نقد أرسطو وأفلاطون في الفلسفة الإسلامية
د. أحمد الطيب يتتبع الجانب النقدي في فلسفة البغدادي والغزالي وابن سينا لفلسفة المشائين

القاهرة : محمد أبو زيد
هل يتوافق التيار الفلسفي الارسطي مع الاسلام ام ينحرف عنه؟ وهل نجح الفلاسفة الاسلاميون المنتمون الي المدرسة الاغريقية على اختلاف عصورها في ازالة ما بين فلسفة لعبت الوثنية او الشرك في تصوراتها الميتافيزيقية دورا بارزا ، وبين الدين الاسلامي؟ وهل هناك وقفات فلسفية جادة ونقدية في علم الكلام ضد هذه الفلسفة المشائية؟ تبدو هذه الاسئلة هي محور كتاب الجانب النقدي في فلسفة ابي بركات البغدادي للدكتور أحمد الطيب والصادر حديثا عن دار الشروق بالقاهرة حيث يشير فيه الي ان ابي البركات البغدادي ينقد الفلسفة المشائية نقدا شاملا في الميتافيزيقيا والفيزيقا على السواء وهو فيلسوف غير متقيد ولا ملتزم بمنهج الا بمنهج قد انتزعه من الفلسفة انتزاعا . ويعتقد الطيب ان نقد البغدادي نقد خالص ، او فلسفة خالصة لان أبا البركات حين ولي وجهه شطر الفلسفة يمحصها ويقومها ما كان يهدف مسبقا الى ان تتهافت الفلاسفة او لا تتهافت ، بل الامران عنده سواء ، وانما كان يهدف إلى صدق هذه الفلسفة واتساعها ومدى رصيد الحق واليقين في نظرياتها ومقولاتها . ويوضح الطيب ان الفلسفة المشائية انتقلت الى العالم الاسلامي في بغداد مقبلة من حران وانطاقيا بعد أن جفت منابعها في مدرسة الاسكندرية ورحلت عنها ايام الفتح الاسلامي ، وقدر لها ان تلقى قبولا من بعض المفكرين الاسلامين مثل الكندي والفارابي وابن سينا واتخذوها مادة خصبة لما اطلق عليه فيما بعد الفلسفة المشائية في الاسلام ، خاصة وانهم كانوا ينظرون الي هذا التراث على انه نتاج العبقريتين الخالدتين العبقرية الافلاطونية ، والعبقرية الارسطية . غير ان تاريخ الفكر الفلسفي يظهر ايضا ان هذه الفلسفة التي وجدها العرب لم تكن خالصة النسب الى افلاطون وارسطو ، وانما كانت تضم ايضا عناصر الفلسفة اليونانية ، ونزعات صوفية ، واتجاهات دينية من يهودية الى مسيحية ، خاصة ان اغراء الفلسفة اليونانية عند فلاسفة الاسلام كان بالغا مداه الي الحد الذي اعتقدوا معه بالعصمة المطلقة لهذه الفلسفة ، وكانت نظرتهم اليها كوسيلة نافعة في اثبات حقائق الدين وتضأمنه فالكندي مثلا يرتفع بها ارتفاعا متجاوز الحد . اما الفارابي فاولي خطواته في الفلسفة كانت الايمان المطلق بوحدة الفلسفة في ذاتها . اذا كان هذا موقف المؤيدين فان موقف المعارضين كما يوضح الكتاب للتراث اليوناني في الشرق الإسلامي بدأ مع المعتزلة الذين كانت لهم وقفات نقدية لا يمكن تجاهلها ، ازاء بعض المفاهيم وخصوصا عند ابراهيم بن سيار النظام في النصف الاول من القرن الثالث الهجري حيث كتب ردا على ابنادوقليس وارسطو ، وكذلك كان للأشاعرة صولات وجولات في هذا الصدد ، ولكن كل هذه الصولات رغم قيمتها النقدية في رأي الكاتب لم تبلغ شأن الحملة النقدية المنظمة التي شنها الامام الغزالي على الفلسفة والفلاسفة في نهاية