ما ذكره المسعودي في كتاب النبيه والإشراف عن النسيء

ذكر جمل من الكلام في سني الأمم وشهورها
وكبسها ونسيئها وما اتصل بذلك

جميع ما تؤرخ به الأمم من السنين شمسية على ذلك عمل سائرهم من السريانيين والفرس واليونانيين والروم والقبط والهند والصين، إلا العرب والإسرائليين ومقدار سنتهم الشمسية من الزمان ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم، وعلى التحقيق وجزء من ثلاثمائة جزء من يوم، ومراعاتهم في ذلك ابتداء سير الشمس من نقطة الاعتدال الربيعي إلى عودها إليها، وهم مجمعون على أن شهور سنتهم اثنا عشر شهراً، وإن كانت عدتها مختلفة ولذلك احتاجوا إلى كبس أيام لتتمة مدة السنة فشهور اليونانيين والروم التي غلب عليها تسمية السريانيين إياها لموافقتهم إياهم عليها، أولها تشرين الأول وهو أحد وثلاثون يوماً، تشرين الثاني ثلاثون يوماً، كانون الأول أحد وثلاثون يوماً، وليلة خمسو عشرين منه ليلة الميلاد، كانون الثاني أحد وثلاثون يوماً، شباط ثمانية وعشرون يوماً وربع، يعد ثلاث سنين متواليات ثمانية وعشرون يوماً وفي السنة الرابعة تجبر الكسور فيعد تسعة وعشرون يوماً، فتسمى تلك السنة كبيسة بسبب زيادة ذلك اليوم، آذار أحد وثلاثون يوماً، نيسان ثلاثون يوماً، أيار أحد وثلاثون يوماً، حزيران ثلاثون يوماً، تموز أحد وثلاثون يوماً، آب أحد وثلاثون يوماً، أيلول ثلاثون يوماً، فلذلك ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم


فأما شهور الفرس فأولها فرودين ماه أول يوم منه النوروز معنى ذلك بالفارسية اليوم الجديد، لأن الجديد في لغتهم نو واليوم روز وهو أعظم الأعياد عندهم، أردبهشت ماه، خرداد ماه، تير ماه، مرداد ماه، شهرير ماه، مهر ماه يوم السادس عشر منه المهرجان وبينه وبين النوروز ستة أشهر ونصف تكون أياماً مائة وخمسة وتسعين يوماً، آبان ماه يوم السادس والعشرين منه تدخل الأيام العشرة المعروفة بالفرودخان منها تمام آبان ماه وخمسة كبيسة لا تعد من الشهور تسمى الأندرجاهان، آذر ماه أول يوم منه ركوب الكوسج بالعراق وغيرها من أرض فارس وذلك من رسوم الفرس في أيام ملوكها، ديماه، بهمن ماه، أسفندرامذ ماه، عدد كل شهر منها ثلاثون يوماً وهي هرمز، بهمن، أردبهشت، شهرير، أسفندارمذ، خرداد، مرداد، ديباذر، آذر، آبان، خور، ماه، تير، جوش، ديبمهر، مهر، أسروش، رشن، فروردين، بهرام، رام، باد، ديبدين، دين، أرد، أشتاد، أسمان، زامياد، مارسفند، أنيران، وليس يتكرر كتكرار أيام الجمعة للعرب فتصير جملتها مع الخمسة أيام الغير معدودة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً، وكانوا يؤرخون ربع اليوم الذي يجب لتمام السنة إلى مائة وعشرين سنة فيكبسون حينئذ شهراً وإنما امتنعوا من كبس يوم في أربع سنين لأمور ذكروها منها اعتقادهم في أيام شهورهم أنها أسماء ملائكة وكراهيتهم أن يزيدوا فيها ما ليس منها وغير ذلك من الوجوه مما تقدم شرحها فيما ذكرنا من كتبنا، ولما زال ملكهم وفنيت ملتهم، وذهب من كان يكبس ذلك ربع اليوم من ملوكهم انتقلت أيامهم فدار نورزهم في مدة مائتين وخمسين سنة إلى أيام المعتضد نحواً من شهرين وتقدم لذلك استفتاح الخراج عن الوقت الذي يحصل