( قصة الأميرة الأسيرة خديجة بنت الخليفة المستعصم )

على أحرَّ من الجمر كانت خديجة بنت المستعصم تتقلب مدةَ غياب زوجها الإمام العالم الحبر الكامل الزاهد الورع محيي الدين أبي المحامد يحيى بن أبي المجد ابراهيم المنيعي الخالدي...لقد خرج من بخارى فيما وراء النهر قاصداً السلطان أباقا بن هولاكو في (تبريز) لأمرٍ مهم طالما تحدَّثت به خديجة إليه، وهو استئذانه في العودة إلى بغداد والاستقرار فيها..كانت الليالي تمرُّ بطيئة ثقيلة، ولولا أنها كانت تشغل نفسها بالعناية بأولادها: عبد العزيز وعبد الحق وست العرب[1]، لما أطاقت العيشَ لحظة واحدة...وحين عاد يحيى يحملُ إليها نبأ السفر لم تصدقه... وظنت أنه يداري مشاعرها، حتى لا تُصدم بالمنع، وتنهار نفسها وتفجع آمالها... لولا أنها رأته قد بدأ يستعد للسفر فعلاً... وهكذا في زمنٍ يسير حزموا أمرهم، وخرجوا لا يلتفتون إلى ما وراءهم، نعم إنَّ بخارى التي يعيشون فيها جميلة، وعيشة الناس فيها هانئة، ولكن خديجة لم ترَ جمالها، ولم تهنأ بالمقام فيها، إن قلبها معلق هناك ببغداد... وعينيها ما تزال تتلفت إلى جهتها، على الرغم من مرور ستة عشر عاماً على فراقها... وقد لا تكون هذه الأعوام كثيرة، ولكنَّ الأهوال والمصائب التي كانت فيها كفيلة أن تصورها ستة عشر قرناً...وفي الطريق كان لخديجة أملٌ آخر أفضت به إلى زوجها الصالح يحيى، وهو أن ترى أخاها الأمير(المبارك) الأسير في مراغة[2]، وأن ترى أختها مريم، وتقف على قبر أختها فاطمة التي ماتت هناك... وأن يرى أبناؤُها الثلاثة خالَهم الأمير، فربما لا تسنح فرصة أخرى للقاء... ولم يخيّب يحيى ظن زوجته الأميرة المنكوبة الحزينة، فساروا إلى مراغة... وزاروا الأمير (المبارك)... والأميرة مريم... وكانت مفاجأة لم يتوقعها الأمير والأميرة في منفاهما الشديد البعيد... واحتضنا أختهما وأبناءها وسالت الدموعُ تشكو إلى الله مرارة الظلم، وقسوة الفراق...ومرَّت عليهم أيام اختلطت فيها مشاعرُ الأحزان بمشاعر سرورٍ غامضٍ باهتٍ، وكان أكثر ما يتحدثون به استعادة الذكريات المرة التي عاشوها... بدءاً من استشهاد والدهما الخليفة المستعصم، وأخويهما ولي العهد أحمد، وعبد الرحمن على أسوار بغداد، واستشهاد الكثير من أفراد الأسرة على أبواب دار الخلافة في تلك الفاجعة الموجعة العظيمة هناك... ثم أسْرِهم وهُم في مُقتبل العمر ونفيهم إلى مراغة... ثم غربة خديجة إلى بخارى حيث قدَّر اللهُ لها أن تعيش مع زوجها الشيخ يحيى الذي سعى والدُهُ الشيخ أبو المجد إبراهيم في خلاصها من أيدي أخي هولاكو: منكوقان[3]، وزوَّجها منه...وغير بعيد أنَّ الثلاثة وقفوا على قبر أختهم فاطمة يبلون ثراه بدموعهم أسفاً على شبابها الغض الزاهر الذي اغتالته يدُ الأحزان، فطوته وغيبته في تراب مراغة إلى جانب أحد أجدادها، وهو الخليفة المسترشد بالله الذي قُتل في مراغة سنة (529هـ) ويا لعجائب الأقدار...وأزفتْ ساعةُ السفر فكانتْ مِن أشقِّ الساعات على قلوب هؤلاء الإخوة لا سيما مريم التي رأتْ في لقاء أختها خديجة ما أنساها العذابَ الذي تحيا فيه...