بيوت أهل المدر
أما أهل القرى والمدن، اي أهل المدر، وهم المستقرون وشبه المستقرين،
فإنهم يقيمون في بيوت ثابتة أو شبه ثابتة. وهي تتفاوت بالطبع بتفاوت. منازل ودرجات أصحابها. فرب بيت يكون من خيمة أو من أغصان شجر وعيدان وجربد، ويقال له "العنة". وقد قيل إن العنة الخيمة تتخذ من أغصان الشجر. وقيل البيت يعمل من الخشب.ورب بيت يكون من طين، ويسقف بجريد أو باغصان أو بحصير يطين أيضا. ويختلف حجم مثل هذا البيت باختلاف حجم العائلة. وقد يبنى البيت باللبن وهو الغالب، وتكون حالة. أصحابها أحسن من حالة أصحاب بيوت الطين. وكنتيجة لتيسر مواد البناء في العربية الجنوبية، ظهرت مدن لا نجد لها مثيلافي أنحاء أخرى من جزيرة العرب. مدن كبيرة بيوتها ثابتة وبعضها ذو جملة طوابق، تحاط بأسوار عالية وأبراج وحصون يأوي فيها المدافعون.. وقد تمكن المنقبون من التنقيب في بعض خرائبها ومن وضع مخططات لبعض:شعابها أو مخططات عامة مبدئية للمدينة كلها وللسور الذي كان قي يحتضنها.

(1/2510)

والقرية في نظر علماء العربية لفظة يمانية الأصل. يقولون إنها المصر الجامع، وكل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا. وتقع على المدن وغيرها. ولكن الأغلب أنها أصغر حجما من المدن. وأنها تكون غير مسورة. فإذا أحاط بها "سور" صارت مدبنة. وذلك على نحو ما نفهم من نصوص الجاهليين ومن المتعارف عليه بن الساميين من أن القرية أصغر حجما من المدينة. وأن المدن هي القرى الكبيرة المسورة. وقد فهم علماء العربية هذا المعنى بالنسبة للمدينة أيضا.
إذ قالوا مدينة: الحصن يبنى في اصطمة الأرض. وتقابل "مدنتو" Medinto في لغة بني إرم. وتقابل لفظة "هكر" "هجر" "هجرن" "هكرن" في لغة أهل اليمن. وهي لا تزال مستعملة في العربية الجنوبية لهذا اليوم. وذكر علماء اللغة أن "هجر" هي القرية بلغة حمير.
وورد أن العرب تسمي "القرى" مصانع، واحدتها مصنعة، يقال هو من أهل المصانع، أي القرى. و "المصانع" أيضا المباني من القصور والحصون.
ويطلق العرب على الرجل من أهل القرى مصطلح: "أخضر النواجذ"، يريدون أنه ممن يأكل الكرات والبصل والبقول والخضر. ولا يتناول الأعراب هذه الخضر.
وفي العربية لفظة "الحير" بمعنى شبه الحظيرة والحمى، و "الحيرة" بمعنى المعسكر والمقام، و "الحائر" وهي من مواطن الحضر، أي - من المستوطنات.
قد كانت مستعملة بن الجاهليين. ومثلها "الحاضرة" و "الحضرة" و "الحضر"، وهي المدن والقرى والريف. وهي من مساكن الحضر وأهل القرار.
وتسمى المدن بأسماء. أما القرى والمستوطنات الصغيرة، فقد تسمى بأسماء، وقد تنسب إلى أصحابها المالكين لها أو إلى العشائر أو الأفخاذ أو الأسر النازلة بها. ولا تزال هذه العادة متبعة في مواضع من جزيرة العرب. أما بيوت كبار الناس وأغنيائهم، فتستعمل فيها الحجارة والخشب وغير ذلك من مواد تجعل البناء يدوم أمدا ويعيش مدة طويلة، وبفضل ذلك بقيت اثار بعض منها حتى الان.

