تتم الخامسة عشرة بعد‍ واستمرت هذه الأرض السخية -كأرض فلسطين- تعطي أبي غلتها من بنين وبنات بانتظام.. أحمد - إبراهيم - بندر - فتايا - يوسف - رحمي.
    كان هذا كافياً بالنسبة لأمي وآن لها أن تستريح، ولكنها حملت بالرقم السابع على كره، وحين التخلص من هذا الرقم السابع ظل متشبثاً في رحمها تشبث الشجر بالأرض وكأنما يحمل في تكوينه روح الإصرار والتحدي المعتاد؛ ولأول مرة في حياتهما الزوجية ينقطع أبي عن محادثة أمي لبضعة أيام فقد أغضبته محاولة الإجهاض.
    كان المال والبنون بالنسبة له زينة الحياة الدنيا، وكان يطمع بصبي خامس، لكني خيبت أمله وتوقعه أصبح لديه الان ثلاث بنات مع البنين الأربعة وتبعني فيما بعد: أديبة ثم نمر ثم حنان، فاستكملنا العدد (عشرة).. لم تكن الظروف الحياتية التي عاشتها طفولتي مع الأسرة لتلبي حاجاتي النفسية، كما ان حاجاتي المادية لم تعرف في تلك المرحلة الرضى والارتياح …. لقد ظللت أتلهف للحصول على دمية تغمض عينيها وتفتحها وكنت استعيض عن دمية خرجت من مصنع بدمية تصنعها لي خالتي أم عبد الله وابنة الجارة علياء من مزق القماش وقصاصاته الملونة.
    ولم أكن أحب ملابسي لا قماشاً ولا تفصيلاً، فقد كانت أمي تخيطها بنفسها ولم تكن تتقن هذه الصنعة، وكانت ابنة عمي شهيرة تلبس دائماً أجمل مما ألبس بما لا يقاس، إذ كانت أمها تبعث بملابسها إلى خياطة محترفة، أما بنيتي فكانت عليلة منهكة بحمى الملاريا التي رافقت سني طفولتي.
    وكان شحوبي ونحولي مصدراً للتندر والفكاهة، وإطلاق النعوت الجارحة عليّ! تعالي يا صفراء، روحي يا خضراء… كان ضعف شهيتي للطعام من ضمن اعراض ضعفي الجسدي العام فلم اكن طفلة شرهة … ابنة عمي شهيرة كانت تكبرني بأربع سنوات وحين ماتت في الرابعة عشرة من العمر بمرض الروماتيزم لم يهزني موتها.
    كانت تعذبني بترفعها وتعاليها عنى. ترشقني باستمرار بنظرات عدائية قاسية، وقد نشأنا في نفس الدار والبيئة ولم أكن لأهتدي إلى سبب كرهها لي، فقد كانت مدللة من قبل والديها وتتمتع بالحب والاهتمام اللذين ظللت اتوق اليهما في طفولتي، كان لها قرطان ذهبيان يتدليان على جانبي عنقها الأبيض وكنت أحب حركة القرطين وهما يرقصان كلما حركت رأسها، وكم تمنيت لنفسي مثل هذين القرطين البراقين الراقصين، ولكن هيهات، فما كان أحد ليعنى بتلبية حاجاتي المادية دعك من حاجاتي النفسية.
    كانت غرفتنا تواجه غرفة زوجة عمي وبناتها الثلاث، ولم يكن من تقاليد البيت أن ينام الوالدان في نفس الغرفة فللأب دائماً غرفة نومه الخاصة أما الأم فكانت تنام مع أطفالها في غرفة أخرى. فدوى طوقان[9]
    *1- البداية هي مجلة (سمير التلميذ) المصرية يا صديقي؛ فقد عرفتها وأنا في السنة الثالثة من الدراسة الابتدائية ففتنتني، أي يوم كنت في الثامنة من عمري، فأنت تعلم أنني من مواليد 1930… وقد شغفت بتلك المجلة شغفاً عظيماً فكنت أفضّل قراءتها على أداء واجباتي المدرسية وأستطيع القول أنها كانت معلمي الأول في القصة، وأنا مدين بمعرفتي لهذه المجلة بتوجّهي نحو القصة إلى أخي المرحوم الدكتور جعفر أستاذ التاريخ السابق الذي كان يحرص على إحضارها لي في مطلع كل أسبوع ص7 وأستطيع القول أن معرفتي بمجلة الرواية المصرية كانت هي المرحلة الانتقالية التالية في حياتي الأدبية، والحقيقة أنني أعتبر معرفة هذه المجلة ذا خطر عظيم في حياتي، هذه المعرفة التي قادتني إلى القراءة الأدبية الجادة، وكانت مجلة الرواية شقيقة لمجلة (الرسالة) وكان يصدرها الأستاذ أحمد حسن الزيات، ثم توقفت (الرواية) في أوائل الأربعينات بينما توقفت الرسالة في الخمسينات…ص16.
    2- لقد عرفت غائب طعمة فرمان في القاهرة ولم أكن قد سمعت به أو قرأت له، وكانت تجمعنا ندوة كازينو أوبرا، وكان يدرس على نفقته الخاصة فكان بالكاد يقوّم أوده ولكنه لم يشك يوماً؛ واضطر إلى العمل محرراً في مجلة الثقافة ولم يكن يُجْزَ على عمله سوى القليل وكان يبدو شاحب الوجه معتلّ الصحة دائماً، وكانت عيناه الناعستان تطلاّن من وراء نظارته السميكة وهما تعكسان شيئاً من التعب والإرهاق،.. زرته في المستشفى فوجدت أنه يعاني من مرض السل في مراحله المبكرة وحزنت لذلك حزناً شديداً وانقطع عن الدراسة في ذلك العام وأمضى عامه في المستشفى أو على الأدق في المصح.. وبمناسبة الحديث عن المصاعب التي أحاطت بحياة غائب في القاهرة أقول بأن هذه المصاعب لاحقته أيضاً في إقامته الطويلة في موسكو وقد عمل هناك مترجماً في دار التقدم وقد ساهم غائب بترجمة بعض تلك الآثار بأسلوبه الجميل الرائق ولغته الشفّافة العذبة،.. وقد تزوج غائب من طبيبة روسية لكنه كان زواجاً فاشلاً انتهى بهما إلى الطلاق بعد سنوات قليلة وقد ظلا يعيشان في نفس الشقة لسنوات طويلة بسبب مصاعب السكن ص120.
    3- عبد المجيد لطفي يمثل في ذهني نمطاً شبيهاً بنمط محمود أحمد السيد في مثابرته على الكتابة رغم خيبة الأمل التي واجهته على صعيد السوق وعلى صعيد النقاد، فقد واصل الكتابة إلى آخر يوم من حياته. ولقد التقيته قبل أن يموت بسنوات قلائل (توفي عام 1993) وكان قد تجاوز الخامسة والثمانين لكنه لا يزال يحتفظ بوعيه الكامل وإن انقطع عن الكتابة؛ وكان شيء من الارتعاش قد أصاب يديه فصار من الصعب عليه الإمساك بالقلم؛ وقد ظل إلى آخر يوم من حياته محتفظاً بروحه المعنوية العالية وبميله إلى الفكاهة وكان مجلسه ظريفاً مؤنساً حافلاً بالملامح والأقاصيص الفكهة.. وكثيراً ما عجبت كيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يحتفظ بهذه الروح الفكهة العذبة، فحياته العائلية لم تكن موفقة، ثمة فجوة بين زوجه العاطلة من الثقافة وبين تطلعاته الثقافية العالية.
    وكان طوال عمره يعيش عيشة الكفاف وكان منذ بداية الستينات من عمره يشكو أمراضاً عديدة وكان فوق ذلك كله يشكو جحوداً من الدولة والمعارف والهيئات الثقافية والسياسية.. وهنا أود أن أسجّل له بمداد الفخر إباءه وتمسكه بآرائه ومُثُلِه؛ فقد عرض عليه العمل في صحافة السلطة لقاء راتبٍ مُغْرٍ ولم يكن يملك سوى راتبه التقاعدي الضئيل فرفض العرض رفضاً باتّاً لئلاّ يتحول إلى بوق للسلطة وظل رافع الرأس متمسكاً بالكلمة الشريفة المخلصة الصادقة إلى آخر حياته ص72. د. شاكر خصباك[10]

    د. أبو شامة المغربي

    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 05/01/2007 الساعة 04:38 PM

    رد مع اقتباس  
     

  3. #63 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    السيرة الذاتية جنسا أدبيا
    الدكتور
    عبد الإله الصائغ

    (الجزء الثالث)

    *السيرة والرواية:
    السيرة الذاتية والرواية صديقتان مشاغلهما متشابهة واحلامهما متقاربة وقد مر بنا رباعية شمران الياسري التي كانت سيرة ذاتية لحقبة من النضال الوطني.. ورواية الوشم لعبد الرحمن مجيد الربيعي التي خبأ صوته فيها وهمومه وجعل الأبطال يتحدثون عن كثير مما يريد قوله عن حياته.. ويعد الروائي العراقي د. شاكر خصباك من أكثر الروائيين العراقيين رغبة في استثمار تقنيتي الرواية والسيرة لقول أشياء يراها مهمة، فإذا عدنا إلى الحكاية الأولى من رواية حكايات من بلدتنا الفيناها ضرباً من السيرة الذاتية للروائي ولبلدته المنتهكة! وربما قاده ذلك إلى وضع عنوان ينضح شجناً وعويلاً (البرابرة يغتصبون بلدتنا)! فصوت الراوي نتاج عدد من الأصوات تتمحور كما يتهيأ لنا حوله (كانت بلدتنا وادعة سعيدة، وكان حبها يعمر قلوبنا، وكثيراً ما هتفنا ونحن نخترق شارعها الرئيسي المظلل بأشجار النخيل: ما أحلى بلدتنا!؟ فالنهر يقدم من أعلى الجبل غاضباً هادراً وما إن يشارف بلدتنا حتى ينساب وكأنه يستلقي على صدر أم رؤوم) وشاكر خصباك يمعن في ترقيق صورة بلدته، فهي ام تحضن اولادها وتسكن ثورة النهر! وهي حبيبة باذخة الجمال والبهاء (وكانت بلدتنا تبدو في اجمل اوقاتها قبيل الغروب، فتياتـها يتهادين في الشارع الرئيسي بوجوه مشرقة وبسمات خفرة، وكان الشارع يزدحم بنا نحن الشبان، ونحن نتـنـزه جماعات جماعات، وكنا نختلس منهن نظرات عجلى هي كل زادنا في الحب)!! اذن هو رسم الروائي صورة وادعة محببة لمدينة عراقية نشأت وترعرعت على القيم النبيلة.. وفجأة يحدث الخراب ويعم الوباء وتروع هذه المدينة المسالمة التي تشبه الأم وهي ترى إلى فتيانها وفتياتها يتعرضون إلى التصفيات الجسدية المهينة (وذات صباح دوت شوارع بلدتنا بأزيز الرصاص وعجت بزئير البنادق، فترددت بيننا همهمات فزعة: لقد اغتصب البرابرة بلدتنا)! هذه الرواية سير ذاتية لبلدة عراقية في مطلع الستينات من القرن العشرين، بل هي سيرة ذاتية للكاتب نفسه وان خبأ صوت الراوي بـ‍ (نا) المتكلمين وينسى أحياناً حين يستبدل ضمير المتكلمين (نا) بضمير النسبة للمتكلم (وحتى في اسباب إحجامي عن الزواج الذي كان يحير الحاجة –ام مهدي- على الخصوص.. لكن الحاجة أم مهدي كانت تظل واقفة حينما تلمحني مقبلاً من بعيد، وكانت نظراتها المحبة تصاحبني حتى مسكني)[11] وقد التفت (غسان كنفاني) إلى نهج شاكر خصباك في توثيق الحدث بفنية عالية وروايته مزاج السيرة والحكاية!! يقول كنفاني (هذه الرواية الشظية، تبدو أحياناً وكأنها رسالة شخصية من رجل يعرفك حق المعرفة وكان طوال الأعوام التي مضت يراقبك عن كثب كأنه ضميرك المستتر)[12] ولقد كان الجدل بين السيرة والرواية موضع اهتمام كثير من الدراسات الرصينة فقد افردت الدكتورة (سفيتلانا براجوغينا) الفصل الثاني من كتابها (حدود العصور حدود الثقافات) برمته لملاحظة التماهي بين فني الرواية والسيرة، اطلقت عليه (ادراك العالم الذاتي –تطور جنس السيرة كتطور للوعي الذاتي القومي) وقارئ هذا الكتاب مكتشف لا محالة ان كل الكتاب بفصوله الستة وخاتمته، انما هو جدل في السيرة والرواية، واجمل ما في هذا الكتاب المهم انه يلاحظ انعكاس الواقع المغاربي (المغرب- الجزائر-تونس) على الأدب وبخاصة الرواية، الواقع بشقيه الجمعي والفردي، وكان الأدب في المغرب العربي ميداناً رحيباً لدراسة هذه الباحثة الروسية القديرة فدرست اوسع مساحة من الروائيين، الطاهر بن جلون ورشيد بوجدرة وعبد الكبير الخطيبـي ومولود معمري وعلي بومهدي ومولود فرعون واحمد رضا حوحو ومرغريت طاووس واحمد صفريو ومحمد ديب والبير ميمي وادريس شرايبـي ونبيل فارس ومحمد خير الدين وعمروش وكاتب ياسين ومالك حداد كما درست روائيين آخرين والملاحظ أنها درست روايات السيرة المغربية على أنها خاضعة لمرجعية واحدة رغم الفروقات المحلية كما انها حشّدت في دراستها روائيين من أجيال مختلفة ومناهج متباينة وانتماءات متضادة، فكانت دراستها بحق موسوعة في الرواية المغاربية لا يمكن لأي دارس تجاوزها أو القفز فوقها، وقد وجدنا أهمية صناعة ملحق مقتبس من هذا السفر النفيس[13] .

