جاء في قصة الحضارة
شعراء والعلماء في ذلك العصر لم يكن يقل عن عدد الفنانين. فقد كانت القاهرة، والإسكندرية، وبيت المقدس، وبعلبك؛ وحلب، ودمشق، والموصل، وحمص، وطوس، ونيسابور؛ وكثير غيرها من المدن تفخر بما فيها من مدارس كبرى، وكان في بغداد وحدها سنة 1064 ثلاثون مدرسة من هذا النوع، أضاف إليها نظام الملك بعد عام من ذلك الوقت مدرسة أخرى تفوقها كلها في سعتها، وفخامة بنائها، وأجهزتها، ويصفها أحد الرحالة بأنها أجمل بناء في المدينة كلها. وكانت هذه المدرسة الأخيرة تحتوي أربع مدارس للشريعة الإسلامية منفصلة كل منها عن الأخرى، يجد فيها الطلاب التعليم؛ والطعام، والعناية الطبية بالمجان، ويعطى كل منهم فوق ذلك ديناراً ذهبياً لما يحتاجه من النفقات الأخرى. وكان في المدرسة مستشفى، وحمام، ومكتبة مفتحة الأبواب بالمجان للطلبة وهيئة التدريس. ويغلب على الظن أن النساء كان يسمح لهن في بعض الأحوال بالالتحاق بهذه المدارس لأنا نسمع وجود شيخة-أي أستاذة-يهرع الطلاب إلى سماع محاضراتها كما كانوا يهرعون إلى سماع محاضرات أسبازيا Aspasia وهيباشيا Hypatia. (1178)(24).
وكانت دور الكتب العامة أغنى مما كانت في أي عهد آخر من عهود الإسلام؛ وقد كان في الأندلس الإسلامية وحدها سبعون مكتبة عامة، وظل النحاة، وعلماء اللغة، وأصحاب الموسوعات، والمؤرخون موفوري العدد والثراء، وكانت كتب السير التي يضم كل منها عدداً من التراجم من الهوايات الشائعة المتقنة عند المسلمين. من ذلك أن القفطي (المتوفى في عام 1248) ترجم لأربعمائة وأربعة عشر فيلسوفاً وعالماً، وأن ابن أبي أصيبعة (1203-1270) ترج لأربعمائة طبيب، وأن محمد الغوفي (1228)، ألف موسوعة تشمل ترجمة لثلاثمائة من شعراء الفرس لم يذكر فيها اسم عمر الخيام، وبز محمد بن خلكان (121-1282) بمفرده هؤلاء جميعاً وغيرهم بكتابة وفيات الأعيان الذي يحتوي على تراجم في صورة قصص لثمانمائة وخمسة وستين من ذوي المكانة من المسلمين. والكتاب على اتساع مجاله عجيب الدقة، وإن كان ابن خلكان نفسه يعتذر ما فيه من نقص ويختتمه بقوله "أبى الله أن يصح إلا كتابه" وحلل محمد الشهرستاني في كتاب الملل والنحل (1128) المشهورة من أديان العالم وفلسفاته، ولخص تواريخها، ولم يكن في مقدور أحد من المسيحيين في ذلك العصر أن يكتب كتاباً يماثله في غزارة مادته ونزاهته.

أما أدب القصة عند المسلمين فلم يتجاوز حكايات كثيرة عن حوادث اللصوص، متقطعة، متقطعة لا يربطها بعضها ببعض إلا أنها تروى عن شخصية واحدة. وكان أوسع الكتب انتشاراً عند المسلمين بعد القرآن، وكتاب ألف ليلة وليلة، وكتاب كليلة ودمنة لبيدبا هو مقامات أبي محمد الحريري (1054-1122) البصري. وتروي هذه المقامات في نثر مسجع مغامرات الوغد السافل أبي زيد صاحب الشخصية الممتعة، وهو الذي يضطر القارئ إلى العفو عن مجونه، وجرائمه، وتجديفه بسبب فكاهته الظريفة، وحذقه ودهائه، وفلسفته الجذابة المغرية: أنظر إلى قوله في إحدى المقامات:

وعاص النصيح الذي لا يبيح

إذا ما سمح
وجل في المجال ولو بالمحال
وخذ ما صلح
ويكاد كل من يعرف الكتابة والقراءة من المسلمين في ذلك الوقت أن يقرض الشعر، ولا يكاد يوجد حاكم لا يشجعه، وإذا صدقنا قول ابن خدون مئات من الشعر كانوا يقيمون في بلاط المرابطين والموحدين في إفريقية وأسبانيا(26). وحدث في اجتماع للشعراء المتنافسين في إشبيلية أن نال الأعمى التطيلي جائزة لأنه جمع في بيتي نصف شعر العالم كله إذ قال:

ضاحك عن جمان سافر عن در

ضاق عنه الزمان وحواه صدري
وتقول الرواية إن سائر الشعراء مزقوا قصائدهم دون أن يقرءوها، وفي القاهرة ظل البها زهير يغني عن الحب بعد أن ابيض شعره بزمن طويل، وفي بلاد الشرق الإسلامي كان انقسام الدولة إلى ممالك صغيرة سبباً في ازدياد عدد الأمراء والكبراء الذين يناصرون الآداب، وإلى تنافسهم في هذا الميدان كما حدث في ألمانيا في القرن التاسع عشر. وكان الفرس أغنى الأمم الإسلامية بالشعراء؛ فقد ظل الأنوري شاعر خراسان زمناً ما يتغنى بقصائده في بلاط سنجر، ومدحه بما لم يمدح به إلا نفسه. ومن مديحه لنفسه قوله بالفارسية ما معناه:

لي روح ملتهبة كالنار، ولسان فياض كالماء،


وعقل قواه الذكاء وشعراً مبرأ من العيوب،


ولكن ما أشد أسفي إذ لا أجد نصيراً خليقاً بمديحي

وما أشد أسفي إذ لا أجد حبيباً جديراً بغزلي!
ولا يقل عنه ثقة بنفسه معاصره الخاقاني (1106-1185)، وقد أثار بغطرسته معلمه فقال فيه شعراً يطعن في نسبه يقول فيه بالفارسية ما معناه: أي خاقاني! مهما تكن مكانتك في الشعر فإني أسدي إليك نصيحة لا أقتضيك عليها أجراً:

لا تهجون أسن منك فربما تهجو أباك وأنت لا تدري