(1/2511)

ولا يزال الناس في مواضع من جزيرة العرب، ولا سيما الأماكن المعزولة القصية، يتخذون بيوتا تشبه بيوت العرب قبل الإسلام، وخاصة بيوت سادات القبائل والرؤساء. وبعض ذلك قصور وحصون ذوات جدر وأسوار مرتفعة وتقوم في طرف من الأرض أبراج لها مزارق ومرابيع للدفاع، وأبراج مربعة. وقد تقع البيوت في عدة طبقات تحمى بمختلف وسائل الدفاع. وتستعمل الزينة من أصباغ محلية ومن حجارة طبيعية ذوات ألوان مختلفة. وأعتقد ان هذه الأبنية يجب أن يعنى بدراستها المهندسون المعماريون والآثاريون، فإن دراستها تحل لنا مشكلات كثيرة للفن العربي الجاهلي، وتوصلنا إلى وضع مخططات عن بقايا الأبنية الجاهلية القديمة التي تهدمت غالبيتها،أو اعتدى عليها الإنسان ويا للاسف فاستخدم حجارتها في أبنيته الحديثة، وقضى بذلك على معالمها في الغالب، وتجاوز على حجارتها المكتوبة فحطمها وأبادها، وبذلك ألحق بتأريخ العرب قبل الإسلام ضررا بليغا.
وأعظم شئ في المدن هو هياكلها، أي معابدها المسماة بأسماء الالهة التي بنيت لها، وقصور الملوك وسادات القوم وأشرافهم. فلهؤلاء مال مكنهم من بناء قصور ضخمة ذات جملة طوابق، بنوها بحجارة طبيعية اقتلعت من الصخور، وزخرفوا الوجوه البارزة منها،وأفتن فيها الفنانون على وفق أذواقهم وذوق طبيعة بلادهم، ونشروا الرخام الأبيض والملون وشرحوه ألوانا رقيقة جعلوها في النوافذ بدلا عن الزجاج. فهذه الأماكن اذن هي التي تتحدث لنا عن العمارة عند الجاهليين.

(1/2512)

وقد استعين في بناء بعض المدن بحجارة اقتلعت من مواضع بعيدة بعض البعد عنها في بعض الأحيان. فقد ينيت "قرنو" "معين"، بحجارة جلبت من موضع يبعد عشرين كيلومترا تقريبا من شمال "معين"، من "جبل اللوذ" أو من جنوب "جبل يام". ويرى بعض الباحثين احتمال جلب بعض الصخور اليها من مواضع تبعد ثمانين كيلومترا من المدينة. وبعض هذه الأحجار ثقيل يبلغ طول الواحدة منها خمسة أمتار. وجاءوا ب "المرمر" إلى "شبوة" من موضع "مداث" و "كلوة" على مسافة خمسين كيلومترا من المدينة.
وقد تبين من الدراسات. العامة الأولية التي قام بها الباحثون لخرائب المدن الجاهلية أن بعضها قد بني على شكل مستطيل، ويحيط به سور مستطيل الشكل أيضا ذو أبراج، وبعضها بني على شكل إهليلجي أو قريب منه، وبعضها على شكل دائري. وقد أحيطت بأسوار لحمايتها من غزو الغزاة وللدفاع عن نفسها وللثبات بوجه الأعداء. ولها أبواب تغلق ليلا وتحرس حراسة شديدة حتى لا تفاجأ المدينة بعدو يأخذ على حين غرة، كما تغلق وتسد سدا محكما أيام الحروب.
ويظن أن تخطيط المدن على شكل مستطيل كان هو الشكل الغالب، إذ وجد المنقبون أكثر خرائب المدن قد بني في الأصل على هذا النحو. ف"مأرب" بنيت على شكل مستطيل على رأي بعض من درس آثارها.وكذلك خربة "غربون" في جنوب "المشهد" بوادي ! حجرين" بحضرموت. وذهب بعض من زارها إلى انها كانت مربعة الشكل. وعلى هذا النحو كانت "شبوة" و "حريب" و "يلط" "يليط"، و "قرنو" الني هي معين في الجوف.
ومن المدن الني بنيت على شكل إهليلجي تقريبا مدينه "حاز" "حيزم ". وهي محاطة بسور يتراوح ارتفاعه من ستة أمتار إلى ثمانية أمتار، تخترقه خمسة أبواب. وبنيت مدينة "بيحان النقب" التي تقع على مسافة عشرة أميال الى الشمال من "بيجان" على شكل إهليلجي كذلك.