    السيرة القصة:
    إذا كانت الرواية قادرة على استيعاب السيرة الذاتية العريضة لبطل الرواية بسبب طبيعة (النمو) في الرواية، فان القصة أقل قدرة على استيعاب السيرة العريضة من الرواية فهي ولطبيعتها البنيوية قادرة على التقاط جانب من حياة البطل وذلك لا يهوّ ن من شأن زاوية الالتقاط وحجمها.. فالثابت ان القاصّ لا يختار لقصته الا الجانب الذي يراه جديراً بالكتابة، فيسلط عليه الضوء! وربما تكون طبيعة القصة اقرب لطبيعة السيرة، فهي (القصة) تشتغل على جزء منها (السيرة) فتحسن المعالجة من خلال تظهير المهم وتغييب ما يراه القاص غير مهم، وقد أَجْريت حوارات كثيرة مع كتّاب القصة في العراق والأردن وليبيا والمغرب وتونس واليمن فاعترف لي أكثر هؤلاء ان القصة قادرة على استيعاب الهموم المقطعية التي يراد التعبير عنها، وكان الدكتور نجمان ياسين في مجموعته القصصية ذلك النهر الغريب قد نجم المجموعة إلى ما يشبه الفصول، فكل قصة تقف عند حد، وتجيء بعدها القصة الأخرى لتكمل مشوارها بل ان (الطفل-الصبي-نجمان) يقفز من قصة إلى أخرى حاملاً الملامح نفسها والهموم اياها وقد كتبت في هذه المجموعة بحثاً توصلت في نهايته إلى ان البطل في قصص ذلك النهر الغريب كافة هونجمان ياسين فالتقاني القاص نجمان واثنى على توصلاتي وقال بزهو (ذلك الصبي هو أنا).[14]

    اما القاص السوري د.دريد يحيى الخواجة فقد صنّفت الدراسات النقدية التي حلّلت اعماله القصصية على أنها ترجمة فنية جمالية لواقع غير فني وغير جمالي، يقول المستشرق البلغاري الكسندر فاسيلينوف (لقد خرج دريد يحيى الخواجة من الإطارات المتجمدة للتقاليد إلى واقعيته الخاصة)[15]. وهذه الواقعية الخاصة تحيلنا إلى منظور الخواجة الخاص واجتهاده في استثمار فن السيرة في قصصه، فدريد الخواجه (يهتم بالتعبير عن الحياة من زاوية معينة وفي لحظة محدودة، مختارة بعناية، تصور الحياة والناس في اللحظة المكثفة)[16] وقد كشفت دراسة وليد فاضل لقصة الإشارة ياسيدي رحّال التي كتبها دريد الخواجة الحبل السري الذي يربط بين حياة القاص الخواجه وبين قصصه، وهو كشف ينفع شغلنا في ملاحظة السيرة الذاتية من خلال فن القصة، وسننقل عبارات وليد فاضل حرفياً:

    (1)القصص التي كتبها دريد حول حمص ترينا اتزان القاص وتماسكه حيال الحدث فالقاص هنا مجرد مراقب وراصد يرصد الحياة الاجتماعية والثقافية والعادات والتقاليد ووسائل العيش في مدينة حمص، فقصته من هذا المنطلق سجل تاريخي موثوق به ودقيق.. لكن الخواجة لم يكن مجرد مراقب حيادي! مجرد مصور!! لو كان كذلك لكانت كتابته أقرب للحادثة التاريخية منها للحادثة الفنية لكن الخواجة كان المراقب المندمج والمندغم وصاحب الرؤية في الموضوع وهو اندماج لا يلغي ذاتيته، ان ذات المؤلف ما تزال واضحة. (2)ان قصص دريد تمتلك الرؤية الموضوعية الدقيقة والواضحة من خلال ذات مندمجة ومتفاعلة مع الموضوع لكنها ذات لا تفرض نفسها على الموضوع بحيث تبدو القصة وأشخاصها مجرد رجع لذات المؤلف. (3)على البرزخ الفاصل بين الذات والموضوع سار دريد في قصصه، فرسم لنا بريشة الفنان الواقع وشموله وفي ذات الوقت أعطانا دفء الذات وعاطفتها وتفاعلها مع الواقع، ولم يكن واقعه جامداً جافاً مرسوماً بخطوط هندسية صماء! إنه الواقع الدافئ. (4)دريد ليس مجرد مراقب للحدث القصصي انه فاعل ومنفعل به، الغربة التي عاشها الخواجة في المغرب ثم نمط الحياة الجديدة التي امتدت أمام مخيلة المؤلف؛ تلك الرواية انغرست في صميم روحه.. إن قصصه المغربية قد زال فيها الحاجز بين الذات والموضوع فلم يعد القاص راصداً للحدث بل أصبح هو صاحب الحدث وبطله، وتداخل الذاتي بالموضوعي، بحيث لم تعد قادراً على ان تميز بين ما هو ذاتي وماهو موضوعي[17] وقد التقيت القاص د. دريد يحيى الخواجة وحاورته في ظاهرة السيرة الذاتية التي تتجلى في أعماله القصصية [18]. فأوضح ان القصة التي ترصد حياة كاتبها رصداً واقعياً فنياً هي الأقرب إلى أنموذجه المفضل، والأقدر على صناعة موازنة جمالية بين حياتين هما في حقيقة الأمر حياة واحدة: حياة واقعية يعيشها المبدع بوصفه مخلوقاً اجتماعياً ذا تجربة وحساسية استثنائيتين وحياة أخرى تفككها القصة لتعيد تشكيلها داخل تجربته الجمالية ومتخيله السردي ثم حدد لي عدداً من قصصه المنفتحة على فن السيرة الذاتية من نحو قصص: الجثة ومعتزلة وغيابك طال وطائرة مكسيكية وحالة صرصورية، والجريحان[19]



    الرهينة الأولى (معتزلة) دريد الخواجة (نموذج القصة السيرة):

    مررت على دار يدور فيها عرس، وأنا في طريقي إلى مركز المدينة. الدور الأرضي يطل بأنحائه على الشارع الصاعد من على سور واطئ. تسنى لي مع المارين رؤية مظاهر البهجة فيه مباشرة. الهرج والمرج يجريان في جزء واسع من باحة الدار، تغطي جل سمائه دالية بأغصان نضرة وأوراق خضراء باهية، تركت فرجات للنجوم حتى تشارك في الاحتفال.. وبقي الجزء الضيق وحده مظلماً، تتناوح فيه بعض أضواء السيارات الخاطفة، وبعض انعكاسات أضواء العرس والشارع، تقبل باهتة متكسرة إلى هذا الجانب، حيث يتراكم فيه أثاث قديم وأشياء مستهلكة ومهملات تكاد تبز القاطع الخشبي الذي يفصل بين الجزأين. الأضواء المتألقة تعج بالألوان؛ في لحظة اخترقت نظري بقعة بيضاء ناصعة.. العروس على كرسي ملكي تزهو بلباس الزفاف الأبيض، تتعلق بها العيون، وتذهب إليها أفئدة لداتها.. حركة عناية خاصة تختلج في دائرتها.. ها هو ذا الرقص في انعقاد.. والأحاديث تجري.. والضحكات، تعلو. يزيد ذلك رهجاً صحف أطايب الطعام على الموائد الطويلة وفوق الرؤوس تحملها الأيادي محاذرة بخفة.. أشياء كثيرة يمكن أن يلحظها المرء وهو يمر على هذا الحفل، تترك انطباعاً بأن الحياة تظل جميلة، ومتجددة ومستمرة. في العودة مررت على الدار نفسها.. بهتت مظاهر العرس وضجيجه ولكنها لم تنطفئ.. أقارب العروس غدوا أميل إلى أن يسرّ بعضهم إلى بعض، وبعضهم يعابث العروسين. الضحكات لم تعد متوالية، غدت أشبه بفرقعات متناثرة بين حين واخر.. اما هي! ففي الجانب المظلم رأيتها بين الخردة، أخافتني أول الأمر خلتها شبحاً، وقفت ارقبها في فضول.. غريبة تجلس منحنية الظهر جنب فروع الدالية، لم استطع تبين ملامح وجهها المدفون بين يديها.. ثيابها أنيقة جداً، لابد أنها مشاركة في الإحتفال.. ما السبب الذي دفعها إلى الإعتزال هنا!.. كانت تضع شالاً أبيض على رأسها فجأة أسندت ظهرها إلى الحاجز الخشبي، مطت جسدها مثل غريق يرتجف على وشك الاختناق.. تكررت شهقاتها وبدت لي منتحبة سجينة هذا الصمت في مكان دامس مهمل لا يمكن ان يبحث عنها أحد فيه.. كأنها احسّت أنها مراقبة.. ارتبكت في اخفاء حالها.. وانسلّت مسرعة إلى صمت أعمق داخل المكان.



    * السيرة والشعر:
    لعل أول إشارة وردت إلى السيرة الشعرية جاءت في ملحمة جلجامش، فهذا البطل المحوري الذي رأى بعينيه كل شيء وعرف جميع الأشياء وعاند وكابد؛ فإذا حل به التعب (نقش في نصب من الحجر كل ما عاناه) وهذه إشارة إلى انه حرص على كتابة سيرته الذاتية على ورق ذلك الزمان وهو الحجر أما الطباعة فكانت على نصب ذلك الحجر المنقوش في موضع يقرؤه الناس (هو الذي رأى كل شيء فغنى بذكره يا بلادي/ وهو الذي عرف جميع الأشياء وأفاد من عبرها/ وهو الحكيم العارف بكل شيء/ لقد أبصر الأسرار وعرف الخفايا المكتومة/ وجاء بأنباء ما قبل الطوفان/ لقد سلك طرقاً قاصية في أسفاره/ حتى حل به الضنى والتعب/ فنقش في نصب من الحجر كل ما عاناه وخبره)[20] والشعر.. أي ضرب من الشعر (سوى التعليمي) إنما هو سيرة على نحو ما أو شبيه أو قريب من السيرة، الذاتي والموضوعي، فهو بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ينقل لنا سيرة الشاعر أو أفكاره أو معتقده أو سيرة بيت حبيبته أو قبيلته أو مدينته أو سيرة غريم الشاعر! ولن يتوقع الدارس العثور على قصيدة صريحة تكشف بالعبارة الواضحة انها السيرة الذاتية للشاعر أو أفكاره، لطبيعةٍ في الشعر أو الشاعر، فالشاعر إذا أحب ليلى أسماها في شعره سعدى، وإذا سكنت وادي العقيق زعم انها تسكن وادي الغضا، انه لا يسمي الأشياء بأسمائها، ولا ينقل المعاني بكليتها، ولا أحد يسره ان يقرأ لشاعر يقول الأشياء كما هي.. وبشكل مباشر وتقريري. وحين اصدر الشاعر د. عبد العزيز المقالح، (كتاب صنعاء) وجاء الإهداء فيه على هذا النحو (إليها.. كما رسمتها مخيلة الطفولة والكهولة)، انهمرت الدراسات النقدية تحلل وتؤول وترمم، فكثرت الاجتهادات بما أغنى الدارس بمادة علمية مهمة!! ثم ضمّني مقيل أدبي في بيت الشاعر د. عبد العزيز المقالح[21] وفوجئنا ان د. المقالح يطلع علينا ب‍(بروفات) لديوانه الجديد القرية.. وكانت المفاجأة الثانية أن الشاعر المقالح قرأ قصائده الجديدة بنفسه وهو لا يفعل ذلك إلا في الأندر الأندر!! وإذا انتهى من القراءة وجدت السانحة أمامي ماثلة لمناقشته في مشواره الشعري الجديد (صنعاء/القرية) فبادرته القول: انك تغيّب صوتك، الا لماماً، ونحن نعلم ان القرية صورة أخرى لك، فهي شبيهتك برتابتها أو عنفوانها، بمفارقاتها، ببيوتها، تاريخها، انك غيبت صوتك، ليكون صوتك المغيب ماثلاً في متخيل المتلقي وبِدَويٍّ غير اعتيادي، فحلاق القرية جزء من حياتك، ومجنونها جزء من ذاكرتك وصباحاتها ومساءاتها جزء من تَوْقِكَ!! أجاب د.المقالح: إنني معنيٌ بشعرية النص أكثر مما أنا معني بالمحمولات الفكرية، يهمني أن أفهم: أهذا شعر أم لا؟! هل امتلكَ كتاب القرية جذوة الشعر!! أما تأويلك لسلوك القرية فأنا اوافقك عليه!! وقد شجعني أمر موافقة الشاعر المقالح على تأويلاتي، فأمعنت في المفاتشة، وتساءلت عن الرديف النثري للنص الشعري!! أرأيت د.المقالح ان الشعر لم يؤد رسالته الجمالية أو الدلالية، فاستعنت بالنثر!! مع ان جماليات النثر الرديف قريبة الروح من الشعر أم ان النثر جاء ليكرس فكرة شغلت بالي منذ كتاب صنعاء، وهي انك تكتب ضرباً من السيرة الذاتية للقرية التي تتماهى معك؟! فأعاد د.المقالح القول انه معني بجذوة الشعر قبل كل شيء.. اما النثر –القول للدكتور المقالح مازال- فهو فسحة للقارئ.. كي يهدأ بين مقطع شعري وآخر.. النص إذا كان شعرياً طويلاً فإنه يتعب القارئ لتطلبه مقداراً عالياً من الاستيقاظ الذهني والمتابعة المتوترة.. فالنثر إذن واحة استراحة تربط مساحة النص السابقة باللاحقة .. أما مقولة ان النثر يعضد خط السيرة في كتاب القرية أو صنعاء.. فهذا أمر متروك للدارس لكنني أقول أن ديوان صنعاء أو القرية محاولة للإمساك بالذاكرة وقول أشياء جديدة اشعر أنني لم اقلها في أعمالي السابقة..إ.ه‍.

    وقد لاحظ د.جودت فخر الدين ان كتاب صنعاء ضرب من السيرة الشعرية، بيد انه ضرب جديد تماماً.. فالمقالح شكّل صورة عن صنعاء (بأوهام الطفولة وأحلام الشباب وتجارب الرجولة ورسم تخومها بين أحضان الجبل وأطلقها في فضاءات تاريخها الرحب)[22] كما لاحظ ان القصائد داخل كتاب صنعاء تشبه فصول الرواية حتى (يمكن اعتبارها مقاطع لقصيدة واحدة) والملاحظة الأهم لدى د. جودت ان صنعاء القصيدة الواحدة التي تعبق بروح المكان والمدينة تمثل سيرة ذاتية متداخلة بين الشاعر والمدينة فقد (مزج الشاعر بين سيرتها وسيرته الشخصية في سياق فني يمزج بين التوثيق والتصوير وبين التثبت والتخيل، بين النثر والشعر) ود.جودت وهو شاعر لبناني معروف ادرك بحسه الشعري قبل النقدي ان الإثنين (صنعاء والمقالح) ذابا معاً (يرسم المقالح صورة متكاملة العناصر لمدينة صنعاء وهو في ذلك يجعل سيرته الشخصية عنصراً من عناصر هذه الصورة، لا يرى إلى نفسه الا جزءاً من سيرة مدينته)[23] كما لاحظ د.عبد الرضا علي ان صوت الراوي في (كتاب صنعاء) عميق ومتداخل لأن الأمر يعنيه (الشاعر عمد إلى تقنية الراوي العليم الذي يجنح إلى التداعي الحر والى السرد الوصفي حين يبتعد عن تداعيه) كما لاحظ د.عبد الرضا حالة التوافق في (بطل القصيدة/ الشاعر)[24] أما د.صبري مسلم فقد استوقفه المهاد البصري في (كتاب صنعاء) وحضن هذا المهاد كثيراً من الصور التي اختزنها الشاعر عن صنعاء وهي صور تعكس من خلال المجاز رؤية الشاعر لمدينته فيه أو رؤيته لظله في المدينة، فيحصل المزاج بين العناصر لتشكيل عنصر واحد فمثلاً (يمزج الشاعر بين أزمان مدينته صنعاء وألوان الحجارة التي تطل من جبالها) فالدكتور المقالح يصل إلى الحقيقي من خلال المجازي والى المركز من جهة الأطراف، وصنعاء مشهد بصري، يراه الشاعر في الحلم والصحو معاً..[25] وقد أيقن د.حاتم الصكر أن كتاب صنعاء ( سيكون الأهم بين أعمال المقالح الشعرية) ويقينه مستند إلى مسوغات يأتي في طليعتها أن الكتاب مشروع مهم (يرتبط بسيرة المدينة والشاعر، بطفولتهما وكهولتهما معاً… وفي رؤية كهذه تكون الذات جزءاً من موضوعها، إننا لا نتسلم مواجع أو مواجد أو غنائيات تتجه إلى الموضوع الكامل في الخارج كماهو المعتاد في أشعار الحنين إلى الطفولة زمناً ومدناً وذكريات بل سنعاين ذات الشاعر مندرجة في موضوعها متماهية معه في كيان واحد فالمدينة هنا ليست أبعاداً جغرافية وتاريخية مستقلة أو منعزلة عن وعي الذات وشعورها به،.. فنحن لا نتعرّف على المدينة إلا من خلال احتكاك الشاعر بها طفلاً وشاعراً، واسترجاع سيرتها عبر الذكريات والتعرّف الحدسي والمخيلة والاكتشاف الذاتي المحض) ويقين د.الصكر يشبه يقين د.فخر الدين فكلاهما.. توصل إلى ربط كتاب صنعاء بسيرة المقالح الذاتية، وكلاهمالم يحسم الجانب القصدي في كتاب صنعاء باتجاه فن السيرة، حتى ان د.الصكر وجد ان القصائد -ربما- هرّبت مقاطع من سيرة المقالح قارن قوله وهو يتحدث عن القصيدة الرابعة عشرة (ولعل هذه القصيدة التي تهرب لنا جزءاً من سيرة الشاعر الذاتية، تعلل ذلك الانشداد الى المدنية والالتصاق بها ماضياً وحاضراً. وهكذا يبدو كتاب صنعاء عمل العمر الذي انتظره الشاعر وقارئه معاً، فلطالما كانت صنعاء طيفاً في سياق المقالح وشيئاً سحرياً يمرق من كوى الذاكرة ويقتحم فضاءات قصائده، فكان طبيعيا ان يخصص لها هذا العمل المطول الذي التحمت اجزاؤه كتراتيل نشيد أو صلاة مبتهلة لجمال مدينة الطفولة وسحرها الآسر… وتكاد القصائد الست والخمسون إضافة إلى قوسي المفتتح والخاتمة تطابق سنوات عمر الشاعر)[26].


