في النيوليبرالية (7): الآفاق المسدودة (أ)

زياد حافظ*

*كاتب اقتصادي سياسي والأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

عرضنا في المقالات السابقة معالم النيوليبرالية وذكرنا أنه يعيبها تناقضات أساسية في الفكر النظري كما في الممارسة. وهذه التناقضات تفتح باب النقاش حول مصير النيوليبرالية بشكل عام إن لم نقل مصير الليبرالية والرأس المالية بعد التطوّرات البنيوية السلبية النتائج التي لحقت بها.
كما ذكرنا سابقا فإن الفكرة الأساسية للنيوليبرالية هي الحرّية. المصطلح الإنكليزي الذي استعمله المفكّرون النيوليبراليون كفون هايك على سبيل المثال هو (liberty) والترجمة له في اللسان العربي هو "الحرّية" بمعنى أنها الحالة التي يفعل المرء كما يشاء دون قيد أو شرط. بالمقابل فإن مصطلح (freedom) يأتي بمعنى "الحرّيات" لأنها متعدّدة. ولا يوجد ذلك التمييز في اللسان الفرنسي حيث "حرّية" و "حرّيات" هي (liberté). ما يقصده فون هايك (1899-1992) هو أن يفعل المرء كما يشاء دون قيد أو شرط لأن الحرّية تطلق الطاقات الإبداعية التي تصنع التقدّم. ولا يكترث فون هايك إلى النتائج من حيث نشؤ اللامساواة في المجتمعات من جرّاء من يستفيد من الحرّية ويوظّفها في نشاطاته. وهذه ثغرة قاتلة حيث النظام الليبرالي الذي يدافع عنه يأتي بسلطة وتسلّط طبقة جديدة غير معنية بالحرّية. فالعدالة الاجتماعية التي يتكلّم عنها الديمقراطيون الاشتراكيون وفقا لفون هايك ليست إلاّ وهما من جملة الأوهام التي يروّجونها. فالمستهلك الذي يختار مسحوقا للغسيل من الرفّ لا يكترث إلى طبيعة وماهية إنتاج المسحوق وكيف وصل إلى ذلك الرف وما هي المكافئات التي تعود إلى العمّال الذين ساهموا في الإنتاج أو الرأس المال الموظف في ذلك الإنتاج. المهم عنده هو حرّية الاختيار أولا وأخيرا. كما ينتقد بشدّة مفهوم الراتب أو الأجر العادل على قاعدة من يحدّد عدالة "الراتب" أو "الآجر".
فالعدالة نسبية واستنسابية في آخر المطاف ولا يمكن أن تكون قاعدة يمنك البناء عليها. من هنا نفهم مقولة مارغريت تاتشر بأنه لا يوجد شيء اسمه مجتمع بل فقط مجموعات من الأفراد. التركيز على الفردية وحرّية الفرد هي مرتكز النظام الرأس المالي كما نشأ في الغرب. كما نفهم مقولة ميلتون فريدمان أن المسؤولية الاجتماعية الوحيدة التي تقع على المبادر أو صاحب المشروع هو فقط تحقيق الربح للمساهمين! فهي أنانية مطلقة بمرتبة معتقد يُعمل به وقاعدة للعمل السياسي! هذه هي الداروينية الاجتماعية التي تشرعن تسلّط القوي على الضعيف وهي من سمات النيوليبرالية. الكاتبة الروسية الأصل والمهاجرة إلى الولايات المتحدة اين راند (1905-1982) في روايتيها "المنبع" The Fountainhead) و"تجاهل أطلس" (Atlas Shrugged) نشرتهما في 1943 و1957 روّجت لتلك الأفكار التي تدين بشكل قاس محاولات الدولة في السيطرة على المجتمع عبر القيود والقوانين التي تقيّد الحرّية.