(1/2513)

وقد تبين أن أكثر المدن اليمانية القديمة قد بني في بطون الأودية على مرتفعات طبيعية، أو صناعية،أي من عمل الإنسان. وقد يكون ذلك بسبب خصب الأودية وتوافر الماء فيها بسهولة، بحفر الابار أو من العيون أو بواسطة بناء السدود.
غير أن هناك مدنأ أقيمت على الهضاب والنجاد وعلى سفوح الجبال، وذلك لتتمتع بحماية طبيعية وليكون من الصعب على الأعداء التغلب عليها. ومن المدن القديمة التي أقيمت في بطون الأودية مدينة "قرنو" "القرن" "معين"، فقد بنيت على تل أقامه المعينيون أنفسهم ارتفاعه خمسة عشر مترا عن سطح أرض الوادي، وذلك لحماية المدينة من طغيان ماء السيول في الوادي في موسم الأمطار.
وتحمي المدن حصون وقلاع، وقد تقام الأسوار وعلى مسافة من المدينة لتشغل العدو وتمنعه من الدنو منها، لتحمي مزارع المدينة وأموالها، وتكون أبنيتها حصينة ذات جدر سميكة فيها منافذ ترمى منها السهام، وفي أعلاها أبراج يرمي منها الرماة الحجارة والسهام على المهاجمين.كما تبنى في المدن نفسها خلف الأسوار، لحماية داخل المدينة من العدو عند تغلبه على الحصون والقلاع الخارجية، وأسوار المدن. وبيوت الملوك والأشراف وسادات المدينة، قلاع وحصون في حد ذاتها، فيها كل وسائل المقاومة والدفاع ومخازن لحفظ مواد الإعاشة، وآبار.
ويكاد يكون لكل مدينة من المدن حصن يقيها ويحميها،وقد اشتهرت وعرفت به. فاحتمت "ظفار" مثلا بحصنها "ذو ريدان"، وأقيمت "شبام سخيم" عند حصن "عر ذو مرمر"، و "شبام اقيان" عند "الوة" "كوكبان"، و "بيحان" عند "ذي ريدان"، و "برج اتوت" على "ميفع ظبيان"، وأنشئت "غيمان" على تل مرتفع يحمي المدينة من المهاجمين. وأقيم "ذو معاهر" ليحمي مدينة "وعلان" ب "ردمان".

(1/2514)

ويظهر من كتابات المسند ومن الاثار ان بعض مدن اليمن كانت مسورة، محيط بها سور للدفاع عنها. ويقال لمثل هذه المدن "هجرن" في العربيات الجنوبية، أي "المدن". مثل "هجرن قرنو"، بمعنى المدينه "قرنو" وهي عاصمة معين. و "هجرن مرب"، أي المدينة مأرب، و "هجرن نجرن" أي المدينة نجران، المدينة الشهيرة عاصمة مخلاف نجران والتي لا يزال اسمها حيا.، معروفا في العربية السعودية في هذا اليوم.
و تختلف أطوال -أسوار المدن وارتفاعاتها بحسب حجم المدن وبحسب مواقعها.
فالمدن الكبيرة تكون أسوارها طويلة يتناسب طولها مع سعتها. والمدن الني تبنى فوق الجبال والهضاب والمحلات الحصينة تكون أسوارها أقل ارتفاعا من أسوار المدن المبنية في السهول. وقد وجد سور مدينة "قرنو" مستطيلا، وطوله زهاء أربع مئة متر، وعرضه زهاء خمسين ومئتي متر، وعلى كل زاوية من زوايا هذا المستطيل الأربع برج لمراقبة الأعداء ولرميهم بالحجارة والسهام وبوسائل الدفاع الأخرى التي كانت ميسورة لهم.
وقد وجدت اسس سور مدينة "حيزم" "حزم"، وهي "حاز"، مبنية بحجر بركاني، أخذ من لابة قريبة من المكان. على حين بنيت أسس أسوار ألمدن الأخرى وجدرها من أحجار تقع مقالعها على مقربة من المدن المسورة، ليكون في الإمكان نقلها بسهولة إلى مواضع البناء.

(1/2515)