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  4. #64 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    السيرة الذاتية جنسا أدبيا
    الدكتور
    عبد الإله الصائغ

    (الجزء الرابع)

    *كتاب صنعاء – عبد العزيز المقالح. نموذج (السيرة/ الشعر):

    كانت امرأة / هبطت في ثياب الندى / ثم صارت مدينة

    القصيدة الأولى: هي عاصمة الروح / أبوابها سبعة / والفراديس أبوابها سبعة / كل باب يحقق أمنية للغريب / ومن أي باب دخلت / سلام عليك / سلام على بلدةٍ / طيب ماؤها طيب / في الشتاءات صحوٌ أليف / وفي الصيف قيظٌ خفيف / على وابل الضوء تصحو / وتخرج من غسق الوقت / سيدةً في اكتمال الأنوثة / هل هطلت من كتاب الأساطير؟ / أم طلعت من غناء البنفسج؟ / أم حملتها المووايل / من نبع حلم قديم…

    …مكة عاصمة القران / باريس عاصمة الفن / لندن عاصمة الاقتصاد / واشنطن عاصمة القوة/القاهرة عاصمة التاريخ / بغداد عاصمة الشعر / دمشق عاصمة الورد / وصنعاء عاصمة الروح / في أعماقها كنـز مخبوء / للحلم / وفي رحابها تقام الأعراسُ البهية / وتولد من الحجارة أشكال وترانيم / ويكتب اللون الأبيض / قصائده الباذخة / ويدوّن الليلُ أساطيره المثقلة / بعناقيد الشجن / ومجامر الأطياب / على الجدار الداخلي الأملس / لباب اليمن.

    كتب شاعر يماني: (هي صنعاء حانة الضوء فادخل / بسلام وقبّل الأرض عشراً / واعتصر من جمالها الفاتن البكر / رحيقاً يضيف للعمر عمراً)..

    القصيدة الرابعة: هي عاصمة الروح/مغمورة بالضحى والتعاويذ/تومض أشجار ذاكرتي حين أدخلها/وأراها بأطمارها تتوهج عارية/تحت جمر الظهيرة/أذكرها…/كنت طفلاً بعينين ذاهلتين/ رأيت مفاتنها/وبقايا "البرود"/وتابعت فيض خطاها/شربت الشذى/واستحمت جفوني بماء الظلال/وشاهد قلبي ملائكة يرسمون على الأفق/أودية وقصورا/وأروقة/كانت العين تسمع أصوات فراشاتهم/وترى الأذن كيف تصير السحابات /لوناً/وتغدو الحقيقة حلماً/على درج الضوء أدركت أني بصنعاء/أن النجوم إذا ما أتى الليل / ترقص في غرف / النوم / والقمر المتوهج يضحك من شرفات البيوت.

    (يستطيع الفقر أن يكون جميلاً/وناصعاً/اذا داوم النظر الى وجهه/بمرآة النظافة/واستحوذ عليه ما أبقت القرون/من ترف الذوق/وأرصدة الجمال/هذا ما تتحدث به ألوان الطيف/التي تقذف بها النوافذ الزجاجية /من البيوت الصنعانية/الى الشوارع المعتمة/وفي ضوئها تتلألأ الأقدام /وتتصاعد سحابات من البخور/أعذب المدن/ليست تلك المسورة بلبنة من الفضة ولبنة من الذهب/ولا تلك التي تتوهج الجواهر الثمينة/من شرفاتها العالية/أعذب المدن،/هي تلك المسورة بالياسمين/والتي تغسل القلب/وتوحي للعين بطمأنينة مفاجئة).

    القصيدة الثانية عشرة: هو مجذوب صنعاء/يمشي على قلبه/ويسافر فوق بساط من الشطحات الجميلة/لا أصدقاء له غير توت البيوت/يناوش أطفالها وعجائزها بالأساطير/بالكلمات الغريبة/هل عاش أم هل يعيش كما/تدعي الشطحات هنا/منذ "الفين عام"/يقلب أحجارها حجراً حجرا/يتكلم أكثر من لغة/ويبدل أقدامه كل قرن/ويلقي عصاه.

    (سألته عجوز في الحارة /لماذا تتحدث إلى الأحجار/انها لا تسمع/ابتسم، ونظر نحو الجدار في حزن/وقال: /الحجر غيمة مجمدة/سحابة لا تتحرك/أغنية محملة بأنين القرون/يحتاج الإنسان ان يعيش سبعة آلاف عام/لكي يسمع ما تقوله هذه الأحجار/ولكي يقرأ ماتحتفظ به من كتب الصمت/ثمة نهار وشمس في قلب كل حجر/ثمة سماء وقصائد تائهة/قناديل مشتعلة من دون زيت/وشبابيك لا يطل منها سوى وجه التاريخ).

    القصيدة الثانية والعشرون: ذات عصر/ذهبت أنا وصحابي لنرتع/فوق الهضاب القريبة /أدركنا الليل/حين رجعنا وجدنا المدينة موصدة/وذئاب الظلام تحاصرها/وهي عاكفة تكتب الفجر/ساعتها طافت الروح- ليلاً-/بأبوابها السبعة الحجرية/ثمة ضوء/يحاول أن يعبر السور/أن يتوكأ بالصوت/حاولت،/حاول كل الرفاق الصعود عليه/فلم نستطع؛ خذلتنا، أصابعنا/تلك رؤيا تهز دمي/أيقظتها مياه التذكر/أطلقها من شظايا الظلام/جدار قديم.

    (قبل أن يغمد الغزاة خناجرهم/في أوردة الأحياء والمنعطفات/قبل أن تتوقف الغزلان الرقيقة / عن اللعب على الطرقات البرية/كانت أسوارها الجبال/وسيوفها أوراق الورد/وأغصان الريحان/لم تكن تخشى الظلام/أو تضع حراساً عند الأبواب/ولم يكن الأرق ينتحب في عينيها/ولا صفارات الخوف تمزق براءة صمتها/بعد ذلك/صارت ترتعش من لون المغيب/ وتوصد أبوابها السبعة/في وجه آلاف الذئاب).

    القصيدة الرابعة والعشرون: ذات حلم/هبطت على سلم من أساطير/محفورة في ضمير الزمان/رأيت بيوتاً من الضوء/أعمدة من نهار بهيج/وأسواق من فضة/وشوارع من ذهب/قيل لي: تلك صنعاء/كان المغنون والشعراء يطوفون/في ساحة أورقت بالتلاميذ،/والعلماء يجيدون عرض مهاراتهم/إن صنعاء غير التي في دمي/لا يراها سوى الحلم، نافرة،/ولها جسدان وشمسان/فاهبط على سلم من مرايا الحروف/وصفّق إذا ما وصلت أقاصي المدينة.

    (تحت صنعاء مدن كثيرة متعددة الأسماء اغتالتها اصابع الزمن ذات يوم صرخ أحد السواح: /صنعاء تنام تحت صنعاء/بدأ الحفر بأظافره/وجد سلماً من الرخام/يؤدي إلى غرف ذات ضوء/صاعق/والى سلالم مغطاة بسجاجيد ناعمة/في واحدة من هذه الغرف/رأى مسرجة من المرمر الأبيض/كانت تتحدث بلغة لا يفهمها/ورأى أشخاصاً نائمين/يتأهبون للصحو/وبجوارهم سيوف من الذهب الخالص/وقبل أن يسعفه الجنون/كان في طريقه إلى المطار).

    القصيدة الثامنة والعشرون: هي واضحة مثل كف صغير لطفل/ومبهمة كالأساطير /خمسون عاماً من العشق/لم يقرأ القلب في الجسد المتفتح للضوء/إلا خطوطاً تداعبها الريح/أو ألَقَاً يتناثر فوق النوافذ/يا حطب القلب أوقد نشيدك /وارحل بعيداً/إلى حيث تخفي الجميلة/أسرارها/وتمهل إذا ما وصلت إلى "الكنـز" /لا تفضح السر/إن الهوى كلف بالرموز.

    (يقول العام التاسع والخمسون/إن هذا الكهل حين يتمكن من اكتشاف روحه/قد يتمكن من اكتشاف بعض الأسرار/المدونة داخل الأبواب السبعة لهذه المدينة/التي لا تخضع للامتثال أو الانكشاف/وبلا خجل أقول:إنني بعد كل هذا الزمن/لاأستطيع الاقتراب من دهاليز الروح/
    ولا من قراءة الكتابات الضوئية/المدونة على الجدران العتيقة لصنعاء/ويصور لي الوهم -أحياناً-
    أن طفل المساء/يستطيع بسهولة أن يقرأ ما وراء الغيوم الفضية/التي تقترب من جبالها الصخرية الملساء).


    القصيدة الأخيرة: كل آجرة فيك/كل المآذن كل الحجارة/تشكره/تشكر الله/أجرى مياه الجمال بآجرها ومآذنها/ومنازلها/والقصيدة/كل التماعة حرف بهذي القصيدة/تشكره/تشكر الله ألقى بها قطرة من رذاذ/تناثر من بحر أندائه/فأضاءت /ومن ماء قلبي، استوت/موجةً، موجةً/وكتاباً، كتابا.

    (قادني قميص الكلمات/وقاد الحروف العمياء/إلى أحياء المدينة العتيقة /فاستعادت الحروف ذاكرتها/وبصرها/رأت رخام اللغة يتدلى بين السماء والأرض/وضوء المعنى يبرق/ويتنـزل من قمة العرش/لم يكن حلماً/كان حقيقة مبتلة بندى الليل/ونشوة النهار الأخضر)[27]

    *صراخ بحجم وطن – عدنان الصائغ – نموذج (السيرة/الشعر):
    عدنان الصائغ أكثر شعراء جيله، التصاقاً بالذاكرة، ففيها يحيى وعليها يموت! ومنها يحاكم
    (كسر الميم) واليها يحتكم، وماذا نتوقع من شاعر اهدر صباه وشبابه في جحيم لا شأن له به! كان مثل قدر أعمى لن تفلت منه الضحية، وإذا قدر لك أن تقرأ شعره وتحترق بحرارة صوره وعناءاتها! فاعلم ان حياته على مساحة الواقع كانت أشد احتراقاً وأمر إيلاماً.. ومنا هنا جاءت قصائده منذ بواكير دواوينه
    [28] ترجمة أمينة لكوابيسه التي تأخذ بخناقه نائما ويقظاً، وكوابيس الوطن معاً، حتى ليمكن القول انك لن تقترب من عذابات الوطن -كما ينبغي- مالم تقرأ قصائد عدنان الصائغ، ولن تقرأ عذابات عدنان الصائغ ما لم تقرأ عذابات العراق.. فقد وحّد الصائغ منذ بواكير أعماله بين الذات والقصيدة وبينهما وبين العشق، وبينهم وبين الوطن.. وقد حاولنا في هذه الدراسة كما في الدراسات السابقة[29] الإمساك بنص واحد لا يمت إلى الذاكرة بأدنى صلة –حتى- فلم نعثر عليه!!! ومن هنا أيضاً تكمن (الشعرية) عند عدنان، فذاكرة الشاعر الموهوب المعذّب بأحلامه أوسع مساحة من بحور الدنيا وأعمق! وقصائد عدنان في بلورتها الأولى سيرة ذاتية لعدنان والإنسان والوطن فهؤلاء الثلاثة حالة واحدة!! والنصوص التي نختارها لاحقاً متباعدة الأزمنة، والأمكنة بيد أنها فصول في رواية واحدة!!:


    *(حنين): لي بظل النخيل بلاد مسوّرة بالبنادق/كيف الوصول إليها/وقد بعد الدرب ما بيننا والعتاب/وكيف أرى الصحب/من غُيبوا في الزنازين/أو كرشوا في الموازين/أو سُلّموا للتراب/إنها محنة بعد عشرين/أن تبصر الجسر غير الذي قد عبرت/السماوات غير السماوات/والناس مسكونة بالغياب.

    *(العراق): العراق الذي يبتعد/كلما اتسعت في المنافي خطاه/والعراق الذي يتئد/كلما انفتحت نصف نافذة/قلت: آه/والعراق الذي يرتعد/كلما مرَّ ظل/تخيلت فوّهة تترصدني/أومتاه/والعراق الذي نفتقد/نصف تاريخه أغان وكحل/ونصف طغاة.

    *ثلاثة مقاطع للحيرة:

    (1)قال أبي:لا تقصص رؤياك على أحد/فالشارع ملغوم بالآذان/كل أذن يربطها سلك سرّي بالأخرى/حتى تصل السلطان.

    (2)بعد أن يسقط الجنرال من المشنقة/بعد أن يرسم الطير دورته/في الهواء الطليق/بعد أن تتخضب راياتنا بالدماء/ما الذي نفعل.

    (3) جالساً بظل التماثيل/أقلّم أظافري الوسخة/وأفّكر بأمجادهم الباذخة/هؤلاء المنتصبون في الساحات/يطلقون قهقهاتهم العالية/على شعب/يطحن أسنانه من الجوع/ويبني لهم أنصاباً من الذهب والأدعية.

    *(بيادق): بيدقني السلطان/جندياً في حرب لا أفقهها/ لأدافع عن رقعة شطرنج/أم وطن/لا أدري/أم حلبة/ولهذا أعلنت العصيان/لكن الجند الخصيان/قادوني معصوب العينين إلى الخشبة/وأداروا نحوي فوهات بنادقهم/فصرخت: قفوا/ستجرّون على هذي الرقعة أيضاً/كبشاً بعد الآخر/كي تعلو –فوق سلالم اشلائكم- التيجان.

    *(قادة): ستعرفينهم من الأحذية التي تركوها/قبل أن ينهزموا/ستعرفينهم بالتأكيد/هؤلاء الذين ملأوا منابر المدينة/بطبول بطولاتهم/ترى أين نجدهم الآن/لنعرف كيف سمعوا قبلنا/بأول الطلقات/نحن الذين كنا مجرّد آذان.

    *(رقيب داخلي): منذ الصباح/ وهو يجلس أمام طاولته/فكر أن يكتب عن ياسمين الحدائق/فتذكر أعواد المشانق/فكّر أن يكتب عن موسيقى النهر /فتذكر أشجار الفقراء التي أيبسها الحرمان/فكّر أن يكتب عن قرنفل المرأة العابق في دمه/فتذكر صفير القطارات التي رحلت بأصدقائه/إلى المنافي/فكّر أن يكتب عن ذكرياته المتسكعة تحت نثيث المطر/فتذكر صرير المجنـزرات التي كانت تمشط شوارع طفولته/فكّر أن يكتب عن الهزائم /فتذكر نياشين العقداء اللامعة على شاشات الوطن/فكّر أن يكتب عن الانتصارات/فتصاعد في رأسه نحيب الأرامل/ممتزجاً برفات الجنود المنسيين هناك/……/في آخر الليل/وجد سلة مهملاته مملوءة/وورقته فارغة بيضاء[30]



    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  5. #65 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    السيرة الذاتية جنسا أدبيا
    الدكتور
    عبد الإله الصائغ

    (الجزء الخامس)


    ملحق ) السيرة والرواية)
    إشارة: اقتبسنا المعلومات التي توفر عليها هذا الملحق من كتاب (حدود العصور حدود الثقافات-دراسة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية) تأليف الدكتورة سفيتلانا براجوغينا وهي من أبرز المستشرقين المهتمين بالأدب والفن في أقطار المغرب العربي. فالكتاب بحق موسوعة في رواية السيرة في المغرب والجزائر وتونس، لأنه ينصص ويحلل ويؤول ويستنتج ونظن أن ترجمته قد أسدت للأدب العربي خدمة كبرى يعرفها المشتغلون في هذا الحقل، وما كان لهذا الكتاب أن يلثم أعين القراء العرب لولا جهود المترجمين د.ممدوح أبو الوي و د.راتب سكر، وقد لذلك رأيت ان اهدي هذه الصفحات الهامة الى القراء الافاضل وقد استأذنت الشاعرالسوري الجميل د. راتب سكر بنشر هذا الملحق (حرفياً) فأذن لي خطّياً والأذن مؤرخ 31/1/2000 صنعاء. قارن الاقتباسات الحرفية[31].