هنا طبعا توجد مفارقة كبيرة مع موروثنا التاريخي وخاصة الموروث القرآني حيث مصطلح "الحرّية" غير موجود بشكل صريح بل فقط بشكل ضمني عبر التكليف والمحاسبة. فلا يمكن مساءلة المرء ومحاسبته دون أن يكون له إمكانية الاختيار والاختيار يفرض وجود الحرّية فلا إكراه! بالمقابل، فإن القيمة الأساسية في القرآن الكريم هو العدل. فالعدل هو الذي يحكم بين الناس بغض النظر عن التفاوت الاقتصادي والاجتماعي والجسدي بينهم. كما أن العدل هو أساس الملك. في الغرب بشكل عام، وفي الفكر النيوليبرالي بشكل خاص فإن الحرّية هي الأساس التي تساهم في تحقيق الغاية الكبرى وهي تراكم الثروة. المفكّر الألماني ماكس فيبر (1864-1920) أعطى بعدا دينيا لعملية تراكم الراس المال في مؤلّفه حول "الاخلاق البروتستنتية وروح الرأس المالية" (1905) وذلك عبر الإشارة أن التراكم الرأس المالي سمة النجاح في العالم الدنيوي ومؤشر النجاة في العالم الآخر وفقا للمفهوم البروتسنتي. فهي محاولة كمحاولة فون هايك لنقض نظريات كارل ماركس والدفاع عن الرأس المالية. فون هايك يهزأ من مفهوم العدل عندما يشكّك في الراتب العادل أو الأجر العادل. فيعتبر العدل استنساب وأن التوافق بالأكثرية وإن كانت مزمنة حول المفهوم لا يعني أنه صحيح! والدولة هي التي تحدّد في معظم الأحيان ما هو مقبول وما هو غير مقبول وهذا ما يرفضه النيوليبراليون. فالدولة الصالحة هي التي لا تتدخل في شؤون الناس. لكن لم يفصحوا ما هي المجالات التي يجب أن تكتفي الدولة بها بل يقدّمون شعارات عامة كحماية الملكية واحترام القانون.
المهم في تلك الأفكار التنديد بالتخطيط المركزي وكأنه شرّ مطلق وفقا لمفاهيمهم. التخطيط المركزي ليس سيئا بحدّ ذاته كما يزعمون لأنه يقيّد الحرّية بل ضرورة كآلية لضبط الحركة المبنية على مفهوم منحرف للحرّية التي لا تأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخرين فتصبح عدوانا عليهم. يتنكّر النيوليبراليون لمفهوم المجتمع والمصالح المشتركة فلا مصلحة فوق مصلحة الفرد. في رأينا مفهومهم للحرّية خيار أخلاقي يصعب القبول به لأنه يشرعن التعدّي على الآخرين بحجة تحقيق المصلحة الفردية التي هي فوق أي اعتبار فهي اساس الثقافة الغربية. إنه سقوط أخلاقي وفقا لموروثنا الأخلاقي ويتناقض مع أسلوب حياة مختلف يريدون فرض أسلوب آخر على الناس أجمع. فحرّيتهم هي في آخر المطاف نقيد حرّية الآخرين. مفهومهم للعدالة هو فقط حماية القانون والملكية الخاصة. لكن ما هي قواعد القانون إن لم تؤخذ بعين الاعتبار مصالح المجتمع ككل؟ وكيف يمكن ان يتحوّل القانون إلى تشريع خال من الأخلاق والعدل؟ هذا ما لا يجيب عليه النيوليبراليون. فالقانون يعكس موازين قوّة وبالتالي يعكس مصالح من يملك القوّة وليس الحق.
هذه بعض التساؤلات وليست كلّها تتناول مصداقية القاعدة الفلسفية الفكرية للنيوليبرالية. لكن هناك تساؤلات أكثر صعوبة حول أليات الفكر النيوليبرالي. نذكّر هنا بنظرية فوكوياما حول نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية وحرّية الأسواق سرعان ما تراجع عنها بسبب عدم واقعيتها. فهي كانت نتيجة لحظة انتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي وانفرادها في القوّة في الساحة العالمية. لكن ذلك الانتصار لم يكن إلاّ سرابا تبدّد مع أخفاقات وتراجع الولايات المتحدة داخليا وخارجيا. فيما يتعلّق بالأسواق فالفكر النيوليبرالي الذي يتبناه اليوم الأحرار الليبراليون المنتمون إلى معهد فون ميسز يعتقدون أن الأسواق الحرّة كفيلة بتوزيع الموارد والاستثمارات بشكل كفؤ وكفيلة بتصحيح الانحرافات وبالتالي لا داعي للدولة للتدخل بها تحت أي ظرف. هذا الموقف تعرّض لنقد جاد عبر العقود ومنذ بداية القرن الماضي حيث التشريعات التي حدّت من توسع الاحتكارات جاءت لتصحيح انحرافات السوق. فالنزعة الطبيعية للتنافس هو إخراج المتنافسين من حلبة التنافس وبالتالي التنافس "الحر" يؤدّي إلى ألغاء التنافس عبر إيجاد الاحتكار أو المنظومات الاحتكارية كالكارتيلات على سبيل المثال (كارتيل النفط أو أوبيك) او الاحتكار الثنائي (duopoly) أو الاحتكار القلّة (oligopoly). والتجربة تدلّ على أن معظم التجارب التنافسية في السابق والحاضر وربما المستقبل انتهت وقد تنتهي بشكل ما إلى الاحتكار. لذلك أوجدت تشريعات تحدّ من تلك الانحرافات. النيوليبراليون لا يجدون حجة يدحضون بها ذلك ولا يستطيعون تبرير الاحتكار الذي ينسف قواعد فكرهم المبني على الحرّية في التنافس والمبادرة.
