مفهوم العالم العربي د. محمد بريش


1- من حيث التاريخ:مصطلح "العالم العربي" مصطلح حديث، وهو بهذا التركيب أطلقه الغرب حين تَطلُّعه لسيادة العالم لتمييز كتلةٍ بشرية وجغرافية تختلف عنه تاريخًا وثقافةً ودينًا في بدايات إعداده لغزوها، وتهيئته المناخ الفكري والثقافي لتحميس رجالاته وجيوشه للهَيْمنة عليها، كتلة ظلَّت تُشكِّل بالنسبة لطموحاته التوسعية - حتى اليوم - عقبةً لا يُمكنه الاطمئنان لها بحال، خاصة وأن لها من المقوِّمات الثقافية والحضارية ما يُنذِر بزوال بريقِ قِيَمه الذاتية.ونحن حين نقول في حق المصطلح: إنه قد صاغه الغرب، لا ندَّعي أن لأهلِ الغرب براعة الاختراع بخصوصه، أو أننا صِفر اليدين من صناعته، ولكننا إن كنا لا نَستبعِد استعماله بشكل ضئيل في أدبيَّاتنا حين البدايات الأولى لتَمزُّق الأمة - وهذا شيء لم نستطع إثباته؛ لعدم وجود المصطلح بالقواميس والمعاجم المتداوَلة وقتئذٍ، كما أننا لم نَستطِع نفيَ استعماله؛ لفتورٍ حاصل في عطاءاتنا في مجال التأريخ المصطلحي- فإن استعماله وترويجه بديار الدول المستعمِرة من طرف خبراء الغرب ومثقَّفيه في بدايات عصور الاستشراق المعاصر، إن لم يكن قد وُضع خصيصى لتبليغ خطاب الاستشراق، وتمرير فِكْر وثقافة ذلك الخطاب للغرب والشرق معًا - يسمح بنوع من الجزم - إلى أن تُظهر الدراسات المصطلحية الحديثة نقيضه - بأن الابتكار أتى من تلك الديار.ذلك أن المصطلح المعروف والمتداول والسائد في تراثنا وأدبيَّاتنا، وألسنة علمائنا ودعاتنا ومفكرينا، والذي نراه يُمثِّل خصوصية إسلامية - هو مصطلح "الأمة"، فالأمة مصطلح مُحمَّل بجملة كبيرة من المعاني، هي ذات المعاني المستمدَّة من خصائص الأمة المسلمة كأمةٍ وسط، أمة خير، أمة الشهادة، الأمة المُخرَجة للناس، أمة ذات خطاب عالمي، أمة قطب، تُحاوِل أن تستقطب العالم كلَّه حول قيم مشتركة؛ قيم الهدى ودين الحق.فالكلام عن الأمة يُوحِي برسالة، يوحي بموقف حركي مُلتزم؛ ذلك أن الأمة مخرجة؛ أي: لها هذا اللصيق الوصفي النابع من الخطاب القرآني المقدَّس: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [آل عمران: 110]، وقد يبقى استخدام مفهوم الأمة إلى فترة طويلة محصورَ الاستعمال بين المسلمين الحاملين همَّ الأمة، والعاملين على صياغة مشروع حضاري بديل يَنهَض بها صوبَ الغدِ المشرِق، ويُساهِم بجدٍّ وحَزْم في إخراج العنصر المسلم الفاعل.2- من حيث التركيب:رغم شيوع المصطلح واستعماله بكثرة اليوم في جميع الأدبيَّات والدوائر السياسية والإدارية، والمراكز والمؤسسات الثقافية والجامعية والإعلامية - فإنه يحمل في صناعته ركاكةً لا يستسيغها اللسان العربي الفصيح، إلى جَنْب مدلوله الفضفاض، ومفهومه المطَّاط؛ فمدلول العالَم في المصطلح المركب مُخالِفٌ لمدلوله حين نقول: "رب العالَمين" أو "عالَم الغيب" أو "عالَم الشهادة"، فكلمة "عالَم" هنا تُستعمل بشكلها الشامل؛ مثل قولنا: "عالَم الإنس"، و"عالَم الجن"؛ للدلالة على كائنات بينها فوارق أساسية.فهل كان الغربيُّون حين صياغتهم لمصطلحات من مثل: "عالَم عربي"، و"عالَم إسلامي"، و"عالَم ثالث"، و"عالَم نامٍ"، و"عالم متخلِّف" - يقصدون مجرَّد النحت لتعاريف وتصنيفات تَنْموية نابعة من مفاهيمهم، أم كانوا يقصدون نعتَ شعوب وأقوام يرون بينهم وبينها فوارق أساسية في العرق والجنس؟