فيه غلال الناس فرده المعتضد في سنة 282 للهجرة نحواً من مدة شهرين وقرره على الشهور السريانية لئلا يعود دورانه إذ كانت محفوظة بالكبس لا يتغير أوقاتها فجعله في اليوم الحادي عشر من حزيران، ونسب إليه فقيل النوروز المعتضدي، وبقي النوروز الفارسي يدور في سائر الفصول الأربعة فيتقدم في كل مائة وعشرين سنة شهراً، وإنما كان موقعه في أول الفصل الصيفي، والمهرجان في أول الفصل الشتوي فأما القبط فيوافقون الفرس في عدد أيام شهورهم وهي ثلاثون يوماً، أول شهورهم توت أول يوم منه النوروز القبطي بأرض مصر، بابه، هتور، كيهك، طوبه، أمشير، برمهات، برموده، بشنس، بؤونه، أبيب، مسرى، وفي آخر مسى تكبس الخمسة أيام المسماة بالقبطية إبغمنا وتعرف باللواحق يفعلون ذلك ثلاث سنين متواليات فإذا كانت السنة الرابعة جعلوا الكبيسة ستة أيام لتنجبر الأرباع من اليوم الواجبة لكل سنة فتحصل أيام سنتهم على الحقيقة ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم فأما العرب فإنها تراعي رؤية الأهلة فتجعل حساب سنتها عليها شهورهم شهر ثلاثون يوماً، وشهر تسعة وعشرون يوماً، فيكون ستة أشهر من السنة تامة وستة ناقصة وأيام سنتهم ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً بالحساب المطلق وهو الجليل فأما على التحصيل والتدقيق فإن عدد هذه الأيام للسنة تزيد في كل ثلاثين سنة أحد عشر يوماً تكون حصة السنة والواحدة من ذلك خمساً وسدس يوم فتكون أيام السنة بالحقيقة ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وخمساً وسدس يوم والسنة التي ينجبر فيها هذا الكسر تكون شهورها سبعة تامة وخمسة ناقصة وهذا العدد لأيام الشهور هو بالحساب المصحح من اجتماع الشمس والقمر بمسيرهما الأوسط فأما برؤية الأهلة فإنه يختلف بزيادة ونقصان فيمكن أن تكون شهور متوالية تامة وشهور متوالية ناقصة، ولا يكاد يتفق في كل وقت أن يكون أول الحساب بالشهور والرؤية يوماً واحداً إلا أنهما يتساويان على مرور الزمان وأيام العرب التي تعد بها من غروب الشمس وهي الأيام السبعة التي أولها الأحد ابتداؤه من غروب الشمس من يوم السبت وآخره غروبها في يوم الأحد وكذلك سائر الأيام، وإنما جعلوا ابتداء كل يوم بليلته من وقت غروب الشمس لأجل أنها تعد أيام الشهر من وقت رؤية الهلال ورؤية الهلال تكون عند غروب الشمس فأما من سمينا من الأمم ممن لا يراعي في الشهور رؤية الأهلة فإن النهار عندهم قبل الليل وابتداء كل يوم بليلته من وقت طلوع الشمس إلى وقت طلوعها من الغد


قال المسعودي: وقد كان العرب في الجاهلية تنسئ لأجل اختلاف الزمان والمواقيت وما بين السنة الشمسية والقمرية وفيه أنزل " إنما النسئ زيادة في الكفر " وكان المتولون لذلك النسأة من بني الحارث بن كنانة بن مالك ابن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، أولهم أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية وكان يعرف بالقلمس وبه سمي من بعده من النسأة فقيل القلامس وكانوا ينسئون في كل ثلاث سنين شهراً يسقطونه من السنة ويسمون الشهر الذي يليه باسمه، ويجعلون يوم التروية ويوم عرفة ويوم النحر الثامن والتاسع والعاشر من ذلك الشهر، فيكون ذلك