وغالب مدن العربية الجنوبية، لها بابان متقابلان، فإذا كان أحدهما في الجدار الشرفي للمدينة كان الثاني في الجدار الغربي. وقد وجد في بعض المدن أربعة أبواب أو خمسة. ف "شبوة" عاصمة حضرموت كان لها خمسة أبواب، يقع الباب الرئيسي في الجهة الشمالية من المدينة. وتؤدي الأبواب إلى أفنية تكون متجمع الناس، تعلن على جدرانها الأوامر الحكومية ليقف عليها الغادي والرائح، ويعلن المعلنون فيها أوامر الحكومة، كما ينادي الدلالون بما عندهم من خبر أو بضاعة. وتكون هذه الساحات أسواقا كذلك، ومواضع لتنفيذ أحكام القتل أو العقوبات الأخرى ليعتبر بها الناس. وهكذا تجد أن أبواب المدن كانت من أهم الأماكن العامة للمدينة في تلك الأيام.
وقد وجد بعض الأبواب، وهي الأبواب الرئيسية، محصنا من الجهتين ببناءين قويين، للدفاع عن الباب، فيهما منافذ ومواضع يرمي منها" المدافعون من يريد اقتحام المدينة. وبين البناءين أو الحصنين باب قوي يغلق في الليل وعند وقوع خطر ما. ويؤدي هذا الباب إلى ساحة تحيط بها غرف ومواضع لإيواء الجنود، ثم تنتهي هذه الساحة بحائط قوي أو سور يخترقه باب آخر يغلق ويفتح ليؤدي إلى المدينة. والغاية من وجود هذا الباب الثاني سد الطريق على الأعداء عند اقتحامهم الباب الاول وتغلبهم على الجواسيس ووصولهم إلى الساحة التي يقيم فيها الجنود، فيقابلهم عندئذ باب ثان يسد عليهم الطريق ولا يمكنهم من دخول المدينة إلا إذا تغلبوا على هذا الباب.

(1/2516)

وقد عني العرب الجنوبيون بزخرفة الابواب وبزخرفة الإطار الذي ترتكز عليه، والجدار الذي يضم الإطار، والأعمدة التي تبنى على جانبي الباب أحيانا وللبناءين المحكمين اللذين يبنيان عند طرفي ابواب المدن والقصور والمعابد لحراستها. وتتصل شوارع المدن والقرى بهذه الساحات. والشوارع الرئيسية مبلطة في الغالب، ولا سيما الشوارع المؤدية إلى قصور الملوك ودور الكبار والحكومة والمعابد،وتؤدي إلى ساحات أمام هذه المواضع المهمة. ويكون تبليط الشوارع عندهم بتغطيتها بصخور عريضة مستطيلة أو مربعة نحتت بأطرافها بحيث يوضع طرف حجر فوق طرف الحجر الذي يليه، فيظهران كأنهما حجر واحد، أو بصقل أطراف الحجر صقلا جيدا ووضعه بجانب حجر مصقول آخر ولصقهما لصقا تاما، حنى يبدو ا كأنهما قطعة واحدة. ويظهر أنهم كانوا يعتنون عناية شديدة تامة بالتبليط. وقد تبين من دراسة بعض قطع شوارع مدينة "غيمان" الياقية من أيام الجاهلية حتى اليوم أن أهل هذه المدينة لم يعتنوا بتبليط شوارعهم عناية أهل المدن الأخرى، كما يتبين من طريقة رصف الحجر ومن وضعه بعضه إلى بعضه ومن دراسة المواد. الني توضع تحت الأحجار وبينها.
(1/2517)

وللمدن حدود، ما كان بعدها عد تابعا للمدينة، وما كان خارجها عد منقطع الصلة بتلك المدينة. وقد ذهب "رودوكناكس" إلى أن لفظة "اود" التي ترد في بعض الكتابات تعني "الحد" كما في هذه الجملة "اود هجرن"، أي "حد المدينة". وعندي ان المراد بها "السدود" وكل شيء يقي شيئا. فإن الأياد في العربية ما أيد به من شئ، واياد كل شيء ما يقوى به من جانبيه، والتراب يجعل حول الحوض وافيء يقوى به أو يمنع ماء المطر. وعلى هذا فإن تفسير "اود" بسداد تحيط بمدينة أوفق في نظري من تفسيرها ب "حد" وحدود. والواقع أن من الصعب علينا في الزمن الحاضر أن نتحدث عن هندسة المدن وتخطيطها وعن طراز أبنيتها وارتفاعها، وعن ساحاتها وأسواقها، لقلة ألتنقيبات الأثرية العلمية واقتصارها على وجه الأرض وفي بقاع قليلة جدا من جزيرة العرب، وانعدامها من أكثر الأنحاء مع وجود آثار كثيرة فيها لا تزال مطمورة تحت الرمال.
ولو تهيأت للجزيرة بعثات أثرية على شاكلة البعثات التي تقصد العراق أو بلاد. الشام أو فلسطين. أو مصر أو غيرها من أماكن، لكان علمنا. بأحوال المدن العربية الجاهلية وبأحوال الجاهليين غزيرا جديدا يختلف عن هذا النزر اليسر الذي نتحدث به عن أحوال العرب قبل الإسلام.