    1-ندرس في هذا الفصل فقط المؤلفات التي تروي سير الكتاب ولكنها تشبه الرواية لأن عنصر الخيال يلعب دوراً كبيراً فهي تبتعد عن الوثائقية ولذلك تجنبنا السيرة الذاتية للكتاب مثل سيرة منصور حمروش، حكاية حياتي ويوميات فرعون لأنها أقرب إلى الوثائقية منها إلى العمل الأدبي الذي لا يمكن ان يستغني عن الخيال والصورة التي يخلقها الروائي والأحداث والعقدة والحل..ص45.

    2-كما هو معروف أن جنس السيرة يحتل مكانة هامة في تاريخ آداب كثيرة. يكفي أن نتذكر السير العديدة للكتّاب الروس والألمان والإنكليز والأمريكيين والفرنسيين التي تعتبر كنـزاً من كنوز الأدب العالمي مثل ثلاثية ليف تولستوي (الطفولة) التي صدرت1852 والمراهقة1854 الشباب1856 ونتذكر ثلاثية مكسيم غوركي 1868-1936 ولقد صدرت الطفولة لمكسيم غوركي في عام1914 ومع الناس1916 وجامعاتي1922 وكتب هيرتين واكساكوف وكورلينكو وبونين وغارين ميخايلوفسكي وسيرافيما فيتش، وكتب الأديبان الفرنسيان جان جاك روسو وميوسيه والشاعر الألماني غوته والكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنـز وأدباء آخرون. تقدم هذه السير دليلاً حياً على أن هذا الجنس الأدبي الذي يتحدث عن مصير الإنسان وتجربته الحياتية. يصبح تجسيداً للحياة الإنسانية العامة من خلال التجربة الفردية المحدودة والقريبة الملموسة ص46.

    3-إن كتب منصور حمروش ذات أهمية كبيرة مثل كتاب حكاية حياتي وسيرة ملكولم الذاتية التي تقع مثل أي عمل إبداعي آخر. في منتصف الطريق بين الواقع والخيال فهي عمل إبداعي فني مفيد حتى لأولئك الذين يبحثون عن التسلية وقتل الوقت وتفيد المستويات الرفيعة من القراء الذين يبحثون عن أهداف الأدب السامية عندما يشعر الأديب برغبة في أن يلعب دور شاهد على زمانه من أجل هذه الشهادة يقدم حقائق من حياته الخاصة وآنذاك تخرج الحياة الخاصة عن إطار الفردية لتصبح عامة آنذاك يصبح الخاص عاماً ص 46.

    4-في الأقطار العربية عبّر جنس السيرة الذاتية عن نفسه في العشرينات من القرن العشرين كجنس أدبي مستقل وكتاب الدكتور طه حسين (الأيام) كتاب معروف صدر عام1929 ورأى فيه أندريه جيد (نصراً للشعلة الروحية في ظلام الحياة) ولقد تُرجم هذا الكتاب إلى لغات عالمية كثيرة مباشرة بعد صدوره وأصبح هذا الكتاب نموذجاً لهذا الجنس الأدبي في العالم العربي تقاس به جودة السير الذاتية ويرى الناقد الفرنسي ف.مونتيه (ان أحد المواضيع المحببة في الأدب العربي موضوع الحديث عن الطفولة وسنوات الدراسة في الكتاب) ولابد من الإشارة إلى أن هذا الموضوع الهام موضوع السيرة بالنسبة للكتّاب الذين اهتموا بالتحدث عن الحياة الخاصة مصدراً لإدارك الحياة القومية ونظر هؤلاء الكتاب إلى الحياة الخاصة كجزء من الحياة الشعبية العامة وعالجوا هذا الموضوع حسب التقاليد المعروفة لهذا الأدب القومي أو ذاك ص 46.

    5-ليس من قبيل الصدفة أن يكتب الأديب الجزائري مولود فرعون -الذي يعتبر من أوائل الأدباء العرب في المغرب الذين كتبوا فن السيرة- في مقدمة كتابه (نجل الفقير) الذي صدر1951 أنه قرأ الأديب الفرنسي جان جاك روسو والروائي الإنجليزي تشارلز ديكنـز وقرأ أدباء عالميين آخرين ويتمنى أن يقوم بمثل العمل الذي قاموا به وهو أن يتحدث عن حياته الخاصة لأن الرحلة إلى الحياة الخاصة هي بداية رحلة جادة واستيعاب حقيقي للواقع بالنسبة للأدب في المغرب بوجه عام. ص47.

    6-كانت السيرة الذاتية في الأدب العربي المغربي أصيلة، مع وجود بعض التشابه في معالجتها، سمّى مولود فرعون كتابه رواية علماً بأن (نجل الفقير) بحجمه وحبكته أقرب إلى القصة المتوسطة الحجم منه إلى الرواية؛ وتعالج القضية موضوع تربية الشخصية في ظروف اجتماعية وتاريخية وحياتية معينة، وإذا اتخذنا أحد التعاريف المتداولة لرواية التربية كطريق للتصوير الفني، انها عملية إدراك البطل لنفسه في العالم المحيط به وعلاقته الجدلية بالوسط المحيط الذي ربّى وشكّل تصوراته ومفاهيمه حول الحياة والعالم والتي تحدد طبيعة علاقته بالوسط الاجتماعي الذي ترعرع فيه ومن الضروري الأخذ بعين الاعتبار أن مولود فرعون لم يكتب مؤلفات فنية فحسب وإنما قام أيضاً بتنفيذ طلب اجتماعي لأن نجل الفقير يعتبر بداية سيرة للنشر الفني الجزائري، هؤلاء نحن وكيف نعيش وهذا حلم مولود فرعون ان يتحدث عن حياة شعبه بصوت واحد من ممثليه وحقق حلمه بتجربته النثرية الفنية المستقلة الأولى باللغة الفرنسية ص48.

    7-يصور مولود فرعون في نجل الفقير سيرة حياة هذا البطل وبذلك فان هذه الرواية تنسجم مع روايات السيرة ولها كافة الصفات التي تتصف بها روايات السيرة، ولكل سيرة مميزات خاصة بها لا تتكرر في السير الأخرى وهو الهدف الذي يقصده المؤلف من روايته فيرى الكاتب أحياناً أن يضمن عمله الأدبي بعض اعترافاته وأحياناً أخرى يرغب الكاتب في العمق في تكوين الطبيعة الإنسانية بوجه عام وفي التغلغل في العالم الداخلي والعالم النفسي ص 50.

    8-قال الأديب الروسي مكسيم غوركي (1868-1936) (يجب تصوير الماضي من أجل توضيح معالم طريق المستقبل) ومن اجل تحقيق هذا الهدف يسعى مولود فرعون الى تصوير المجتمع بكامله بتقديم بعض الحقائق عن حياته ولقد استطاع الكاتب بتصويره للفلاحين ان يقدم صورة كاملة للمجتمع الجزائري بكامله بعمق وبدقة وان يقدم لنا الصفات الأساسية للشعب الجزائري ص50. يصور الكاتب ابناء الفلاحين الذين خرجوا من اعماق الأرض ومن حضنها، انهم ابناء الأرض، البطل الذي لا يمكن ان ينفصل عن ارضه وعن وسطه؛ كان طريق البطل طريق ادراك الذات كجزء من الكل كجزء من الشعب، كان البطل مرتبطاً ارتباطاً عضوياً بوسطه وهذه صفة من صفات جنس السيرة ص 53.

    9-أما الكاتبة الجزائرية مرغريت طاووس تغلف حياتها بغلاف رومانسي حقيقي. تتحدث الكاتبة في روايتها شارع الطبالين عن حياة أسرة كبيرة العدد وعن مصير هذه الأسرة التي تنتمي اليها بطلة الرواية التي صدرت1960 وكما تتحدث الكاتبة عن مشاعر بطلة قصتها وهي مشاعر صادقة وعاصفة؛ وعن عواطفها في مرحلة شبابها وعن حكاية الحب وعن شكوكها وترددها وآلامها الروحية، كل هذه اعطت رواية مرغريت طاووس، صفات العمل الإبداعي المتكامل، انها سيرة حياة فتاة في ريعان شبابها ولهذه الفتاة الجزائرية اسم فرنسي مثلها مثل معظم شخصيات الرواية ويتكلم افراد الأسرة في البيت باللغة الفرنسية فقط ولا يعرفون لغتهم الأصلية لغتهم الأم وهي اللغة العربية انها حكاية شابة تعيش في المدينة في وسط مثقف وهذا الوسط الذي تصوره الكاتبة هو الوسط النموذجي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين طبعاً. ان هذه الرواية نموذج للأدب العربي المكتوب بالفرنسية والمكتوب بيد كاتبة وحول المرأة وواضح تأثير الأدب الفرنسي على هذه الكاتبة الجزائرية ولا سيما أدب فرانسوزا ساغان ولو أن احداث الرواية لم تجر في الجزائر لقلنا ان هذه الرواية فرنسية تدور حول الفرنسيين وحول المرأة الفرنسية ص 56.

    10-تصور مرغريت طاووس مأساة الجزائريين الذين ذابوا في الوسط الفرنسي والذين اعطوا أبناءهم اسماء فرنسية والذين حصلوا على بعض امتيازات المستوطنين الفرنسيين في زمن الإستعمار الفرنسي ولكنهم عاشوا في وطنهم وكأنهم في المنفى ووضعوا حاجزاً وسوراً يفصل بينهم وبين وسطهم القومي وتراب بلدهم! عاش هؤلاء الجزائريون غرباء بالنسبة للجزائريين أنفسهم؛ وبالنسبة للفرنسيين فهم غرباء بين هؤلاء وأولئك، خرجوا من صفوف الجزائريين ولم يتقبلهم الفرنسيون في صفوفهم بل نظروا إليهم كما نظروا إلى الوحوش !! ص 57.

    11-تتوسع آفاق الطفلة ومشاعرها في المدرسة وفي المدينة مع كبر سنها وتتحسس عدم استقرار الظروف المعيشية المحيطة بها؛ إن البطلة لا ترتاح لأجواء المدينة ولكنها في الوقت ذاته قطعت خيوط علاقتها بالقرية الجبلية، منذ رحيل الجدة العجوز إلى العالم الآخر، سيرافق موضوع الحصول على السعادة الكاملة مثله مثل عالم الطفولة أو الذكريات حوله، سيرافق الكاتبة طيلة حياتها الأدبية، فقبل وفاتها بقليل كتبت رواية (الحبيب الذي تخيلته) صدرت الرواية عام 1975.

    وتبحث بطلة هذه الرواية عن السعادة وعن الحب ولكن الكاتبة استطاعت الحصول على المجد الحقيقي بفضل كتابتها حول موضوع الوطن، الموضوع الذي اختارته وكتبت عنه بقوة لا مثيل لها في كتابها الأول عاشت الكاتبة مرغريت طاووس في أماكن متعددة وفي كل مكان كانت تردد الأغنيات القبلية التي سمعتها في طفولتها والتي رسخت في ذاكرتها لأنها أغان أصيلة وجميلة ص 59.. أصدرت مرغريت طاووس روايتها شارع الطبالين عام 1960 أي عندما كانت الثورة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي في أوجها وفي أصعب لحظات تاريخ الجزائر.. ولذلك فليس من قبيل الصدفة أن تكتب طاووس في فن السيرة وهي في فرنسا فكتبت قصة حياة عندما كانت في المهجر حيث كانت تعيش أسرة عمروش الأم فاطمة عمروش واخت الشاعر الجزائري جان عمروش -مرغريت طاووس- فكانت الأديبة تعيش بعيدة عن وطنها وكان كتابها ذكريات رائعة حول الوطن البعيد، واعطى كتابها الدفء للقلوب في الهجرة والأمل في العودة إلى الوطن البعيد واستطاعت الكاتبة التعبير عن أفكارها بقوة إبداعية نادرة ص59.

    12-وكتب الأديب المراكشي أحمد صفريـوي في فن السيرة ويشبه أسلوبه أسلوب الأدباء الجزائريين الذين كتبوا هذا الجنس الأدبي وإن كانت له صفاته الخاصة به فما كتبه أمر مفاجئ يؤثر على الحياة العادية ولكن قد يعكر صَفْو الناس المرضُ المفاجئ أو حادثٌ مؤسف مفاجئ.. انه يصور الحياة بكل تناقضاتها، يصور القصور والأكواخ والتخمة والجوع، ويسجل الطفل في ذاكرته!!هذه الحياة دون أن يعرف قبيحها من مليحها،كان الطفل يحزن أحياناً دون سبب واضح محدد، مساء عندما ينام الجميع ينام الأغنياء في فراشهم الدافئ أما الفقراء فينامون أمام المحلات التجارية أو أمام قصور الإغنياء أما أنا فلا أعرف للنوم طعما.. إنني اتأمل في وحدتي ص60.

    13-استطاع الروائي محمد ديب السير خطوة إلى أمام في فن السيرة حتى من الناحية الأيديولوجية فكما لاحظ الناقد جونا شفيلي (يشكل كتاب محمد ديب درجة أعلى في تطور الوعي الذاتي عندما يصبح من المستحيل الاكتفاء بالإشارة إلى التفرقة وعدم المساواة والى انتشار الشر والفوضى؛ ان محمد ديب لم يكتف بالإشارة إلى الشر، وإنما حاول ايجاد حل للخروج من الحالة السيئة) .. بدلت الناحية الأيدلوجية في الرواية البنية الفنية!! ان رواية محمد ديب (الدار الكبيرة) 1953 أكثر عمقاً من الروايات الآنفة الذكر لأن الكاتب هنا لا يكتفي بتصوير العالم الخارجي وظواهر الحياة وإنما يغوص إلى أعماق الحياة الإنسانية ويركز اهتمامه على تصوير الناحية النفسية في حياة الطفل وساعدت هذه الصفات الجديدة في فن السيرة على ديناميكية السرد وأعطته عمقاً في مجال البحث النفسي ص 63.

    14-أما قرية البروق 1970 لعلي بومهدي فهي سيرة حياتية أخرى، وتفصل فترة زمنية تصل إلى عشرين عاماً من تاريخ نشر رواية محمد ديب وتاريخ نشر رواية علي بو مهدي وحدث خلال العقدين من الزمن احداث عاصفة ولقد تركت اثرها على كيفية معالجة الأدب لموضوع الطفولة، والشباب في المغرب بوجه عام وفي الجزائر بوجه خاص وتتخذ رواية علي بومهدي طابعاً ملحمياً وعدد شخصياتها كبير يرصد الكاتب مصير أكثر من جيل ويتحدث من حياة الكثير من أصدقاء البطل وعن اسر كثيرة تجري في قرية بعيدة ويرسم من خلالها حياة الجزائر من الثلاثينات وحتى الخمسينات واستفاد علي بومهدي من تجربة النثر الجزائري في فن السيرة فلقد عمق تصوير الجزائر من الداخل ورسم المصير الإنساني للأفراد وللمجتمع بكاملة.. استفاد علي بو مهدي من التقاليد العالمية لنثر السيرة ولا سيما تجربة الأدب الروسي في هذا المجال واهتمامها بتصوير الشخصية المتطورة بتطور العالم المحيط وبتطور النمو الذاتي وبذلك أصبحت رواية علي بو مهدي ذروة الأدب المغربي في فن السيرة وفي مجال كتابة الرواية التربوية ص 67.