دائراً في سائر شهور السنة موجباً، وكانوا بذلك مقاربين لغيرهم من الأمم في مدة زمان سنتهم الشمسية. فلم يزالوا على ذلك إلى أن ظهر الإسلام وفتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة فوجه أبا بكر في السنة التاسعة من الهجرة على الموسم فحج بالناس وهي آخر حجة حجها المشركون وكان الحج في تلك السنة يوم العاشر من ذي القعدة ونزلت آيات من سورة براءة فبعث بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مع علي بن أبي طالب عليه السلام وأمره بقراءتها على الناس بمنى، وكانت الأشهر التي قال " فسيحوا في الأرض أربعة أشهر " عشرين يوماً من ذي القعدة وذا الحجة والمحرم وصفر وعشرة أيام من شهر ربيع الأول، وأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علياً عليه السلام بأداء أربع كلمات: " أن لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا مسلم، ومن كانت بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مدة فأجله إلى مدته " فلما كان من قابل حج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذي الحجة وهي حجة الوداع، وخطب الناس، فقال " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر بين جمادى وشعبان " هذه حكاية لفظه عليه السلام، ولو عد عاد هذه الأشهر، فبدأ بالمحرم ثم رجب وذي القعدة وذي الحجة لكان ذلك جائزاً، وإنما ذكرنا هذا لأن في الناس من يجعلها من سنتين، والنبي صلّى الله عليه وسلّم إنما قال منها، فدل على أنها من سنة واحدة فأما الإسرائليون: فالأشمعث منهم، وهم الجمهور الأعظم يراعون رؤية الأهلة، وعدد الأشهر. وحصر أيامها ويسمون ذلك العبّور.
ورأيت الأقباط بأرض مصر يسمونه الأفقطي، ومراعاتهم ذلك لأجل عيد الفصح. ثم تنازعوا بعد ذلك فقال فريق من العنانية، وأصحاب عنان بن نبادود، وكان من رؤساء الجوالى بأرض العراق، والقرائية، أنهم لا يوقعون الفصح حتى يتكامل إدراك السنبل ويسمونه أبيب، ومنهم من يقول بالفصح عند إدراك البعض منه لا يراعي الكل قال المسعودي: وقد ذكرنا فيما سلف من كتبنا تنازع من ذكرنا من الأمم في السنين الشمسية والقمرية وشهورها. وكيفية كبس الأمم ونسيئها، والعلة في ذلك على الشرح والإيضاح، والخلاف بين أبرخس ومتبعيه وأبطلميوس القلوذي في أرصادهما، وطلبهما مقدار سنة الشمس وما ذهب إليه أبرخس من أن ذلك يعلم بوجهين، أحدهما مقارنة الشمس للكواكب الثابتة التي عودتها إليها، فإن مدة ذلك من الزمان ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، وأقل من ربع يوم.
وما ذهب إليه أبطلميوس من أن الغرض والغاية في علم زمان سنة الشمس حركتها واتبداؤها من نقطة الفلك الخارج المائل حتى يعود إلى تلك النقطة وأن مدة ذلك من الزمان ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً، وربع يوم إلا جزءٌ من ثلاثمائة جزء من يوم علىما قلنا، وعليه العمل الأعم في وقتنا هذا.
ومقدار المدة بين رصد أبرخس ورصد أبطلميوس بمدينة الإسكندرية من بلاد مصر، وما بين رصد أبطلميوس ورصد المأمون الشماسية من بلاد دمشق من أرض الشأم في سنة 217 للهجرة واول يوم من فروردين ماه سنة 201 ليزدجرد وعليه حل الزيج الممتحن.
