«ما هي الفلسفة؟» سؤال وجيه ومباشر، يدخلنا رأسا في مجال الفلسفة إذ يجعلنا نستعمل أداتا من أدواتها ألا وهي السؤال. وجوابا عليه يقول مارتن هايدجر (1889-1976) «عندما نسأل: ما الفلسفة؟… فالهدف هو أن ندخل في الفلسفة، وأن نقيم فيها ونسلك وفق طريقتها، أن نتحرك داخل الفلسفة لا أن ندور من الخارج حولها، أي أن نتفلسف» إذن فالتساؤل عن ماهية الفلسفة هو في حد ذاته فلسفة.
وفي هذا الصدد يمكن القول بأن تحديد ماهية الفلسفة تعترضه عدد من الصعوبات يمكن حصرها اختصارا في ثلاثة أساسية وهي:
1) أن الفلسفة أكثر المباحث عرضة لتحديدات وتعريفات وتمثلاث وأحكام قبلية عامية ساذجة، منها على سبيل التمثيل دون هم الاستنفاد قولهم بان الفلسفة: غموض، ضبابية، صعبة، إلحاد وخروج عن الدين وكلام فارغ لا معنى له… الخ. لذا يجب علينا أولا أن نطهر أذهاننا من هذه التمثلات العامية الساذجة المجانية إن كنا نتوخى الوقوف على ماهية الفلسفة كما تمثلها الفيلسوف ومريد الفلسفة.
2) أن الفلسفة لا تعرف بموضوعها ولا بنتائجها، ذلك لأنه كما قال القدماء «الفلسفة أم العلوم»، فهي إذن غير ذات موضوع واحد ووحيد كما هو الشأن بالنسبة لباقي العلوم، بل على العكس من ذلك تتخذ الفلسفة من كل شيء في الكون مشخصا (ماديا) كان أو مجردا (معنويا) موضوعا لها، تستحضره في ذاتها، تفكر فيه وتنتقده، تستلهمه وتلهمه… كما أن نتائجها غير ذات نفع مادي مباشر كما هو حال نتائج مختلف العلوم، ذلك لأن الفلسفة لا تتوخى المعرفة حبا في المنفعة بل حبا في المعرفة ذاتها. وفي هذا يقول فيتاغوراس Pythagore (حوالي 572-497 قبل الميلاد) «الفلسفة هي محبة الحكمة لذاتها»، ويقول كارل ياسبيرز (1883-1969) «كل من يمارس الفلسفة يريد أن يحيا من أجل الحقيقة» إذ أن «كرامة الإنسان هي إدراك الحقيقة»
3) أن تعاريف الفلسفة تتعدد بتعدد الفلاسفة أنفسهم ذلك لأن تاريخ الفلسفة يفيدنا بأن الفلاسفة لم يتفقوا قط حول تعريف واحد للفلسفة جامع مانع لها. وهذا الاختلاف ذاته خاصية من خصائص التفكير الفلسفي، إذ أنه أساس خصوبتها واستمرارية عطاءاتها المتمثلة في النظر إلى الإنسان والعالم والله من زوايا وجهات نظر متباينة يمكن مع تعددها وتنوعها الاقتراب أكثر فأكثر من حقيقة الأشياء
واختلاف الفلاسفة لتعريفهم للفلسفة ذاته ناتج عن مجموعة من الأسباب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
أن تعريف الفلسفة مشروط بفلسفة صاحبه: إذ أن كل تعريف للفلسفة هو بمثابة مرآة تعكس لنا فلسفة صاحبه أو رؤيته الخاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ والحياة.. وكذا موقفه من كل هذا. وغير خاف عنا أن مثل هذه المواضيع مدعاة لاختلاف وجهات النظر إليها والتموقف منها فمثلا أفلاطون (428-348ق.م) يعرف الفلسفة بأنها «علم الحقائق المطلقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء»وهذا التعريف يعكس لنا فلسفة أفلاطون ويسير في اتساق مع رؤيته للعالم. إذ أن أفلاطون يقسم العالم إلى عالمين: عالم مادي سفلي محسوس(يدرك بواسطة الحواس) وهو الذي نعيش فيه فهو عالم المادة المتحركة دوما والمتغيرة باستمرار، ومن هنا فالحقيقة في هذا العالم منعدمة الوجود وإن وجدت فهي لا مطلقة ولا ثابتة بحكم حركته الدائمة تلك. وهناك عالم مثالي علوي معقول (يدرك بواسطة العقل) وهو عالم المثل العليا الثابتة ثباتا مطلقا، وأعلى مثال في هذا العالم هو مثال الخير الأسمى وهو الله. ومن هنا فالحقيقة موجودة في عالم المثل. فالعالم السفلي عالم الطبيعة (الفيزيقا) والعالم العلوي عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا).
وإذا انتقلنا إلى أرسطو ( 384-322 ق.م) نجده يعرف الفلسفة بأنها « علم المبادئ والعلل الأولى للوجود »أو«علم الوجود بما هو موجود» وهذا التعريف كذلك ينسجم مع فلسفة أرسطو ويعكس لنا صورة عنها. فأرسطو يرى بان ما من معلول إلا ووراءه علة أي أن لكل نتيجة سببا، فإن نحن أردنا أن نعرف الموجودات كنتيجة متحققة في الكون علينا أن نعرف علة وجودها. والعلل عند أرسطو أربعة وهي: علة مادية وهي ما منه الشيء يكون (كالخشب مثلا)، وعلة صورية وهي ما عليه الشيء يكون (كصورة أو شكل الكرسي مثلا)، وعلة فاعلة وهي ما به الشيء يكون (كالنجار مثلا)، ثم علة غائية وهي ما من أجله الشيء يكون (كالجلوس عليه مثلا). أما علة العلل أو العلة الأولى التي لا علة لها فهي الله ومن هنا كانت الفلسفة عند أرسطو هي العلم بهذه المبادئ أو العلل الأولى للوجود.
أن تعريف الفلسفة مشروط بروح عصره وظروف مجتمع صاحبه: وفي هذا قال كارل ماركس Karl Marx (1818-1883) « إن كل فلسفة هي الخلاصة الروحية لعصرها». فالتاريخ الإنساني ليس متماثلا في تجاربه وحضاراته بل لكل شعب ولكل عصر ظروفه ومعطياته الخاصة ونوع إشكالياته المهيمنة فيه… فالعصر اليوناني-مثلا- لا يتطابق مع العصر الوسيط أو عصر النهضة كما أن المجتمع المسيحي غير المجتمع الإسلامي… فإن نحن أخذنا مثال ابن رشد (1126-1198) وجدناه يعرف الفلسفة أو فعل التفلسف قائلا «فعل التفلسف ليس شيئا آخر أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع… فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم». فالفلسفة إذن تأمل في المخلوقات وأخذ العبرة منها من حيث هي دالة على الخالق(الله)، وكلما كانت معرفتنا بالمخلوقات دقيقة كلما كانت معرفتنا بالله الخالق لها دقيقة كذلك. وهنا نجد ابن رشد يسعى جاهدا إلى البرهنة على أن «الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة» على حد قوله أي الاستدلال على أن الفلسفة والدين معا يستهدفان تحقيق نفس الغاية ألا وهي معرفة الحق الخالق وإثبات وجوده. فإذا كان الدين يحقق هذا الهدف من خلال مطالبتنا بتدبر آيات القرآن فإن الفلسفة تسعى إلى تحقيق نفس الهدف من خلال اعتبار وتدبر آيات الله في خلقه مصداقا لقوله تعالى «ألم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؟». وسبب التجاء ابن رشد إلى تعريف الفلسفة باعتبارها وسيلة مثل الدين توصل إلى معرفة الخالق هو أن الإشكال الذي هيمن في المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط هو إشكال مدى علاقة الفلسفة (الحكمة) بالدين (الشريعة) وهو ما ينعت بإشكالية العقل والنقل.
أن تعريف الفلسفة مشروط بتقدم الفكر العلمي في المرحلة التي وضع فيها: إذ أن نشأة الفلسفة ذاتها كانت مرتبطة بالعلوم: فهذا فيتاغوراس يرجع الكون إلى عدد وما اعتبار الفلسفة كبحث عن الحقيقة لذاتها إلا محاكاة لاستدلالات الرياضيات المجردة والمتعالية عن المنفعة المادية والتطبيق المحسوس. وهذا أفلاطون يكتب على باب أكاديميته «لا يدخل علينا من لم يكن رياضيا(أو مهندسا)». وهذا روني ديكارت (1596-1650) يقول «الفلسفة شجرة جذورها الميتافيزيقيا وجذعها العلوم الطبيعية وأغصانها المتفرعة عن هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى… وترجع إلى ثلاثة رئيسية هي: الطب والميكانيكا والأخلاق… وتفترض معرفة كاملة بسائر العلوم». فعلاقة الفلسفة بالعلم إذن علاقة جدلية إذ أن تطور أحدهما يؤدي بالضرورة إلى تطور الآخر والعكس بالعكس. وفي هذا السياق يقول هيجل (1770-1831) «إن الفلسفة تظهر في مساء اليوم الذي تظهر في فجره العلوم» ويقول انجلز (1820-1895)« إن الفلسفة حية دائما في العلوم ولا يمكن أن تنفصل عنها».
وإذا كان الفلاسفة قد اختلفوا في تعريفهم للفلسفة فهم كذلك اختلفوا في طرق تفكيرهم فيها وإنتاجهم لها وتعبيرهم عنها: فمثلا سقراط Socrate (حوالي 469-399ق.م) يتخذ من الحوار التوليدي أسلوبا في التفكير، في حين أن أرسطو يعتمد على العرض المنطقي الصارم أما نتشيه Nietzsche(1844-1900) فيلجأ إلى اللغة الشاعرية والبلاغة والرمز، في الوقت الذي يرتكز فيه سبينوزا Spinosa(1632-1677) على الاستدلال شبه الرياضي…الخ.
هناك مجموعة من الخصائص التي يكاد يجمع عليها جل الفلاسفة إن لم نقل كلهم، وفيما يلي سنعرض لبعضها:
‌أ- الشمولية: والمراد بها دراسة الكليات لا الجزئيات، أي الاهتمام بما هو شمولي عام والابتعاد عن الحالات الفردية المعزولة في الزمان والمكان، فإذا كان الجيولوجي يبحث في أصل تكون جبل أو نهر ما فإن الفيلسوف يبحث في أصل الكون ككل لا في أصل جزء منه.
‌ب- النسقية: وهي من جهة التنظيم والترتيب المنهجي المحكم للقضايا والإشكاليات والأفكار، ومن جهة ثانية الاتساق وعدم التناقض مع الذات.
‌ج- الصرامة المنطقية: وتتمثل في التدرج في عرض الأفكار على شكل سلسلة مترابطة الحلقات يتم فيها الانتقال من البسيط إلى المركب ومن السهل إلى الصعب ومن المعلوم إلى المجهول، ثم استخلاص النتائج المترتبة عنها وتبريرها منطقا بأن يكون الحجاج المقدم عنها حجاجا عقليا مقبولا ومقنعا.
‌د- الموقف النقدي: ويقصد به إعادة النظر الدائمة في القضايا والأفكار والقيم القديمة السائدة حول موضوع ما. وفي هذا يقول سقراط بأن الخطاب الفلسفي «يبحث على الإزعاج ويوقظ من النعاس العميق» ويضيف برتراند راسل Bertrand Russell(1872-1970) بأن الفلسفة «قادرة على اقتراح إمكانات عديدة توسع آفاق فكرنا وتحرر أفكارنا من سلطان العادة الطاغي… وتزيل التزمت» وذلك باعتماد الشك المنهجي( (Doûte Méthodique في كل شيء من أجل الوصول إلى اليقين، مع الإيمان بأن الحقيقة –التي تنشدها كل فلسفة – ليست مطلقة بل هي نسبية دوما. ولذا نجد أنه ليس هناك من فيلسوف لم ينتقد سابقيه أو معاصريه وليس هناك من فيلسوف لم ينتقد من معاصريه أو لاحقيه، و بهذا المعنى تكون الفلسفة عبارة عن حوار انتقادي.
‌ه- التساؤل المستمر: وهو في الوقت ذاته نتيجة للموقف النقدي وسبب له، إذ أنه كما يقول ياسبيرز «الأسئلة في الفلسفة أكثر أهمية من الأجوبة، وكل جواب يصبح بدوره سؤالا جديدا». فالفيلسوف الحق هو الذي يبتدئ بسؤال وينتهي إلى علامة استفهام، وبين هذا وتلك يقترح الحلول والأجوبة الممكنة ويبررها وينتقد غيرها ويعلل ذلك بطرق مبرهن عليها…
‌و- الاهتمام بقضايا الإنسان: وذلك بالبحث فيه من حيث أصله وطبيعته ووظيفته ومصيره ومختلف علاقاته مع نفسه والآخرين ومع الطبيعة ومع الله، ولهذا كانت رسالة الفلسفة هي الحرص على قيمة الإنسان كل إنسان أيا كان. وفي هذا يقول هيجل « إن الدفاع عن الفلسفة هو دفاع عن الإنسان!».
يقول فولتير Voltaire (1694-1778)«مهما اختلفت معك سأدافع عنك إلى آخر رمق في حياتي حتى تعبر عن رأيك بكل حرية» .
وإذا عدنا إلى نشأة الفلسفة كنسق فكري إشكالي نقدي وكصورة للعالم نجد بأن مكان ميلادها كان هو بلاد اليونان وزمانه كان هو القرن 6 قبل الميلاد. ولهذا ذهب المتعصبون للغرب أمثال ادموند هوسرل Edmund Husserl (1859-1938) إلى أنها « علم يوناني». ولكن هذا الزعم يجب ألا ينسينا بأن الأقوام الشرقية القديمة كالبابليين والآشوريين والهنود والصينيين والفرس والفراعنة قد كانت لهم أفكار ومواقف وتصورات وأطروحات ذات نفحة ميتافيزيقية وصبغة فلسفية حول الإنسان والعالم والله. إلا أن هذه التصورات كانت من جهة ذات هدف نفعي براغماتي علمي، ومن جهة ثانية لم تكن مبنية بناء نظريا صوريا منسقا، ومن جهة ثالثة كانت تفتقر إلى الاستدلال المنطقي والبرهان العقلي. فهذه المميزات لم تتأتى للإنسان إلا مع اليونان وقد تحققت نتيجة لتوفر مجموعة من العوامل التي نذكر على رأسها ما يلي:
• العامل الجغرافي: المتمثل في الموقع الاستراتيجي الذي كانت تحتله بلاد اليونان الكبرى، إذ كانت تطل على حوض البحر الأبيض المتوسط مهد الحضارات، وتتوسط ثلاث قارات (أوروبا وآسيا وإفريقيا).
• العامل التاريخي: إذ تأتى للقبائل والمدن والجزر اليونانية المشتتة والمتطاحنة الالتفاف حول وحدة قومية وأمة واحدة خلال القرن 9 قبل الميلاد.
• العامل الاقتصادي: ومؤشره نمو قطاعي الفلاحة والصيد البحري وازدهار الصناعة باكتشاف الحديد وصهره علاوة على تطور التجارة الداخلية والخارجية البرية والبحرية خاصة بعد صك النقود والانتقال من المقايضة إلى البيع والشراء.
• العامل الاجتماعي-السياسي: وتجلى في ظهور ثلاث شرائح اجتماعية تتنافس على الحكم (وهي شريحة الفلاحين ثم الصناع فالتجار)، الشيء الذي أدى إلى تبني النظام الديمقراطي المرتكز على الحرية في الترشيح والتصويت وعلى الحوار ومقارعة الحجة بالحجة وعلى احترام الرأي الآخر ونبذ العنف والاحتكام إلى صوت الأغلبية، والخضوع لسلطة العقل، وقواعد اللعبة السياسية هاته سرعان ما ستتحول إلى قواعد اللعبة الفكرية عامة ( إذ سيتبناها التفكير الفلسفي بل وسيطورها).
• العامل الثقافي-الفكري: إذ جمع التراث الأسطوري اليوناني في ملحمتين يونانيتين وهما: الإلياذة والأوديسا اللتان نسبتا لهوميروس HOMERE (حوالي 800ق.م)، كما تم تبسيط الأبجدية اليونانية وتيسير التعليم وتعميمه.
وهكذا نرى بأن تضافر هذه العوامل وغيرها هو الذي أبان عن الحاجة إلى استكناه الوجود وبالتالي إلى التفلسف. فلو توفر هذا لغير اليونان من قبل لكان ظهور الفلسفة عند غير اليونان.
ولقد اشتقت كلمة فلسفة PHILOSOPHIE من كلمتين يونانيتين وهما فيلوس (Philos) ومعناها محبة, ثم صوفيا (Sophia) وهي الحكمة, وبهذا تكون الفلسفة هي محبة الحكمة ويكون الفيلسوف (Philosophos)هو محب الحكمة وليس الحكيم «لأن الحكمة لا تضاف لغير الآلهة» كما قال فيتاغورس. إذن «فالفلسفة هي دراسة الحكمة» حسب قول ديكارت، والحكمة هي«الخير الأسمى» وفق تعريف سقراط. والخير هنا ليس هو المنفعة الذاتية المادية العاجلة بل هو الكمال والسمو الروحي. وبهذا تكون الفلسفة أو«الحكمة استكمال النفس الإنسانية بتصور الأمور والتصديق بالحقائق النظرية والعملية على قدر الطاقة الإنسانية» على حد تعبير ابن سينا(980-1037).
وقد كان ظهور التفكير الفلسفي مقترنا بالدهشة L’Etonnement: فهذا أرسطو يقول « إن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هو الدهشة» ومن هنا كانت « الدهشة هي أم الفلسفة ومنبعها الخصب!» وذلك كما قال آرتور شوبنهاور Arthur-Schopenhauer (1788-1860) « لأن الإنسان حيوان ميتافيزيقي، ومما لا شك فيه أنه عند بداية يقظة وعيه، يتصور فهم ذاته أمرا لا يحتاج إلى عناء، غير أن ذلك لا يدوم طويلا: فمع أول تفكير يقوم به، تتولد لديه تلك الدهشة التي كانت على نحو ما، أصل الميتافيزيقيا». والمراد بالدهشة هنا ليس فقط الحيرة والتعجب بل هي حالة توتر ذهني ونفسي ممزوجة بالقلق ومفعمة بالاهتمام وأحيانا بالألم والمعاناة. وللدهشة علاقة بأكثر من مفهوم مثل: العزلة والغربة والانفصال والانفصام والذهول بل وحتى القطيعة. إلا أن الدهشة الفلسفية غير الدهشة العلمية أو العامية ذلك لأن العالم والعامي معا لا يندهشان إلا أمام الظواهر الغريبة النادرة بغية فهمها ومعرفة أسبابها كما قالت العرب«إذا عرف السبب زال العجب»، أما الفيلسوف فيتجاوزهما ليندهش أمام كل الظواهر بل وحتى أمام أكثر الأشياء والوقائع ألفة واعتيادا مستهدفا تأمل ذاته وعالمه لتكوين صورة واضحة المعالم عنهما.
وقد ظهر التفكير الفلسفي كنمط جديد في مناخ نظري-ثقافي تميز بهيمنة نوعين من التفكير: أولهما الأسطورة وثانيهما السفسطة.
فأما الأسطورة (الميثوسMythos) فكانت تنتصب كقول ديني مقدس يعرض للخوارق وبطولات الآلهة وصراعاتهم وخلقهم لمختلف الكائنات وتدبيرهم لشؤونها وسهرهم على نظام الكون… الخ. وأما السفسطة فكانت تعتمد على أصناف الكلام المجازي والمحسنات البديعية والتلاعب بالألفاظ أو بكلمة واحدة على البلاغة لتمرير خطابها المؤسس على مركزية الإنسان في الكون، هذا الإنسان الذي قال عنه أحد أقطابها وهو بروتاغوراسProtagoras (481-411ق.م)«الإنسان مقياس كل شيء».
وهكذا وجدت الفلسفة نفسها منذ بداية عهدها بالحياة مطالبة بإثبات مشروعيتها والدفاع عن كينونتها وانتزاع أحقيتها في الوجود داخل الساحة الفكرية ليونان القرن السادس قبل الميلاد. فكان تسلحها بالمنطق (اللوغوسLogos) ومخاطبتها لأنبل ما في الإنسان ألا وهو العقل (نوسNous). وفي هذا يقول هيرقليطس Héraclite(544-483ق.م)«دعونا نصغي لحكمة اللوغوس» ويضيف أفلاطون«علينا أن نساير العقل إلى حيث يذهب بنا».
وبعد صراع مرير بين الفلسفة(اللوغوس) والأسطورة (الميتوس) من جهة وبينها وبين السفسطة من جهة ثانية استطاعت الفلسفة-باعتمادها الحوار التوليدي كمنهج والاستدلال العقلي لإقحام الخصم والبرهنة على أطروحاتها أقول استطاعت الفلسفة- أن تشق لنفسها طريقا أوصلها إلينا اليوم ولكن ثمنها كان غاليا إذ مات سقراط من اجل أن تحيا الفلسفة.
وهذا يقودنا إلى التساؤل عمن يكون الفيلسوف؟ ولإعطاء صورة ولو موجزة عنه يقول نيتشه«(الفيلسوف هو) ذلك الكائن الذي يتصارع فيه لأول مرة… الميل إلى الحقيقة مع…الأخطاء» ويضيف ميرلوبونتيMerleau-ponty-Maurice (1908-1961)«إن الفيلسوف هو الإنسان الذي يستيقظ ويتكلم». ومعنى هذا أن الفيلسوف شخص ينفرد عن غيره بيقظة وعيه واتقاد حسه النقدي المتمثل في استهدافه للحقيقة، وإيمانه بأن الخطأ لحظة من لحظات اكتشافها، والتزامه بها، وسعيه الحثيث من أجل تبليغها ولو كره الكارهون. ومن هنا كانت معاناة الفلاسفة ومحنهم العديدة، ولهذا ذاته يقال «الفلسفة معاناة» فهي معاناة لإلحاحية القضايا وامتهان لحرقة السؤال.
معنى الفلسفة والمذاهب

كثر الحديث في الاونة الاخيرة عن الفلسفة ومعناها ، وتعريفها وفي ما تبحث ، وهل هناك تعريف جامع مانع للفلسفة ؟ وهل الحاجة اليها ضرورية ام انها اصبحت غير ذات معنى مع تطور العلم وتشعب ميادينه ؟ وغيرها من الاسئلة التي تحاول النفس الانسانية سبر اغوارها والبحث في معانيها ؟ ..
بداية نقول ان التعاريف التي وضعت للفلسفة ، ونحن نجدها كثيرة في كتب الفلسفة والفلاسفة ، منذ اول ناطق بها الى يومنا هذا . تكاد تحتل مكان الصدارة من حيث الكثرة اذا ماقارناها بسائر العلوم والمعارف الاخرى .
فمن حيث اللغة فان كلمة فلسفة ترجع الى الكلمة اليونانية الاصل (فيلوسوفيا ) ، والتي هي مركبة من جئرءين هما ( فيلو) بمعنى (محبة ) ( وسوفيا ) بمعنى ( الحكمة ) ، وعليه تدل كلمة الفلسفة من الناحية الاشتقاقية على محبة الحكمة وايثارها ، وقد نقلها العرب الى العربية بهذا المعنى في عصر الترجمة . وفي هذا المعنى يقول ابو نصر الفارابي ت 950 هـ اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل على العربية ، وهو على مذهب لسانهم فيلوسوفيا ومعناه ايثار الحكمة او محبة الحكمة ، والمؤثر للحكمة عند اليونان هو الذي يجعل كل حياته ، وغرضه من عمره الحكمة .
وقد عرف الجرجاني الحكمة بانها العلم الذي يبحث فيه عن حقائق الاشياء على ماهي عليه بقدر الطاقة البشرية ، فهي اذا علم نظري غير الي وقد اوصى الله تبارك وتعالى الناس بالحكمة فقال :
(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا اولوا الالباب) صدق الله العظيم . " والحكمة ضالة المؤمن انى وجدها اخذها " كما بين ووضح رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) .
هكذا كانت الفلسفة بمعنى الحكمة عند الاغريق وعند العرب ايضا اسمى الدراسات واجلها . وكان فيثاغورس 572- 497 ق. م اول من وضع معنى محددا لكلمة الفلسفة فقد نسب اليه انه قال " ان صفة الحكمة لاتصدق على اي كائن بشري انما الحكمة لله وحده " لذلك وصف نفسه بانه ليس حكيما بل محبا للحكمة . وقد ذكر سقراط 470 - 399 ق. م ذلك في محاورة فيدون فقال ان الحكمة لاتضاف الا لله اما البشر فحسبهم محبتها .
الا ان افلاطون 428 - 348 ق . م هو الذي اسبغ على الفلسفة معنى فنيا محددا حين وصف الفيلسوف بانه شخص يصب اهتمامه على الحقيقة وليس على المظهر ويعني بادراك الوجود الماهوي للاشياء وطبيعتها ، ومن ذلك الحين اصبحت الفلسفة باوسع معانيها تدل على محاولة تاملية ومعقولة لمعرفة خصائص وطبيعة الكون بماهو كل .
هذا من حيث الكلمة واشتقاقاتها ، اما من حيث الاصل :
فقد نشات الفلسفة في ما يقول ارسطو 384 - 322 ق . م من الدهشة وحب الاستطلاع ، فحين وجد الانسان نفسه حيال تغيرات كثيرة مطردة وقف منها موقف المندهش الحائر ، وسعى الى معرفة اسبابها وخفاياها والوقوف على اسرارها ليزيل عن نفسه الاندهاش ويذهب الشك والحيرة ، ويعيد الى نفسه الاستقرار ، فطرح سؤالين مختلفين هما :
ما هي الاشياء ؟ وكيف تحدث الاشياء؟
وربما يقع الخطأ في ظن البعض عندما يعتقدون ان هذين السؤالين يعودان الى اصل واحد ، لان السؤال الاول فلسفي بحت والثاني علمي بحت ، وقد نشات الفلسفة عندما حاولت الاجابة على السؤال الاول ، ونشا العلم في محاوله منه للاجابة على السؤال الثاني .
ومهما يكن من امر فقد نشات الفلسفة والعلم وكأنها موضوع واحد لاحدود ولا فواصل بينهما ولاعجب ان ظل العلم غير متميز عن الفلسفة ولا الفلسفة عن العلم طوال قرون متعددة.
والواقع ان العلوم الخاصة كالفيزياء والفلك والرياضيات وعلم النفس كلها كانت منضوية تحت لواء الفلسفة ، ولعل هذا هو السر في ان الفلاسفة القدامى كانوا علماء كذالك الى جانب كونهم فلاسفة ، فلقد كانت كتاباتهم تشتمل على مباحث فلسفية واخرى علمية على حد سواء ، وكان كل واحد منهم من امثال افلاطون وارسطو وابن سينا 980 n 1037 وابن رشد 1126- 1198 وتوما الاكويني 1225- 1274 وديكارت 1596- 1650 وغيرهم عالم رياضيات وعالم طبيعة الى جانب كونه فيلسوفا . وهاهو ديكارت يقول : " ان الفلسفة اشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء وفروعها الطب والميكانيكا والاخلاق " .
وقد استمر اقتران العلوم بالفلسفة حتى القرن السابع عشر ، فمع البعد الزمني الشاسع بين افلاطون وديكارت استمرت العلوم في عصر ديكارت تعد فروعا من الفلسفة ، وهذا يرجع الى النهج الذي انتهجه رجال الفكر في الفلسفة والعلوم والذي كان منهجا واحدا ويقوم على النظر العقلي للاشياء .
وبعد ذلك شهدت العصور الحديثة حركة انشقاق متوالية داخل الفلسفة ، وذلك حين ادخلت طريقة الملاحظة التجريبية والفرضية والتحقق في مجال العلوم ، فانفصل عن الفلسفة اول ما انفصل علم الفيزياء على يد كل من غاليلو 1564-1642 ونيوتن 1642-1727 وبعدها انفصل علم الكيمياء على يد لافوازيه 1743- 1794 ، واستقل علم الاحياء على يد كلود برنار1813 -1878 وتبعها علم النفس ثم علم الاجتماع وغيرها من العلوم .
وحين انفصلت العلوم عن الفلسفة ظن رجال الفكر وعلى رأسهم اوغست كونت 1798-1857ان الفلسفة اصبحت غير ذات موضوع لانه لاطائل تحتها ولافائدة منها ، فقد غدت في نظر هؤلاء عقيمة لانها تبحث في ما لايمكن معرفته بحال من الاحوال ، فتصور هؤلاء ان الفلسفة قد تراجعت وضعفت ولم تعد لها القدرة على الاطلاع بما اوكل اليها من مهمات ، ولابد لها ان تتراجع امام العلوم المتخصصة .
الا ان نظرة كهذه الى الفلسفة ، وان كان لها مايسوغها من بعض النواحي لم تلق استجابة من رجال الفكر والفلسفة ، لذلك لم يتوقف هؤلاء وغيرهم عن مواصلة التفلسف في المسائل الاساسية للوجود والاخلاق والمنطق والمصير الانساني وغيرها ، بل اننا نجد على العكس من ذلك ان المسائل الفلسفية اخذت تتعقد وتتفرع والبحوث الفلسفية تتزايد والصراعات الفكرية تحتدم وتشتد بين الانظمة الاجتماعية المختلفة ، وهذا يعني على العكس مما يتصور البعض ، فان للفلسفة فعالية ملازمة للانسان بوصفه كائنا عاقلا ، وانه لن يكف عن التفلسف الا حين يتخلى عن انسانيته وعن عقلانيته .
اما حيث التعريف الاصطلاحي لكلمة ( فلسفة ) فانها وكما اسلفنا سابقا فهي كثيرة ، ولعل التعريف المناسب للفلسفة هو الذي ذهب اليه بعض الفلاسفة من انها المعرفة الناشئة عن العقل . وان هذا التعريف على اختصاره ، فانه جدير بالاختيار .
وان جدارة هذا التعريف لاتعني ان هذا التعريف هو الوحيد للفلسفة وانه جامع مانع لهذه الكلمة ، بل ان هناك الكثير من التعاريف نورد بعضا منها :
سقراط : الفلسفة هي البحث العقلي عن حقائق الاشياء التي تؤدي الى الخير .
افلاطون : الفلسفة : هي البحث عن حقائق الموجودات ونظامها الجميل لمعرفة المبدع الاول .
ديوجانيس : الفلسفة : علم السعادة في الحياة والعمل على تحقيقها .
الكندي : الفلسفة : هي علم الاشياء بحقائقها .
الفارابي : الفلسفة : العلم بالموجودات بما هي موجودة .
ابن رشد : الفلسفة : هي النظر بالموجودات من جهة دلالتها على الصانع .
جون لوك : الفلسفة : دراسة العقل البشري .
اذاً فالفلسفة : هي دراسة فكرية عميقة تبحث في الله والكون والانسان ، من اجل الوصول الى حقائق الاشياء ، والوقوف على اسباب وجودها وهل بالامكان النظر بالموجودات من حيث العقل ام من حيث الحواس ؟ ام كلاهما .
والمعروف ان جمهرة الفلاسفة على اتفاق في ان للفلسفة موضوعا تعالجه ومبحثا تدرسه وتحاول البحث فيه ، وان طبيعة كل موضوع تبحث فيه الفلسفة هي التي تحدد مناهج البحث فيه ، شانها في ذلك شان العلم الطبيعي الذي له موضوع يترتب عليه منهج يلائم طبيعة الموضوع الذي يدرسه ، فمثلا اذا تحدد موضوع الفلسفة الميتافيزيقية بالوجود اللامادي ، تحتم ان يكون منهج البحث فيه عقليا استنباطيا ولايمكن ان يعالج هذا الموضوع بمناهج التجربة . واذا تحدد موضوع العلم الطبيعي بالجزئيات المحسوسة كان الانسب لدراسة ذلك اصطناع المنهج التجريبي .
ولكن الوضعيين قد انكروا هذا الموقف التقليدي وزعموا ان الفلسفة غير ذات موضوع واستبعد اتباع الوضعية المنطقية الميتافيزيقا في مجال البحث على ان قضاياها فارغة غير ذات معنى ، وعدوا ان الفلسفة منهج بغير موضوع ، وانها مجرد طريقة لتحليل الالفاظ تحليلا منطقيا ، وهكذا انصرفت الفلسفات المعاصرة عن دراسة الوجود المطلق المجرد والبحث في طبيعة المعرفة وتحديد مصادرها .
اما موضوع الفلسفة ومباحثها في وضعها التقليدي الشائع فقد شملت ثلاثة مباحث رئيسية هي :
1- الانطلوجيا او مبحث الوجود .
2- الابستمولوجيا او نظرية المعرفة.
3- الاكسيولوجيا او مبحث القيم .

الانطولوجيا او مبحث الوجود
ويشمل مبحث الوجود او الانطولوجيا ( Ontology ) النظر في طبيعة الوجود على الاطلاق مجردا من كل تعيين او تحديد ، وبذلك يترك للعلوم الجزئية البحث في الوجود من بعض نواحيه ، فالعلوم الطبيعية مثلا تبحث في الوجود من حيث هو جسم متغير ، والعلوم الرياضية تبحث في الوجود من حيث هو كم او مقدار ، اما البحث في الوجود من حيث هو وجود على الاطلاق فمن شأن مبحث الوجود او مابعد الطبيعة عند القدماء . وبهذا تنصرف العلوم الجزئية في البحث في ظواهر الوجود.
ويدخل ضمن مبحث الوجود البحث في خصائص الوجود عامة لوضع نظرية في طبيعة العالم ، والنظر في ما اذا كانت الاحداث الكونية تقع على اساس قانون ثابت او تقع مصادفة او اتفاقا ؟ وفي ما اذا كانت هذه الاحداث تظهر من تلقاء نفسها ام تصدر عن علل ضرورية تجري وفق قوانين الحركة ؟
وفي ما اذا كان هناك اله وراء عالم الظواهر المتغير ؟ وكذلك يبحث في صفات الله وعلاقته بمخلوقاته ، وفيما اذا كان الوجود ماديا صرفا او روحيا خالصا ، او مزيجا منهما ؟ الى غير ذلك من ميادين الدراسات التي يدخل في مبحث الوجود ، وقد وضعت هناك عشرات المذاهب والنظريات حلا لهذه المشكلة الفلسفية.

مبحث الابستمولوجيا او نظرية المعرفة
اما مبحث الابستمولوجيا Epistemology او مايسمى بنظرية المعرفة فهي البحث في امكان العلم بالوجود او العجز عن معرفته ، هل في وسع الانسان ان يدرك الحقائق او ان يطمئن الى صدق ادراكه وصحة معلوماته ؟ ام ان قدرته على معرفة الاشياء مثار للشك ؟
واذا كانت المعرفة البشرية ممكنة وليست موضعا للشك في حدود هذه المعرفة . اهي احتمالية ترجيحية ام انها يقينية ؟ ثم ماهي منابع هذه المعرفة وحقيقتها ؟ وما علاقة الاشياء المدركة بالقوى التي تـــدركها؟
فهي اذن تبحث في اربع مسائل هـي:
1- اصل المعرفة البشـــرية ومصدرها.
2- طبيعة المعرفة البشرية .
3- صدق المعرفة ، اي كيف يمكن التمييز بين المعرفة الصادقة والمعرفة الكاذبة .
4- حدود المعرفة البشرية .
لذلك فان نظرية المعرفة تنصب على طبيعة المعرفة البشرية وتفسير ماهيتها ، وكذلك تتعرض لدراسة اصولها وادواتها وتتناول بالبحث امكان قيامها او الشك في وجودها .
ونتيجة لذلك ظهرت مذاهب واتجاهات شتى في نظرية المعرفة ، بعد ان درسوا مشكلة المعرفة ومنابعها ، كل منها ادعى لنفسة الحق في معرفة الحقائق وادراكها والوصول اليها . وهذه المذاهب والنظريات هي :
1- المذهب العقلي Rationalism :
يتميز اصحاب المذهب العقلي باهتمامهم بالعقل مصدرا لكل صنوف المعرفة الحقيقية ، وهذه المعرفة في نظر العقليين تتميز بالضرورة والشمول . واذا كان التجريبيون يعدون الحواس المصدر الوحيد لكل معرفة فان العقليين يردون المعرفة الى العقل ويرون انها تمتاز بالضرورة والتعميم . ويراد بالضرورة ان المعرفة العقلية صادقة ويتوجب صدقها ضرورة عقلية . وكذلك يرى العقليون ان العقل قوة فطرية في الناس جميعا ، والتجربة عندهم تزود الانسان بمعلومات مفرغة اي انها لاترقى باجتماع بعضها بالبعض الاخر الى حقائق كاملة ، وان في العقل مبادئ فطرية لم تؤخذ من التجربة ، كمبدأ الذاتية الذي يرى بان الشيء هو عين ذاته ولايمكن ان يكون شيء اخر ، وكذلك مبدأ عدم التناقض non contradiction والذي يقرر ان الشيء لايمكن ان يكون موجودا او غير موجود في ان واحد .
ويرى اصحاب المذهب العقلي ان اليقين الملحوظ في العلوم الصورية كالرياضيات والمنطق هو المثل الاعلى الذي ينشدونه في كل فروع المعرفة . ويعد ديكارت امام المذهب العقلي .
2- المذهب التجريبي Experimental:
اما اهم ما يمتاز به اصحاب المذهب التجريبي فهو مايلي :
1- رفضوا التسليم بالافكار الفطرية الموروثة والمبادئ العقلية .
2- ردوا المعرفة في كل صورها الى الحواس .
3- انكروا الحدس الذي يدرك الاوليات الرياضية والبديهيات المنطقية .
4- ليس في العقل شيء الا وقد سبق وجوده في الحس اولا .
ويعد جون لوك امام المذهب التجريبي .
وبينما يغالي العقليون في اهمية العقل ، والتجريبيون في اهمية الحواس والتجربة مصدرا للعقل اليقيني ، يغالي اصحاب المذهب الحدسي في اهمية الحدس Intuition والذي يدرك الحقائق البسيطة ادراكا مباشرا دفعة واحدة ومن غير مقدمات تسلم اليها .
وقد ظهر مذهب اخر الا وهو مذهب الشك ، والذي راى اصحابه ان الثقة بالعقل او غيره من ادوات المعرفة كانت مثارا للشك ، اذ انهم اخضعوا هذه الادوات لمحك النقد ، وانتهوا من نقدها الى التردد في التسليم بامكان وجود معرفة صحيحة او قدرة على ادراك الحقيقة .
اذاً فالشك Skepticism كنظرية في المعرفة يراد بها التوقف عن اصدار حكم ما استنادا الى ان كل قضية تقبل السلب والايجاب بقوة متعادلة وان ادوات المعرفة من حس او عقل او غير ذلك لاتكفل اليقين .

الا كسيولوجيا او مبحث القيم
اما مبحث القيم او الاكسيولوجيا فيبحث في المثل العليا او القيم المطلقة وهي :
الحق والخير والجمال .
فهو يبحث في هذه القيم من حيث ذاتها لا بوصفها وسائل الى تحقيق غايات . هل هي مجرد معان في العقل تقوم بها الاشياء ؟ ان لها وجودا مستقلا عن العقل الذي يدركها ؟ والى غير ذلك من مباحث يتضمنها علم المنطق وعلم الاخلاق وعلم الجمال بمعناها التقليدي اي من حيث هي علوم معيارية تبحث في ما ينبغي ان يكون وليست علوما وضعية يقتصر بحثها بما هو كائن.
1- فعلم المنطق : يضع القواعد التي تعصم مراعاتها من الوقوع في الخطأ والزلل ، اي يبحث بما ينبغي ان يكون عليه التفكير السليم.
2- علم الاخلاق يضع المثل العليا التي ينبغي ان يسير عليه سلوك الانسان ، اي انه يبحث فيما ينبغي ان تكون عليه تصرفات الانسان . فهو اذن يحلل الالفاظ والعبارات التي نستخدمها في حياتنا الاخلاقية .
3- علم الجمال : يضع المستويات التي يقاس بها الشيء الجميل ، اي يبحث في ما ينبغي ان يكون عليه الشيء الجميل .
وهذه العلوم المعيارية الثلاثة تؤلف مانسميه بالاكسيولجيا او فلسفة القيم .
اما مايخص السؤال حول ضرورة الفلسفة من عدمها ، هل هي حاجة فكرية ملحة للانسان ام لا ؟ فنعتقد انه و ايا كانت وجهة النظر التي نتخذها نحو الفلسفة ، فاننا نجد ان للفلسفة فعالية فكرية خالصة تحاول فهم العالم بما هو كل ، وانه لاغنى عن الفلسفة والتفلسف حتى لاعدائها ، فانت حين تريد ان اتثبت اوتبرهن قضية ما فانك تحتاج الى الفلسفة لكي تثبت وتبرهن هذه القضية اوتلك.
وان ما تتصف الفلسفة به من شمولية وتجريد يجعلها ذات طابع انساني يتخطى حدود القوميات والاوطان ، ويجعلها من اهم وسائل التعاون والتفاهم والتأخي الفكري بين ابناء البشر .
والواقع ان المستوى الثقافي ولاية امة من الامم يقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها وتطوره عند ابنائها ، وبالعكس ان تدهور الثقافة وتراجعها هو على الاكثر نتيجة انحلال التفكير الفلسفي وجموده فيها . وذلك اذا فهمنا معنى الفلسفة بالشكل الصحيح والمعقول ، من دون تضليل ومن دون اي تحيزذاتي او هوى شخصي . فالتطور الثقافي للامم يتماشى مع التطور الفلسفي رقيا وانحطاطا ، وصعودا وهوبطا . لذلك فان الفلسفة تقف وراء معظم ما انجزه الانسان من الاعمال والمنجزات الكبرى سواء في مجال الفن والادب ام العمران والموسيقى . ونحن نقول انه لو كان التاريخ سمع اصوات الفلاسفة والمفكرين لكان طريق الانسانية اقل دموية واسرع نضجا واوسع معرفة .
كما ان الفلسفة بما امتازت به من نزعة الى النقد ، تزعزع اعتقادات الانسان الراسخة وتحرر تفكيره من سلطان التقليد ، فلا يعود ينظر الى الافكار التقليدية على انها نهائية ومطلقة تسمو على النقاش وترتفع على الجدل ، بل على انها لم ولن تبلغ درجة اليقين النهائية ، ولذلك تستهدف دائما المراجعة والتعديل . وهذا مايساعد على شيوع روح التسامح الفكري والتعايش الثقافي بين شعوب الارض .
واذا كانت الفلسفة نقدا حرا للافكار فان وضع اية قيود عليها قيد للثقافة وذنب لايغتفر ، وكل مجتمع يعمد الى فرض القيود على التفلسف الحر ومهما كانت الدوافع والاسباب ، مجتمع متخلف ثقافيا لانه ينتهي في اخر المطاف الى صب الفكر في قوالب جامدة تكتسب مع الزمن صفة القدسية ، فلا يجرؤ احد على مناقشتها الاتحت طائلة العقاب الصارم ويموت في ذلك المجتمع روح الابداع والاصالة . وهذا كفيل بان يغلق طريق التقدم والنمو ، وهذا مايحدث بالضبط في المجتمعات القائمة على نظام واحد والتي تمنع او تحظر الفلسفات المعارضة لفلسفاتها ، فيتخلف بذلك الفكر وتتخلف
الثقافة ويتخلف معها المجتمع وكل ماهو انساني بمعنى من المعاني
نظرية التحليل النفسي (لسجموند فرويد ) هذه النظرية قديمة جدا , وهي تقوم على مبدأين اثنين مبد أ التداعي الحر والتنويم المغناطيسي وتركز على اللاشعور ، والإضطراب النفسي في نظر فرويد هو الخلل في( الأنا ) وهو الميزان الذي يوازن بين نشاط الذات العليا والهو وإذا اختل هذا الميزان أو ضعف أصيب الفرد بالمرض النفسي والنقد الذي وجه لهذه النظرية 1- أنها تستغرق وقتا طويلا 2- أنها طبقت على المرضى النفسانيين فقط ، أما من الناحية الدينية فقد أخذ على فرويد أنه علل سبب الأمراض النفسية بالكبت الجنسي فهو عندما يأتيه المريض للعلاج ينصحه بالبحث له عن قيرل فرند أوبوي فرند(صديق أو صديقة ) ليخلصه من عزلته وضيقه وتبرمه من الحياة وهو يرى أن سبب المرض النفسي فصل الذكور عن الإناث ، وهذا الرأي لايتوافق مع شريعة الإسلام التي تحرم الإختلاط بين الرجل والمرأة ، لكن المعالج النفسي المسلم ينصح المسترشد بالزواج ، فالنظرية على ذلك تدعو للإباحية المحرمة ولذا ثار عليها علماء الإسلام ، بل إن بعض الجامعات لاتدرسها لطلابها وطالباتها 0
على أي حال ترى هذه النظرية أن المرض النفسي عبارة عن موقف مؤلم وصعب مر به الفرد في صباه منذنشأته الأولى في سن الخامسة الذي فيه تتكون شخصية الطفل وعند تشكل شخصيته تظهر آثارالمرض عندما يصبح الفرد راشدا وبالغا في صورة خوف أو رهاب أو إكتئاب وأن دور وعمل المعالج النفسي هو إخراج هذه المواقف المؤلمة والمشاعر السالبه من حيز اللآشعور إلى الشعور وعندها يبرأ الإنسان عن طريق التداعي الحر أو التنويم المغناطيسي(الإيحائي ) وعلى الرغم أن فرويد فسر الإضطراب السلوكي بأنه كبت المشاعر الجنسية إلا أن غيره من تلامذته خالفوه الرأي ومنهم أدلر وخرج بعد ذلك نظريات أخرى على عكس النظرية التحليلية وهي:ا لنظرية السلوكية التي تعالج أعراض المرض فقط وأسرع من النظرية التحليلية ولا تركز على اللاشعور , وهو تفسير الأضطراب السلوكي بأنه تعلم خاطيء والمعالج السلوكي دوره أن يزيل هذا السلوك غير المرغوب فيه واستبداله بسلوك آخر مرغوب فيه , وتعليم المسترشد كيف يحل مشكلته بنفسه في المستقبل دون الرجوع للمعالج أو المرشد ، على أي حال من يستخدم النظرية التحليلية اليوم قليل بعد ظهور نظريات عديدة في علم النفس أفضل منها بكثير وأشهرها النظرية الإنتقائية التي تنتقي من النظريات النفسية الجوانب الإيجابية في نظرية واحدة ، كما أن هناك النظرية الإجتماعية(السببية) التي تربط النتائج بالأسباب و ترى أن المريض النفسي يتحسن إذا تحسنت البيئة التي يعيش فيها وخفت عليه الضغوط ، وترى أن العلاج الدوائي لاينفع إذا لم يرافقه علاج إجتماعي بتحسين بيئة المريض ويستدلون على ذلك بأن المريض يتعافى طالما هو موجود في المستشفى وإذا خرج إلى بيئته الأولى رجع عليه مرضه ، لذا فإن الأطباء النفسيين يحتاجون إلى المرشد الطلابي في المدرسة لكي يشارك في العملية العلاجية بتحسين بيئة الطالب المدرسية إذا كان الطالب مريضا بأحد الأمراض النفسية كالإكتئآب أو الرهاب الاجتماعي أو الوسواس القهري 000 ألخ، كما أن الطبيب النفسي يحتاج لولي أمر الطالب أو المريض للمشاركه في العلاج وكيف يتعامل مع المريض النفسي ، فالأدوية النفسية لاتكفي وحدها بعيدا عن طرق العلاج الأخرى كالعلاج بالرياضة والعلاج بالرسم والعلاج بالعمل والعلاج بالموسيقى وغيرها 00 وعلى الرغم من النقد الذي وجه للنظرية التحليلية إلا أنها فتحت الباب على مصراعيه للباحثين النفسانيين الذين وجدوا فيها مرتعا خصبا للبحث والدراسة ، ولايوجد اليوم أي نظرية من النظريات الحديثة مالم تكن ةمتاثرة بآراء وأقوال فرويد ، ونحن كمسلمين يهمنا المحافظة على قيمنا وعقيدتنا ولنا أن نأخذ منها ما يفيدنا ولا يخل بعقيدتنا ومبادئنا ، وإذا كان فرويد قسم النفس الإنسانية إلى ثلاثة أقسام هي الذات العليا super Egoوالذات الدنيا ID والأنا Ego فالقرآن الكريم سبقه إلى هذا التقسيم ، فالذات العليا يقابلها في القرآن الكريم النفس اللوامه والذات الدنيا يقابلها النفس الأمارة بالسؤ والأنا ويقابلها النفس المطمئنة ، ففرويد لم يأت بجديد ،فالنفس السوية من منظور إسلامي هي النفس المطمئنة ( الراضية ) والرسول –صلى الله عليه وسلم – أعطى معيارا دقيقا وصائبا للنفس السوية فقال : ،،المؤمن حياته كلها خير إذا أعطي شكر فكان خيرا وإذا أبتلي صبر فكان خيرا له ، أما الذي تثيره العواصف مهما صغرت فإن نفسه غير سوية تحتاج إلى علاج نفسي يعيد لها بناء الشخصية من جديد ، علاج يقوم على الإيمان بالقضاء والقدر فما أصاب الإنسان لن يخطئه ومالم يصبه ما كان ليصيبه ، ما يصيبنا إلا ماكتب الله لنا هو مولانا نعم المولى ونعم النصير، والله اعلم
نقد الفكر الفلسفي المعاصر
من الانطولوجيا إلى المذهب التجريبي
سدير طارق العاني
بغداد

كثر الحديث في الاونة الاخيرة عن الفلسفة ومعناها ، وتعريفها وفي ما تبحث ، وهل هناك تعريف جامع مانع للفلسفة ؟ وهل الحاجة اليها ضرورية ام انها اصبحت غير ذات معنى مع تطور العلم وتشعب ميادينه ؟ وغيرها من الاسئلة التي تحاول النفس الانسانية سبر اغوارها والبحث في معانيها ؟ ..
بداية نقول ان التعاريف التي وضعت للفلسفة ، ونحن نجدها كثيرة في كتب الفلسفة والفلاسفة ، منذ اول ناطق بها الى يومنا هذا . تكاد تحتل مكان الصدارة من حيث الكثرة اذا ماقارناها بسائر العلوم والمعارف الاخرى .
فمن حيث اللغة فان كلمة فلسفة ترجع الى الكلمة اليونانية الاصل (فيلوسوفيا ) ، والتي هي مركبة من جئرءين هما ( فيلو) بمعنى (محبة ) ( وسوفيا ) بمعنى ( الحكمة ) ، وعليه تدل كلمة الفلسفة من الناحية الاشتقاقية على محبة الحكمة وايثارها ، وقد نقلها العرب الى العربية بهذا المعنى في عصر الترجمة . وفي هذا المعنى يقول ابو نصر الفارابي ت 950 هـ اسم الفلسفة يوناني وهو دخيل على العربية ، وهو على مذهب لسانهم فيلوسوفيا ومعناه ايثار الحكمة او محبة الحكمة ، والمؤثر للحكمة عند اليونان هو الذي يجعل كل حياته ، وغرضه من عمره الحكمة .
وقد عرف الجرجاني الحكمة بانها العلم الذي يبحث فيه عن حقائق الاشياء على ماهي عليه بقدر الطاقة البشرية ، فهي اذا علم نظري غير الي وقد اوصى الله تبارك وتعالى الناس بالحكمة فقال :
(يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد اوتي خيرا كثيرا وما يذكر الا اولوا الالباب) صدق الله العظيم . " والحكمة ضالة المؤمن انى وجدها اخذها " كما بين ووضح رسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) .
هكذا كانت الفلسفة بمعنى الحكمة عند الاغريق وعند العرب ايضا اسمى الدراسات واجلها . وكان فيثاغورس 572- 497 ق. م اول من وضع معنى محددا لكلمة الفلسفة فقد نسب اليه انه قال " ان صفة الحكمة لاتصدق على اي كائن بشري انما الحكمة لله وحده " لذلك وصف نفسه بانه ليس حكيما بل محبا للحكمة . وقد ذكر سقراط 470 - 399 ق. م ذلك في محاورة فيدون فقال ان الحكمة لاتضاف الا لله اما البشر فحسبهم محبتها .
الا ان افلاطون 428 - 348 ق . م هو الذي اسبغ على الفلسفة معنى فنيا محددا حين وصف الفيلسوف بانه شخص يصب اهتمامه على الحقيقة وليس على المظهر ويعني بادراك الوجود الماهوي للاشياء وطبيعتها ، ومن ذلك الحين اصبحت الفلسفة باوسع معانيها تدل على محاولة تاملية ومعقولة لمعرفة خصائص وطبيعة الكون بماهو كل .
هذا من حيث الكلمة واشتقاقاتها ، اما من حيث الاصل :
فقد نشات الفلسفة في ما يقول ارسطو 384 - 322 ق . م من الدهشة وحب الاستطلاع ، فحين وجد الانسان نفسه حيال تغيرات كثيرة مطردة وقف منها موقف المندهش الحائر ، وسعى الى معرفة اسبابها وخفاياها والوقوف على اسرارها ليزيل عن نفسه الاندهاش ويذهب الشك والحيرة ، ويعيد الى نفسه الاستقرار ، فطرح سؤالين مختلفين هما :
ما هي الاشياء ؟ وكيف تحدث الاشياء؟
وربما يقع الخطأ في ظن البعض عندما يعتقدون ان هذين السؤالين يعودان الى اصل واحد ، لان السؤال الاول فلسفي بحت والثاني علمي بحت ، وقد نشات الفلسفة عندما حاولت الاجابة على السؤال الاول ، ونشا العلم في محاوله منه للاجابة على السؤال الثاني .