وخلا المباركُ ومريم بخديجة يحمِّلانها رسائلَ الأشواق والحنين إلى بغداد التي لم تعد (مدينة السلام)... وكانت ساعة لم تشهد مراغة أشدَّ حزناً منها...وسارت القافلة وفيها خديجة وزوجُها وأبناؤهم الثلاثة، وقلبُ خديجة موزَّع مشتت بين مراغة التي خلَّفت فيها أخاها وأختها، وبين بغداد الحبيبة التي تنتظرُ الوصولَ إليها ورؤيتها وشم هوائها كما لم يَنتظرْ عاشقٌ قط لقاءَ حبيب...وقد مضى أكثر الطريق وهي ساهمة واجمة، غائبة الحس عما حواليها...كان الزمن يشير إلى سنة 672هـ، بما يعني مرور 16 عاماً على سقوط بغداد والغياب عنها...وحين لاحت أسوارُها انفجرتْ خديجة بالبكاء، وبكى أبناؤُها لبكائها، وسرى الحزنُ إلى المسافرين فارتجت القافلة بالبكاء والنحيب...هذه بغداد... وهنا على (الباب الشرقي) من أسوارها استشهد والدُها وأخواها، والكثير من أعيان مدينتها ودولتها غدرًا... ومن هنا أُخِذتْ هي وأخوها المبارك وأختاها فاطمة ومريم وآخرون من الأُسرة أسرى مقيَّدين إلى بلاد العجم...ووقفتْ خديجة والشمسُ تميل إلى الغروب تروِّي ذلك الثرى بدموعٍ غزار كأنها كانت تجمعُها مِنْ سنين لهذه اللحظة...وإذا كانت الأسوارُ والأرضُ التي شهدت مقتلَ أهلها قد فعلتْ في قلبها الأفاعيل فكيف ستطيق رؤية قصورهم التي وُلِدتْ فيها، ونشأتْ في رحابها، وشبَّت في حدائقها ومنتزهاتها؟
ودخلتْ خديجة بغداد غارقةً في بحر من الذكريات الحزينة، ولم يخفِّفْ مِنْ حزنها إلا رؤية شمس الضحى الأيوبية زوجة أخيها ولي العهد الشهيد أحمد، وابنتها السيدة النبوية (رابعة) التي تركها أبوها وهي في الشهر الثاني من عمرها...وقد تزوَّج حاكمُ العراق الجديد الصاحب علاء الدين عطا ملك الجويني (شمسَ الضحى)، وتزوج ابنُ أخيه خواجه هارون (رابعة).وها هي شمس الضحى وأبناؤها من ولي العهد: محمد أبو الفضل ورابعة وست الملوك يستقبلون خديجة في دار الخليفة[4] حيث كان أبوها يحكمُ العراق، ويمثَّل المسلمين في أقطار الأرض...لقد تركت خديجةُ (رابعة) رضيعة وها هي الآن صبيةٌ تحمل بين ذراعيها طفلا سمته عبد الله المأمون...باسم أحد أجدادها الكبار، ولم تتمالك نفسها أن تضمها إلى صدرها وتشم فيها رائحة أخيها، وهما تجهشان ببكاءٍ مرٍّ يقطع نياط القلوب...وهنا آثر علاء الدين وابن أخيه هارون أن ينسحبا، فما يليق بالرجال البكاء، ثم إن ثمن ذلك لو رُفِع إلى (تبريز) بطريقةٍ ما ربما يكون باهظا...ووقفتْ خديجة في شرفة من شرفات القصر تتأمل بغداد، وتنسابُ الذكرياتُ في نفسها كانسياب نهر دجلة أمامها...أين أهلكِ يا بغداد؟ وأين أيامُك التي كانت كلها أعيادا؟ ولياليك التي كانت كلها أعراسا؟لقد كنتِ عاصمة الدنيا وأنت الآن مدينة محتلة تابعة لـ (تبريز)!!وأنتَ يا دجلة كيف طاب لكَ أن تختلط مياهُكَ بدماء قلوب أحبتك، وأن تمسحَ مدادَ أيدٍ طاهرةٍ صنعتْهُ منك؟وأكثر ما هزَّها صوتُ أذان العشاء المنبعث من مسجد (قُمْرية) على الضفة الأخرى، وهو مسجدٌ شيَّده جدُّها المستنصر بالله مؤسس المدرسة المستنصرية العظيمة...وقد رفع المؤذِّنُ الأذان بأشجى (المقامات العراقية)، وكأنه يبكي الأحبابَ الذين قطعتهم سيوف المغول، ويعبِّر تعبيرا صامتا عن الحنين إلى عهد مضى...واستغرق خديجة التأمُّل وطال وقوفُها... والمستقبلون ينظرون إليها وينتظرونها لا سيما رابعة التي كانت تتلهف لسماع أخبارها وأخبار عمها الأمير المبارك وعمتها فاطمة التي فكَّ الموتُ أسرها، ومريم التي ما زالتْ تنتظر.وحين انفضَّ المستقبلون، ومضى المسامرون، جلست خديجة تحدِّث أبناءها وتحكي لهم قصة المجد الزائل، والعز الآفل، وتذكر لهم سيرة جدِّهم الذي قُتل في السابعة والأربعين من عمره، وشوهت سيرته من بعده، وخالهم ولي العهد أحمد الذي قُتل وهو في الخامسة والعشرين، وخالهم الأوسط عبد الرحمن ابن الثلاثة والعشرين عاماً... تحكي لهم سيرةَ الأسلاف الكبار، وتستنهض همَمَهم إلى مجدٍ لا يزول، وعزٍّ لا يأفل، وتثني على زوجة أخيها (ذات العصمة) شمس الضحى التي قامت بتأسيس مدرسة علمية شامخة تدرس فيها المذاهب الأربعة، سميت بالمدرسة (العصمتية) نسبة إليها، وتأسيسِ رباطٍ للسالكين إلى جانبها قريباً من مشهد الإمام أبي حنيفة...ولم يكن شوقُ أبنائها وزوجها بأقلَّ من شوقها إلى الطواف في بغداد، وتجديد العهد بمساجدها ومشاهدها، وتذكار مآثرها وآثارها، ورؤية ما خلفه الأجداد الراحلون من معالم وعلامات، أو ما بقي من معالم وعلامات بعد ذلك الحريق والخراب الذي حلَّ بها.وهكذا مرت الأيام الأولى على خديجة وأسرتها، في زيارة حارات بغداد وشوارعها، وتفقُّد مدارسها ورُبُطها، والسؤال عمَّن عسى قد بقي من أهلها مِن أقرباء وأصدقاء...ولعل أول زيارة قامتْ بها هي اصطحاب أبنائها إلى قبر جدِّهم الإمام الشهيد المستعصم الذي نُقِلَ _في غفلةٍ من الغزاة_ إلى قبرٍ جوار الشيخ عمر السُّهروردي في المقبرة الوردية ببغداد[5].وقد آذاها أشدَّ الأذى ما علمته عن إحراق (جامع القصر)، وما رأته في مقابر بني العباس في الرصافة من إحراق ودمار لم يُبق منها شيئاً ولم يذر، ولم تعد تعرف قبري أختيها عائشة و(أخرى لم تُسَمَّ)، اللتين استأثر الموتُ بهما قبل تلك الفاجعة، واللتين انقلب حزنُها السابقُ عليهما إلى غبطةٍ لهما أنهما لم يعيشا ليريا أهوال سقوط بغداد...وكان أهل بغداد ينظرون إلى موكب الأميرة فيثير حنينهم إلى الأيام الغابرة، والأمجاد العابرة...وبعد مرور أيام الضيافة في دار الخليفة نزلت خديجة وأسرتها في (دار سوسيان) في الجانب الغربي من بغداد قرب مشهد معروف الكرخي...هذه الدار التي كان والدها قد وقفها سنة 652هـ هي وما يجري معها من الحُجر والبساتين، وجعلها (رباطاً) للسالكين الطريق إلى الله... وغنيٌّ عن البيان أنها لم تنزل في هذه الدار الموقوفة بصفتها وارثة، بل بصفتها متخلية عن الدنيا سالكة إلى الله...وفُوِّض إلى زوجها الشيخ يحيى أمر خزانة الكتب بالمدرسة المستنصرية... وأقبل ابناها على طلب العلم مدفوعين بما قالته أمُّهما ليلة العودة إلى بغداد...ولم يطل المقام بخديجة ففي الثامن عشر من محرم سنة 676هـ - بعد أربع سنوات من العودة- كانت رحلتها إلى الدار الآخرة، ودُفنت في الدار الزرقاء من دار سوسيان التي تسكنها...والظاهر أنها لم تبلغ الأربعين من العمر.وفي 12 من جمادى الأولى سنة 677 توفي أخوها المبارك في مراغة - وهو في السابعة والثلاثين من عمره -، ودفن إلى جانب المسترشد، وقد احتفل أهلُ بغداد لعزائه على الرغم من البعد، ورثاه الشعراء، مما يدل على تعلقهم بتلك الأسرة العباسية التي حكمتهم (524) سنة.ولعل لوجود عطا ملك الجويني على كرسي الحكم في بغداد أثراً في السماح بذلك، أو التغاضي عنه.ولا شك أنَّ لزوجته شمس الضحى الأيوبية الكنة السابقة للخليفة الشهيد أثراً في عطف قلبه على بني العباس وأهل بغداد، وقد وُصفت بأنها "كانت تحب أهل بغداد، وترعى مصالحهم، وتقوم في حوائجهم وتساعدهم".وفي 11 من رجب سنة 679هـ -أي بعد سنتين من وفاته- نُقِل رفات الأمير المبارك إلى بغداد، ولم يقدر له أن تكتحل عينُه برؤية مواطن صباه، ومطارح هواه، ولم يسمح له أن يعود إلا ميتاً، ودُفن إلى جانب أخته "خديجة" في الدار الزرقاء...ولا ندري مَنْ صاحب الفكرة في نقله، وربما كانت رابعة ابنة أخيه أحمد ولي العهد هي التي رغبتْ في هذا، فتمنَّته على زوجها هارون فتوسط لذلك عند عمّه عطا ملك، أو قام هو بذلك عند التتار، وكان لهارون وجاهة عظيمة، والدليل على ذلك أن حكم العراق آل إليه بعد عمه في رجب سنة 682هـ، ولا ندري هل استطاعت رابعة أن تصنع شيئاً لعمتها "مريم" أو لا، ذلك أن مريم كانت في سنة 681 ما تزال أسيرة عند المغول...لكن من الواضح أنها لم تستطع أن تصنع شيئاً لابن عمها: محمد بن المبارك، الذي تشير صفحاتُ التاريخ إلى وجوده سنة 706هـ في زاوية قطب الدين بجراند تبريز[6] يروي الحديث من طريق أبيه عن جده...ومن عجائب الاتفاق أن السلطان أباقا بن هولاكو أنعمَ (هكذا قال المؤرِّخون: أنعم) على الشيخ يحيى بابنة عم خديجة: الحاجة زينب[7] بنت الأمير أبي القاسم عبد العزيز بن الإمام المستنصر بالله، فاتصل بها، ونقلها إلى بغداد، وهذا لم يتفقْ لأحدٍ من العالم.وهكذا عادت أسيرةٌ عربيةٌ عباسيةٌ مسلمةٌ أخرى إلى بغداد بعد سنين من الأسر والغربة والعذاب... وغالبُ الظن أن ذلك كان بعد رحيل خديجة...ويذكر التاريخُ أن الشيخ يحيى لم يزل ببغداد مشتغلاً بنفسه، مقبلاً على درسه، إلى أن توفي فيها سنة 682هـ.واشتغاله بنفسه وإقباله على درسه يعني أنه كان يَعي تماماً أن الزمن لم يعد زمن بني العباس وإن كانت أميرة منهم عنده.ولعله دُفِنَ إلى جانب زوجته الأولى خديجة في المدينة التي أحبَّها لحبِّ خديجة لها...

[1] انظر إلى اختيار هذه الأسماء في تلك الظروف الزمانية والمكانية
2مدينة تقع اليوم في شمال غرب إيران، في محافظة آذربيجان الشرقية، وتبعد عن طهران (700) كم.
[3]لا نعرف كيف تأتى له ذلك ..
[4] هي دار الخلافة ولكن بعد الاحتلال صارت تسمى دار الخليفة إذ لم يعد هناك خلافة
[5] وهناك رأي أنه نُقل إلى المدفن الذي أعدته شمس الضحى بجانب مدرستها، وما يزال هذا المدفن قائما في الأعظمية ببغداد
[6] تبعد تبريز عن مراغة (130) كم تقريباً.
[7]لعلها حجت بعد عودتها شكرا لله على خلاصها