وما ذهبت إلهي الهند في مدة أيام الدنيا، وتنازعهم في عدتها، وأن الأصل في ذلك عدة أيام السندهند تفسير ذلك دهر الدهور، وهو الكتاب الجامع لعلم الأفلاك والنجوم والحساب وغير ذلك من أمر العالم، وعنه ناضل أبطلميوس وشابهه بأرصاد أبرخس وأرصاده وكيف عملت الهند كتاب الأرجبهز من كتاب السند هند الأرجبهز جزء من ألف جزء من السند هند، وكتاب الأركند من كتاب الأرجبهز


وأن الله عز وجل بلطيف حكمته وعظيم قدرته خلق الكواكب على قدر أوجاتها، وجوزهراتها في أول دقيقة من الحمل، ثم سيرها جميعاً فتحركت جملة واحدة في طرفة عين على سيرها المعلوم، فكانت حركتها أول يوم من الدنيا، ولا تزال تسبح في دور الفلك فإذا اجتمعت في موضع منه أثرت في العالم تأثيراً عظيماً مذكراً بدبور واحتراق وغير ذلك، وكثيراً ما لا تجتمع كلها، وإن اجتمعت كلها لم تجتمع أوجاتها وجوزهراتها إلى الموضع الذي فهي خلقت بهيئتها الأولى، وذلك انقضاء الدنيا عندهم، فإن جميع أيام السند هند مذ أول ما دارت الكواكب إلى أن تجتمع جميعها من السنين أربعة آلاف ألف ألف وثلاثمائة ألف ألف وعشرون ألف ألف سنة شمسية على مدار الشمس، السنة منها ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وربع يوم وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة وما في بيت الذهب بأعالي أرض الهند ومشارقها، وهو الذي دخله الإسكندر الملك من حساب ظهور البد الأول بأرضهم، وتاريخه أن ذلك اثنا عشر ألف ألف عام مضروبة في ستة وثلاثين ألف عام على ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب وتنازع حكماء الأمم من الفلكية وغيرهم في أوج الشمس وهو أعلى موضع في فلكها وجوزهرها من تحتها مقابل له، وكذلك لك كوكب من السبعة وعند كثير منهم في هذا الوقت وهو سنة 345 للهجرة أنه في ست درج ونصف من الجوزاء أيضاً على ما ذكرنا من الدرج فيها، وعلى مذهب السند هند في سبع عشرة درجة وخمس وخمسين دقيقة، وأربع عشرة ثانية من الجوزاء كذلك ذكر في زيج محمد بن موسى الخوارزمي، وزيج حبش بن عبد الله السند هند، لأن لحبش ثلاث زيجات المشهور عند الناس زيج الممتحن والثاني السند هند، ولم يخالف الخوارزمي فيه إلا بدقائق، والثالث الشاه، فإذا قيل زيج حبش مطلقاً فإنما يراد به الممتحن والذي حكاه عن أبطلميوس فهو قانون ثاون، وثاون عن المجسطي أخذ وذكر أصحاب زيج الشاه أنه في عشرين درجة من الجوزاء، وذكر أصحاب زيج الممتحن أنه كان في السنة التي قبس فيها وهي سنة 217، على ما قدمنا في هذا الباب في اثنتين وعشرين درجة وتسع وثلاثين دقيقة من الجوزاء وذهب ما شاء الله المنجم إلى أن أوج الشمس هو عضادة عدل الله بها الفلك، وهذا أحد ما عنت به، وما ذهب إليه الهند وغيرها من أن الأوج يتحرك في كل مائة سنة درجة واحدة، فيكون مقامه في كل برج ثلاثة آلاف سنةوقطعه الفلك في ستة وثلاثين ألف سنة وكيفية تنقله ودورانه إذا انتقل عن البروج الشمالية إلى الجنوبية انتقلت العمارة فصار الشمال جنوباً والجنوب شمالاً والعامر غامراً والغامر عامراً.
وأنه لا خلاف بين حكماء الهند والكلدانيين والمصريين واليونانيين والروم وغيرهم، وبين منجمي عصرنا وفلكية وقتنا أنه في برج الجوزاء، وإنما التنازع بينهم في ثباته وتنقله على ما ذكرنا ولثابت بن قرة الصابئ الحراني رسالة في نصرة رأي أبرخس على أن لأوج الشمس حركة مخالفاً لقول أبطلميوس، وقد امتحن هذه الرسالة عدة من أهل الهندسة فوجدوا الأوج في أربع وعشرين درجة ودقائق كثيرة تكون من أول الحمل أربعاً وستين درجة ودقائق كثيرة.