    15-تنشط الكتابة في السيرة الذاتية كما لاحظ عدد من الباحثين في فترة التحولات الفكرية وعندما تكون على عتبة أحداث ثورية وقد ظهرت رواية علي بو مهدي حلقة أخيرة في سلسلة المؤلفات التي رسمت الفترة التي سبقت الحالة الثورية التي عمت البلاد يصور علي بو مهدي عملية تطور تكوين الشخصية وتتابع مراحل وعيها الذاتي وتشكل تصوراتها حول العالم المحيط وإيضاح إدراكها لمعنى التطور التاريخي في المجتمع الجزائري ص 67. لكن علياً بطل (قرية البروق) يغادر قريته ويتابع دراسته في المدينة وكان هذا الإنتقال يعد شرفاً كبيراً في نظر أبناء الجزائر الأصليين ولا يحدث الا نادراً لأن مصاريف المدرسة كبيرة وكان ابناء الفقراء يستطيعون متابعة دراستهم في حال حصولهم على منحة دراسية بسبب تفوقهم.. لقد تحمل الكثير من الإهانات في سبيل الوصول إلى حلمه ومتابعة دراسته ص 69.

    16-وما زالت رواية السيرة الذاتية إلى يومنا الحاضر هي الأكثر انتشاراً في المغرب، ولكن في العقدين الأخيرين توسعت امكانيات الرواية في الأقطار العربية المغربية ولذلك نرى من الضروري تقديم تحليل للنتيجة التي توصلت إليها رواية السيرة إذ انها شكل مناسب لنقل أحداث جرت خلال فترة زمنية طويلة وفي أمكنة مختلفة انها (كتاب عن الحياة) كتبها المؤلف مستنداً على الذاكرة فأصبحت بالنسبة للكاتب المغربي أكثر من حكاية عن العمر والحياة الخاصة، أصبحت قصة حياة جيل أو اكثر وعصر وظروف تشكل خلالها الوعي الذاتي القومي.. لقد ارتبطت رواية السيرة الذاتية في البداية بوصف الظروف المعيشية مثل رواية صندوق العجائب لصفريوي ونجل الفقير لمولود فرعون والدار الكبيرة لمحمد ديب وشارع الطبالين لمرغريت طاووس وهذه مرحلة طبيعية من مراحل تطور روايات فن السيرة. وسخر الكاتب سيرة حياته لنقل حياة شعبه وبلده وواقعه وكان لابد لرواية فن السيرة من التحدث عن مرحلة الطفولة كمرحلة أولى في معرفة العالم المحيط.. ومن هنا جاءت الرغبة في الكتابة حول الطفولة من اجل التأكيد على الشخصية القومية على مفهوم (انا) تشهد روايتا الماضي البسيط وتمثال الملح لأبير ميمي بأن هذين الكاتبين حرصا على تصوير العالم من الداخل بكل تناقضاته وصعوبات تكوين الوعي الذاتي القومي في ظل وجود صراع بين عالمين وحضارتين وحاولا تصوير النمو الروحي للفرد في فترة النضال من أجل الاستقلال ومقاومة الغزو الثقافي وتثبيت الجذور والجوهر الذاتي ص77.

    17-من الصعب الموافقة على التعريف الذي قدمه الأديب عبد الكبير الخطيبي بأن هدف كتابة السيرة في المغرب فترة الخمسينات وبداية الستينات هو تصوير الإنسان وإدراكه للعالم ومقارنته بالأشياء المحيطة الجامدة وبكلمة واحدة تصوير الواقع بموجب المدرسة الطبيعية الفرنسية، امتزج تصوير الحقيقة والواقع بصدق ونقل العالم كما يتذكره الطفل، امتزج برأينا ليس فقط في تصوير الطبائع والحالات ونقل عملية تكوين الشخصية الجديدة (الأمر الذي أصبح هاماً جداً في بداية السبعينات) ولكنه امتزج أيضاً بموقف أيديولوجي واضح للكتاب ونظر الكتاب إلى فترة حياتية محددة بما يتلاءم مع موقفهم الأيديولوجي، كما يرى الخطيبي فان تصوير الطفولة يعني تصوير البساطة وبالنظرة إلى العالم من خلال رؤية طفل له ومن خلال رؤيتنا للطفولة، نرى المجتمع والعصر، ونرى مرحلة تاريخية محددة، رؤية صادقة، لأن الطفل ببراءته ينقلها الينا ص78.

    18-وكما يرى الخطيبي فان فن السيرة يخدم الإنسان والأديب الذي يستطيع تحديد مكانه في الواقع وفي الحاضر والمستقبل والذي يخدم بأدبه شعبه ويطرح بصدق المسائل التي تؤرقه، ويرى الخطيبي ان فن السيرة يعود إلى الماضي ليقدم رسالة تاريخية ولكي يقوم بوظيفة اجتماعية وليلعب دوراً عقلانياً وموضوعياً.. عندما يصف الكاتب الوسط المحيط يجب ان يبين علاقته بهذا الوسط، وإذا استطاع الكاتب تحقيق هذا فهو برأي عبد الكبير الخطيبي يحقق رسالته كمواطن وكفرد، اما حضور الأديب فلقد ظهر متأخراً في أدب الأقطار العربية المغربية، ولكن عبد الكبير الخطيبي الذي كتب بحثه منتصف الستينات لم يكتب في جنس الرواية سوى مخطوط سيرته الذي كان يحضره للنشر ص 79.

    19-لجأ الكتاب الى فن السيرة من اجل تقديم تصوراتهم حول العالم ونرى هذه الأفكار في الأعمال الأخرى للكتاب الذين كتبوا في فن السيرة وأصبح هذا الجنس الأدبي الأكثر قدرة على التعبير عن مواقف الكاتب في الماضي والحاضر، وعلى تصوير اللحظات الحاسمة في تاريخ الفرد والشعب، ولمعت في هذا الجنس الأدبي أسماء كبيرة مثل رشيد بوجدرة ومحمد خيرالدين وطاهر بن جلون وعبد الكبير الخطيبـي ونبيل فارس وممثلين عن الجيل القديم ادريس شرايبـي والبير ميمي وكتّاب آخرين ص 80.

    20-سمى عبد الكبير الخطيبي روايته الأولى بعنوان (الذاكرة الموشومة) التي صدرت1971؛ فهذا الكاتب كان ينادي بطريقة جديدة للكتابة وكانت رواية الذاكرة الموشومة سيرة حياته تحدث فيها عن طفولته وشبابه وسنوات دراسته في مراكش وفرنسا وحول عملية تكوين الشخصية وادراك العالم ومقارنة الشرق بالغرب وحول خصائص الوسط المحيط، وبكلمة واحدة فلقد تحدث الخطيبي حول المسائل التي أقلقت أسلافه. اذن الموضوع مطروق من قبل كتاب آخرين ولكن طريقة معالجة الموضوع جديدة والجديد فيها طريقة تصويره لشخصية (الأنا) ومكانتها في الوسط المحيط وكما ان لهجة الخطيبي تختلف عن لهجة الكتّاب الذين سبقوه في وصف ذاكرته ومراحل حياته وتختلف حتى عن طريقة ادريس شرايبي في مرحلته الإبداعية الأولى وعندما لم يخالف الطريقة الواقعية التقليدية في الكتابة وان استوعب الواقع المحيط استيعاباً نقدياً حاداً وذلك في روايته (الماضي البسيط) ويخالف الخطيبي بصورة مقصودة التقاليد الأدبية لأنه كما لاحظنا يرى ان فن السيرة يستطيع ان يعالج مسائل أخرى غير مسائل الطفولة، والذكريات المرتبطة بها، ويرى ان المبدأ الاساسي في فن السيرة يجب ان يربط بالحاضر وبمعالجة القضايا المعاصرة ص81.

    21-لا يجوز ان نصف رواية عبد الكبير الخطيبي بأنها مجرد ذكريات حول الطفولة لأننا لو فعلنا ذلك لحذفنا الكثير، ولكان قولنا مختصراً وبالتالي خاطئاً، فهذه الرواية تختلف عن روايات الكتاب المعاصرين للخطيبي! إن هذه الرواية تشمل ذكريات الماضي ولكن الفرق بينها وبين بقية الروايات التي تتناول السيرة مثل روايات فرعون وديب وصفريوي بأنها تقيم الماضي بمساعدة الذاكرة ولا تكتفي بتصويره ص 82.

    22-حرودة رواية أخرى للكاتب المغربي الطاهر بن جلون صدرت1972وهي سيرة عن الطفولة والشباب تطالب باليقظة والبحث عن الحقيقة، ويتحدث بن جلون في هذه السيرة عن مراكش أكثر من حديثه عن نفسه ولكن حديثه حديث عادي فليس مثل الحديث في رواية (صندوق العجائب) الغنية بكلمات الحب وليس مثل الحديث في رواية (الماضي البسيط) المشبعة بالألم، ولكنها رواية تجمع صفات رواية صندوق العجائب وصفات رواية (الماضي البسيط) ويدعو الكاتب الى حلم بعيد وفهم عميق لظواهر الحياة والى هدف مقدس ويرمز بن جلون إلى الوطن بشخصيته المرأة العظيمة الأسطورية التي طعنت بشرفها ولكنها ما زالت فخورة باسمها ويعالج بن جلون موضوع الحب والفشل بشكل جديد، فالمرأة في هذه الرواية هي زوجة عملاق وسئل الكاتب بعد صدور الرواية: بالنسبة له هل الزبد البحري والصخر والمدينة، كل هذا يتحول إلى امرأة ام ان هذه الأمور والأشياء الأخرى ماهي الا حجة للتحدث عن المرأة. اتكون هذه كلها نوعاً من الوسوسة؟ واجاب الطاهر بن جلون ان سبب هذه الوسوسة يعود الى وضع المرأة في المغرب العربي، واوضاع المرأة جزء لا يتجزأ من الوضع الإنساني بوجه عام، وعن هذه الأوضاع تقع المسؤولية على عاتق التاريخ وعلى عاتقنا نحن ولذلك فان صورة حرودة تجسد المرأة والبلاد والشعب والتاريخ ص 87.

    23-لقد رسخت هذه الصورة في ذاكرة الطفل فلقد كانت حرودة تتجاوز كافة المصاعب وتحصل على الحياة حتى بعد ان يتراءى للمرء أنها ماتت. فتستطيع جمع شملها والإعداد للحرب ويحلم الطفل (سيأتي يوم تضيء فيه في كل يد نجمة. وسينتهي الظلام، ولن تغيب الشمس أبداً، لن يأتي الليل، وسيسطع النور الأبدي وتعود الذاكرة المفقودة) حضور حرودة في الرواية يشبه نهر الحياة الذي يذكره الكاتب في روايته، بالنسبة للطاهر بن جلون كما هو الحال بالنسبة لمعظم الكتاب المغاربة فان موضوع الذاكرة مرتبط قبل كل شيء بالمحافظة على العلاقة الوثيقة بالأرض وبتاريخ الشعب وماضيه وبالإخلاص لحبه للحرية والإستقلال.. إنها الذاكرة التي تقرع ناقوس الخطر وهي حاضرة في مؤلفات الطاهر بن جلون كلها والذاكرة تذكر الناس بماضيهم البطولي وبمعنى حياتهم الحاضرة وبهدف نضالهم ويتميز الطاهر بن جلون عن عبد الكبير الخطيبي بأنه لا يسمي الذاكرة بالذاكرة الموشومة وإنما بالذاكرة الشاملة. ويتم سرد الأحداث على لسان بطل القصة الذي لا يوجد له اسم وذاكرته ذاكرة شاعرية..ص 88.

    24-حرودة مثلها مثل الطير الأسطوري: العنقاء الذي يبعث دائما من رماد الحريق، ومن هذه المرأة الأسطورية العملاقة، يولد أولاد كثيرون انها تجسد عناصر الحياة ولذلك فان ذكريات البطل متنوعة منها الأسطوري ومنها الواقعي، فهناك صورة الأم، صورة (المرأة الطير) وصورة (المرأة الرحم) وصورة (المرأة البلد) وكأن هذه المرأة تخلع عن نفسها كافة الأثواب الرومانسية وتأخذ صفات المرأة المعاصرة.. وموضوع الأم هو أحد المواضيع الرئيسة في هذه الرواية إذ يضمّنه الكاتب آلامه ومشاعره فيما يشرح الكاتب فهمه لمسألة اجتماعية حادة في المغرب ص 89.

    25-وهكذا في السيرة الذاتية حول الحياة الماضية يكتب الأديب حول المسائل الإجتماعية والسياسية التي تقلقه في الحاضر وليس في الوقت الماضي ولابد لهذه الرؤية للعالم المحيط ولهذا الفهم للواقع من أن يترك على صفحات رواية حرودة تعددية تسارع الأحداث وان يترك نوعاً من السيرة الذاتية ينسجم مع فهم الكاتب للواقع ومعالجته له معالجة جمالية معينة، استطاع الطاهر بن جلون ان يفهم مراكش وان يتحسس آلام وطنه ويشعر بدفء أحلامه وآماله واستطاع معرفة ذلك معرفة حقيقية وعبّر عن هذا كله بالصور الفنية الغنيّة واستطاع الوصول إلى بنية فنية مناسبة للتعبير عما يجيش بنفسه واستطاع في هذا النموذج الجديد من السيرة الذاتية أن يسمع القارئ ليس فقط صوته، وإنما ايضاً صوت الوطن بكامله ص26 -90.


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  6. #66 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    السيرة الذاتية جنسا أدبيا
    الدكتور
    عبد الإله الصائغ
    (الجزء السادس)
    مراجع للاستزادة
    [1]- الصائغ.د.عبد الإله. الأدب الجاهلي وبلاغة الخطاب، انظر الفنون النثرية. وانظر: وهبه. مجدي وصاحبه. ص205. ثم نجم. د. محمد يوسف. ص111.ثم انظر: عباس. د.إحسان. فن السيرة. أنظر المقدمة. طبعة دار صادر.بيروت. دار الشروق.عمّان. 1996.
    2 - هارون. عبد السلام محمد. تهذيب سيرة ابن هشام. ص 1. طب مكتبة السنة .مصر.1989م
    3- عباس. د.احسان. ص9.
    4 - مؤنس.د.حسين. الحضارة ص 362 انظر مبحث (توينبي وتيار التشاؤم)، الطبعة 2 سلسلة عالم المعرفة الكويتية، رقم 237 سبتمبر أيلول 1998.
    5- عباس.د.إحسان. ص139.
    6- ابن حزم. أبو محمد علي الأندلسي ت 456هـ. طوق الحمامة في الألفة والإلاف. ص143. دار مكتبة الحياة. بيروت.
    7- ابن منقذ.أسامة، ت 584 ه‍ الاعتبار. ص 103 تح د. فيليب حتى. طبعة برنستون. نقلاً عن د.احسان عباس 129.
    8 - زيادة. مي. سوانح فتاة. ص 84. طب مؤسسة نوفل. بيروت 1975
    9- طوقان. فدوى، رحلة جبلية رحلة صعبة. ص 12 وبعدها. طبعة دار الثقافة الجديدة. القاهر 1989
    10 - خصباك. شاكر. ذكريات أدبية (الأعمال الكاملة-الجزء الثامن. طبعة. مركز عبادي للدراسات والنشر. صنعاء 1996.
    11 - خصباك. د. شاكر (البرابرة يغتصبون بلدتنا) مركز عبادي للدراسات صنعاء 1995.
    12- م.ن. (انظر التقديم). ص5.
    13 -براجوغينا. د سفيتلانا، حدود العصور حدود الثقافات، دراسة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. ص 45- وبعدها