القرن الخامس الهجري ، ولذا نجد بعض المؤرخين يعتبر الامام الغزالي الممثل الحقيقي لموقف المعارضة وان ما قبله من محاولات لم تكن تستند الي اصول عامة او تقوم على دراسة عميقة. ويعتقد الطيب ان الذي دفع الامام الغزالي لشن حملته الشعواء هذه هو تعرض هؤلاء الفلاسفة لاصول الدين ، الامر الذي يجعل نقد الغزالي وان استخدم فيه الحوار العقلي الفلسفي نقدا من وجهة نظر دينية ، او بعبارة اخري هو الرد الديني على بعض المباحث الفلسفية المدعم بالعقل والحجة للوصول الي بيان هذه الفلسفة في مجالات معينة ، كما أن نقده لم يصدر عن اتجاه محدد يلزم به ويطبقه على جميع المباحث الفلسفية الطبيعية والميتافيزيقية، بل كان في رأيه تلفيفيا من شتيت المذاهب والاتجاهات وفقدان الالتزام بمنهج محدد يغض الى حد ما من قيمة هذا النقد . اما موقف أبي البركات فيرى الطيب انه وان امكن اعتباره امتدادا للتيار الذي بدأه الغزالي من قبله ، الا انه كان نمطا آخر في نقده للفلسفة المشائية ، وظاهرة غير متوقعة في الامتداد الفكري الفلسفي في الشرق الاوسط . وبالرغم من الدور الذي اضطلع به الغزالي قبله فقد كانت ثمة حاجة الي ظهور موقف نقدي ذي منطلق فلسفي خالص . ويخرج البغدادي ، في اعتقاد الطيب عن التقليد الفلسفي الذي كان سائدا من قبل وهو محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة باعتبارهما مظهرين لحقيقة واحدة ، فمسائل الخلاف بين الدين والفلسفة لا تستهوي نزعة التجديد التي كانت تضطرب بين جنباته ثم ان ابا البركات ما كان حسن الظن بهذا التراث الفلسفي حتي يتراوح بينه وبين الدين بل ما كان هذا التراث في نظره إلا فيضا من الفساد المستمر وسوء التأويل للحقيقة الفلسفية القديمة في حد ذاتها وهذا هو الطريق حيث ينتبه البغدادي إلي زيف هذا التراث بحدسه الباطن ، فيقف منه موقف الشك والريبة ثم موقف الاتهام والنقد ، وهو بهذه الخصيصة فيلسوف بكل ما تحمله الكلمة من معنى بغض النظر عن النتائج التي يسلم إليها هذا الموقف الشكي النقدي . وتتميز مقدمة كتاب المعتبر للبغدادي باهمية قصوى في رأي الطيب في التعريف على الاتجاه الفلسفي له ، اذ ان هذه المقدمة من بين سائر كتبه ومؤلفاته هي المجال الوحيد الذي صرح فيه بشيء ينم عن اتجاهه اذ انها تربط بين تصوره الشخصي للتاريخ العام للفلسفة وما يترتب على هذا التصور من نتائج خطيرة ومنجهه الذي يلمح اليه باشارة خاطفة بعد ذلك . ويوضح الطيب ان البغدادي لا يعتقد في نقده للفلسفة المشائية على كتب الفلسفة ولا على الفلاسفة انفسهم لان كلاهما مدخول ومضطرب حسبما يرى لذا كان ينهج نهجا فكريا منبعثا عن فكره الذاتي وقد انتهى به المنهج الى تصويب بعض الافكار وتخطئه البعض الاخر ، وهو حين شك في هذا التراث لجأ الى الارتداد الى الذات كمقياس او كمنهج يمارس من خلاله نقده وتقويمه . ويقول الطيب ان نظرة دقيقة وشاملة للجانب الفيزيقي مثلا في فلسفة أبي البركات تظهر ان هذه الافكار الواضحة كانت بمثابة المنطلقات الفكرية عنده ، بل بعضها