وهذا خلاف لما ذكر أصحاب رصد الممتحن؛ لأنهم أجمعوا - إلا محمد بن جابر البتاني الحراني - على أن بعد الأوج من رأس الحمل اثنتان وثمانون درجة وتسع وأربعون دقيقة وذكرنا ما ذهب إليه هؤلاء من أن السبب في كسوف القمر أن ضوءه إنما هو شيء يقبله من الشمس، فمتى تهيأ أن يكون ظل الأرض فيما بين الشمس والقمر فستره أو ستر بعضه انكسف أو انكسف بعضه على قدر ما يستر منه وأن السبب في كسوف الشمس أن القمر يستر الشمس عنا ولذلك صار كسوف القمر إنما يعرض في وقت مقابلته الشمس، وكسوف الشمس إنما يعرض في وقت الاجتماع، وأن أقل ما يكون بين الكسوفين الشمسية والقمرية جميعاً ستة أشهر قمرية وذلك على الأمر الأوسط، وأنه قد يمكن أن يكون بين كسوفين شمسيتين أو قمريتين خمسة أشهر، وذلك عند اتفاق شهور عظمى. ويمكن أن يكون بين كسوفين ستة أشهر، وذلك عند اتفاق شهور صغرى. وأنه لا يمكن أن تنكسف الشمس في شهر واحد مرتين في موضع واحد ولا في موضعين مختلفين من الأقاليم الشمالية أبداً، وقد يمكن ذلك في موضعين مختلفين عن خط الاستواء أحدهما في الأقاليم الشمالية والآخر في الناحية الجنوبية




وما ذهبوا إليه من أنه إذا كان الصيف في ناحية الشمال كان الشتاء في ناحية الجنوب؛ وإذا كان الصيف في ناحية الجنوب كان الشتاء في ناحية الشمال، ولأجل ذلك صار نيل مصر زائداً في الشهور الصيفية لترادف الشتاء والأنداء بسائر أرض الأحابش من النوبة والزغاوة والزنج إلى جبل القمر الذي وراء خط الاستواء ومبدأ منبع عيون النيل منه، ومصب السيول إليه على ما قدمنا فيما سلف من هذا الكتاب عند ذكرنا البحار والأنهار الكبار.
وكذلك الشتاء بأرض الهند سبيله سبيل شتاء أرض الأحابش واليمن على ما شاهدناه بأرض اللار الكبيرة من أرض الهند وغيرها مما ذكرنا من البلاد وذلك في سنتي 303 و304 ويسمى هناك اليسارة.
والعلة في ذلك عند من ذكرنا كون الشمس وتنقلها في البروج من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال إذا قربت من موضع كان الصيف، وإذا بعدت عنه كان الشتاء، وأنه إذا كان في مكان نهار كان في ضده ليل، وإذا كان في موضع ليل كان في ضده نهار، وأن نصف الأرض أبداً نهار ونصفها أبداً ليل، والشمس حيث كانت من جميع نواحي الأرض الأربع فإنها إنما تضيء على نصف الأرض سواء ربع أمامها وربع خلفها وربع عن يمينها وربع عن شمالها، وذلك تمام نصف الأرض والنصف الآخر ستره أن تضيء فيه كثافة الأرض وتدويرها فيكون في ذلك النصف الذي لا تضيء فيه الليل لأن الليل ظل الأرض إذا ستر بعها عن بعض ضوء الشمس، فحيثما كانت الشمس فهناك النهار، وحيث لا ترى فهناك الليل.
وما ذهبوا إليه من أن أقواماً يشتون مرتين ويصيفون مرتين في سنة واحدة، وهم أهل خط الاستواء الذي يقسم مجرى الشمس بنصفين يأخذ من الشرق حتى يعود إلى الشرق والمدن التي على هذا الخط فزان وأزين وعدن والشحر، وغير ذلك من البلاد.
