نقد التنوير – طارق شفيق حقيلن يفهم الإنسان ما هو غير مؤهل لفهمهالإنسان سيعمل ما هو قادر على فعله نقد التنويريميز مندلسون ما بين تنوير الإنسان كإنسان وتنوير الإنسان كمواطنوفي ذات الوقت حذر مندلسون من الاستعمال السيئ للتنوير وهو ما آلت إليه الأمور في القرن العشرين.قامت مدرسة فرانكفورت بنقد الاستخدام السيئ للتنوير فجاء : " كلما زاد الشيء نبلاً وكمالاُ ، زادت بشاعة فساده وتحلله .... إن إساءة استخدام التنوير يضعف الشعور الأخلاقي ويؤدي إلى التصلب والأنانية والكفر والفوضى، وكلما تقدم التنوير جنباً إلى جنب مع الحضارة كان أفضل وسيلة لوقف الفساد ، والثقافة التي تسود في أمة من الأمم نتيجة امتزاج التنوير بالحضارة تجعل هذه الأمة أقل عرضة للفساد"يرى بعض فلاسفة أوربا ومن بينهم إمانويل كانط فيلسوف التنوير أن التنوير هو خروج عن القصور ،فلا يجب أن يخضع الإنسان لوصاية أحد ويلغي عقله لذلك، أكانت هذه الوصاية دينية أم سياسية ،وربما نضيف ثقافية وإعلامية.هل يمكن أن يقرر السياسي مصيرنا أو يقرر الطبيب نظامنا الصحي ؟ومن جميل النقد الذي قدمه كانط في هذ المجال يقول :" على الحاكم ألا يفرض شيئاً من أمور الدين ، وإنما يترك لهم الحرية الكاملة في هذا الشأن حتى ليبلغ به الأمر حد الترفع عن أن يلق على نفسه تلك الصفة المتكبرة وهي صفة التسامح . مثل هذا الأمير رجل مستنير يستحق ثناء العارفين بالجميل في عصره من ناحية الحكومة ، وترك لكل إنسان حرية استخدام عقله في كل ما يتصل بالضمير. "هنا حين نحاول صياغة فهم قيم التنوير أن ننطلق من خلفية الأشياء ومن منطلقاتها الاجتماعية والفكرية السائدة قبل بزوغ لمبة التنوير ، فعدم قدرتنا على التمييز بين التاريخ النمائي للمشاكل التي خلفتها الأديان ( ما نعتقده نحن طوائف ) في أوربا، وتميزها عن المشاكل المذهبية في المشرق العربي سيخلق مقتلة فكرية وفوضى عارمة.فهم التنوير في الغرب لا يمكن أن يتم من حيث انتهى التنوير ، بل من حيث كانت المشكلة، فكيف نأخذ الدواء ونحن لم نفهم العلة ؟!هناك إذن قصور في فهم التنوير، صارت هذه الكلمة مثل كثير من الكلمات تعني أشياء كثيرة إلا التنوير.لنقارن محاولة مقدم برنامج الألم على قناة الميادين يحيى أبو زكريا وأطروحته التنويرية والتي نادى فيها عبر لسان ضيوفه في حلقة " ثقافة الكراهية في تراثنا " بما أسموه " فقه التنوير" وملخص ما ذهبوا إليه نسف مذاهب الآخر لأنه يعبد الطاغوت كالطاغوت أبو حنيفة النعمان والطاغوت البخاري والطاغوت الشافعي ونسف المذاهب برمتها، هذا تماماً ما تم في العصور الوسطى من نسف العقل الغربي الديني لمعتقد الآخر فنشبت حروب دينية مقدسة لغايات سياسية ، فهل يمكن أن نصبغ هذا الفكر بفكر العصور الوسطى ؟هذا ما فهمه العقل العربي من التنوير ، لكن ما هو التنوير لدى الآخر؟التنوير ساهم في انعتاق الطوائف الدينية وخاصة الطائفة اليهودية فلقد سمحت لهم قيم التنوير بالانعتاق والتحرر ولقد قدم موسى مندلسون وهو صديق لسينغ فكرة مؤداها أن ثمة طرقاً متباينة إلى عبادة الله، ولذلك ينبغي للمسيحيين واليهود أن يتعايشوا كزملاء ومواطنين لا كخصوم أو أعداء.