الأزمات الاقتصادية والمالية التي تمرّ بها الدول بسبب السياسات التي تشجّع على تراكم الثروة والرأس المال كقيمة أخلاقية مطلوبة تتحكم بسلوك الناس (ليس المجتمع!) استدعت دائما تدخل السلطة لحل المشكلة. نذكرّ هنا أن النظرية الكينزية برّرت تدخل الدولة في العجلة الاقتصادية عبر زيادة الإنفاق لزيادة الطلب الفعلي وذلك لكبح البطالة التي كادت تؤدّي إلى انهيار أنظمة أوروبا والولايات المتحدة. فالنظام الكلاسيكي المعتمد على التنافس الحر لم يستطع مقاربة الكساد وانعكاساته السلبية على أمن البلاد والمجتمع. وهذا ما برر مشروع "الصفقة الجديدة" (النيو ديل) الذي أطلقه الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت لمحاربة الكساد الكبير. هذا ما برّر إيجاد مشروع مارشال لإعادة بناء أوروبا المدمّرة بسبب الحرب العالمية الثانية وأيضا لمنع انتشار الشيوعية والفكر الاشتراكي. فالدولة أساسية في حقبة الأزمات بين آليات السوق الحر برهنت مرارا وتكرارا عجزها عن مقاربة تلك الأزمات هذا إن لم تكن هي مسؤولة عنها في بداية الأمر!
كما نتذكّر كيف تدخّلت الإدارة الأميركية عامي 2008 و2009 لحماية المصارف والمؤسسات المالية الكبرى من الإفلاس في أعقاب أزمة الرهونات فضخّت ما يوازي 700 مليار دولار في الأسواق وفي المؤسسات المستهدفة. أما اليوم فالتقلّبات في الأسواق المالية الأميركية أدّت إلى ضخ ما يوازي تريليون ونصف دولار في المؤسسات المالية لوقف التدهور في الأسعار ولحثّ المؤسسات على الاستثمار. من المبكر الحكم على تجاح تلك الخطوة لأنها تكرار لخطوة 2008 و2009 التي تجاهلت الأسباب الحقيقية لأزمة الرهونات وتجنّبت معالجتها بشكل جدّي. وكنّا من الذين يقولون دائما أن الولايات المتحدة ومعها العالم الرأس المالي لم تخرج من حالة الركود التي سببتها الأزمة آنذاك. إن أزمة 2020 هي الاستحقاق الفعلي لكافة الثغرات في النظام القائم وسنقاربه في مقال منفصل. كم لا بد من الإشارة إلى تدخّل الإدارة الأميركية منذ يومين في السوق النفطي عبر تعهد الإدارة بشراء كميات كبيرة من النفط للاحتياط الاستراتيجي للولايات المتحدة من الشركات التي تكبّدت خسائر كبيرة من جرّاء حرب الأسعار في سوق النفط والتي أشعلتها روسيا وتبنّتها بلاد الحرمين. فالخسائر المالية لإحدى الشركات تعدّت المليارين دولار في يوم واحد من جرّاء هبوط سعر البرميل وتأثيره على سعر أسهم الشركة النفطية والحبل على الجرّار. أما في ألمانيا فقد قرّرت الحكومة تحرير ما يوازي 550 مليار يورو لإنعاش الاقتصاد الألماني المصاب بسبب تفشّي الكورونا وهنا أيضا من المبكر التكهّن حول نجاح أو فشل تلك المبادرة التي قد تكون أتت متأخرة. فسياسات التقشّف التي تبنّتها مختلف الحكومات الغربية لم تكن إلاّ لتقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية وفقا لتعاليم الفكر النيوليبرالي وها هي الأزمات تهدّد تمساك المجتمعات التي كانت تظّن أنها بمنأى من تداعيات التقشّف أو مبالغة بقدراتها على تدارك التداعيات.
أما على صعيد آخر، فسخرية الأمور هي قرارات الإدارة الأميركية بتفكيك أكبر عدد ممكن من المؤسسات الحكومية بحجّة أن السوق كفيل بمعالجة القضايا. ومن ضمن المؤسسات التي تمّ إضعافها بغية تفكيكها وحلّها مركز وقاية ومكافحة الأوبئة وإذ تأتي كارثة الكورونا فايروس لتعرّي عدم جهوزية أكبر دولة في العالم على مواجهة الوباء. فالقطاع الخاص في حقل الصحّة ليس مؤهلا لمواجهة الأوبئة بل يرفض الخوض في تخطيط لتلك المواجهة لأنها مكلفة ولن تدرّ من الأرباح. فالصحة سلعة فردية بالنسبة لهم ولا قيمة لها إلاّ بمقدار قدرة الدفع لحمياتها.
في الفكر النيوليبراي دور الدولة محصور في حماية الملكية الخاصة واحترام القانون وليس في معالجة الأزمات وتقديم الخدمات الاجتماعية. هذه القاعدة الفكرية للخصخصة فالتعليم والصحّة من حصة القطاع الخاص وليس العام، وهناك دفع لجعل الأمن من حصة القطاع الخاص عبر الشركات الأمنية. لكن ليس هناك في ذلك الفكر من مقاربة لأزمات كأزمة الكورونا أو الأزمة المالية التي تستدعي تدخل الدولة.
مع تنامي الدولة الأمنية في النظام النيوليبرالي هناك ميل واضح من قبل الطبقة الحاكمة النيوليبرالية لكبح الحرّيات العامة التي ينتج عنها المساءلة والمحاسبة. ونشهد تحوّلات في الدول الغربية النيوليبرالية نحو التوجّه للفكر الواحد عبر السيطرة على وسائل الاعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. وهذه الدول التي تحمل شعار الديمقراطية للعالم هي متحالفة مع الأنظمة التسلّطية والديكتاتورية التي تسهّل مصالحها. والتسلّط لا يستقيم مع المطالبة بالتطبيق القسري للسوق ومع الحرّيات العامة. وهذا يُفقد النيوليبرالية شرعيتها ومصداقيتها. فعلى سبيل المثال عن التناقض يقول الفكر النيوليبرالي فيما يتعلّق بالقرار الصحّي أن "الاختيار الشخصي" هو الأساس وبالتالي يجب التخلّي عن الخدمات التي تقدّمها الدولة بشكل مجاني أو بكلفة رمزية وبين ضرورة دفع كلفة باهظة للشركات الخاصة التي تقدّم تلك الخدمات. ف "الحرّية" أصبحت مكلفة لدرجة الحرمان من الخدمة الصحّية للطبقات الفقيرة وحتى المتوسّطة.
الفكر النيوليبرالي شجّع تحرير القطاع المالي من أي قيود وذلك بغية "الحفاظ على سلامة النظام المالي" أدّى إلى التمركز الهائل الحاصل والمضاربات التي تفوق أي إمكانية للتسديد. عرضنا في المقال الأخير مدى الانكشاف المالي لتلك المؤسسات المالية والخطر على سلامة الصحة المالية في العالم. الانهيار الحاصل في الأسواق المالية نتيجة للجشع والمراهنات غير المحسوبة قد تطيح بالنظام المالي القائم. ازمة 2008 قد تكون نزهة مقارنة مع ما سيحصل في حال استمرار الانهيار. كل ذلك حصل بسبب تفكيك القيود الناظمة والمقيّدة للمضاربات المالية لتحقيق ثروات افتراضية وهمية بعيدة عن يقين الواقع الاقتصادي القائم.
في الممارسة أصبحت الدولة أداة للطبقة الحاكمة وحامية لها ولمصالحها وذلك على حساب المواطنين الذين ليسوا أكثر من وحدات استهلاكية فقط في نظر تلك الطبقة. كما أن الفكر النيوليبرالي الذي أصبح مرتبطا بمصالح طبقة حاكمة تجاوز فكرة الوطنية والهوية الوطنية لمصلحة الأسواق وسيادتها. وهنا بدت أزمة الفكر النيوليبرالي النخبوي بطبيعته في تناقض واضح بين الطبقة النخبوية وسائر مكوّنات المجتمع في الوطن. لذلك تشهد معظم الدول تمرّدا على الطبقة الحاكمة وسياساتها والصراع مستمر حتى أشعار آخر. وهناك أمثلة عديدة تشير إلى أن آلية السوق ليست كافية وحتى غير كفؤة لتصحيح الأوضاع ما يستدعي تدخّل الدولة. العالم معقد ومركّب ليكتفي بنظريات تبسيطية لا تعالج شيئا بل قد تساهم في تفاقم الأمور. ما يحدث في العالم من أزمات طبيعة وغير طبيعة يكشف عورات الفكر النيوليبرالي ويشهر سقوط ذلك الفكر.