(1/2518)

اما الحجاز، فالظاهر أن الطائف منه، كانت القرية أو المدينة الوحيدة المحاطة بجدار أو حائط، يمكن أن نسميه سورا. وكان يحيط بالمدينة وبه مواضع يتحصن فيها، وفيها تحصمت ثقيف يوم قاومت الرسول في أثناء حصاره لها. وكانت له أبواب أغلقوها عليهم، وامتنع على المسلمين عندئذ الدخول منها، والاقتراب من الجدار. ولما اختفى المسلمون تحت دبابة، ثم زحفوا بها إلى جدار للطائف، أرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فخرجوا من تحتها، فرمتهم ثقيف يالنبل،، وقتلوا رجالا من المسلمين. وأما مكة، فيظهر من وصف أهل الأخبار لها أنها لم تكن مسورة. وإنما كانت ذات منافذ وطرق تؤدي إلى داخل المدينة وتمر بالشعاب. وعلى كل شعب حماية حد شعبه من الأطراف عند دنو عدو من مكة. وأما المدينة، فلم يكن لها سور كذلك. ويمكن أن يقال مثل ذلك عن بقية قرى الحجاز.
ولا نجد في وصف أهل الأخبار لقرى أهل الحجاز وبيوتها، ما يفيد بوجود أبنية ضخمة فيها على طراز أبنية اليمن. فلم يتحدث أهل الأخبار- عن وجود قصور فيها تشبه "قصرغمدان" أو "قصر ذو ريدان" أو غير ذلك من القصور. حتى مكة وهي أم القرى لا يشير أهل الأخبار إلى وجود بناء ضخم فيها على طراز أبنية اليمن، ولا وجود بيت كبير فيها على طراز بيوت سراة اليمن.
و "دار الندوة"، وهي دار قصي،مؤسس ملك قريش، لم تكن دارا ضخمة ولا كبيرة على ما يظهر من روايات أهل الأخبار ويظهر أن أهل الأخبار لم يحفلوا كثيرا بالنواحي العمرانية من الجاهلية، لذلك صارت معلوماتنا بسيطة جدا عنها من هذه الناحية. فلا نكاد نعرف شيئا عن بيوت مكة أو غيرها قبل الإسلام. وقد كانت بيوت المتمكنين من الناس وأصحاب اليسر والمال، مشيدة يالحجارة وباللبن. ويذكر علماء اللغة أن كل بيت مربع مسطح، فهو "أجم". ويظهر من شعر ينسب إلى امرىء القيس وتيماء لم يترك بها جذع نخلة ولا أجما إلا مشيدا بجندل

(1/2519)

أن آجام "تيماء"، كانت مشيدة بالجندل. والجندل الحجر، وقيل الصخور، وذكر أنها الصخرة كرأس الإنسان. وقد استعين بتشييد السقوف بجذوع النخل. ويقال للاجام: القصور بلغة أهل الحجاز، وعرفت بالآكام كذلك، وهي بمثابة الحصون، يتحصن بها أوقات الخطر. والقصر عند العرب كل بناء من حجر، وذكر أن اللفظة "قرشية". ووردت لفظة "قصر" و "قصور" في القرآن الكريم. وقد ذهب المفسرون إلى أن معنى "مشيد" في.الاية: )فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد(، المجصص. والجص بالمدينة يسمى: المشيد. فالقصر، البناء الضخم المبني بالجص والحجارة،، وقد يكون منفردا محصنا، وقد يكون في قرية، مع قصور أخرى، ولكل قصر بئر، يؤخذ منها الماء. وهي ضرورية جدا بالنسبة لبيوت ذلك الوقت.
ويظهر من روايات أهل الأخبار عن البيوت أن في بيوت يثرب بيوت تكونت من طابقين. طابق أرضي وطابق علوي. وكانوا يسكنون الطابقين. ولعلهم كانوا يودعون ماشيتهم ودوابهم الطابق الأرضي، أو مواضع خاصة بها ملحقة بهذا الطابق. وكانت دار "أبو أيوب الأنصاري" التي نزل بها الرسول ذات طابقين نزل الرسول بطابق، وسكن "أبو أيوب" بالطابق الثاني.
وكان سادات القرى قد حلوا مشكلة الدفاع عن أنفسهم وعن مواليهم ببناء أبنية حصينة ذات جدران سميكة قالوا لها الحصون والآطام والواحد هو الأطم. فكان أهل المدينة من الأوس والخزرج يلجأون إلى آطامهم وقت الخطر فيتحصنون بها ويمتنعون، وكذلك كانت ليهود وادي القرى حصون وآطام. بها آبار ومواضع لخزن ذخيرتهم وما عندهم من غال وثمين ودخلوا حصونهم وآطامهم وأغلقوا عليهم الأبواب. وبذلك صارت القرية مجموعة حصون وآطام.

