في هذا العصر عصر سيادة البربر على الأندلس الإسلامية أقام المسلمون قصر الحمراء في غرناطة والقصر والخرلدة في وإشبيلية. وكثيراً ما يسمى الطراز المعماري الجديد بالطراز المراكشي Morisco ظناً انه جاء من مراكش ولكن الحقيقة أن عناصره الأولى جاءت من بلاد الشام والفرس، وهي أيضاً من مميزات التاج محال في الهند، ألا ما أوسع ميادين الفن الإسلامي وما أكثر غناه! وقد كان الفن في ذلك الوقت فناً رقيقاً، ولم يعد يهدف إلى القوة والفخامة اللتين نشاهدهما في مساجد دمشق، وقرطبة، والقاهرة، بل يهدف إلى الرقة والمال، ويبدو فيه أن كل مهارة فنية قد وجهت إلى الزينة، وأن المثال قد طغى على مهندس المعمار.
وكان الموحدون من اكثر الحكام نشاطاً في العمارة، وقد شادوا أولاً بقصد الدفاع عن أملاكهم، فكانوا يحيطون مدنهم الكبرى بأسوار ضخمة قوية وأبراج مثل برج الذهب Torre del Oro الذي كان يحرس الوادي الكبير عند إشبيلية. وكان "القصر" Alcazar المقام هناك حصناً وقصراً معاً وكان يطل على العالم بواجهة خالية من الجمال. وكان الذي وضع تصميمه لأبي يعقوب يوسف (1181) هو الجالوني المهندس القرطبي، وأصبح هذا القصر بعد عام 1248 المسكن المحبب لملوك أسبانيا المسيحيين، وأدخل عليه بدور الأول (1353)، وشارل الخامس (126)...وإزابيلا (1833) تعديلاً في بنائه، أو رمموه، أو أعادوا ما تهدم منه، أو أضافوا إليه أبنية جديدة حتى أصبح معظمه الآن مسيحياً في بنائه، ولكنه يغلب على نمطه وصنعه الطراز الإسلامي أو الإسلامي-المسيحي.
وأبو يعقوب يوسف الذي بدأ "القصر" هو نفسه الذي شاد في عام 1171 مسجد إشبيلية العظيم الذي لم يبقَ منه شيء في هذه الأيام. وقد أقام جابر المهندس في عام 1196 مأذنة هذا المسجد الفخمة المعروفة عند الغربيين باسم الخردلة، ثم حول المسيحيون الفاتحون هذا المسجد إلى كنيسة (1235)؛ ثم هدمت هذه الكنيسة في عام 1401، وأقيمت مكانها كنيسة إشبيلية الكبرى، وكان مما استخدم في بنائها مواد المسجد نفسه. والجزء الأدنى من الخرلدة إلى ارتفاع 230 قدماً هو نفس بناء المأذنة الأصلية، أما الاثنتان والثمانون قدماً الباقية فقد أضافها إليها المسيحيون (1568)، وحرصوا أن تكون متناسقة كل التناسق مع قاعدة المأذنة الإسلامية. والثلثان الأعليان من البناء كثير الزخارف، وفيهما شرفات مقنطرة ذات واجهات متشابكة من الجص والحجر؛ وفي أعلاها تمثال من البرونز للإيمان (1568) ولكنه لا يكاد يمثل مزاج أسبانيا الديني غير المتقلب لأنه يدور مع الريح، ومن هنا اشتق لفظ جير لدا-أي الذي يدور-الأسباني من جيرا Gira. وقد أقام المسلمون في مدينتي مراكش (1569) ورباط (1197) أبراجاً لا تكاد تقل جمالاً عن هذا البرج.