    ترجمة: د.ممدوح أبو الوي مع د. راتب سكر، منشورات اتحاد الكتاب العرب دمشق 1995 (أنظر الملحق آخر هذا الفصل).
    14- الصائغ.د.عبد الإله، حوار الغصن والشجرة/دراسة دلالية في مجموعة نجمان ياسين القصصية. (ذلك النهر الغريب) ص 21. مجلة الطليعة الأدبية العراقية. عدد 9 . مارس 1986.
    15 - فاسيلينوف. الكسندر. الواقعية في قصص دريد الخواجة. ص 42. طب مؤسسة علا. 1996. ترجمة المؤلف نفسه.
    16- المعلم.أحمد. الشتاء والمرأة دراسة في القصة القصيرة. ص (دال) . طبعة مؤسسة علا .حمص. سوريا. 1999.
    17- فاضل. وليد. ظاهرة الاحتراف في الكتابة عند دريد الخواجة /قصة الإشارة يا سيدي رحال نموذجاً. ص 4 . جريدة الأسبوع الأدبي. دمشق . عدد 158. يوم الخميس 16 مارس آذار 1998.
    18- حدث اللقاء بين د. دريد يحيى الخواجه ود. عبد الإله الصائغ بحضور الناقد د. صبري مسلم في شقة الخواجة- العمارة السكنية لأساتذة جامعة صنعاء - مساء الخميس 20/1/2000.
    19- باقر. طه. محلمة جلجامش ( ترجمة ودراسة ). ص51. طبعة ثانية. 1971 منشورات وزارة الإعلام. بغداد.
    20- بيت د. عبد العزيز المقالح بصنعاء يوم الأحد 16/1/2000. وكان اقتصر الحضور على الشاعر د.أمين اسبر سفير سوريا في اليمن، والشاعر اليمني محمد عبد السلام منصور والأستاذ علي محمد الحبوري، والشاعر سليمان العيسى والروائي د. شاكر خصباك والناقد د. صبري مسلم.
    22- فخر الدين. جودت، كتاب صنعاء لعبد العزيز المقالح مدينة مكتوبة بماء الشغف ص 12 الملحق الثقافي لجريدة الثورة اليمنية العدد. 12808 الإثنين 6 ديسمبر 1999.
    23 - م.ن.
    24-علي.د. عبد الرضا، وجه القريه، قراءةفي كتاب صنعاء. ص11.الملحق الثقافي لجريدة الثورة اليمنية.عدد12780.الإثنين8نوفمبر1999.
    25- مسلم.د.صبري. المهاد البصري للصورة الشعرية في القصدية الرابعة والثلاثين من كتاب صنعاء. ص 14.الثقافية اليمنية. العدد 23 في 23/12/1999.
    26 - الصكر. د.حاتم. كتاب صنعاء للشاعر عبد العزيز المقالح نشيد شجي لعاصمة الروح. ص 2 .الملحق الثقافي لجريدة الثورة اليمنية. العدد 12080 الإثنين 29 نوفمبر 1999.
    27- المقالح، عبد العزيز، كتاب صنعاء، طب مؤسسة رياض الريس، بيروت طبعة. أولى أبريل نيسان 2000م.
    28- الصائغ.عدنان.1- انتظريني تحت نصب الحرية.1984. 2- أغنيات على جسر الكوفة 1986. 3-العصافير لا تحب الرصاص1986
    29- انظر دراستنا عنه في كتابنا -الخطابي الشعري الحداثوي والصورة الفنية-.
    30- الصائع. عدنان. صراخ بحجم وطن (مختارات شعرية واضاءات). طبعة دار المنفى. السويد. 1998.
    وانظر لعدنان الصائغ أيضاً نشيد أوروك طب دار أمواج بيروت 1996 فهو مثال آخر لاعتماد شعرية النص عند الشاعر على السيرة الذاتية إنه رواية شعرية منجمة في رأينا محورها السيرة الذاتية لذاكرة العذاب والهلع..
    31- براجوغينا.د.سفيتلانا. حدود العصور حدود الثقافات (دراسة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية). ص45-112. تر:د.ممدوح أبو الوي. د.راتب سكّر. منشورات اتحاد الكتّاب العرب. دمشق. 1995.


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  7. #67 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    "أشواق طائر الليل"
    السياب وإشكالية السيرة الذاتية روائياً
    عباس لطيف

    يحتل الخطاب السيري حيزاً مرموقاً في تاريخ السرديات سواء على المستوى التعبيري ام على مستوى التوثيق التاريخي والشخصي وذلك كون السيرة الذاتية تمثل نوعاً ادبياً يمتلك اشتراطاته وخصائصه الفنية والتي من ابرزها ذلك التناغم بين العام والخاص والذاتي والموضوعي ويقع البطل (السردي) في دائرة الحدث ومن ثم توصيف الحدث من المنظور الذاتي، ولم تعد السيرة مجرد رواية للأحداث وتعميم التجربة بل اصبحت بعد الكثير من التجارب والنماذج فناً ينطوي على اسلوبية بلاغية وسردية استثنائية الى جانب الجرأة التي يتسم بها الخطاب السيري، فهو خطاب للمكاشفة والبوح، ونجد مثل هذه التوصيفات في (اعترافات جان جاك روسو)، و(لا مذكرات) لاندريه مالرو، و(أشهد اني قد عشت) لبابلو نيرودا، و(عشت لأروي) لماركيز.
    وتمثل هذه النماذج مصدراً من مصادر دراسة المرحلة التاريخية التي صورها وجسدها الراوي- السيري وهي بالاضافة الى ما تقدم ترتكز على تجربة ابتكارية في الكتابة وتجويد في فن التعبير المفتوح.
    والسيرة الذاتية وكتابتها انطوت على نوعين: الأول حين يشرع أصحابها في الكتابة عن أنفسهم بوعي عال وتحسس مرهف، والثاني حين يتصدى آخرون للكتابة عن رموز وأعلام، ويصنعون عالماً موازياً لعالم السيرة الذاتية، ويمكن تسميتها السيرة الذاتية بالنيابة، ولقد تمرس في النوع الثاني أدباء عالميون معروفون، أشهرهم ستيفان زفايج والروائي والمسرحي الفرنسي رومان رولان (1866-1944)، الذي يعد من أغزر كتاب السير فلقد ترجم لبتهوفن، وتولستوي، وغاندي وغيرهم.
    ولعل رواية (أشواق طائر الليل) تنضوي في تجارب النوع الثاني، أي كتابة السيرة بالنيابة كما فعل رومان رولان، إذ تناول القاص والروائي مهدي عيسى الصقر سيرة السياب عبر رواية مختزلة، وهي مناورة بين فن الرواية وفن كتابة السيرة، وانطلق الصقر في مقاربته السيرية من حقيقة كونه أحد مجايلي رائد القصيدة العربية الحديثة والشعر الحر- مع اعتراض الكثير على المصطلح.
    إن الشعر الحر ليس حراً بشكل مطلق أو مجرداً من القافية والوزن والصورة والإيقاع.
    ويتخذ مهدي عيسى الصقر من حياة السياب مادة ثرية ومطواعة لميكانزم الإسقاط بالمعنى السايكولوجي، لما تكشف عنه تلك الحياة من التأزم بين الذات المبدعة والمحيط المتكلس اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وربما لهذا السحر الدرامي والاحتدام الذي تتضمنه حياة مأزومة كحياة السياب، وجعلها تمثل هاجساً من إغراء الكتابة عنها، ومن يقرأ الرواية بتمعن يجد تعبيراً صادقاً، وكأن الكاتب يعبر عن تجاربه الخاصة بدقة التصوير والعمق السايكولوجي لا سيما في هذا المقطع الذي يعد تلخيصاً تراجيدياً لحياة السياب وغيره من المبدعين الذين حاصرهم الاغتراب والمكابدة والألم، وقد استعار الروائي اسم (يوسف هلال) كبديل إجرائي:
    (إيه يا يوسف بن هلال: كان قدرك أن تعيش تلك التجربة الصاعقة وأنت يافع، تلك التجربة الفريدة التي فعلت فيك ما يفعله ميسم ملتهب يحرق الجلد واللحم والعظام، ما يفعله إعصار أهوج يزعزع كيانك ويرمي بك خارج مدار الطفولة خارج البراءة، والنقاء، والعبث اليومي.. إلى قلب عالم شرس وممزق تسكنه الفوضى، وتملأه العذابات والخيبات المرة والأشواق الموجعة والحرمان الاليم واللهاث الدائم وراء السراب- السراب ووراء الأمن والاستقرار وطيف المرأة العاشقة المعشوقة، التي لا تعرف الكذب ولا تعرف الخيانة) الرواية ص68.
    ويحاول الكاتب أن يتتبع سيرة السياب منذ ولادته في إحدى قرى أبي الخصيب، وتحديداً من جيكور حتى رحيله على سرير في أحد مستشفيات الغربة، التي نخرت عظامه كما نخرت كيانه الأوجاع والمرض الذي لازمه كظله.
    السرد في "أشواق طائر الليل" اعتمد أسلوب الريبورتاج الصحفي أحياناً، وفي أحايين أخرى يلجأ إلى أسلوب المونتاج السينمائي حين يستهل الرواية عبر مغايرة السرد والانطلاق من نقطة النهاية- المستشفى، وينحدر باتجاه الأزمنة، والأمكنة، والحوادث وفق رؤية اختزالية وانتقائية عززتها تلك العناوين التي استهل به كل فصل ليسرد لنا تجربة أو جانباً من جوانب حياته المليئة بالحوادث والمعاناة بكل اشكالها.
    ونجد أن لكل فصل خاصية يمتاز بها عن غيره، ففي فصل (مراهق من الريف) يسرد لنا عنفوان التوجس أو التماس الجنسي البكر مع أول امرأة، وما يصاحبها من جنون الرغبة الجامحة.
    وفي فصل (المهرب) يسرد لنا قصة السياب مع المهرب (عمار الخليفة)، وكيف اضطرته الأقدار إلى أن يتعامل معه لمغادرة الوطن أو بالأحرى للهروب من الوطن باتجاه المنفى بعد أن تراكمت المآسي عليه وحاصرته أساليب القمع السياسي والاجتماعي. وتابع الكاتب اسلوب العنونة وحرص على شعرية العنوان مثل (الاسم الآخر للوهم) و(سراب امرأة.. سراب الوطن) و(طائر الليل الضائع) و(امرأة اخرى.. بلد اخر) و(وهج الاحلام) وغيرها.
    ووفق قراءة تحليلية للرواية والتركيز على هذه الفصول المختزلة والومضات السريعة نجد ان الكاتب قد استهوته جوانب وزوايا في حياة السياب بينما اسدل الستار على جوانب وزوايا اخرى كان الاجدر تناولها والتعمق فيها لأنها لا تقل شأناً عن غيرها مما ركز عليه الكاتب.
    وانتهى إلى سيرة رومانسية وايروسية اكثر من كونها حياة لذات مفكرة ومبدعة وقد سبقت عصرها بكثير من التجليات او التحسسات غير العادية، فلقد ركز الكاتب على شعرية التناول والتحليق بالذاتوية، ولم يتناول الصراعات وأشكال القمع والتصادم التي عاناها الشاعر وإشكالياته السياسية والأدبية والاجتماعية.
    فالسياب لم يكن مهووساً بالمرأة إلى الحد المبالغ فيه، كما ظهر بين ثنايا الرواية، ولذا نجد أكثر الفصول تتحدث عن أزمة مستفحلة ومركبة مع المرأة ممزوجة بميل إيروسي، في حين كان السياب متسامياً بشعره للتخلص من إحباطاته على مستوى العاطفة.
    ووفق التحليل الحديث للسلوك يمكن القول إن الخوض في التجارب العاطفية والاستغراق في التذلل طريقة للتعمق بسايكولوجية المرأة، التي كانت فعلاً تحتل حيزاً من فكره ووجدانه، ولكن ليس بالصورة التي قدمتها الرواية، فلقد بدا ذليلاً وعادياً جداً حين يتوسل بالممرضة في الفصل الأول، ويبكي من أجل ان تبقى معه، لا نعتقد بأن السياب في ذروة نضجه، ووسط ألمه المبرح يتحول إلى مراهق مفتعل، وقد نعترض على عنوان (مراهق من الريف) لأنه عنوان ينطوي على توصيف مباشر وساذج لا يتناغم مع عقلية وتوجهات السياب.
    البساطة التي حاولها مهدي عيسى الصقر قادته إلى تبسيطية، فبدت الرواية غير متماسكة على مستوى البناء الفني والتتابع الزمني، ولم يستثمر طريقة المونتاج السينمائي، بل كانت أسلوباً مقحماً أراد من خلاله أن يلتقط ما يحلو له من صور وتداعيات سريعة لكنها غير عميقة أو مؤثرة.
    وبدت الرواية تنسج فصولها غير المترابطة وفق ترسيمة تقليدية تذكرنا بالروايات الرومانسية الريفية التي دأب على كتابتها الروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله الذي ذهبت أعماله مع الريح لأنها كانت تتمركز على حكايات العشق والغرام بثوبها الريفي الساذج، وهي تنفيس عن رؤى الصبابة الأولى وعقدها بعيداً عن المعنى الانساني الثر، والعمق الروحي البهي، الممزوج بالفكرة والموقف.
    كذلك لم يتعمق الكاتب في ثوابت معروفة في حياة السياب.. جيكور.. وإقبال.. ووفيقة.. ومعاناته الفكرية.. ووجوديته المأساوية.. وتناقضات الواقع السياسي والاجتماعي العراقي، ولذا لم نستشعر أية خلفية تاريخية مع أن الكتابة السيرية تمزج بين الخاص والعام والذاتي والموضوعي.
    ويمكن القول إن رواية "أشواق طائر الليل" كانت مجرد استذكار مناسباتي أو إسقاط فرض أطلقه الكاتب وبالنيابة عن الاستحقاق الإبداعي المفترض.
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  8. #68 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36


