هل العلمانية وحدها هي الحل؟
صبحي غندور*

لم تكن العلمانية في نشأتها الأساسية بأوروبا مذهباً فكرياً مضاداً للدين بل يمكن اعتبار العلمانية كمذهب ديني دخل على المسيحية ونشأ معها ولم يدخل التجارب الإنسانية إلا بها.
فقد ارتبطت نشأة العلمانية بصراع بين مؤسسة دينية كاثوليكية أوروبية احتكرت كل شؤون الدين والدنيا، وبين مؤسسات غير دينية نامية رافقت نشوء الدول والقوميات في أوروبا.
ولم تكن العلمانية الأوروبية دعوة إلى الكفر بالدين، بل كانت ركناً في نظام شامل متكامل للحياة الدنيا، وكانت محصّلة عوامل سادت في أوروبا نحو 7 قرون امتزجت فيها الثورة على استبداد الكنيسة أيام الأمراء والإقطاع، ثم على تدخّل الكنيسة أيام الثورة الصناعية، وانتهت إلى الجمع بين العلمانية تجاه الدين، وبين الفكر الليبرالي الرأسمالي تجاه الدولة والاقتصاد.
وتعبير العلمانية لا يعني مطلقاً الارتباط مع كلمة العلم، ففي المنجد اللغوي العربي، نجد أن أساس التعبير هو "العامي غير الإكليركي" الذي قد يكون فلاحاً أو طبيباً، وقد يكون أمّياً أو متعلماً.
لقد كان جوهر "حركة التنوير الأوروبي" هو الثقة في مقدرة العقل على إدراك الحقيقة.. وهو جوهر نثرت بذوره في أوروبا جماعة من الدارسين يسمونها (المدرسة الرشدية) نسبة إلى الفيلسوف العربي المسلم ابن رشد (توفي 1198).
وكانت العلمانية الأوروبية تعني عزل الدولة عن سلطة الكنيسة وليس عن الدين، وكانت تعني استمرارية لحركة التنوير والنهضة (التي بدأها مارتن لوثر في أوائل القرن 16) وكانت تعني استخدام العقل وعدم القبول بقدسية كل ما تقوم به الكنيسة.
ثم ظهرت في القرن العشرين الأنظمة العلمانية اللادينية وهي التي ارتبطت بالفلسفة الماركسية - اللينينية والتي اعتبرت أن "الدين هو أفيون الشعوب".
وبينما ارتبطت العلمانية الغربية، الفاصلة للدين عن الدولة وغير الرافضة للدين المسيحي، بأنظمة حكم ذات نمط ديمقراطي في الداخل وتوجّه استعماري للشعوب الأخرى، وعلى أساس مصالح اقتصادية فرضتها الثورة الصناعية في أوروبا وحاجتها لأسواق ولمصادر خام.. فإن العلمانية الشيوعية، كانت ذات سمة ديكتاتورية وفاصلة للدين عن المجتمع (وليس عن الدولة فقط) وكانت رافضة لكلِّ الأديان، وارتبطت بحركات وأحزاب ذات توجّهات معادية للدين والقومية معاً.
وقد انتشرت طروحات العلمانية ببعض البلاد العربية في ظل الظروف التالية:
(1) الدخول الثقافي الأوروبي للمنطقة العربية بواسطة إرساليات تبشيرية أو حماية لأقليات دينية رغم وجود العلمانية في أوروبا!.
(2) المواجهة الغربية "العلمانية" مع الدولة العثمانية والسعي للسيطرة على المنطقة بعدما فشلت الحملات الأوروبية باسم (الحملات الصليبية) حينما كان "رجل الدين" في أوروبا هو الحاكم.
(3) محاولة الاحتواء الثقافي الغربي للعرب، من خلال التشجيع على التغريب الثقافي والدعوة للابتعاد عن الدين باسم العلمانية.
(4) تأسيس الأحزاب الشيوعية العربية ذات الطبيعة اللادينية.