وفي غرناطة أمر محمد بن الأحمر (1232-1273) في عام 1248 بتشييد أعظم صرح في الأندلس الإسلامية على بكرة أبيها، ونعني به قصر الحمراء الشهير. وكان الموقع الذي اختير لتشييده عليه قمة جبلية شامخة تحيط بها أخاديد عميقة وتشرف على نهري الدارو Darro والجنيل Genil. وقد وجد الأمير في هذا الموضع حصناً يعرف بحصن الكذابة Acazabs يرجع تاريخه إلى القرن التاسع الميلادي، فأضاف إليه أبنية جديدة وأقام الأسوار الخارجية للحمراء وأقدم قصورها ونقش على كل جزء من أجزائها شعاره المتواضع "لا غالب إلا الله". وقد أضيفت إلى هذا البناء الأصلي أجزاء أخرى في فترات مختلفة وأصلح ما تلف من على أيدي المسيحيين والمسلمين على السواء. ومن ذلك أن شارل الخامس أضاف إليه قصره البني على الطراز المربع طراز عهد النهضة، وهو بناء ناقص كئيب مهيب غير متناسق. وخط المهندس الذي لم يصل إلينا اسمه الفضاء الذي في داخل السور ليكون أولً حصناً لأربعين ألف رجل متبعاً في هذا مبدأ العمارة الحربية التي نمت وتطورت في بلاد الإسلام الشرقية(12). لكن ذوق القرنين التاليين الأكثر ميلاً إلى الترف حول هذا الحصن على مر الأيام إلى مجموعة كبيرة من الأبهاء والقصور، تكاد تمتا كلها بجمال الزخارف المكونة من الأزهار، وأوراق الأشجار، والأشكال الهندسية المحفورة أو المطبوعة في الجص أو الآجر أو الحجارة الملونة، والتي تبلغ من الجمال ورقة الذوق درجة منقطعة النظير. وأنشئت في بهو الآس بركة تنعكس على مياهها أغصان الأشجار وكلات الأبواب المزخرفة، ومن ورائها يقوم برج ذو أسوار حصينة كان المحاصرون يظنون أنهم واجدون فيه آخر ملجأ منيع. وفي داخل هذا البرج بهو السفراء، حيث كان يجلس أمراء غرناطة على رؤوسهم بينما كان المبعوثون الأجانب يعجبون بما حوته المملكة الصغيرة من فن وثراء، ولقد أطل شارل الخامس من شرفة لإحدى نوافذ هذا البهو فرأى الحدائق والغياض، والنهر يجري من تحتها، فقال بعد تفكير عميق: "ما أتعس حظ من خسر هذا كله!"(13) وفي الفناء الرئيسي للقصر المعروف ببهو الآساد أقيم اثنا عشر أسداً من الرخام رهيبة المنظر تحرس فسقتة من المرمر. وإن ما في البواكي المحيطة بهذا الفناء من عمد رشيقة رفيعة ذات تيجان في صورة أزهار، وتيجان ذات عمد صغيرة مدلاة، وكتابات كوفية، ونقوش عربية ذات ألوان أطفأ بريقها كر الغداة ومر العشي، كل هذا يجعل القصر أروع آية في الطراز الإسلامي الأندلسي. ولعل الأندلسيين المسلمين قد دفعهم ترفهم وتحمسهم إلى أن يتجاوزوا في فنهم حدود الرشاقة إلى الإسراف، ذلك أنه حيث لا تشاهد العين إلا الزخرف والزينة فإنها هي والروح تملان حتى الجمال والحذق. وهذه الدقة في الزخرف تبعث في النفس إحساساً بالوهن وتضحي بطابع القوة والأمان اللذين يجب أن تشعرنا بهما هندسة البناء. ومع هذا فإن ذلك الكساء الزخرفي كله تقريباً قد عاش بعد اثني عشر زلزالاً. نعم إن سقف قاعة السفراء قد خر، ولكن ما عداه من القاعة لا يزال قائماً. وملاك القول إأن هذه المجموعة الجميلة من الحدائق والقصور، والفساقي، والشرفات توحي إلى الناظر بأقصى ما وصل إيه الفن الإسلامي الأندلسي من العظمة، كما توحي في نفس الوقت بضعف هذا الفن: توحي بالإسراف في الثراء، وبجهود الفاتحين تتوسد مهاد الراحة وتخلد إلى الدعة، وبحاسة الجمال المرهقة تستبدل بالقوة والعظمة والرشاقة والأناقة.
