النقد الأدبي العربي القديم
**********
(الحلقة الأولى)

(... في أواخر العصر الجاهلي كثرت أسواق العرب التي يجتمع فيها الناس من قبائل عدة، وكثرت المجالس الأدبية التي يتذاكرون فيها الشعر، وكثر تلاقي الشعراء بأفنية الملول في الحيرة وغسان، فجعل بعضهم ينقد بعضا، وهذه الأحاديث، والأحكام، والمآخذ هي نواة النقد العربي الأول، نواة النقد التي عرفت، والتي قيلت في شعر معروف.
من ذلك ما نجده في عكاظ عند النابغة الذبياني، وفي يثرب حين دخلها النابغة فأسمعوه غناء ما كان في شعره من إقواء، وفي مكة حين أثنت قريش عن علقمة الفحل، ومن ذلك ما يعزى إلى طرفة من أنه عاب على المتلمس نعته البعير بنعوت النياق، وما أخذه الناس على المهلهل بن ربيعة من أنه كان يبالغ في القول ويتكثر.
كانت عكاظ سوقا تجارية...وكانت مجمعا لقبائل العرب، يفدون عليها للصلح أو التعاهد، أو التفاخر..وكانت موعدا للخطباء والدعاة، وكانت فوق ذلك كله بيئة من بيئات النقد الأدبي، يلتقي الشعراء فيها كل عام، وذائع مستفيض في كتب الأدب أن النابغة الذبياني كانت تضرب له فيها قبة حمراء من جلد، فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها...
ويقول حماد الراوية: إن العرب كانت تعرض شعرها على قريش، فما قبلوه منها كان مقبولا، وما ردوه منها كان مردودا...وكثيرا ما كانت العرب تلقب الشعراء، وتلقب المدائح تنويها بها وإعظاما لها، وإيمانا بأنها جيدة فريدة، لقبوا النمر بن تولب بالكيس لحسن شعره، وسموا طفيل الفنوي: طفيل الخيل لشدة وصفه إياها، ودعوا قصيدة سويد بن أبي كاهل..التميمية.
هذه الشواهد تدل على وجود صور من صور النقد الأدبي في العصر الجاهلي، على أن هناك ما لعله أعمق في تلك الشواهد، وأبلغ في الدلالة على وجود هذا النقد، فقد نستطيع أن نقول: إن الشعر في أواخر العصر الجاهلي كاد يكون فنا يدرس ويتلقى، وتوجد فيه مذاهب أدبية مختلفة...فمن الشعراء الجاهليين من كان له أساتذة ومرشدون يأخذ عنهم رسوم الشعر، ويتعلم بعض أصوله، وفي هذا التلقي شيء من الهداية والتوجيه إلى المثل الأعلى...
وظاهر أن هذا النقد الناشئ الذي ينقد أدبا حديث العهد بالحياة كان يتجه إلى الصياغة والمعاني، ويعرض لها من ناحية الصحة، ومن ناحية الصقل والانسجام، كما توحي به السليقة العربية...
كان الشعر عند نقدته من الجاهليين صياغة وفكرة، كان نظما محكما أو غير محكم، ومعنى مقبولا أو غير مقبول...
فالصياغة والمعاني هي ما ينقد في الشعر في العصر الجاهلي، وهي أهم ما يتصدى له النقد الأدبي في العصور الأخرى، بل إن الشعراء أنفسهم حين كانوا يتمدحون بأشعارهم، لا يجدون ما يصفونها به إلا جودة السبك، وقوة المعنى...
وفي كل قطر لم يثنوا على كلامهم إلا بأمور تتصل بالصياغة والمعاني، فإن لم يتعرض الجاهلي في النقد للشعر تعرض للشاعر، فآثره على غيره، أو وازنه بغيره من الشعراء...هذان هما الميدانان اللذان جال فيهما النقد جولات خفيفة في العصر الجاهلي: الحكم على الشعر والتنويه بمكانة الشعراء، فأما غير ذلك من البحث في طريقة الشاعر، أو مذهبه الأدبي، أو صلة شعره بالحياة الاجتماعية، فذلك ما لم يعرفه العصر الجاهلي، وغاية نقدهم أن يأخذوا الكلام منقطعا عن كل مؤثر، بل منقطعا عن بقية شعر الشاعر ويتذوقونه وفاقا لسليقتهم، ثم يفصحون عن رأيهم...)

المصدر:(تاريخ النقد الأدبي عند العرب..من العصر الجاهلي إلى القرن الرابع الهجري)/ طه أحمد إبراهيم- دار الحكمة، بيروت-لبنان، الصفحات: 11-17.


د. أبو شامة المغربي

kalimates@maktoob.com