المعيار الذي على اساسه طرح تصوراته الخاصة ورفض تصورات الاخرين . فمثلا مشكلة كمشكلة المكان يعرض فيها لرأي المشائين الذي يحدد المكان بأنه السطح الداخل من الجسم الحاوي المحيط بالسطح الخارجي من الجسم المحوي وبعد نقاش طويل يطرح تصوره في هذه المشكلة فيقرر ان المكان هو الفضاء الثلاثي الابعاد ، ثم يقول فالمكان الان هو هذا بحسب التعارف العام والخاص ولا حاجة الي تحويله عن تعارف الجمهور ولا شك ان الاساس الذي صدر عنه البغدادي في هذه المشكلة كان أمرا مختلفا تماما عن الاساس المنهجي المشائي فاذا كانت التجربة الحسية مع المنطق في التصور المشائي فان الرجوع الى المفهوم العامي عند البغدادي كان الفيصل في الحوار المشتعل الاوار بينه وبين المشائين في تلك المشكلة . وكما يخصص أحمد الطيب فصلا للحديث عن المكان يخصص اخر للحديث عن الزمان الذي يقول فيه ابو البركات واما تصوره ومعرفة ماهيته الموجودة فانه في العرف العامي من البين الجلي وفي التعريف التام المنطقي العقلي من الغامض المشتبه الخفي ، فنحن الان نهتدي بمعرفته العامية ونجعلها موضوعا لما نحكم به علىه وفيه من محصول المعرفة النظرية العقلية . ومن لفتات البغدادي النقدية التي يذكرها الكتاب نظرته الى طبيعة العلم الميتافيزيقي ومكانته بين سائر العلوم الاخري ، فارسطو يرى قسمة العلوم الى النظرية والعملية ، فيما يرى صاحبنا أن معنى الوجود في هذه العلوم او بمعنى اخر الانماط الوجودية التي تنتمي اليها وتتحقق ثم ما يترتب عليها من ادراكات ومعارف تتغاير فيما بينها وتتخالف ، وفكرته هنا ان العلم والمعرفة ، والادراك صفات اضافية للعالم والعارف والمدرك الي العلوم والمدرك والمعروف لكن ثمة فرقا بين معرفتي وادراكي لما هو موجود من موجودات الاعيان وبين معرفتي وادراكي له مع صفات واحوال تتعلق به ، كما ان الموجود في نظريته اعم من ان يكون موجودا محسوما او غير محسوم ، بمعنى ان الموجود الذي نريد معرفته او العلم به قد يكون جسما محسوما وقد يكون ذاتا غير جسمية ولا حسية وسواء كان هذا الموجود انسانا ام حيوانا او متعلقاتهما اوامر اخر فوق الجسم او الحس ، فهو في كلا الحالتين موجود والعلم به علم وجود ومعني هذا ان العلم الالهي او الميتافيزيقا اذا كانت تعني بالموجودات اللامادية فهي اذن في رأيه فرع العلم بالموجود لا فرع علم نظري كما ذهب الى ذلك المشاؤون ، بل أن كل العلوم الفلسفية التي صنفها المشاؤون تحت العلم النظري مع عند أبي البركات من العلم بالموجود وذلك في مقابل القسم الثاني من العلوم الذي هو علم الصور الذهنية . ويرفض الدكتور أحمد الطيب في ختام كتابه اعتبار الوهم حجة يستند اليها البغدادي في المسائل الميتافيزيقية ، بل هو في رأيه ، استطاع ان يحطم الفلسفة المشائية في اغلب مناحيها في الطبيعة في النفس فيما بعد الطبيعة وهو بهذا الاعتبار يكون اول ناقد للفلسفة المشائية في الفكر الفلسفي الاسلامي نقدا فلسفيا يقوم على منهج فلسفي والمنطق الحقيقي لكل المحاولات التي جاءت بعده .