ولنفهم دقة هذه الفكرة علينا دراسة تاريخ اضطهاد اليهود في أوربا وقراءة ممارسات محاكم التفتيش في إسبانيا حيث نكلت باليهود والمسلمين ،وبكل ما هو غير كاثوليكي ، وصارت الديانة الكاثوليكية - نقول الديانة - هي الديانة الإجبارية التي يجب على جميع المواطنين اعتناقها، وهذا القمع بقي حتى التسعينات من القرن العشرين.فانتشرت الممارسات السرية بين اليهود وتشكيل الجماعات السرية فأتقنوا الرموز وصارت الشيفرات لغة تستخدم فيما بينهم، فيفهم الآخر السطحي من العبارة، بينما جوهر العبارة لها دلالة خاصة يعرفها اليهود، وانتشرت الرموز لتدل على بيوتهم وأسواقهم وتجمعاتهم .لقد ولدت محاكم التفتيش قدرات إبداعية يهودية وقدرة على التخفي والسرية والرمزية واستخدام مستويات للدلالة اللغوية وهذا تماماً ما برع فيه الباروخ إسبنوزا فهو كان يستخدم لغة للخاصة ولغة للعامة، لغة يفهمها المؤمن شيئاً ويفهمها الملحد شيئاً آخر.فكان يبني معادلة ما كالمعادلة التالية: (إن الله = الطبيعة) ، أي معنى كلمة الله فيما سيأتي من الخطاب هو الله ،وحين يفهم أتباعه مغزى ذلك ، يتمسك العامة بالمعنى المتداول لكلمة " الله" بينما إسبنوزا يقصد بالله الطبيعة.الاضطهاد الذي عانى منه اسبنوزا كان محرضاَ وملهماً له على الابداع في صياغة خطاب مضلل يخترق فهم الآخر.وربما هذا السمة هي سمة تاريخية في الفكر اليهودي يقول الله تعالى :" من الذين هادوا يحرفون الكلم عن موضعه"ويقول " ولتعرفنهم في لحن القول"وحين أطلق عبارة " فصل الدين عن الدولة" كان يعني فصل دين الآخر عن الدولة.وبحسب ما فهمت فإن المسيحية افترقت على أديان ثلاثة ( الشائعة )كل منها يدعي أنه يمثل المسيحية ويكفر ديانة الآخر، فكانت الديانة الكاثوليكية، وكانت الديانة الأرثوذكسية وكانت الديانة البروتسنتية.بينما ينظر العقل المشرقي لها على أنها مذاهب ويسحب ذلك على مجتمعنا فيطبق الفكرة الغربية على الواقع العربي وهنا تكمن مشكلة عميقة.في إسبانيا لا يجوز اعتناق غير الديانة الكاثوليكية ،وفي إيطاليا يمنع الزواج من أبناء الديانة الأخرى ،وفي فرنسا يقتل أتباع الديانة البروتستانتية لمحاولتهم التعبد في كنائس الكاثوليك ،فكانت حروب دموية استغلها الساسة وحرضوا عليها للوصول لأهدافه.ومن الطريف أن السياسي حين يصل لهدفه فهو مستعد للتخلي عن ديانته – كما حصل مع الملك هنري نهاية حرب الثلاثين عاماً، فحين وصل للحكم تخلى عن الديانة البروتستنتية ورمى بتضحياته جماعته الدينية في قمامة التاريخ ، لأن غايته الحقيقة الوصول للملك وإن ظهرت للعامة السذج أنها لمصلحة الدين ، لكن الافتراق الديني خلق أرضية خصبة لهذا الاستغلال وحيثما حل الافتراق الديني حل الاستغلال السياسي الداخلي والخارجي وهذه ربما عبرة تاريخية.المحرك للقتل المقدس كان من قبل الساسة لكن تفريق أتباع الديانة المسيحية لأديان كان الأرضية الخصبة لهذا الاستغلال ولهذه الدموية ، ناهيكم عن قصور التشريع المسيحي في مسائل اجتماعية كالزواج فيمنع الزواج من أتباع الديانة المسيحية الأخرى ويمنع الزواج من أتباع الديانات السماوية الأخرى ويمنع الزواج بابن العم ويمنع الزواج من أرملة الأخر ويمنع ويمنع ..... ناهيكم عن الموانع الاجتماعية في مجتمع طبقي إقطاعي ، شكل قنبلة اجتماعية ساهمت في ولادة مفهوم الزواج المدني، ولقد عاد الناس في أوربا للزواج على الطريقة الوثنية المتبعة سابقاً في أوربا لأن الطريقة الدينية كانت تحد من الزواج والوصول.هذه البيئة هي بيئة تختلف كلياً عن المجتمع المشرقي ، هذا لا يعني أننا لا نملك مشاكلاً في مجتمعنا ، لكن حلولها مختلفة عما هو عليه في أوربا. في الدين الإسلامي لا يوجد لدينا ديانات إسلامية ، والمذاهب السنية والشيعية وغيرها ليست أديان مستقلة ، فلا يمنع الشيعي السني من الصلاة في مسجده مسبلاً أم غير مسبل، ولا يمنع السني بالزواج من شيعية ، ونحن لا نقصد القدرة الاجتماعية والرغبة الفردية، بل التشريعات في كل المذاهب ، هل هناك تشريع في المذهب السني يحرم الزواج بشيعية أو علوية أو أباضية ؟هل هناك تشريع في المذهب الشيعي يحرم زواج الشيعي بالسنية أو بصلاة سني في مسجد شيعي ؟لو أردنا دليلاً على ذلك فعلينا أن نعود لسجلات النفوس في الشرق العربي وعلمنا أعداد الزيجات المختلطة وهي تبدأ من قمة الهرم حتى القواعد الشعبية.قد يقول قائل وماذا عن التكفير على الساحة العربية اليوم وكل هذا الدم؟ولا بد أن نذكر أن هناك محاولات حثيثة من الغرب لخلق ديانات إسلامية تكون الأرضية الخصبة لخلق صراعات دموية مقدسة باسم الدين تشكل حروباً مستدامة.وشمعون بيريز يقول في كتابة "الشرق الأوسط الجديد": إن حربنا إنما هي مع الدشداشة البيضاء والقلسنوة السوداء.. يقصد إن الحرب إنما هي مع الإسلام بفصيليه السنة والشيعة.في حلقة أعدها نور الدين زوركي على قناة البي بي سي التابعة للمخابرات البريطانية تناول القنوات الطائفية السنية والشيعية التي تكفر الآخر، وإذ بها تدار وتدعم من قبل أمريكا وبريطانيا فقناة فدك مقرها بريطانيا وقناة آل البيت مقرها أمريكا وقناة وصال فارسي مقرها بريطانيا، حتى قناة المستقلة التي فرقت المسلمين بدعوة التقارب السني الشيعي تدار من بريطانيا.وإن كانت القناة قد سلطت الضوء على محرك هذه القنوات لكنها محاولة لغسل اليد من الدماء، فالاعتراف في السنة الغربية هي تنصل من الجريمة.يقول الله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا "ويقول محذرا : " لا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم"من هم الذين تفرقوا والذين ذكروا في الآية الكريمة ؟لغة تفرق القوم : أي انفصل بعضهم عن بعضهم الآخر ، ذهب كل منهم في طريق ، تفرقوا كما تفرقت أسراب الطيور ، تفرق الغمام أي تبدد.المسلمين قبل الإسلام كانوا مختلفين متقاتلين متناحرين، وإذا تركوا الإسلام وتركوا نعمة الله سيعودون للتقاتل، فالمشكلة ليست في الطوائف والمذاهب بل في الافتراق والتفرق ، والتفرق كان قائماً قبل الإسلام بين القبائل والعشائر وسيجد له العقل الباحث عن الفرقة أي شكل يميزه عن الآخر كالمذهبية أو العشائرية أو اللون .بهذا العرض نفهم معنى الحديث الشريف :" تفرقت اليهود والنصارى .... وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة.الفرقة لا تعني المذهب كما نفهم، الفرقة هي التي تفترق عن الأمة والجماعة .وسنكمل هذه المقارنة الفكرية لتتسع الفكرة .