وأن الشمس إذا صارت إلى أول برج الحمل كان الحر عندهم مفرطاً جداً، وإذا صارت إلى السرطان زالت عن سمت رءوسهم أربعاً وعشرين درجة التي هي الميل فشتوا، ثم تعود الشمس إليهم إذا صارت إلى أول الميزان فيصيفون ثانية ويشتد الحر عليهم، فإذا هي زالت إلى ناحية الربع الجنوبي وصارت إلى أول الجدي شتوا ثانية، وأنهم على هذا الترتيب يصيفون مرتين ويشتون مرتين، غير أن شتاءهم أبداً قريب من صيفهم وأنه قد يكون في بعض المواضع مقدار شهر من الصيف نهار كله، لا ليل فيه. وشهر من الشتاء ليل؛ لا نهار فيه. وتكون العشرة أشهر الباقية من السنة كل يوم وليلة أربعاً وعشرين ساعة. وهي المواضع التي يرتفع فهي القطب عن الآفاق سبعة وستين جزء وربعاً، فهناك يكون مدار ما بين النصف من الجوزاء إلى النصف من السرطان ظاهراً فوق الأرض أبداً، وما بين النصف من القوس إلى نصف الجدي غائباً أبداً وما قالوه في المواضع التي يطول نهارها، ويقصر ليلها حتى يكون الساعة والساعتين والثلاث وذلك في أقاصي بلاد الروم، وبلاد البرغر، وبلاد خوارزم، مما يلي البحر الخزري وما قالوه في الساعات المعتدلة وهي التي تكون كل ساعة منها بمقدار ما يدور الفلك خمس عشرة درجة. والساعات الزمانية وهي المعوجة التي تكون كل واحدة منها مقدار نصف سدس النهار، ونصف سدس الليل وما ذهبوا إليه من تأثيرات الكواكب السبعة من النيرين والخمسة، وخاصتها في الأديان والبقاع والحيوان والنبات وغير ذلك.
وفيما خالف بين لغات الناس وألوانهم في المعمور الأرض، والعلة في مطر الإقليم الأول في القيظ دون سائر البلاد.
وما قالوه في العلة التي صار لها كثير من المواضع لا تمطر كفسطاط مصر وغيرها إلا اليسير، وأن السبب في ذلك: أن جزء بلاد مصر من جهة شمالها عادم الجبال الشوامخ، وأكثر ما يسيل إليه من جهة بحر الحبشة، يحجز بينه وبين مصر جبال البجة كالمقطم وما يليه، فيمنع ذلك البخار فيسيل إلى جهة الشام والعراق، وليس في سمت مصر من جهة الجنوب بحر، فما يسيل إلى سمتها من البخار أقل مما يسيل من جهة بحر الحبشة إلى الشأم والعراق.



والنيل يعين حركة الهواء من الجنوب إلى الشمال بجريته، فينقاد سيلان تلك الأبخرة إلى الشمال في بلاد كلها حارة؛ لقلة العرض ومجاورة البحار، أما بحر الحبشة فمن جهة شرقها، وأما بحر الإسكندرية وهو بحر الروم فمن جهة شمالها، فيحمي جوها فلا يغلظ البخار السائل غليه ولا يجتمع حتى يخالط بحر الإسكندرية ويمتزج به، ويجوزان معاً جهة الشمال من بلاد أورفي، وإذا صارا إلى الموضع الذي يعرض لهما فيه الانحصار ببرد الجو وما يحيط به من الجبال سالت تلك الأبخرة هنالك، فصارت أمطاراً في تلك المواضع الشمالية، فلهذه العلة عدم أهل مصر المطر.
ولأن النيل بزيادته يفيض على بلاد مصر، فإذا نقص ترادّ إلى قعره فقبلت تلك الأرض حسياً كثيراً، لكثرة إقامة الماء عليها، فيكثر ما يرتفع من أرضها في كل يوم من البخار بحر الشمس، فإذا جاء الليل يبرد حرها بالإضافة إلى قدر ما كان عليه عند شروق الشمس، فاستحال البخار ماء، فسال بالليل سيلاناً ضعيفاً لعدمه التكاثف والانحصار، فصار طلاً عائداً إلى الأرض، ولعلل غير ذلك ذكروها ويجوز أن يكون ذلك لعلل استأثر الله عز وجل بعلمها، ولم يظهر أحداً من خلقه عليها، لما هو عز وجل أعلم به من عمارة البلاد، وصلاح العباد قال أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي: ولما ذكرنا شرح طويل والكلام فيه كثير، ومن ضمن الاختصار، لم يجز له الإكثار.
وإنما نذكر في هذا الكتاب طرفاً من كل باب ليستدل الناظر فيه بما رسمناه على المراد مما تركنا، قانعين بالتعريض والإشارة من التطويل في العبارة فإذ ذكرنا جامع التأريخ من آدم إلى نبينا صلّى الله عليه وسلّم، وسني الأمم وشهورها، ونسيئها وكبائسها، وما اتصل بذلك فلنذكر الآن التأريخ من مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى مبعثه وهجرته ووفاته، ومن كان بعده من الخلفاء والملوك إلى هذا الوقت.