ومهما يكن من امر فقد نشات الفلسفة والعلم وكأنها موضوع واحد لاحدود ولا فواصل بينهما ولاعجب ان ظل العلم غير متميز عن الفلسفة ولا الفلسفة عن العلم طوال قرون متعددة.
والواقع ان العلوم الخاصة كالفيزياء والفلك والرياضيات وعلم النفس كلها كانت منضوية تحت لواء الفلسفة ، ولعل هذا هو السر في ان الفلاسفة القدامى كانوا علماء كذالك الى جانب كونهم فلاسفة ، فلقد كانت كتاباتهم تشتمل على مباحث فلسفية واخرى علمية على حد سواء ، وكان كل واحد منهم من امثال افلاطون وارسطو وابن سينا 980 n 1037 وابن رشد 1126- 1198 وتوما الاكويني 1225- 1274 وديكارت 1596- 1650 وغيرهم عالم رياضيات وعالم طبيعة الى جانب كونه فيلسوفا . وهاهو ديكارت يقول : " ان الفلسفة اشبه بشجرة جذورها الميتافيزيقا وجذعها الفيزياء وفروعها الطب والميكانيكا والاخلاق " .
وقد استمر اقتران العلوم بالفلسفة حتى القرن السابع عشر ، فمع البعد الزمني الشاسع بين افلاطون وديكارت استمرت العلوم في عصر ديكارت تعد فروعا من الفلسفة ، وهذا يرجع الى النهج الذي انتهجه رجال الفكر في الفلسفة والعلوم والذي كان منهجا واحدا ويقوم على النظر العقلي للاشياء .
وبعد ذلك شهدت العصور الحديثة حركة انشقاق متوالية داخل الفلسفة ، وذلك حين ادخلت طريقة الملاحظة التجريبية والفرضية والتحقق في مجال العلوم ، فانفصل عن الفلسفة اول ما انفصل علم الفيزياء على يد كل من غاليلو 1564-1642 ونيوتن 1642-1727 وبعدها انفصل علم الكيمياء على يد لافوازيه 1743- 1794 ، واستقل علم الاحياء على يد كلود برنار1813 -1878 وتبعها علم النفس ثم علم الاجتماع وغيرها من العلوم .
وحين انفصلت العلوم عن الفلسفة ظن رجال الفكر وعلى رأسهم اوغست كونت 1798-1857ان الفلسفة اصبحت غير ذات موضوع لانه لاطائل تحتها ولافائدة منها ، فقد غدت في نظر هؤلاء عقيمة لانها تبحث في ما لايمكن معرفته بحال من الاحوال ، فتصور هؤلاء ان الفلسفة قد تراجعت وضعفت ولم تعد لها القدرة على الاطلاع بما اوكل اليها من مهمات ، ولابد لها ان تتراجع امام العلوم المتخصصة .
الا ان نظرة كهذه الى الفلسفة ، وان كان لها مايسوغها من بعض النواحي لم تلق استجابة من رجال الفكر والفلسفة ، لذلك لم يتوقف هؤلاء وغيرهم عن مواصلة التفلسف في المسائل الاساسية للوجود والاخلاق والمنطق والمصير الانساني وغيرها ، بل اننا نجد على العكس من ذلك ان المسائل الفلسفية اخذت تتعقد وتتفرع والبحوث الفلسفية تتزايد والصراعات الفكرية تحتدم وتشتد بين الانظمة الاجتماعية المختلفة ، وهذا يعني على العكس مما يتصور البعض ، فان للفلسفة فعالية ملازمة للانسان بوصفه كائنا عاقلا ، وانه لن يكف عن التفلسف الا حين يتخلى عن انسانيته وعن عقلانيته .
اما حيث التعريف الاصطلاحي لكلمة ( فلسفة ) فانها وكما اسلفنا سابقا فهي كثيرة ، ولعل التعريف المناسب للفلسفة هو الذي ذهب اليه بعض الفلاسفة من انها المعرفة الناشئة عن العقل . وان هذا التعريف على اختصاره ، فانه جدير بالاختيار .
وان جدارة هذا التعريف لاتعني ان هذا التعريف هو الوحيد للفلسفة وانه جامع مانع لهذه الكلمة ، بل ان هناك الكثير من التعاريف نورد بعضا منها :
سقراط : الفلسفة هي البحث العقلي عن حقائق الاشياء التي تؤدي الى الخير .
افلاطون : الفلسفة : هي البحث عن حقائق الموجودات ونظامها الجميل لمعرفة المبدع الاول .
ديوجانيس : الفلسفة : علم السعادة في الحياة والعمل على تحقيقها .
الكندي : الفلسفة : هي علم الاشياء بحقائقها .
الفارابي : الفلسفة : العلم بالموجودات بما هي موجودة .
ابن رشد : الفلسفة : هي النظر بالموجودات من جهة دلالتها على الصانع .
جون لوك : الفلسفة : دراسة العقل البشري .
اذاً فالفلسفة : هي دراسة فكرية عميقة تبحث في الله والكون والانسان ، من اجل الوصول الى حقائق الاشياء ، والوقوف على اسباب وجودها وهل بالامكان النظر بالموجودات من حيث العقل ام من حيث الحواس ؟ ام كلاهما .
والمعروف ان جمهرة الفلاسفة على اتفاق في ان للفلسفة موضوعا تعالجه ومبحثا تدرسه وتحاول البحث فيه ، وان طبيعة كل موضوع تبحث فيه الفلسفة هي التي تحدد مناهج البحث فيه ، شانها في ذلك شان العلم الطبيعي الذي له موضوع يترتب عليه منهج يلائم طبيعة الموضوع الذي يدرسه ، فمثلا اذا تحدد موضوع الفلسفة الميتافيزيقية بالوجود اللامادي ، تحتم ان يكون منهج البحث فيه عقليا استنباطيا ولايمكن ان يعالج هذا الموضوع بمناهج التجربة . واذا تحدد موضوع العلم الطبيعي بالجزئيات المحسوسة كان الانسب لدراسة ذلك اصطناع المنهج التجريبي .
ولكن الوضعيين قد انكروا هذا الموقف التقليدي وزعموا ان الفلسفة غير ذات موضوع واستبعد اتباع الوضعية المنطقية الميتافيزيقا في مجال البحث على ان قضاياها فارغة غير ذات معنى ، وعدوا ان الفلسفة منهج بغير موضوع ، وانها مجرد طريقة لتحليل الالفاظ تحليلا منطقيا ، وهكذا انصرفت الفلسفات المعاصرة عن دراسة الوجود المطلق المجرد والبحث في طبيعة المعرفة وتحديد مصادرها .
اما موضوع الفلسفة ومباحثها في وضعها التقليدي الشائع فقد شملت ثلاثة مباحث رئيسية هي :
1- الانطلوجيا او مبحث الوجود .
2- الابستمولوجيا او نظرية المعرفة.
3- الاكسيولوجيا او مبحث القيم .

الانطولوجيا او مبحث الوجود
ويشمل مبحث الوجود او الانطولوجيا ( Ontology ) النظر في طبيعة الوجود على الاطلاق مجردا من كل تعيين او تحديد ، وبذلك يترك للعلوم الجزئية البحث في الوجود من بعض نواحيه ، فالعلوم الطبيعية مثلا تبحث في الوجود من حيث هو جسم متغير ، والعلوم الرياضية تبحث في الوجود من حيث هو كم او مقدار ، اما البحث في الوجود من حيث هو وجود على الاطلاق فمن شأن مبحث الوجود او مابعد الطبيعة عند القدماء . وبهذا تنصرف العلوم الجزئية في البحث في ظواهر الوجود.
ويدخل ضمن مبحث الوجود البحث في خصائص الوجود عامة لوضع نظرية في طبيعة العالم ، والنظر في ما اذا كانت الاحداث الكونية تقع على اساس قانون ثابت او تقع مصادفة او اتفاقا ؟ وفي ما اذا كانت هذه الاحداث تظهر من تلقاء نفسها ام تصدر عن علل ضرورية تجري وفق قوانين الحركة ؟
وفي ما اذا كان هناك اله وراء عالم الظواهر المتغير ؟ وكذلك يبحث في صفات الله وعلاقته بمخلوقاته ، وفيما اذا كان الوجود ماديا صرفا او روحيا خالصا ، او مزيجا منهما ؟ الى غير ذلك من ميادين الدراسات التي يدخل في مبحث الوجود ، وقد وضعت هناك عشرات المذاهب والنظريات حلا لهذه المشكلة الفلسفية.


مبحث الابستمولوجيا او نظرية المعرفة
اما مبحث الابستمولوجيا Epistemology او مايسمى بنظرية المعرفة فهي البحث في امكان العلم بالوجود او العجز عن معرفته ، هل في وسع الانسان ان يدرك الحقائق او ان يطمئن الى صدق ادراكه وصحة معلوماته ؟ ام ان قدرته على معرفة الاشياء مثار للشك ؟
واذا كانت المعرفة البشرية ممكنة وليست موضعا للشك في حدود هذه المعرفة . اهي احتمالية ترجيحية ام انها يقينية ؟ ثم ماهي منابع هذه المعرفة وحقيقتها ؟ وما علاقة الاشياء المدركة بالقوى التي تـــدركها؟
فهي اذن تبحث في اربع مسائل هـي:
1- اصل المعرفة البشـــرية ومصدرها.
2- طبيعة المعرفة البشرية .
3- صدق المعرفة ، اي كيف يمكن التمييز بين المعرفة الصادقة والمعرفة الكاذبة .
4- حدود المعرفة البشرية .
لذلك فان نظرية المعرفة تنصب على طبيعة المعرفة البشرية وتفسير ماهيتها ، وكذلك تتعرض لدراسة اصولها وادواتها وتتناول بالبحث امكان قيامها او الشك في وجودها .
ونتيجة لذلك ظهرت مذاهب واتجاهات شتى في نظرية المعرفة ، بعد ان درسوا مشكلة المعرفة ومنابعها ، كل منها ادعى لنفسة الحق في معرفة الحقائق وادراكها والوصول اليها . وهذه المذاهب والنظريات هي :
1- المذهب العقلي Rationalism :
يتميز اصحاب المذهب العقلي باهتمامهم بالعقل مصدرا لكل صنوف المعرفة الحقيقية ، وهذه المعرفة في نظر العقليين تتميز بالضرورة والشمول . واذا كان التجريبيون يعدون الحواس المصدر الوحيد لكل معرفة فان العقليين يردون المعرفة الى العقل ويرون انها تمتاز بالضرورة والتعميم . ويراد بالضرورة ان المعرفة العقلية صادقة ويتوجب صدقها ضرورة عقلية . وكذلك يرى العقليون ان العقل قوة فطرية في الناس جميعا ، والتجربة عندهم تزود الانسان بمعلومات مفرغة اي انها لاترقى باجتماع بعضها بالبعض الاخر الى حقائق كاملة ، وان في العقل مبادئ فطرية لم تؤخذ من التجربة ، كمبدأ الذاتية الذي يرى بان الشيء هو عين ذاته ولايمكن ان يكون شيء اخر ، وكذلك مبدأ عدم التناقض non contradiction والذي يقرر ان الشيء لايمكن ان يكون موجودا او غير موجود في ان واحد .
ويرى اصحاب المذهب العقلي ان اليقين الملحوظ في العلوم الصورية كالرياضيات والمنطق هو المثل الاعلى الذي ينشدونه في كل فروع المعرفة . ويعد ديكارت امام المذهب العقلي .
2- المذهب التجريبي Experimental:
اما اهم ما يمتاز به اصحاب المذهب التجريبي فهو مايلي :
1- رفضوا التسليم بالافكار الفطرية الموروثة والمبادئ العقلية .
2- ردوا المعرفة في كل صورها الى الحواس .
3- انكروا الحدس الذي يدرك الاوليات الرياضية والبديهيات المنطقية .
4- ليس في العقل شيء الا وقد سبق وجوده في الحس اولا .
ويعد جون لوك امام المذهب التجريبي .
وبينما يغالي العقليون في اهمية العقل ، والتجريبيون في اهمية الحواس والتجربة مصدرا للعقل اليقيني ، يغالي اصحاب المذهب الحدسي في اهمية الحدس Intuition والذي يدرك الحقائق البسيطة ادراكا مباشرا دفعة واحدة ومن غير مقدمات تسلم اليها .
وقد ظهر مذهب اخر الا وهو مذهب الشك ، والذي راى اصحابه ان الثقة بالعقل او غيره من ادوات المعرفة كانت مثارا للشك ، اذ انهم اخضعوا هذه الادوات لمحك النقد ، وانتهوا من نقدها الى التردد في التسليم بامكان وجود معرفة صحيحة او قدرة على ادراك الحقيقة .
اذاً فالشك Skepticism كنظرية في المعرفة يراد بها التوقف عن اصدار حكم ما استنادا الى ان كل قضية تقبل السلب والايجاب بقوة متعادلة وان ادوات المعرفة من حس او عقل او غير ذلك لاتكفل اليقين .

الا كسيولوجيا او مبحث القيم
اما مبحث القيم او الاكسيولوجيا فيبحث في المثل العليا او القيم المطلقة وهي :
الحق والخير والجمال .
فهو يبحث في هذه القيم من حيث ذاتها لا بوصفها وسائل الى تحقيق غايات . هل هي مجرد معان في العقل تقوم بها الاشياء ؟ ان لها وجودا مستقلا عن العقل الذي يدركها ؟ والى غير ذلك من مباحث يتضمنها علم المنطق وعلم الاخلاق وعلم الجمال بمعناها التقليدي اي من حيث هي علوم معيارية تبحث في ما ينبغي ان يكون وليست علوما وضعية يقتصر بحثها بما هو كائن.
1- فعلم المنطق : يضع القواعد التي تعصم مراعاتها من الوقوع في الخطأ والزلل ، اي يبحث بما ينبغي ان يكون عليه التفكير السليم.
2- علم الاخلاق يضع المثل العليا التي ينبغي ان يسير عليه سلوك الانسان ، اي انه يبحث فيما ينبغي ان تكون عليه تصرفات الانسان . فهو اذن يحلل الالفاظ والعبارات التي نستخدمها في حياتنا الاخلاقية .
3- علم الجمال : يضع المستويات التي يقاس بها الشيء الجميل ، اي يبحث في ما ينبغي ان يكون عليه الشيء الجميل .
وهذه العلوم المعيارية الثلاثة تؤلف مانسميه بالاكسيولجيا او فلسفة القيم .
اما مايخص السؤال حول ضرورة الفلسفة من عدمها ، هل هي حاجة فكرية ملحة للانسان ام لا ؟ فنعتقد انه و ايا كانت وجهة النظر التي نتخذها نحو الفلسفة ، فاننا نجد ان للفلسفة فعالية فكرية خالصة تحاول فهم العالم بما هو كل ، وانه لاغنى عن الفلسفة والتفلسف حتى لاعدائها ، فانت حين تريد ان اتثبت اوتبرهن قضية ما فانك تحتاج الى الفلسفة لكي تثبت وتبرهن هذه القضية اوتلك.
وان ما تتصف الفلسفة به من شمولية وتجريد يجعلها ذات طابع انساني يتخطى حدود القوميات والاوطان ، ويجعلها من اهم وسائل التعاون والتفاهم والتأخي الفكري بين ابناء البشر .
والواقع ان المستوى الثقافي ولاية امة من الامم يقاس بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها وتطوره عند ابنائها ، وبالعكس ان تدهور الثقافة وتراجعها هو على الاكثر نتيجة انحلال التفكير الفلسفي وجموده فيها . وذلك اذا فهمنا معنى الفلسفة بالشكل الصحيح والمعقول ، من دون تضليل ومن دون اي تحيزذاتي او هوى شخصي . فالتطور الثقافي للامم يتماشى مع التطور الفلسفي رقيا وانحطاطا ، وصعودا وهوبطا . لذلك فان الفلسفة تقف وراء معظم ما انجزه الانسان من الاعمال والمنجزات الكبرى سواء في مجال الفن والادب ام العمران والموسيقى . ونحن نقول انه لو كان التاريخ سمع اصوات الفلاسفة والمفكرين لكان طريق الانسانية اقل دموية واسرع نضجا واوسع معرفة .
كما ان الفلسفة بما امتازت به من نزعة الى النقد ، تزعزع اعتقادات الانسان الراسخة وتحرر تفكيره من سلطان التقليد ، فلا يعود ينظر الى الافكار التقليدية على انها نهائية ومطلقة تسمو على النقاش وترتفع على الجدل ، بل على انها لم ولن تبلغ درجة اليقين النهائية ، ولذلك تستهدف دائما المراجعة والتعديل . وهذا مايساعد على شيوع روح التسامح الفكري والتعايش الثقافي بين شعوب الارض .
واذا كانت الفلسفة نقدا حرا للافكار فان وضع اية قيود عليها قيد للثقافة وذنب لايغتفر ، وكل مجتمع يعمد الى فرض القيود على التفلسف الحر ومهما كانت الدوافع والاسباب ، مجتمع متخلف ثقافيا لانه ينتهي في اخر المطاف الى صب الفكر في قوالب جامدة تكتسب مع الزمن صفة القدسية ، فلا يجرؤ احد على مناقشتها الاتحت طائلة العقاب الصارم ويموت في ذلك المجتمع روح الابداع والاصالة . وهذا كفيل بان يغلق طريق التقدم والنمو ، وهذا مايحدث بالضبط في المجتمعات القائمة على نظام واحد والتي تمنع او تحظر الفلسفات المعارضة لفلسفاتها ، فيتخلف بذلك الفكر وتتخلف الثقافة ويتخلف معها المجتمع وكل ماهو انساني بمعنى من المعاني