فقد ظهرت حركات علمانية عربية في النصف الأول من القرن العشرين إمَّا من خلفية ثقافية غربية تخدم طروحات الغرب في المنطقة العربية وتسعى لإبعاد العرب عن حضارتهم الإسلامية وعن عروبتهم معاً (كمحاولة الفرنسة للجزائر على سبيل المثال).. أو من خلفية ثقافية شيوعية معادية للدين والقومية عموماً.
أيضاً، فقد جرى طرح العلمانية في المنطقة العربية من خلال بعض الأقليات الدينية التي كانت تخاف على مصيرها في بلدان ذات أغلبية دينية مختلفة.
ومن الضروري التفريق بين دعاة العلمانية وعدم وضعهم جميعاً في سلة واحدة، فهناك علمانيون يؤكدون على دور الدين في المجتمع ويدعون للمجتمع المدني ولحقوق المواطنة للجميع دون ابتعاد عن الدين أو قيم الأديان.
لكن المنطقة العربية هي مهد كل الرسالات السماوية والأنبياء ومواقع الحج الديني، وبالتالي فإن تغييب أو تهميش دور الدين فيها هو مسألة مستحيلة عملياً.
إن فصل الدين عن المجتمع لم يحصل في أيّ أمة إلا بفعل القوة (مثال نموذج تجارب الأنظمة الشيوعية). أما فصل الدين عن الدولة في الأنظمة الغربية فكان نسبياً، فهو في فرنسا فصل كامل في السلوك السياسي والشخصي للحاكمين.. وهو في أميركا فصل فقط بالسلوك السياسي.. وهو يختلف في بريطانيا عن النموذجين الفرنسي والأميركي.. وهناك في إيطاليا، وبعض دول أوروبا الأخرى، أحزاب سياسية قائمة على أساس ديني (الحزب الديمقراطي المسيحي).
أما في يوغوسلافيا فلم ينجح الحكم العلماني الشيوعي (لأكثر من نصف قرن) في إزالة العصبيات الدينية حتى بين الكاثوليك والأرثوذكس!.
فهل العلمانية هي وحدها الحل لمشاكل المجتمع العربي؟



إن المجتمع العربي بحاجة إلى إصلاحات فكرية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية.. وهذه الإصلاحات لا تتناقض مع القيم الدينية ولا تتعارض مع المفاهيم الإنسانية المعاصرة...
فالعلمانية ليست هي العصا السحرية التي بنت أوروبا في العصر الحديث..
ولم تكفِ العلمانية والديمقراطية وحدهما، في كل بلد أوروبي، لتحقيق التقدم والبناء الاقتصادي والاجتماعي لذلك كانت الحاجة إلى الاتحاد والتكامل مع الآخرين الأوروبيين (الاتحاد الأوروبي). كذلك الأمر في النموذج الأميركي، حيث تعجز أيّة ولاية أميركية عن بناء تقدمها الاقتصادي والاجتماعي، بمعزل عن الولايات الأخرى.
لقد شهدت بعض البلاد العربية والإسلامية تجارب لأنظمة حكم علمانية لكن بمعزل عن الديمقراطية السياسية في الحكم والعدالة في المجتمع، فلم تفلح هذه التجارب في حل مشاكل دولها كنظام بورقيبة في تونس، والنظام العلماني لشاه إيران الذي أسقطته ثورة الخميني الإسلامية، وتجربة الحكم الشيوعي في عدن الذي انتهى بصراعات قبائلية على الحكم، ونظام "جبهة التحرير" العلمانية في الجزائر الذي أدى إلى تصاعد التيار الإسلامي، كما لم تمنع علمانية تركيا من بروز التيار الإسلامي المتنامي ووصوله للحكم، إضافة للتجارب الفاشلة لأنظمة حزب البعث منذ مطلع الستينات.
وهذه التجارب لم تحلّ مشكلة غياب الديمقراطية.. ولم تحل مشكلة الأقليات.. ولم تحل المشاكل الاقتصادية.. ولم تحل مشكلة الحكم بالوراثة أو بالقوة العسكرية.. ولم تحقق التقدم والعدالة الاجتماعية لشعوبها.
إن الطرح الفكري السليم يستوجب أن يكون هدفه معالجة مشكلة ما قائمة في الواقع..
إن الفصل بين الدين والمجتمع هي مسألة غير مطروحة عربياً وغير ممكنة أصلاً.
إن معالجة مشاكل العنف باسم الدين ليس حلها بالابتعاد عن الدين بدلالة ظهور حركات العنف في أميركا وأوروبا على أساس ديني رغم وجود الأنظمة العلمانية.
إن المجتمع العربي بحاجة لطرح "العقلانية الدينية" في المجال الفكري والثقافي، والانطلاق من العقل لفهم النصوص، واعتماد المرجعية الشعبية في الحكم والتشريع من خلال المؤسسات التشريعية المنتخبة، وأيضاً بإلغاء الطائفية السياسية في بعض أنظمة الحكم (كالحالة اللبنانية مثلاً والتي تتكرر الآن في العراق)، أي عدم اشتراط التبعية لدين أو مذهب أو عرق في أي موقع من مواقع الحكم ووظائف الدولة، مع اعتماد النهج الديمقراطي في مؤسسات الحكم وفي الوصول إليها، وبتحقيق المساواة الكاملة بين المواطنين (بما في ذلك المساواة بين المرأة والرجل) في الحقوق والواجبات.
إن تحقيق النهضة العربية الشاملة يتطلب الانطلاق من القيم والمبادئ الدينية والتأكيد على الهوية العروبية الحضارية وعلى ضرورة التكامل العربي الشامل على قاعدة احترام الخصوصيات الوطنية لكل بلد عربي.. لكن كل ذلك من أجل الوصول لمجتمع يعتمد النهج الديمقراطي في الحكم وتأكيد الفصل بين السلطات، وبناء المجتمع على أساس من العدل وتكافؤ الفرص..

* مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن