للطبيعة عند أرسطو معنى مؤداه أنها تمثل المبدأ الداخلي الذي يحرك الموجود الطبيعي ويجعله قادرا على أن يتخذ أشكالا مختلفة، فالطبيعة بهذا المعنى هي القدرة على التولد الذاتي. وإذا كان الإنسان كائنا طبيعيا فهل يمكن القول أن ما يحدثه من بنى ثقافية ناتج عن طبيعة تخصه كإنسان أم عن الطبيعة كقوة متحكمة في الكون؟.هل تفسر الإنتاجات الثقافية للإنسان من دولة واجتماع وفنون وعلوم بالثقافة أم بالطبيعة؟. يجيب أرسطو مؤكدا أن الطبيعة مبدأ كوني يفسر كل شيء. ما يهمنا من هذا التقديم البسيط هو أن نعرف نظرية أرسطو حول الاجتماع البشري، ولنفهم سر غياب التاريخ والتغير الاجتماعي لديه.
يقيم المعلم الأول نظرية الاجتماع على فكرة الحاجة والنقصان، فهذه الأخيرة هي التي قادت إلى اجتماع الناس في الأصل، وبالتالي فالمجتمع لم ينشأ عن التعاقد والاتفاق، بل هو مخلوق طبيعي استلزمته طبيعة الإنسان الناقصة. إن عجز كل فرد لوحده عن الوفاء بكل حاجياته ومتطلبات حياته من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وأمن وتعلم هو ما دفع الناس إلى الاجتماع والتعاون والتضامن مع بعضهم بعضا(4). والتعاون والتضامن طبعان بشريان يكشفان عن حسن نية الإنسان تجاه أخيه الإنسان ويدفعان الجماعة إلى خلق نوع من تقسيم العمل وتوزيع الواجبات حسب المؤهلات الطبيعية، مما يضمن الأمن والاستمرارية.
إن الحياة الاجتماعية تلبية لحاجة طبيعية تتجلى في وعي الإنسان بنقصه وحاجته إلى الآخرين الذين يكملونه، وأولى الحاجات الطبيعية التي يفي يلبيها الاجتماع هي ضمان استمرار النوع البشري، وهذا ما تفي به مؤسسة الأسرة، فهي الإطار الأول للتوالد والتناسل، يبتدئ المجتمع من الأسرة، وتجمع مجموعة من الأسر يشكل عشيرة، والعشائر تخلق نظاما اجتماعيا هو القرية، وبتوسع القرى تنشأ المدينة/الدولة.
الإنسان حيوان اجتماعي بالطبع، من هنا يقرر أرسطو أن الاجتماع البشري أمر وقضاء لا اختيار فيه، فالإنسان كائن يشغل في سلم الوجود مكانة وسطى بين الكمال المطلق الذي يجسده الإله، والنقصان المطلق الذي تجسده العجماوات والبهائم، لذا لا يعيش خارج الدولة إلا الإله لأنه مكتفي بذاته ولا يحتاج أحدا، والحيوان لأنه لا يملك العقل ويفتقر للقدرة على التفاوض والتشاور والتعاون(5).
يظهر مما سبق أنه لا مجال للحديث عن التغير الاجتماعي/النظام السياسي الذي سيحكم الدولة، ما دامت تتأسس على الطبع، وما هو بالطبع يبقى قائما لا يقبل التغيير، فهي تستمد مشروعيتها من الطبيعة لا من رضى الناس. مثل هذه الفرضية المفسرة لأصل الدولة ونشأتها تحمل - شئنا أم أبينا- إيديولوجيا تعمل على الدفاع عن نظام الحكم وتدعو للمحافظة عليه واستمراريته، بل وتقدم هذا الدولة كما لو أنها واقع يتقرر مصيره بعيدا عن رغبات الناس وإرادتهم، لذا يتوجب على المواطنين أن يأخذوها كواقع لا يرتفع ولا ينبغي رفعه ولا تغييره. وبالتالي يجب عليهم الخضوع للأمر الواقع والقيام بالدور الذي هيأتهم الطبيعة له، فهناك من هيأتهم ليعملوا بأجسادهم ومنهم من هيأتهم ليفكروا فقط، وعلى كل فرد أن يحترم قسمة الطبيعة العادلة، فالعدل كما عرفه الإغريق هو إنزال الناس منازلهم، ولا تتحقق العدالة في الدولة إلا عندما تقوم كل طبقة بوظيفتها بما يتلاءم ومؤهلاتها الطبيعية(6). وفي تصور كهذا ما يحكم وضعية الأفراد هو الواجب فقط [أما الحق فلا ذكر له نهائيا]، واجب كل فرد أن يقوم بمهمته دون التفكير في تغيير نظام المجتمع الذي ارتضته الطبيعة، والذي ينبغي أن يحاكي نظام الكون لا في تناغمه وتناسق مكوناته فحسب، بل في ثباته وعدم قابليته للتغير.
هنا تجد التفاوتات الطبقية والعبودية مبرراتها وسندها القوي،(قارن بين هذه النظرية، والتفسير الذي يعطيه الفقهاء الرسميون للآيتين: والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، وقوله تعالى: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا)، فالتفاوت في الاستفادة من الخيرات والقهر الاجتماعي قدر ليس إلا!!
مقتطف من مقالة للأستاذ عاصم منادي إدريسي، بعنوان " الفكر العربي وغياب البعد التاريخي"