    الرسامون والسيرة الذاتية
    سعد القصاب
    لا سير ذاتية للرسامين، ولكن هنالك سير كتبها شعراء، روائيون، فلاسفة، علماء، سياسيون، وحتى جنرالات حرب، الرسامون وحدهم لا يرغبون في كتابة سيرتهم الذاتية.
    لا أجد الأمر يتعلق بدرايتهم بحرفة الكتابة، معرفة صناعتها، إتقانهم للتأليف، إن العديد من الرسامين هم كتاب أيضا، وقد خبر بعضهم عديد أنواع الكتابة.
    في المذكرات، كان هنالك "ديلاكروا" وكذلك "جواد سليم"، في الرسائل "فان كوخ"، كما يوجد فيهم منظرون كبار، "كاندنسكي"، "بول كليه"، "فازاريلي"، "محمود صبري"، في النقد الرسام الكبير "شاكر حسن ال السعيد"، هؤلاء وغيرهم، كتبوا عن أشياء كثيرة، عن الإنسان والعالم وتجربة الحياة، وحينما يكون الإبداع تكملة لها، والكاشف عن بهائها الذي لا ينضب.
    إن كتابتهم لطالما حفلت بما ينطوي عليه الخطاب الجمالي من معنى وتجليات، ولكن يبقى الرسام غير الكاتب.
    إن الفرق بينهما، يوازي الفرق بين الفرشاة والقلم، الألوان والحبر، القماشة والورقة.
    كثيرا ما يكون الرسام غير معني بالانحناء على ورقة بيضاء، يراقب الحياة، يتأمل أفكاره عنها كي يعترف، إنه لا يراقب بل ينظر فقط.
    إن الرسام لا يدعونا سوى إلى النظر بصورة جيدة، إنه لا يعلم فن التفكير بل فن النظر، ينظر بقوة من تحولات الطبيعة إثناء فصولها إلى أحلامه الفردية الأشد غرابة، حتى وإن تسنت له ورقة بيضاء، نراه بعد حين يتخلى عن الكلمات ليرسم أشكالا، فهو منهمك بشكل دائم في حرفته الجميلة، تمثل ما ينظر إليه، لأنه يعمل ما قبل اللغة، مع الصورة.
    لا تلبي الكلمات مطالبه، لا يؤثرها، لأنها لا تفترض ذلك الهدوء الذي يمكن الشعور به في تنوعات اللون الأزرق، وهي أيضا ليست بتلك الحسية لكي تمنح الدفء الذي يحققه القليل من اللون الأحمر. لا تتبنى تلك الدوافع الهانئة التي تستأثر بها ضربات فرشاة سريعة على سطح اللوحة.
    إن الرسام غالبا ما يشتبك مع ما ينجز، ولوحته تتشكل من خلال هذا الاشتباك، حيث المبادلة بين الرائي والمرئي، الشاهد والمشهد، بين الماثل والمماثلة، إنه قائم في هذا العالم، لا لكي يصف هذه العلاقة الجدلية بل لتحقيقها.
    الرسام ليس كالكاتب، كائن مغرم بالمجاز، بالتورية، يرثي مكائد البشر ويشيد بأشواق تبحث عن ماضٍ، وحنين وعواطف شاردة، لا يبحث عن فردوس مفقود بل يسعى لاحتلال ارض موعودة.
    إنه صانع لما هو مرئي، محسوس، فهو سليل حرفة، كادح دنيوي، ورسمه "أمر يتعلق بإمساك القوة، الاستيلاء على شيء من الطبيعة – بيكاسو"، أجزم أن أنامله تختلف قليلا.
    إن السيرة الذاتية مهمة بديلة للاعتراف، تكون خلالها الذات في موقع تصف فيه نفسها وتكون موضوعة بحثها الأساسية، أشبه ما تكون بمأساة حياة لآخر تتحدث بضمير المتكلم (أنا)، وتحتشد باعتراف وخيبات وحميمية، فيما الرسام ليس معنيا بهذه الوفرة من الإفصاح عن نفسه، لا يؤمن بحياة مستعارة من الماضي.
    إنه يعيش دائما أفكارا مستنفذة جراء يده وعينه، فهو كائن ينظر مرتين في الحاضر: مرة، حينما يهم ّبالبحث عن شيء يرسمه، وثانية عند النظر طويلا وبصمت إلى ما صنعت يداه، ذلك جوهر حضوره الهنيء ورغبته الوحيدة، إذ يسعى دائما إلى رسم لوحة أخرى، بمثابة حقيقة جميلة، جديدة ومختلفة.
    إن لوحاته تقول بدلا عنه، يكتب "فان كوخ" في رسالة إلى أخيه "في الرسم يوجد شيء غير متناه، لا أستطيع أن أشرح كما ينبغي ما هو بالذات، ولكن هذه الروعة تثير المزاج في الألوان، تمتزج إيقاعات وتبيانات خفية تؤثر في حالها، والتي عند التعبير عنها لا تجد لها لفظا".
    لا يتوق الرسام إلى الكتابة، لأن اللغة ترغب في أن تكون وسيلة خلاص، فيما يتطلب العمل الإبداعي روحا باسلة ترغب للحياة بقدر لا ينضب من البقاء.
    تبدأ الكتابة غالبا من مغادرة الحاضر، وهي تولد من ماض قد تم اكتفاؤه بالوجود، من ذكرى عنه مارست انشغالات سابقة، في السيرة الذاتية هنالك رواية سرد ذات في طريقها إلى الرحيل.
    يقول موريس بلانشو: "أن تكتب ذاتك يعني أنك تتوقف عن الوجود"، تجعلها بعيدة عنك، تفارقها قليلا، فيما الرسامون لا يستطيعون إلا الوجود بشدة داخل ذواتهم، بل وحثها على المضي إلى مغزى آخر في التجربة، لذا هم لا يحتفظون دائما بذاكرة معافاة، لأنها تضررت بفعل صلتهم الحميمة مع اليومي، وانشغالهم في مراودة وجودهم بين أخاديد الواقع.
    من هنا، لا يرغب الرسام في أن يتخلى عن دور المكتشف من أجل دور باحث، يعقد مقارنات، يستعير وثائق، يعاين بديهيات، يتجاوز تردده في قبول يقينه باحتمائه خلف قول الآخرين.
    هو لا يجيد دورا كهذا، إلا دوره الشخصي في أن يكون صانعا قديرا لعوالم خاصة لا تجول فيها سوى تلك السكينة المبدعة، المدعو بمفرده للعيش فيها، وهي حرفته منذ فجر التاريخ.
    يقول أندريه موروا "يعيش البشر في السيرة إلى المدى الذي رآهم فيه الآخرون، ودونوا ملاحظات عن أفعالهمالسيرة لا تؤكد غير ذلك، إلا أن الرسام ليس قصديا، وهو يعلم بالتجربة، إنه عند محاولته إثبات شيء ما، سوف يخفق، الرسامون أشدّ الناس جزعا من الإخفاق، إنهم يؤمنون بعظمة فنهم أكثر من إيمانهم بعظمتهم،
    ولكن ماهي تجربة الرسام؟
    إنها غريزة خفية في الاكتشاف، حدس يتغذى على المصادفة، ومجهول تمنحه التلقائية سمة للمرور، وهو يعمل أيضا وفق مادة خفية، لايمكن لنا أن نستدل عليها بالمعرفة، نطلق عليه تسمية "التعبير"، ذلك الحس المطلق الذي رافق الإنسان منذ البدء، يقول الفنان التعبيري إميل نولده "الغريزة أعظم عشر مرات من المعرفة".
    في السيرة الذاتية، هناك تعميم لحياة، التعقيد ذاته الذي يملكه جميع البشر، تعرّفنا عن بعض حقائق أخرى عن الإنسان، تكشف بسردها عما كان غير مرئي فيه، بينما الرسام كائن ذاتي كأسلوبه، يخضع لضراوة التفرد، وإبقاء وجوده غامضا.
    لطالما أخفت اللوحات رساميها، مسعى غير مرغوب فيه لأن يكشف عن حياته، ويفصح عن مراجعه، لأنها سكنت مادته الجمالية، وهو المعني تماما في إخفائها.
    إن ضرورة الرسام تكمن في تكريس اختلافه، وهو الأمر الذي لا يتحقق عند معرفة التقاء منجزه مع مؤثرات ومشابهات تدل عليه، بل يكون بفعل انفصاله عنها، في أن تحتفظ لوحاته بتلك الحقيقة الوحيدة المتعلقة بوجودها.
    عدم كتابة الرسامين سيرهم الذاتية، شيء لا يتعلق بكونهم تجاهلوا حياتهم الخاصة، أو أن أحداثها لا تحتوي بما يكفي من الاهتمام، أو حتى في اعتبارهم كائنات دون طفولة، و حياة عاطفية شيقة، فالأمر لا يتعلق بالكلام بل بالصمت.
    فالرسام إذ "يعبّر بالكلمات عما ينبغي عليه أن يقول، فإنه لن يرغب عندئذ في أن يبدعغادمير "، فكل اعتراف لا بد من أن ينطوي على قدر من الشك، وكيف للرسام أن يرتاب بفطنة مشاهداته المتواصلة للعالم.
    إن لوحات الرسامين تجارب حقيقية أعدت للمشاهدة والتلقي، محاولة عيش سيرة الرسام ذاته، وهو يحياها داخل اللوحة، فرصة تتيح للجمال بالظهور، وتمارس حسا يدل على وجود مضاعف. وجود لا يسمى تماما، ولكنه يشير إلى دهشة تختبئ في ذاتها، ولا يمكن لها أن تتحول إلى ذكرى.
    الرسامون كائنات لا ترغب في أن نقرأ عن حياتها، بل نشاهدها من خلال اللوحات، إن سيرة الرسام تقيم داخل لوحاته.
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  9. #69 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    الدكتورة
    حياة شرارة
    في
    "نصوص مزدوجة في السيرة والسيرة الذاتية"
    الدكتورة نادية غازي العزاوي

    (1)
    على مدى حلقات متفرقة ومقالات متباعدة زمنيا نشرت د. حياة شرارة نصوصاَ من نمط خاص يمكن نعتها بالنصوص (السيَريّة المزدوجة)، تداخلت فيها على نحو حميم وقائع مجتزأة من حياتها ومن عاشت معهم وواكبتهم وعرفتهم عن كثب، وقد شكل اهتمامها بهذا النمط من الكتابة ومثابرتها عليه حالة خاصة وملحوظة جداً ضمن توجّهات الأدب النسويّ العراقيّ الحديث، وان توزع جهدها في هذا الجانب على أكثر من كتاب ومقالة، نذكر منها – على سبيل التمثيل لا الحصر:
    أ – صفحات من حياة نازك الملائكة، دار الريس، بيروت 1994.
    ب – مقدمتها لكتاب والدها (محمد شرارة) الذي جمعته وحققته: (المتنبي بين البطولة والاغتراب)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1981.
    ج – (تلك أيام خلت)، ثلاث حلقات من ذكرياتها، مجلة الأقلام: ع7/1987، ع 1/ 1988، ع 9/ 1989.
    د – ندوة الشعر في بغداد الأربعينيات، ملحق جريدة النهار، عدد 299، تشرين الثاني 1997 (1).
    ومن المفارقة أن لا يمهلها الزمن – الذي ظلت تخشى جبروته ومصائبه – الوقت الكافي لاتمام (مشروعها/ حلمها) في كتابة سيرة ذاتية كاملة.

    ويفترض هذا الجنس من الكتابة الابداعيّة في مَن يتصدى له توافر نزعتين متلاحمتين لديه على مستوييْ الوعي و المعالجة أو المنظور والأداء: نزعة تأريخية تؤمن بأنّ استرجاع الوقائع الوسيلة المثلى لتقييدها وانقاذها من الضياع والشتات والنسيان، ونزعة ابداعية تتحرّى جماليات اللغة وطرائق السرد التي تنقل من خلالها تلك الوقائع.
    وقد تهيّأ لها هذا كما تهيّأت لها عوامل نجاح للتميّز في هذا المجال من الكتابة: فقد اختزنت حياتها الشخصية وواقع اسرتها خاصة عناصر اثراء وفرت لها مادة ممتازة للاستذكار، بدءاً من الأسرة اللبنانيّة الأصل التي سكنت العراق واحبّته وتجنسّت بجنسيته، وولادتها في (النجف)، والتجربة السياسية: انتماءً واعتقالاً ونفياً ومطاردة بشخص والدها وعمها، ثم انخراطها المبكر هي نفسها في صفوف الحزب الشيوعي العراقي وتولّيها أعباء ومسؤوليات التنظيم و التحامها بالأحداث السياسية ((وهي ما زالت بريعان الصّبا، مندفعة بعاطفة جارفة لمحاربة التعسّف والظلم ومتطلعة الى حرية الانسان وتحطيم قيوده)) حتى إنها ((رُشّحت ولم تبلغ السابعة عشرة من العمر لحضور مؤتمر السلام الذي عقد في براغ عام 1952)) (2).
    وأتاح لها بيت العائلة منذ نعومة أظفارها فرصة تاريخية ثمينة للقاء شعراء، وكتاب، ومثقفين، وسياسين كانوا يتوافدون على دارهم في مجالس ادبية خاصة: (السياب، نازك الملائكة، بلند الحيدري، الجواهري، لميعة عباس عمارة، أكرم الوتري، آل الملائكة، ناجي جواد الساعاتي، عزيز جعفر أبو التمن، كاظم السماوي، حسين مروة، حسين مردان........الخ) (3)، كما وضعتها تجربة الدراسة في مصر وجهاً لوجه أمام أعلام قرأت لهم فكان لقاؤها المباشر بهم هناك وما تكوّن لديها من انطباعات عنهم مادة لبعض تلك الذكريات: (طه حسين، رشاد رشدي، سهير القلماويّ........الخ) (4).
    ثم دراستها في موسكو لمدة ست سنوات، وقد عزّز ذلك ثقافتها وهي التي عُرفت بولع مبكر ونهم في القراءة مع ما اتّصفت به شخصياً من دقة المراقبة والتأمّل وحافظة ممتازة سهلت لذاكرتها اختزان الملامح والأحداث والوقائع مع نزعة توثيقية لتقييد النصوص والأخبار إلى حدّ التنقير، والتدقيق، والهوس أحياناً، كتبت عنها أختها بلقيس: ((كانت حياة تجلس دائماً في زاوية من غرفة الضيوف وبين يديها الصغيرتين دفتر تسجّل فيه ما تستمع إليه في تلك اللقاءات الشعرية من قصائد جديدة..... حفظت حياة معظم شعر بدر، ولميعة، ونازك، وكانت تترنّم بقصائدهم وهي لم تبلغ بعد سنّ الثانية عشرة))(5)، وتصف هي نفسها هذه المرحلة من تأسيسها الثقافي قائلة: ((وأحصل أخيراً على شهادة الابتدائية، ولم تكن الشهادة بحدّ ذاتها تهمّني ألبتة ولم تكن الدراسة تروق لي عموماً لأنّ موادها أشبه بالقيود التي تغلّ حيوية فكري وأمانيه وتحصر المعرفة ضمن أطر وأسيجة....... واذا بي لا أقبل فقط على قراءة تلك الكتب التي راودت ذهني بل كنت أنكبّ عليها انكباباً واعتكف عليها اعتكاف الناسك في صومعته.............. تملؤني نشوة روحية غامرة)) (6). ثمة مؤثرات أخرى أغرتها بهذا الضرب الساحر من الكتابة أعني تحديدا كتاب (الأيام) لطه حسين الذي مثّل محطة مهمة في حياتها فقد قرأته وانفعلت به كثيراً بما فتح أمامها من عوالم انسانية وحكايات غنية متشابكة، وبسحر لغته العذبة، وبتجسيده عظمة الإرادة الانسانية ولذلك ظلت تذكره باحتفاء واضح: ((وأقرأ (الأيام) وتنحفر صورته بخطوط عميقة في ذهني أشبه بالصورة المنحوتة بمنقاش....... ويمثل أمامي شخص طه حسين، فلا أرى فيه مجرد أديب عظيم، بل أراه مارداً عملاقاً لا يختلف في قوته عن هرقل أو شمشون الجبار))(7)، فهل عمق التأثير الذي وصفته بـ (الحفر) في وعيها ولا وعيها، والانطباع الضخم المتولد من قراءة هذا الكتاب كانا وراء تسلل لفظة (الأيام) إلى عنوانات نصوصها السيريّة ((تلك أيام خلت) و (إذا الأيام أغسقت)؟ ربّما.
    * * *
    (2)
    فيما يتعلق بـ(البواعث) لا تكشف نصوصها هنا عن الباعث الحقيقي وراء مشروعها في كتابة السيرة والسيرة الذاتية، بل تكتفي بالتصريح بالمؤثرات الخارجية المباشرة التي تستفزّ الذاكرة وتوجعها في مواقف معينة فتبدأ بالانثيال والسرد، مهما تنوعّت طبيعة هذه المستفزات: (لقطة تلفزيونية على وجه قديم منسيّ)، (أغنية حزينة توقظ المواجع)، (أطلال مكان قديم)........الخ، ويتم الافصاح عن هذه المؤثرات عادة في مداخل تلك النصوص.
    ولكنّ الباعث الداخلي الحقيقي الذي يشدّها الى الكتابة السيريّة – التي تبلورت لديها اتجاهاً واضحاً ملحاً مع منتصف الثمانينيات من القرن العشرين حيث الانتكاسات السياسية والموت الذي اختطف والدتها ووالدها وزوجها ليتركها فريسة الوحدة، والأهم من هذا كله الموت الجماعي، فالوطن بكل تأريخه وجلاله وأجياله يسقط صريعاً في محارق الحروب – اقول: يظلّ الباعث الداخلي مسكوتاً عنه في داخل نصوصها، ويتم الكشف عنه خارجها وبخاصة في رسائلها الشخصية اذ تضع يدها على جمرة المشروع: فالزمن يسحق ويفني الأشياء والقيم والناس والذاكرة، تقاوم الفناء باحياء الماضي السعيد المجلل بالنجاحات والمسرات:
    تقول في رسالة لأختها:
    ((أحبّ أن أكتب ذكرياتي عن الأحداث التي مرّت بنا ففيها أشياء تستحقّ التسجيل وأصبحت تاريخاً من ذكريات الماضي، لا بسبب مرور الزمن عليها فقط وانما من جراء التغيرات الكبيرة في القيم والمفاهيم التي نعيشها بحيث أصبحنا جيلاً له مكوّناته الخصوصية....... جيلاً له تفكيره المتميز ونظرته الخاصة وأشعر بأننا أفضل من الجيل الحالي والناشىء))(ثامنا).
    * * *