وعاد الفن الإسلامي الأندلسي في القرن الثاني عشر من أسبانيا إلى شمال إفريقية، وبلغت مدائن مراكش، وفاس، وتلمسان، وتونس، وصفاقس، وطرابلس أوج عظمتها بما شيد فيها من القصور والمساجد التي يبهر العين؛ وبالأحياء الفقيرة المتعرجة. أما في مصر وبلاد الشرق فقد طعم السلاجقة والأيوبيون والمماليك الفن الإسلامي بقوة جديدة، فقد أقام صلاح الدين وخلفاؤه في الجنوب الشرقي من القاهرة قلعتها الضخمة، واستخدموا في بنائها الأسى الصليبيين، ولعلهم حذو في طرازها حذو القلاع التي شادها الفرنجة في بلاد الشام، وشاد الأيوبيون في حلب المسجد العظيم والقلعة، وبنوا في دمشق ضريح صلاح الدين. وحدث في هذه الأثناء انقلاب في فن العمارة حول في جميع بلاد الشرق الإسلامي الطراز القديم في عمارة المساجد، وهو طراز الصحن الواسع إلى طراز المدرسة أو الجامع ذي المدرسة، وكان منشأ هذا الطراز الجديد أن المساجد زاد عددها فلم تعد ثمة حاجة إلى أن يكون في وسطها صحن كبير يتسع لجمهور كبير من المصلين، وأن ازدياد الحاجة إلى المدارس كان يتطلب تسهيلات جديدة في التعليم. ولهذا امتت في المسجد الحقيقي أي من مكان الصلاة-الذي كان يعلوه في ذلك الوقت على الدوام تقريباً قبة كبيرة-امتدت منه أربعة أجنحة لكل منها مآذنه الخاصة ومدخله الكثير الزخارف، وقاعاته الرحبة للمحاضرات. وقد جرت العادة في أغلب الأحيان أن يكون لكل مذهب من المذاهب الأربعة جناح خاص، ويقول أحد سلاطين ذلك الوقت في صراحة: إن ذلك يتيح الفرصة لوجود مذهب منها في القليل يؤيد أعمال الحكومة القائمة. وقد استمر هذا الانقلاب في العمارة في عهد المماليك فأنشئت الساجد والمقابر الضمة التينة من الحجارة، تحرسها أبواب قوية كبيرة من البرونز المشغول، وتضيؤها نوافذ ذات زجاج ملون؛ وتتلألأ فيها الفسيفساء، والنقوش المحفورة في الجص الملون، وقع القرميد التي قاومت حتى الآن عوادي الزمان والتي لم يعرف طريقة صنعها غير المسلمين.
وقد درست الآثار المعمارية السلجوقية فلم يبقَ منها إلا أقل من واحد في المائة، نذكر من هذه البقية القليلة مسجد آني في أرمينية، والمدخل الفخم لمدخل قونية، ومسجد علاء الدين الفخم، والمدخل الكهفي، والواجهة ذات النقوش الشبيهة بالتطريز في جامع سرتجيلي، ونذكر منها في بلاد النهرين مسجد الموصل الكبير، ومسجد المستنصر في بغداد، وفي فارس برج طغرل بك في الري وقبر سنجر في مرو، والمحراب المتلألئ في مسجد همذان، والقبة المضلعة والعقود الصغيرة الفذة في السجد الجامع بقزوين، والعقود الكبرى والمحراب في جامع الحيدرية، وليست هذه إلا قلة من الصروح التي بقيت حتى الآن شاهدة على ما بلغه السلاجقة من حذق في العمارة وما بلغه ملوكهم من سمو في الذوق. وأجمل من هذه كلها المسجد الجامع في إصفهان الذي لا يدانيه في بلاد الفرس كلها إلا مسجد الإمام الرضا في مشهد والذي أقيم بعد ذلك الوقت. ومسجد إصفهان هذا أروع الآيات الفنية كلها في عصر السلاجقة. وقد أقيمت أجزاء من هذا المسجد في قرون عدة، ويبدو عليها طابع تل القرون، فهو من هذه الناحية شبيه بكنيسة نتردام Notre Dam. وقد بدئ بتشييده في عام 1088 ووسع مراراً عدة، ولم يتخذ شكله الحاضر إلا في عام 1612، غير أن كبرى قبابه المشيدة من الآجر تحمل نقوش خاتم نظام الملك وعام 1088. ومدخل المسجد وأبواب المحراب-ومنها واحد يبلغ ارتفاعه ثمانين قدماً-مزينة بالقيشاني والفسيفساء الذي لا يكاد يوجد له نظير في تاريخ ذلك الفن بأكمله. وأبهاؤه الداخلية ذات قباب مضلعة وعقود صغيرة متتالية معقدة، وأقواس مستدقة تخرج من دعامات ضخمة. وعلى المحراب (1310) نقوش على الجص من أوراق الكرم والبشنين؛ وكتابات كوفية لا يعلو عليها شيء من نوعها في بلاد الإسلام جميعها.
وهذه الآثار تسخر من القائلين بأن الأتراك كانوا قوماً همجاً، فكما أن الحكام والوزراء السلاجقة كانوا من أقدر الساسة والحكام في التاريخ، كذلك كان المهندسون السلاجقة من أقدر البنائين وأشجعهم في عصر الإيمان الذي يمتاز بضخامة مبانيه وأعظمها قوة؛ ولقد وقف طراز المباني السلجوقية الضخمة الجريئة في وجه النزعة الفارسية إلى الزينة، ونشأ من اجتماع النزعتين السلجوقية والفارسية طراز معماري جديد عم آسية الصغرى والعراق وإيران، ومن العجيب أن يتفق هذا الطراز في الزمن مع ازدهار فن العمارة القوطي في فرنسا. ولم يجر السلاجقة على السنة التي جرى عليها العرب قبلهم فيخفوا مكان الصلاة في ركن من أركان الصحن، بل جعلوا للمسجد واجهة قوية متلألئة، ورفعوا بناءه، وأقاموا عليه قبة مستديرة أو مخروطية جمعت كل الصرح، وضمت أجزاءه جميعها في وحدة، وفي هذا الوقت بالذات اجتمع في البناء العقد المستدق، والقبو، والقبة أحسن اجتماع(14).
وبلغت الفنون كلها ذروة مجدها في هذا العصر العجيب عصر العظمة والاضمحلال، فقد كان يبدو للفرس من مسرات الحياة التي لا غنى عنها، ولم يبلغ الخزف على اختلاف أشكاله ما بلغه في ذلك الوقت من تنوع في الشكل وجمال(15). ذلك أن الفرس أتقنوا ما ورثوه عن المصريين، وأعل الجزيرة، والساسانيين، وأهل الشام من فنون الزخارف البراقة، والتلوين المفرد، أو المتعدد الألوان فوق السطح المزجج أو تحته، وأعمال الميناء، والقرميد، والقاشاني، والزجاج، حتى بلغوا بذلك كله درجة الكمال. وتأثرت هذه الأعمال كلها بالفن الصيني، وخاصة ما كان منها متصلاً يتلوين الصور، ولكن ذلك لم يفرض سلطانه على الطراز الفارسي، وقد استورد الخزف وقتئذ من بلاد الصين، ولكن ندرة الكاولين في الشرق الأدنى والأوسط لم تشجع المسلمين على صنع هذه الآنية النصف الشفافة. إلا أن الفخار الفارسي مع هذا بقي طوال القرون الثاني عشر، والثالث عشر ، والرابع عشر، لا يفوقه فخار آخر في العالم كله-فقد كان في تنوع أشكاله، ودقة تناسبه، وبريق زخارفه، ودقة حزونه، ورشاقته يسمو على كل ما عداه في العالم كله(19).
ولم تكن الفنون الصغرى في بلاد الإسلام مما تنطبق عليها هذه التسمية التي تبخسها حقها. فقد كانت حلب ودمشق في هذا العصر تصنعان العجائب من الآنية الزجاجية الهشة، والمزخرفة بالميناء، وصنعت القاهرة للمساجد والقصور قناديل من الزجاج المزخرف بالميناء أيضاً يبذل هواة التحف الفنية في هذه الأيام أقصى جهودهم للحصول عليها . وكانت كنوز الفاطميين التي فرقها صلاح الدين تحتوي على آلاف من الزهريات المصنوعة من البلور والجزع البقراني، بلغ صانعوها من المهارة الفنية ما يعجز عنه الفنانون في هذه الأيام، وبلغ فن الزخارف العدنية الآشوري القديم في مصر والشام درجة من الإتقان لم يسبق لها مثيل، ومن هذين القطرين انتقل هذا الفن إلى البندقية في القرن الخامس عشر(18). وكان النحاس، والبرونز، والشبَّه، والفضة، والذهب، تصبّ أو تطرق، وتصنع منها آنية للطبخ، وأسلحة، ودروع، وقناديل، وأباريق، وأحواض، وجفان؛ وصَّوانٍ؛ ومرايا وآلات فلكية، ومزهريات، وثريات، ومقالم، ومحابر، ومدافىء، ومباخر، وتماثيل للحيوانات، وصناديق للمصاحف، ومساند للمواقد، ومفاتيح، وأقفال، ومقصات...مزينة بنقوش محفورة، ومرصعة في كثير من الأحيان بالمعادن أو الحجارة الكريمة. وكانت الوجه العليا للموائد النحاسية تحفر عليها كثير من النقوش، وكانت الشبابيك الفخمة تصنع من المعد المشغول للمحاريب، والأبواب، أو القبور. وفي متحف الفنون الجميلة ببسطن صينية فضية نقشت عليها صور وعول، وإوز، واسم ألب أرسلان، ويرجع عهدها إلى عام 1066، وقد وصفها بعض العلاء بأنها أشهر ما أخرجه الفن الفارسي في العهود الإسلامية من تحف فضية، وأنها أهم تحفة فضية مفردة باقية من أيام السلاجقة(19).
وظل النحت فناً تابعاً لغيره من الفنون ومقصوراً على عمل النقوش البارزة والحفر على الحجارة أو الجص، وعلى الزخرفة العربية والكتابية، وقد يحدث أحياناً أن يأمر حاكم مستهتر بعمل تمثال له أو لزوجته أو إحدى مغنياته، ولكن هذا العمل كان خطيئة سرية قلما تعرض على أعين الجماهير. غير أن النقش على الخشب ترعرع وازدهر، فكانت الأبواب، والمنابر، والمحاريب، وكراسي المصاحف، والسجف، والسقف، والمناضد، والشبابيك الشَّعرية؛ والأصونة: والصناديق، والأمشاط، كانت هذه كلها تقطع على رسم شَعْرية أو يكدح في عملها صناع قاعدون القرفصاء يديرون المخارط بأقواس. وكان ثمة عمال آخرون أشد من هؤلاء كدحاً وأكثر منهم صبراً ينسجون الحرير والأطلس والحرير المشجر، والأقمشة المطرزة، والمخمل المشغول بخيوط الذهب والستائر؛ والخيام، والطنافس ذات النسيج الرقيق البديع والرسوم الفتاة التي كانت موضع دهشة العالم وحسده. وقد شاهد ماركوبولو في آسية الصغرى حين زارها في عام 1270 "أجمل الطنافس في العالم كله"(20). ويقول جون سنجر سارجنت Jhon Singer Sargent إن السجادة العجمية "تساوي في قيمتها كل ما رسم من الصور حتى ذلك الوقت"(21)، مع أن الخبراء المختصين يحكمون بأن السجاجيد العجمية الحالية ليست إلا ناقصة من الفن الذي بزت فيه بلاد الفرس العالم له، ولم يبق من السجاجيد العجمية التي نسجت في عصر السلاجقة إلا قطع ممزقة، ولكن في وسعنا أن نتصور ما بلغه من إتقان وجمال منقطعي النظير مما نسج على منوالها بصورة مصغرة في العصر المغولي.
وكان التصوير في الإسلام من الفنون الكبرى في الرسو الدقيقة الصغيرة، كما كان طوال عهده من الفنون الصغرى في الرسم على الجدران؛ وفي الرسوم الملونة للكائنات الحية. وقد استخدم الخليفة الفاطمي الآمر (1104-1130) عدداً منم رجال الفن ليرسموا له في حجرته بالقاهرة صور شعراء ذلك الوقت(22)، ويبدو من ذلك أن تحريم الصور المنقوشة لم يعد له من القوة ما كان له في سالف الأيام. وقد بلغ التصوير في عهد السلاجقة ذروته في بلاد التركستان حيث أضعف بُعد المسافة كراهية أهل السنة لهذا الفن، ومن اجل هذا نرى في المخطوطات التركية صوراً كثيرة لأبطال الأتراك. ولم تصل إلينا رسوم دقيقة صغيرة يمكن الجزم بأنها من عصر السلاجقة، ولكن بلوغ هذا الفن أوَجه في عصر المغول الذي تلا ذلك العصر في بلاد الشام الشرقية لا يكاد يترك مجالاً للشك في ازدهاره في ذلك العصر السابق. فقد كانت العقول الأوربية والأيدي للصناع تخرج مصاحف تزاد جمالاً فوق جمالها على مر الأيام لمساجد السلاجقة والأيوبيين والمماليك، ومحال عبادتهم؛ ولكبرائهم، ومدارسهم، وكانوا ينقشون على جلود المصاحف المصنوعة من الجلد أو المطلية بالك نقوشاً تبلغ في دقتها بيوت العنكبوت، وكان الأغنياء ينفقون بعض مالهم في استئجار الفنانين لإخراج اجمل ما عرف من الكتب، وكانت طائفة كبيرة من الوراقين، والخطاطين، والمصورين، والمجلدين، تعمل في بعض الأحيان سبعة عشر عاماً كاملاً لإخراج مجلد واحد. ولم يكن بد من أن يكون الورق من أحسن الأنواع، ويقال إن فرش الرسم كانت تصنع من شعرات بيضاء من رقاب القطط التي لا تزيد عرها على سنتين، وكان المداد الأزرق يصنع من مسحوق حجر اللازورد الأزرق، وكان يساوي وزنه ذهباً؛ ولم يكن الذهب السائل يعد أثمن من أن ترسم به بعض الخطوط أو تكتب به بعض الحروف في رسم أو نص. وفي ذلك يقول أحد شعراء الفرس: "إن الخيال لا يمكن أن يتصور مقدار السرور الذي يتيحه للعقل منظر خط متقن الرسم"(23).

قصة الحضارة