(1/2520)

والأطم القصر وكل حصن بني بالحجارة. وقيل هو كل بيت مربع مسطح. وقد ورد أن "بلالا الحبشي" كان يؤذن على أطم المدينة. وقد اشتهرت بها المدينة. وذكر أن الأطمة الحصن. وأن "الأضبظ بن قربع بن عوف بن كعب ابن سعد بن زيد مناة بن تميم"، بنى أطما باليمن، عرف باسمه: "أطم الأضبط". وكان قد أغار على أهل صنعاء. وأشر في شعر "أوس" إلى "آطام نجران". حيث ذكر أن احد الملوك بث الجنود في الأرض، فأخذوا بقتل أعدائه ما بين بصرى وآطام نجران.
ويظهر من روايات أهل الأخبار أن قرى الحجاز ومدنها كانت شعابا، أي أحياء. تكونت على الطريقة البدوية. وذلك بإقامة كل عشيرة في حي معين من أحياء القرية أو المدينة. وتكون بين الحي عصبية مثل عصبية أفراد القبيلة للقبيلة. وينتمي الحي إلى القبيلة أو العشيرة التي يرجع اليها، ويتعصب لها. ويشعر أن بين أفراد الحي قرابة ورابطة دم. ويعبر عن سكان الحي ب "آل.....". ويكون وجيه الشعب، هو نقيبه وممثله وسيده.
وقد يقال للمنزل أو المحلة "الربع" والجمع "الرباع". وذكر أن "الرباع" المنازل وجماعة الناس. فتتألف كل قرية أو مدينة من رباع.
وقد كانت "الحيرة" على هذه الشاكلة أيضا. فقد كانت مؤلفة من مواضع حصينة بناها سادات المدينة وأشراف الأحياء، عرفت عندهم ب "القصور" والمفرد "قصر". فإذا داهم المدينة خطر دخل أهل الحي قصر سيدهم وشريفهم وتحصنوا به.
الأبراج

(1/2521)

وتؤلف الأبراج والحصون ص فحة من صفحات كتاب الفن المعماري والحربي في التأريخ الجاهلي. فقد بنيت لتؤدي واجب الدفاع والحماية والوقوف بجبروت وتعنت في وجه من يريد الكيد بمن يحتمي وراء تلك الحصون. وطبيعي أن تراعي في تصميمها وبنائها الأغراض التي من أجلها شيدت وبنيت والمكان الذي تقام عليه. ويراعى في جدران الحصون أن تكون سميكة وأن تبنى بمواد متماسكة تماسكا شديدا حنى لا تنهار عند ضرب المهاجمين لها ومحاولتهم تهديمها لايجاد ثغر فيها يهجمون منها، وتنشأ فيها مخازن لخزن الأسلحة، وييسر فيها الماء ومواد المعيشة التي يحتاج اليها المدافعون، وتحدث منافذ في أعالي الأبراج لرمي المهاجمين منها. ويكون سمك الحائط عند القاعدة أكبر من سمكه في أعلاه. وأما الأبواب المؤدية إلى الحصن، فإن الطريق اليها لا يكون مستقيما ممتدا، بل بأخذ اتجاهات مختلفة، ويمر بممرات وقاعات،ليكون في امكان المدافعين الاحتماء بها حين يتمكن المهاجمون من اقتحام الباب الخارجي.
وتقام الأبراج فوق الأسوار والأبواب لحمايتها من المهاجمين. وتكون هندسة بنائها عندئذ متناسبة مع هندسة بناء السور أو أعلى الباب. وقد تنتهي بما يشبه الأسنان والأفاريز، ليتمكن المدافع من إصابة المهاجمين بما عنده من مواد مؤذية فيمنعهم بذلك من اقتحام السور ومن إلحاق أي أذى به. وذكر علماء العربية أن "البرج" بيت بنى على السور والحصن. وقد يسمى بيتا. وذكروا أن برج الحصن ركنه. ولم يذكر أولئك العلماء أصل الكلمة. وهو من الألفاظ المعربة عن اليونانية، إذ هو Pirghos فيها. بمعنى "بناء" وبرج فوق بناء يدافع به المدافعون ولصد المهاجمين من التقدم نحوه.


المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام