ألْغازُ الغازِ : رؤية مختلفة
وليد عبد الحي


في الوقت الذي انصرفت أغلب التحليلات لخيط العلاقة الجديد بين مصر والأردن وإسرائيل في قطاع الطاقة وتحديدا الغاز، فإني لا أعتقد بأي شكل من الأشكال بأن الامر أمر طاقة- بالمعنى الضيق- بخاصة أن البدائل للحصول على الغاز من غير اسرائيل أكثر من أن تحصى.
من يعود الى مشروع البينلوكس ومشروع الشرق الاوسط الجديد الذي طرحه شيمون بيريز في عام 1967 في مجلة الأزمنة الحديثة تحت عنوان : يوم قريب ويوم بعيد، سيجد ان الفكرة المركزية في المقال هي ان على اسرائيل أن تجعل من العلاقة الاقتصادية مع الاقليم هي الأساس الذي يتم من خلاله امتصاص آثار اية تغيرات سياسية مستقبلية في المنطقة من خلال تطوير المصلحة المشتركة .
وفي عام 1968 اصدر التجمع من أجل السلام كتيبا تحت عنوان " الشرق الاوسط عام 2000" وتقوم الفكرة المركزية فيه على اساس أن تكون اسرائيل هي " مركز " الشرق الاوسط الاقتصادي ، وفي عام 1974 قال أبا أيبان ( وزير الخارجية الاسرائيلي) ان ما تسعى له اسرائيل هو " بناء مصالح مشتركة بين العرب واسرائيل تكون لها سمات التنوع والكثافة، وهو ما يضمن السلام لاسرائيل" وفي عام 1979 شاركت عشرون مؤسسة رسمية ومركز ابحاث امريكي بانجاز دراسة عنوانها " التعاون الاقليمي في الشرق الاوسط"، تقوم على تكاتف الامكانيات العربية والاسرائيلية وبطريقة تلجم أية محاولة للعودة للصراع مستقبلا، وهو الامر الذي عاد شيمون بيريز عام 1993 ليؤكده في كتابه " الشرق الاوسط الجديد" والذي تلته سلسلة مؤتمرات اقتصادية في الدار البيضاء وعمان والقاهرة وقطر وبرشلونة طيلة فترة التسعينات من القرن الماضي. وفي عام 1989 قامت مجموعة من الخبراء الاسرائيليين والامريكيين بنشر دراسة تحت عنوان التعاون الاقتصادي وسلام الشرق الاوسط جرى فيها شرح تصورات التعاون بين الاردن ومصر واسرائيل في مجالات الطاقة والمياه مع العمل لاحقا في تطوير النقل البري بين مصر واسرائيل والاردن وربطها بشبكة من السكك الحديدية، ليتم الانتقال بعد ذلك الى مجالات النقل البحري والجوي.، وفي المؤتمر الذي عقد في جامعة تل أبيب عام 1986، خلص المؤتمر الى ان الاقتصاد لم يكن سببا جوهريا في الصراع العربي الصهيوني لكنه جوهري كأداة لترسيخ السلام بين الطرفين من خلال توسيع دائرة المصلحة المشتركة. وفي عام 1992 اكد تقرير لوزارة الخارجية الاسرائيلية على ضرورة توسيع دائرة العلاقات العربية الاسرائيلية الاقتصادية بل واقترح ان تكون العقبة نقطة بداية للتعاون في مجال الطاقة وغيرها.
وفي عام 1995 طرحت مجلة الجيش الامريكي ( Joint Force Quarterly) مشروع الشرق الاوسط الكبير( ويربط هذا المشروع بين الطاقة وطريق الحرير الصيني( لاحظ لم يكن المشروع الصيني قد تبلور ) وبين دور تركي ، وفي عام 1997 نشر معهد بروكنجز دراسة في نفس الاتجاه ، تبعها دراسة لمعهد بحوث السياسة الخارجية الامريكية تحت عنوان " الشرق الاوسط الكبير عام 2025" وتقوم الدراسة على سيناريوهين هما:سيناريو استمرار الحروب وسيناريو استثمار تبعات انهيار الاتحاد السوفييتي بتوسيع دائرة المصالح العربية الاسرائيلية المشتركة، ثم كما هو معروف بدأت الشقوق تتوسع في الجدار العربي مع اوسلو ووادي عربة والانفتاح الخليجي اللاحق على اسرائيل واصبح الضيف الاسرائيلي على شاشات الجزيرة مشهدا مألوفا والفرق الرياضية والأناشيد الصهيونية والسياحة ...الخ تتزايد تدريجيا.
كيف كانت الأردن تتدبر امرها في موضوع الطاقة قبل العلاقة الحالية؟ من دول الخليج ومن العراق ومن مصر ، والبديل القطري والجزائري والإيراني لا تشكل معضلة...وعليه فالاتفاق على الغاز ليس موضوعا اقتصاديا بحتا بل هو موضوع اقتصاد سياسي، ويعني توسيع مجال العلاقات مع اسرائيل في كل الجوانب (وسيتبع ما يجري حاليا مشاريع في المياه والنقل والجامعات والسياحة ..الخ، والهدف الاسرائيلي الاستراتيجي من كل ذلك هو تحديدا ما يلي:
إن اسرائيل لا تضمن على الاطلاق استمرار الاوضاع العربية الحالية، وهي لا تثق بالضمانات الامنية لوجودها وحمايته من أية جهة ، فماذا لو حدث تحول وعاد العرب للصراع من جديد؟ ان افضل طريقة هي ان تكون شبكة المصالح العربية مع اسرائيل تغطي اكبر قدر من القطاعات التجارية والاقتصادية الاستراتيجية من ناحية ، وأن تمس هذه المصالح تفاصيل الحياة اليومية للفرد العربي ( الماء والطاقة والكهرباء والتجارة والاستثمار والبحث العلمي والزراعة والصناعة..الخ) من ناحية ثانية، وبهذا فان أي زعيم وطني او حركة سياسية وطنية تستولي على السلطة لاحقا في أي بلد عربي ستجد امامها هذا السد من شبكات المصالح التي تجعل قدرته على تفعيل مشروعه أمرا في غاية الصعوبة... وعليه فالأمر ليس امر غاز ، بل هو خطوة من مشروع استراتيجي يجري العمل فيه على تحويل الصراع من منظوره الصفري الى منظوره غير الصفري، حيث تلجم المصالح المتداخلة بين الطرفين العربي والصهيوني نزعة العودة للصراع بخاصة ان الاسرائيليين تعلموا الدرس التاريخي للمنطقة، فالحل بأن تصبح اسرائيل ضمن النسيج الاقتصادي والثقافي والتقني بل والتحالفات لاحقا، وبهذا تنتقل المنطقة من التطبيع الفردي العاجز عن ترسيخ المكانة الاسرائيلية في المنطقة الى التطبيع الاستراتيجي الذي يجعل منها " رب بيت لا متسلل"....ربما