الجواب يحتاج إلى مزيد من البحث والتنقيب والتدقيق المصطلحي التاريخي، سيُبعدنا لا محالةَ عن موضوع البحث الذي نحن بصددِه، آملينَ أن يتطرَّق أهل الاختصاص لتناول الموضوع بشكل علمي يسمح بتوسيع دائرة المعرفة في هذا الجانب.فالمدقِّق في التركيب اللفظي لمصطلح "العالَم العربي" يجد أنه مركَّب من لفظين بشكل هجينٍ لا يسمح بالتحديد، فلفظ "عالَم" ينصرف بالدرَّجة الأولى إلى مجموع الكائنات، وقولنا: "كل الكائنات عربية" قولٌ لا يستقيم لا وصفًا ولا معنًى، فلَئِن كان مفهومُ المصطلح المتداول سليمَ الدَّلالة في لُغاته اللاتينية التي تُرجِم منها؛ فلكونِ دلالة لفظة "عالَم" في تلك اللغات تنصرف إلى نعت مجموعة تضم أشياء حسيَّة أو معنوية يجمعها رابط معيَّن، يكون أصل الاسم المضاف للفظة "عالم".وهذا الرابط يمكن أن يكون:• دينيًّا، فيقال مثلًا: العالم الإسلامي، والعالم المسيحي، والعالم الهندوسي.• أو ثقافيًّا، فيقال مثلًا: عالم الفن، وعالم الثقافة، وعالم المسرح، وعالم الكتاب، وعالم الموسيقا.• أو إعلاميًّا، فيقال مثلًا: عالم الصحافة، وعالم الإعلام، وعالم السينما، وعالم التلفزة.• أو سياسيًّا، فيقال: مثلًا العالم السياسي، والعالم النيابي أو البرلماني، والعالم الديموقراطي.• أو أيديولوجيًّا، فيقال مثلًا: العالم الرأسمالي، والعالم الشيوعي، والعالم الاشتراكي.• أو اقتصاديًّا، فيقال: العالم الاقتصادي، والعالم الليبرالي، والعالم المتخلف، والعالم الصناعي.وهكذا دَوَالَيْك؛ بحيث إننا نجد العوالِم متعدِّدة بقدر تعدُّد الميادين في الحياة والإنسان والطبيعة، بل نجد في تلك اللغات اللاتينية - إضافةً لما سبق - تعابير صناعية للفظة "عالم"؛ مثل: عالم الطبيعة، وعالم الحيوان، وعالم النبات، وعالم الأنهار، وعالم البحار، وغير ذلك من العوالم؛ بحيث تغدو أعدادها لامتناهية تفوق حجم العالم نفسه، فيصبح من جرَّاء ذلك لكلِّ كائن عالمٌ، ولكل فكرة عالم؛ فهناك عالم الإيمان، وعالم الروح، وعالم الفسق، وعالم الفجور، وغيرها من الألفاظ المركَّبة التي تفقد فيها كلمة "عالم" مفهومها العام ودلالتها الدقيقة، لتلبس ثوبًا فضفاضًا قد لا يخلو من دلالة لُغَوية، لكن لا يسلم من ركاكة ألسُنيَّة، خاصةً حين الترجمة إلى اللغة العربية.ولقد أضحى متداولًا في خطابنا اليومي - وخاصة منه الإعلامي - أن نستعمل بخصوص الألفاظ المترجمة نفس دلالتها في لغاتها الأصلية، دون أن تكون أجهزتنا المصطلحية قد أوجدت - بعد التأكد من الحاجة - مصطلحاتٍ جديدةً لاستيعابِ الدلالات الوافدة، والاستجابة لِما يرمز إليه محيط أفكارها، أو أن نكون قد قُمْنا بخدمات لُغوية تحمي النسيج اللُّغوي، وتُعزِّز سلطة وصرامة الأجهزة المصطلحية الذاتية.فلفظة "عالَم" التي تناولناها بالدرس، مثلُها في اللغات اللاتينية مثل لفظة "الحياة" التي نكرر استعمالها لليوم، بفعل الترجمة والمرجعية الذهنية للغات الآخر، لا بفعل التحكم لقواعد لغتنا الحية، أو الاغتراف من عريق مفردات خزاناتها الضخمة المهجورة؛ فكثيرًا ما نقول ونكرر: "الحياة الثقافية"، و"الحياة السياسية"، و"الحياة الأدبية"، و"الحياة العلمية"، و"الحياة الصناعية"، وغير ذلك من المصطلحات المركبة التي أصبحت مألوفة الاستعمال، لكن أضحى لها من المفاهيم والمعاني ما هو بعيدٌ عن الدلالة التي ينصرف لها لفظ "الحياة" في لغتنا العربية.3- من حيث الدلالة:هناك درجات يمكن أن تَصدُق عليها دلالة هذا اللفظ المركب "العالم العربي"، ولا شك أن الدرجة التي يصدُق عليها بنسبٍ عالية هي مجموع البلدان التي أهلها عرب، ولا عبرة لبعض الأقليات التي تعيش معهم، فالحكم هنا للغالب؛ بل حتى لو كان يملك قيادةَ الحكم ببعض هذه البلدان غيرُ العرب، والأغلبية القاطنة بها عرب، فهي جزءٌ من تلك المجموعة التي يصدق عليها الوصف بالعالم العربي، مثله في ذلك مثل المصطلح المركب "العالم الإسلامي" الذي تصدق عليه الدلالة اللُّغوية بنسب قوية على مجموع البلدان الإسلامية، مضافًا إليها الأقليات الإسلامية التي تملك الأرض ولها تاريخ إسلامي متميِّز؛ فالمسلمون الذين يحكمُهم غيرُهم، وأقليَّة بحكم الجمع إلى غيرهم، هم جزء من العالم الإسلامي.كما أن انضمام البلدان ذات الأغلبية العربية لـ"جامعة الدول العربية" قد حصر العالم العربيَّ سياسيًّا في أعضاء هذه الجامعة، مع أن كِيان العرب يمتد لكل مَن ينطق بالعربية ويحب العرب.4- من حيث المستقبل:تجري الآن عمليات اغتيال مصطلح "العالم العربي" المبتكر البارحة للتعويض عن مصطلح "الأمة" وتغييب خطابه؛ ليحمل دلالات أخرى ناسفة لإيجابياته؛ فلقد لُوحظ من طرف أجهزة الاغتيال أن استعمال المصطلح، وبالشكل الذي تناوله العرب والمسلمون - إذ حملوه من معاني مصطلح "الأمة" ما جعله مقبولًا مستساغًا، لا خطر من تداوله - ليس سلبيًّا تمامًا، بل أضحى فيه من الإيجابيات ما أعاد الإحساس عند جمهور العرب المخاطبين به إلى الانتماء إلى كينونة عالمية، يجب أن يكون لها ثقلها على المستوى العالمي.ولهذا يلاحظ من بعض التحاليل الحديثة عَمْدُ بعض المنظِّرين الغربيِّين إلى الإقدام بديناميكية غير معهودة في هذا المجال على عمليات تفكيك معاني هذا المصطلح؛ حيث بدؤوا يُروِّجون القول بأنه ليس عندنا عالم عربي واحد؛ وإنما لدينا عوالِم عربية متعددة؛ ذلك أن الحسابات الإستراتيجية الغربية قد أخذت أبعادًا وتقدَّمت أشواطًا في اختراق هذا العالم المغلوب؛ فلقد لاحظتِ الأجهزة المشرفة على تلك الحسابات حين تقييم الإستراتيجيات السابقة أن الإستراتيجي الغربي في بعض الأحيان كان يتعامل مع العالم العربيِّ ككتلة كبيرة، وكان يحسب لها حسابًا هامًّا في عملياته وتصاميمه الإستراتيجية؛ فهو مثلًا حين ينوي ضرب دولة عربية، يفكر في عالم إسلامي وعالم عربي، وبمجرد تفكيره في عالم متماسك العقيدة موحد الانتماء، يُصاب بالخوف من ردود الفعل، فيُضحِي معوق التفكير، محصور المبادرة، شديد الترقب لرد الفعل، خجول الإقدام، كثير التردُّد.لكن بعض المنظِّرين الإستراتيجيِّين وخبراء العَلاقات الدولية روَّجوا من المفاهيم ما أزالوا به ذلك من ذهن رجال الإستراتيجية والقرار السياسي والعسكري بشكل أبادوا به تلك المعوِّقات والعقبات الدافعة للإحجام، والمضخِّمة لعمليات الحيطة والحذر من ردود الفعل واستجلاب غضب الشعوب الإسلامية، فكان أساس منطلقهم أن العالم العربي عوالم مختلفة وممزَّقة، وليس عالمًا متماسك الأطراف، مشدود البنيان، قويَّ الأركان.فالشرق غير الغرب، ووادي النيل غير الشام وما بين النهرين، وبلدان المغرب غير بلدان الخليج؛ ثم جاءت كارثة الخليج - وما صاحبها من تقاسم وتنازع البلاد العربية - لترسخَ هذه النظرة التجزيئيَّة للعالم العربي عند القوات الغربية، والمحاولاتُ جاريةٌ الآن لإدخال أطروحة العوالم العربية والإسلامية في أذهان العرب والمسلمين - بعد أن غزت قطاعًا هامًّا منهم - لمنعهم من التفكير بأسلوب واحد، ونسف كل برنامج أو جهد يهدف لِئَنْ يكون عملهم على صعيد واحد.كذلك الحال بالنسبة لمصطلحات عديدة ابتكرت البارحة حين الحاجة الماسة إليها، وبلغت من الشهرة ما جعلها تؤدي دورَها، لكنها شاخت وأصبحت متجاوزة بفعل توغل أفكار التطبيع المقصودة من طرف الغزاة؛ مثل: مصطلح "الشرق الأوسط"، ومصطلح "الشرق الأوسط الكبير"، وغيرهما من مصطلحات الجغرافية السياسية؛ فمصطلح "الشرق الأوسط" مثلًا وُلد حين الحاجة رمزًا للدلالة على منطقة يراد نزع انتمائها للعرب والمسلمين، وتمهيدًا لغرس كِيان مصطنع مُهلكٍ للحرث والنسل، نُعت قبل الولادة وبعدها بإسرائيل، لتجسيد مشروعٍ قوامُه العنف والفتك، وسلاحه أسطورة تدعي تحقيق النبوءات، وتسعى جاهدةً لمسخ السائد في المنطقة بفعل الإسلام من القيم والثقافات.وبعد أن حققت القوات المعادية للإنسان ووليدها نوعًا من التاريخ بالمنطقة، وظنوا أنهم قد حازوا الشرعية التي كانوا يَوَدُّون، وبلغوا جزءًا مما كانوا فيه يرغبون، أصبحوا اليوم يطالِبون بإعادة التحديد لمصطلحٍ هم صانعوه، لم يعودوا في حاجة لمفهومه السابق، وتطالب مدارسهم الإستراتيجية بمزيد من التفكيك باغتيال المصطلحات السائدة؛ من مثل: "عالم إسلامي"، و"شرق أوسط"، و"خليج عربي"؛ لتعاد صياغة مفاهيمها على ضوء إستراتيجيات ورغبات "النظام الدولي الجديد".ولهذا يرى فريقٌ من رجال الثقافة المسلمين ضرورةَ التأكيد على استعمال مفهوم "العالم العربي" بالمعنى الذي يُحدِّد المجال الجغرافي والبشري للثقافة العربية؛ فهم يرون أن عمليات اغتيال المصطلح داخل لُغتنا العربية جاريةٌ منذ البدايات الأولى للغزو الغربي على شكل مُنبئ بتفتيت القُوى الفكرية، وضياع جهد المقاومة للثقافات الغازية، مُنذِر بزوال المناعة الثقافية الذاتية أمام أعاصير الغزو الإعلامي والتطبيع الثقافي؛ وهي اليوم لمزيد من الحصاد ترمي بزرعها على أوسع نطاق، لتحقيق أغراض ذات عمق إستراتيجي خطير، أدنى درجات خطره مسخُ عالَمِنا العربي والإسلامي، مشجِّعة على التنكر للعروبة وبُغْض العرب، وكفى ببغضهم إثمًا.فقد روى الترمذي عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا سلمانُ، لا تُبغِضني فتفارقَ دينك))، قلت: يا رسول الله، كيف أُبغضُك وبك هدانا الله؟ قال: ((تُبغِض العربَ فتُبغِضني)).وجاء في "تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" بخصوص هذا الحديث: "قال: ((تُبغض العرب فتُبغضني))؛ أي: حين تبغض العرب عمومًا، فتبغضني في ضمنهم خصوصًا، أو إذا أبغضتَ جنس العرب فربما يجرُّ ذلك إلى بغضك إياي، نعوذ بالله من ذلك، والحاصل أن بُغْض العرب قد يصير سببًا لبغض سيد الخلق، فالحذرَ الحذرَ كيلا يقع في الخطر!"، فكل محبٍّ للعرب هو عضو في العالم العربي إذا أردنا للفظة عالَم أن يبقى لها شيء من مدلول عالميته

الألوكة