    (3)
    المكان بتفصيلاته وجغرافيته حاضر بقوة في نصوصها السيريّة، وغالباً ما يكون عندها رديفاً للحظة انبجاس الذكرى، بضربيْه: المكان الأليف الدافىء وتمثله أمكنة الماضي السعيد ولاسيما (بيت العائلة)، والمكان الغريب الموحش وتمثله بشكل متكرّر أمكنة الحاضر بما تنوء به من مظاهر الشيخوخة والتشويه أو الزوال – وغالباً ما تصف امكنة الماضي بأنها غدت أثراً بعد عين – مّما يضاعف من احساسها بالغربة والاغتراب: ((مررت بالثانوية المركزية للبنات التي تقع اليوم في شارع الجمهورية، انني لا أكاد أصّدق أنها كانت دار المعلمات سابقاً........ يغشاني الاستغراب.......... كانت ذات باحة فسيحة وبناء واسع تختلف عمّا يحيطها من دور ضيّقة صغيرة، وتختلف أيضاً وجوه الطالبات وزيهنّ عن اللواتي أراهنّ اليوم على رصيف الشارع الواسع........ تلفني كآبة مضنية وتعتصر نفسي لتغيّر وتبدّل كل ما كان حميماً اليّ وأمسى تاريخا غابراً ليس الاّ......... انّها لعبة السنين........ فأنا أحمل على كتفي خمسين عاماً بقضّها وقضيضها))(9).
    ولئن كانت الحياة لعبة (زمان) ولعبة (مكان) فانّ سرد الذاكرة هو المصل المضاد لأنّه يواجه اللعب العبثيّ بلعب عبثي مغاير: بالايهام بامكانية ايقاف تدفق الحاضر وتجميد معطياته لصالح استعادة الماضي حيّاً مرة ثانية بكل محمولاته: شخصيات عزيزة (غالباً ما تكون رحلت عن دنيانا)، أحداث سعيدة، أمكنة محبّبة........الخ.
    انّ استرجاع الذاكرة لا يستند الى عودة موضوعية حياديّة للوقائع، ولكنه ينطلق من لحظة انتقائية محفوفة عندها بمشاعر جياشة من الغبطة، كانت تترجمها – غالباً – بعبارات وصفيّة دالّة مصحوبة بطقوس ورؤىً سحرية واسطوريّة كقولها: ((وطارت بي الذكريات كما يطير بساط الريح الى دارنا.......... في سبع قصور في الكرادة الشرقية))(10).
    وتكرر هذا في نص ثان: ((وطفت على وجهي ابتسامة عفوية فرحة فقد حملني بساط الزمن ورجع بي الى السنين الخوالي والى تلك المنازل التي عفا عليها الدهر وعبث بملامحها وغير معالمها........... فاذا بي اعود الى شارع ابي قلام حيث دار اسرة الملائكة والى الرستمية حيث سكنت عائلتنا))(11)، وفي نصّ آخر: ((وها أنا ذي أجدني وقد عادت بي المخيلة الى بداية الدرب الطويل وكأنها طير من طيور الحكايات الأسطورية أو دليل من أدلاّئها الخرافيين الذين ينهبون فيافي الزمن ويتنقلون بخفة حتى يوصلون المريد الى مبتغاه، نعم ما أشبهها بهدهد سليمان الذي حمل كتاباً منه إلى ملكة سبأ، وبالجنّ الذين أتوا بعرشها الى قصره قبل أن تصل إليه))(12).
    إنه بالضبط ما يحدث لها هنا فسحر الذاكرة يحقق المعجزة بايقاف فعل الزمن الماحق واختراقه باجتلاب مشهد عزيز مرّ أو وجه أليف مضى أو مكان محبّب دُرس.
    * * *
    (4)
    ومن الملامح التي تميّزت بها نصوصها أنّها تنطلق من نقطة معينة تنبثق عنها/ وتلتم عندها ثانيةً الخيوط أعني بذلك (بيت العائلة) وفي الذروة منه (الأب)، ولكنه هنا مختلف عن الشخصية التقليدية السلطوية المعتادة للأب الشرقي، لقد ذكرت مراراً ما يتحلى به من الديمقراطية في التعامل والأريحيّة الأخلاقية والفكرية في طباعه وسلوكه مّما يلقي ضوءاً على تعلّقها الحميم به، ولذلك فحضوره دائم يتخلل أغلب استذكاراتها: ((فأتذكر نفسي عندما كنت صبية........ أستمع بلهفة إلى نغمات الشعر، وهي تأخذ عليّ كلّ سبيل، وتترع روحي بجمالها...... وأسمع الشعر ملحّناً ببعض التلحين في انشاد والدي له حين يكون جالساً في البيت))(13)، وحين استظهرت وهي ما زالت صغيرة أمام نازك الملائكة قصيدة من ديوان نزار قباني (طفولة *********) استغربت الأخيرة ذلك وسألتها عمّن سمح لها بقراءة القصيدة فباغتتها بالاجابة: عمي، ثم عقبت على الحادثة بالقول: ((وفي الحقيقة لا والدي ولا عمي – الذي يعيش معنا – يؤمنان بوجود محرمات فكرية ولا يخطر لهما على بال أن يمنعا أحداً منّا أن يقرأ ما يحلوله))(14).
    وتكشف أختها عن جوانب أخرى أعمق من الصلة الروحية الوثيقة بين حياة وابيها تمتد الى موقفه بعد ولادتها اذ كانت البنت الثالثة بعد ابنتين مّما أثار امتعاض الآخرين الذين نعتوها بـ(ثالثة الأثافي) الاّ والدها الذي ((كان يؤمن بالمساواة التامة بين البنين والبنات ولم يدع مجالاً لسيطرة عقول مؤمنة بمفاهيم قروسطية من التدخّل في توجيه أبنائه وبناته وتربيتهم........ نشأت حياة وترعرعت في هذا الجو الأدبي وأظهرت موهبة خاصة عندما كانت تقارع والدي بحفظها دواوين شعر كاملة أثناء المساجلة الشعرية التي كانت تشترك بها العائلة))(15).
    وتتطرف في ذكرياتها الى دور والدها في الجلسات الأدبية والسياسية التي كانت تعقد في دارهم: ((ان والدي محمد شرارة كان المضيّف والراعي والمشجع لتلك الندوة بشخصيته القوية اللبقة البشوش وروحه الاجتماعية ونقداته الأدبية الذكيّة وحديثه الممتع وحفاوته بالوافدين وحبّه للضيافة))(16).
    وحين يستوقفها بيت من قصيدة السياب (ستار) فيه ايماءات لعلاقته العاطفية بلميعة عباس عمارة:
    (والباب توصده وراءك في الظلام يدا صديق)
    لا تترك الفرصة تمرّ من غير تعليق: ((كانت هاتان اليدان يدي والدي الذي يرافقهما عادة كما يصحب غيرهم من الضيوف الى باب الدار ويودعهما ثم يغلق الباب))(17).
    ولنصوصها قيمة تاريخية بما تنطوي عليه من ملاحظات دقيقة لأعلام اتصلت بهم ورصدت عاداتهم ومظاهر سلوكهم المختلفة وما خلفته طبيعة شخصياتهم من انطباعات تخلفها شخصياتهم لمن راقبهم عن كثب، تقول عن انشاد السياب لشعره وقد استمعت اليه مراراً: ((إنّ أعصاب يديه المشدودة والتقلصات والانفعالات في عضلات وجهه وصوته توحي إلينا كلها أنّه يعيش التوتر الفكريّ والعاطفيّ الذي تخلقه القصيدة وهي في سبيلها لترى النور وتظهر الى الوجود....... عندما يقرأ القصيدة يظهر كل ما هو جميل وقوي فيها ويذوب الصوت الضعيف من الأبيات في القوي منها ويحوّلها في الختام الى سمفونيّة منسجمة الأنغام لا وجود للأبيات النافرة أو الواهنة فيها))(ثمانية عشر).
    وسجلت ملاحظات دقيقة عن طقوس نازك أثناء الآستماع للموسيقى الكلاسيكية وهي: ((تنصت اليها مستغرقة فيها ذاهلة عن نفسها وعمّا حولها وقد امتزجت بها كلّ مشاعرها وأحاسيسها فهي أشبه بالعابد الذي يندمج في صلاته فتنسيه نفسه وكل ما يحيط به.......... وكانت أحياناً تغلق عينيها لتستطيع حواسها أن تعبّ المزيد من تلك الألحان وتنغمس فيها، وما كان يجوز لأحد أن يتكلم أثناء ذلك)) (19).
    * * *
    ولئن شهد مشروعها في سنيها الاخيرة انعطافا نحو كتابة القصة القصيرة وبعض التجارب الروائية فانها لم تتوقف فعلياً عن سرود الذاكرة فقد استلهمت فيها ايضا مجريات حياتها الشخصية والعائلية (20)، وكأنها وجدت في عوالم القصة بديلاً عن تلك الاسترجاعات المباشرة، وان لم تغادر فعليا منطقة الذاكرة لقد ظلت الذاكرة عندها التعويذة التي تواجه بها القهر والحصار الاقتصادي والفكريّ والسياسيّ والوحدة والحرمان التي أطبقت عليها جميعها، الى أن دُبر بليلٍ مصرعها التراجيدي الغامض.
    الهوامش
    (1) تنظر: مقدمة روايتها (إذا الأيام اغسقت)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت 2000: ص 74 – 77.
    (2) م. ن: 21.
    (3) تنظر: مجلة الأقلام: 9، 1989: 99.
    (4) ينظر: م. ن: 1، 1988: 95.
    (5) مقدمة (اذا الايام اغسقت): 13، 15.
    (6) تنظر: مجلة الاقلام: 1، 1988: 92.
    (7) م. ن: العدد نفسه: 92.
    (ثامنا) تنظر: مقدمة (اذا الايام اغسقت): 47.
    (9) مجلة الاقلام: 7، 1987: 61.
    (10) م. ن: 1، 1989: 98.
    (11) م. ن: 7، 1987: 58.
    (12) م. ن: 1، 1988: 91.
    (13) م. ن: 7، 1987: 58.
    (14) م. ن: العدد نفسه: 60.
    (15) مقدمة اذا الايام اغسقت: 10، 12.
    (16) (17) مجلة الاقلام: 9، 1989: 98،99، 101.
    (17) مقدمة اذا الايام اغسقت: 41.
    (ثمانية عشر)-(19) مجلة الاقلام: 7، 1989: 58، 59.
    (20) نشرت بعض القصص في حياتها وبعد رحيلها، وما زال قسم منها مخطوطاً، تنظر: مقدمة (اذا الايام اغسقت): 60، 62، 75
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  10. #70 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36





    فصول من حياتي
    الوقائع والأفكار
    لتيسير شيخ الأرض
    منشورات اتحاد الكتاب العرب سنة 1997م
    لتحميل الكتاب على الرابط التالي:
    فصول من حياتي الوقائع والأفكار


    د. أبو شامة المغربي

    kalimates@maktoob.com

    رد مع اقتباس  
     

  11. #71 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    رحلتي الفكرية في البذور والجذور و الثمار.
    عبد الوهاب المسيري
    أصدرت دار الشروق سنة 2006م طبعة جديدة من السيرة الممتعة للمفكر الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري،"رحلتي الفكرية في البذور والجذور و الثمار" ويرصد تحولاته الفردية فى الفكر والمنهج ويؤرخ، فى الوقت نفسه، لجيل بأكمله، أو لقطاع منه. فتحولات صاحب هذه السيرة ليست بأى حال منبتة الصلة بما كان يحدث حوله.
    ومن هذا المنظور، تصبح أحداث حياة المؤلف لا أهمية لها فى حد ذاتها، وإنما تكمن أهميتها في مدى ما تلقيه من ضوء على تطوره الفكرى، وقد فهم المؤلف كثيرًا من أحداث حياته الخاصة (الذاتية) من خلال نفس الموضوعات الأساسية الكامنة والمقولات التحليلية التى استخدمها فى دراساته وأبحاثه (الموضوعية)، وليس العكس.

    ولكن هذه الرحلة الفكرية، مع هذا، هي رحلة المؤلف الفردية، فهو الذى تفاعل مع ما حوله من تجارب منذ أن وُلد فى دمنهور، ونشأ فيها إلى أن انتقل إلى الإسكندرية، ومنها إلى نيويورك، ثم أخيرًا إلى القاهرة حيث استقر به المقام.
    فإذا كانت هذه الرحلة الفكرية، سيرة غير ذاتية، فهى أيضًا سيرة غير موضوعية، سيرة إنسان يلتقي فى فضاء حياته الخاص بالعام، ولهذا فهو لا يذكر القضايا الفكرية المجردة وحسب، وإنما يشفعها دائمًا بأحداث من حياته أو اقتباسات من كتاباته تبين كيف ترجمت القضية الفكرية (العامة) نفسها إلى أحداث ووقائع محددة فى حياته الشخصية (الخاصة) وذلك بأسلوب المؤلف السلس والعميق والساخر، وهذه الطبعة الجديدة تتميز بعض الإضافات وأهمهما ملحق صور كبير يتناول رحلة الؤلف ومحطات حياته المختلفة.
    د. أبو شامة المغربي


    رد مع اقتباس  
     

  12. #72 رد : السيرة الذاتية بين الشعر والنثر 
    السندباد الصورة الرمزية أبو شامة المغربي
    تاريخ التسجيل
    Feb 2006
    الدولة
    المملكة المغربية
    المشاركات
    16,955
    معدل تقييم المستوى
    36
    السيرة الذاتية في الأدب العربي
    (فدوى طوقان وجبرا إبراهيم جبرا وإحسان عباس نموذجاً)
    المؤلف:

    عدد الأجزاء: 1

    سنة النشر: 2002
    الطبعة رقم: 1
    الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
    الصفحات: 384
    القياس: 24cm x 17cm
    هذه دراسة جادة، سعت لتأصيل فن السيرة في أدبنا الحديث، الذي لم يكن له شأن كبير في أدبنا القديم، وتكمن أهميتها في أنها جمعت بين النظرية والتطبيق، فتحدثت - باستقصاء - عن طبيعة الفن، وظروف نشأته، والعوامل التي أثرت فيه، ومدى صلته بالفنون النثرية الأخرى، وقد مثل هذا الإطار النظري للدراسة، تبعه الجانب التطبيقي الذي انصب على ثلاثة نماذج في السيرة، لثلاثة أعلام هم:

    جبرا إبراهيم جبرا، وفدوى طوقان، وإحسان عباس، الذين اتفقوا في الأصول بيئة، ونشأة وثقافة في فلسطين، واختلفوا في النزعات والميول ففدوى طوقان - الشاعرة الأنثى - راوحت في اعترافاتها بين الجرأة والتردد في آن، وجبرا روائي محلق في عالم الخيال بأجنحة من الواقع،
    وإحسان عباس ناقد ذو منهج صارم.
    لقد كان هؤلاء الثلاثة - يتباين ميولهم، وتعدد نزعاتهم التي انعكست على سيرة كل منهم - نماذج دالة على كتابة السيرة في أدبنا الحديث.

    لقد أحسنت تهاني شاكر في إختيار الموضوع، ووفقت في تناوله: منهجاً، وعرضاً وأسلوباً، إن دراستها جديرة بالإهتمام والتقدير بين الدراسات الأدبية المعاصرة.

    د. أبو شامة المغربي

    التعديل الأخير تم بواسطة أبو شامة المغربي ; 10/01/2007 الساعة 08:24 AM

    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. ما هي السيرة الذاتية لـ ( أ.د محمود حسني مغالسة)
    بواسطة رائد المعاضيدي في المنتدى سؤال
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 02/08/2010, 07:45 PM
  2. لمحات في أدب السيرة الذاتية
    بواسطة د.ألق الماضي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 25/03/2008, 05:28 PM
  3. خطاب السيرة الذاتية فى نوار عين الصقر
    بواسطة د. حسين علي محمد في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 28/02/2008, 05:10 AM
  4. السيرة الذاتية بين الشعر والنثر
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 45
    آخر مشاركة: 12/04/2006, 11:14 AM
  5. وظائف أدب السيرة الذاتية الإسلامية الحديثة
    بواسطة أبو شامة المغربي في المنتدى قضايا أدبية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 16/03/2006, 10:25 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •