بقلم آساف دافيد

(وداع من نبي الغضب الأردني

كان ناهض حتر، الذي قُتل بعملية اغتيال نادرة في عمان، مفكرا مسيحيا مثيرا للجدل، مُدهشا، وزعيما لمجموعة مثيرة للإعجاب من المعارضين السياسيين والأيديولوجيين.‎ ‎التوتر الإسلامي-المسيحي، والذي ربما يكون الأكثر حساسية في النسيج الاجتماعي الأردني، بات يُشكل الآن خطرا

27 سبتمبر 2016,

ناهض حتر

قُتل صباح يوم الأحد الكاتب والمفكّر الأردني ناهض حتر أمام قصر العدل في عمان. مُنفذ عملية الاغتيال هو أردني سلفي يُدعى رياض عبد الله، وقد قُبِض عليه على الفور واعتُقل. أثار اغتيال حتر دهشة في أوساط الكثير من الدوائر الإعلامية، السياسية، الاجتماعية، والثقافية في الأردن والعالم العربي كله.

وخلافا للبلدان المجاورة، الكبيرة والصغيرة على حدّ سواء، كانت الاغتيالات وما زالت حدثًا نادرا جدّا في الأردن. ففي الخمسينيات والستينيات العاصفة عرفت مدينة عمان اغتيالات تضمنت رئيس الوزراء اللبناني، رياض الصلح (1951)، ورئيس الوزراء الأردني، هزاع المجالي (1960)، وقد رافقت الاغتيالات أحيانا أيضًا الحرب الأهلية (1970-1971). عام 1984 قُتل السياسي الفلسطيني فهد القواسمي، وفي عام 2002 قُتل الدبلوماسي الأمريكي لورنس بفولي، وقد حدثت عمليتا القتل في عمان. ولكن لم يُقتل أحد في الأردن على خلفية حرية التعبير أبدا، وخصوصا في السياق الديني، وقد اعتقد الكثير من الأردنيين أنّ بلادهم، وهم أنفسهم، محصّنون من الوباء الذي ضرب بلدانا كثيرة في الشرق الأوسط وخارجه. ولكن أخفقوا هذا الاعتقاد أمس.

كان الدافع المُعلن للقتل هو رسم كاريكاتير شاركه حتر في حسابه على الفيس بوك قبل نحو شهرين وعرض فيه "رب الدواعش". ظهر الله في الكاريكاتير كمُسنّ لطيف في الجنة يتلقّى تعليمات لوجستية من شيخ سلفي مُستلقٍ على سرير وتجلس إلى جانبه شابّتان. كان الكاريكاتير، الذي بدا أنّ صانعه مسلم، جريئا مقارنة برسوم الكاريكاتير التي نُشرت في الماضي في أوروبا وأدت إلى قتل الرسّامين المسيحيين. كان كل من رأى ذلك الكاريكاتير فزوعا ومُدركا أنّ الحديث يدور عن مادة متفجرة؛ وقد أدرك حتر ذلك سريعًا أيضا، فحذف مشاركته مُعتذرا. ولكن مطاردة السحرة كانت قد انطلقت.

يتميّز الأردن بالمحافظة الاجتماعية والدينية (حتى ولو كانت أقل من المجتمعات الخليجية)، وقد اكتسحت موجة الإدانة والنقد التي اجتاحت حتر أيضا السلطات في البلاد وأدت إلى فتح تحقيق رسمي ضدّه بتهمة إثارة النعرات الدينية. وقد اعتُقِل لنحو ثلاثة أسابيع، وصرّح أنّه سيُوضح في دفاعه أنّه لم يمسّ بالذات الإلهية فحسب بل دافع عنه أيضا، وذلك من خلال عرضه للشكل الذي تشوّه به داعش صورته. بدأت أصداء القضية تهدأ تدريجيا، وكان من المرجّح أن تنتهي بتسوية قضائية ما، مع كسب رضى جميع المشاركين بها، كما انتهت قضايا مشابهة أخرى في الأردن في السنوات الأخيرة. ولكن منفذ الإغتيال فكّر بطريقة أخرى.

كان ناهض حتر، المولود عام 1960، أحد المفكرين البارزين في الأردن في العقدين الأخيرين. كان مسيحيا، علمانيا، شيوعيّا، وماركسيا في عصر تتضاءل فيه مُعدّل المنتمين إلى هذه المجموعات، أو على الأقل، أصبحوا أكثر صمتا، في الشرق الأوسط. لقد ازدادت قائمة خصومه السياسيين والأيديولوجيين، والذين واجههم بشدّة وبابتهاج علني، خلال السنوات الأخيرة: الإسلام السياسي، ناهيك عن السلفيين (كانت شهادة الماجستير الخاصة به عن التفكير السلفي الحديث)، الأردنيين - الفلسطينيين، النخبة النيو- ليبرالية، والنظام الهاشمي نفسه. سُجن ناهض مرتين في السبعينيات ومرة واحدة في أواسط التسعينيات، بل تعرض لمحاولة اغتيال عام 1998. نتيجة لذلك اضطر إلى إجراء عمليات وعلاجات مستمرة وهجر إلى لبنان لفترة معيّنة.

بدءًا من بداية العقد الماضي برز حتر أكثر، تدريجيا، بصفته "أبا روحيا" للحركة الوطنية الأردنية المتشكّلة. شعر الشرق أردنيون باليأس بسبب الضرر الذي لحق بمكانتهم، وبسبب سلب مواردهم، على اعتقادهم، لصالح نخب نيو- ليبرالية أردنية- فلسطينية وأجنبية، ولاحظوا كيف يتنافس اللاجئون العرب، بداية من العراقيين ولاحقا من السوريين، لشغل الوظائف القليلة والأعمال اليدوية أمام "السكان الأصليين" لشرق الأردن من الطبقتين الوسطى والدنيا.

انزعج النظام بشكل أقل من الأعضاء الضعفاء في اليسار الأردني الذين تجمعوا وأعينهم متلألئة إلى جانب حتر، وانزعج أكثر من المسؤولين والعسكريين، وكبار موظفي الدولة المتقاعدين الذين لامست قلوبهم التحليلات والحلول التي اقترحها حتر. في الواقع كان حتر أول من نجح في تقديم تفسيرات بنيوية مُقنعة للتباعد الذي نشأ بينهم وبين النظام الهاشمي.

بل تمتع حتر خلال فترة معينة في العقد الماضي بحوار مباشر مع رئيس المخابرات، رغم استياء مسؤولين في القصر، حتى صدرت تعليمات، عام 2008، تقضي بإلغاء تشغيله ككاتب في الصحافة الرسمية. غني عن القول أنّ الإخراس لم ينجح، فقد انتقل حتر لنشر آرائه بحدّة وصراحة أكبر في مواقع التواصل الاجتماعي، في عشرات مواقع الإنترنت التي عملت دون تدخّل (رغم محاولات الحكومة بين حين وآخر لإجراء بعض الترتيبات فيها)، وكذلك في مقاله الأسبوعي في الصحيفة اللبنانية اليومية "الأخبار"، التي تمثّل منصة استثنائية للتراسل الأيديولوجي بين المفكّرين العرب من اليسار والتي تميل قليلا إلى حزب الله. لقد تصاعدت شعبية حتر في الأوساط الشرق أردنية، ممّا أثار استياء النظام.

عندما اعتُقِل حتر في أعقاب مشاركة الكاريكاتير بثّت السلطات الأردنية، كعادتها، رسالة مزدوجة. فمن جهة، خارجيا قد سعت إلى تجنّب طابع التضييق على حرية التعبير والرأي، مُلمحة إلى أنّ الأمر ضروري للحفاظ على أمن حتر. ومن جهة أخرى، سعت داخليا إلى اتهام حتر بنشر خطاب الكراهية واستغلال حدود حرية التعبير للتحريض الديني. كما كان في الماضي، من الصعب معرفة إلى أي مدى آمن مسؤولو السلطات التنفيذية والقضائية بهذه الدعاوى، أو سعوا غالبا إلى توفير ما يُغذي الرأي العام حتى تهدأ العاصفة. وأيا كان الأمر، فإنّ خطاب الكراهية ضد حتر نفسه قد تجاوز الحدود الحمراء بعد مشاركة الكاريكاتير، فقد أرسلت أسرته إلى السلطات معلومات عن سلسلة التهديدات التي تشكل خطرا على حياته، إذ نُشر الكثير منها علنيا في مواقع التواصل الاجتماعي.

وقد أثارت عملية الاغتيال دهشة على المستوى السياسي والعام الأردني دهشة. لقد بدت تعابير الأسف والإدانة من كل حدب صوب، بما في ذلك خصوم حتر الأيديولوجيين وعلى رأسهم الإخوان المسلمون أصيلة، وأصبحت تُهيّمن على تعابير الفرح القليلة في مواقع التواصل الاجتماعي. ولكن التسريبات المُغرّضة من التحقيق مع مُنفّذ الاغتيال، وهو خطيب سابق (والذي من المُرجح أنّه فقد وظيفته على خلفية التطرف الديني)، بادعاء أنّه رغم كونه سلفيا فهو مُعارض مُعلن لداعش، تثير شكوكا إذا كان الأردنيون سيفعلون هذه المرة أيضًا كل ما في وسعهم لتغطية أبعاد تجذّر الأفكار، الممارسات والتنظيمات السلفية الجهادية في المملكة.

في الواقع، يبدو أن القاتل قد تتبع حتر وجمع معلومات عن تحركاته، وقد وصل حتر، كما ذُكر، إلى مبنى المحكمة ليس للجلسة المُخطط لها في قضية الكاريكاتير وإنما بشكل عشوائي وبسبب قضية أخرى. بل اعترف مصدر أمني أردني مسؤول، من دون ذكر اسمه، أنّه يُدرس الآن الاحتمال أنّه في حال كان منفّذ عملية الاغتيال "ذئبا منفردا"، فإنّ داعش تشكل مصدر الإلهام.

لا يرتكز الخوف الكبير في الأردن الآن على آثار عملية الاغتيال غير المسبوقة من هذا النوع لكاتب ومثقف، وإنما أيضا الخشية من نشوب الحرب الأهلية في المملكة. ولا يحدث ذلك على خلفية حقيقة أنّ حتر كان بطل ومفكّر الحركة القومية الأردنية، وأنّ قاتله كان كما يبدو فلسطينيا (هذا ما تم التلميح به من حقيقة أنّه كان خطيبا في مسجد شرق عمان) فحسب، بل أيضًا لكونه مسيحيا قُتل من قبل مسلم متطرف.

ورغم أنّه من الواضح للجميع أنّ حتر قد قُتل بسبب الكاريكاتير وليس لأسباب دينيه، إلا أن التوتر الإسلامي- المسيحي الذي قد يكون الأكثر حساسية في النسيج الاجتماعي الأردني أصبح يُشكل الآن خطرا داهما. وذلك، من بين أمور أخرى، استمرارا للعاصفة التي اندلعت في الأردن منذ بداية الصيف في أعقاب وفاة موسيقي أردني مسيحي شاب وموهوب، وهو شادي أبو جابر، إذ ثار بعدها في النقاش الأردني العام السؤال إذا ما كان مسموحا للمسلمين الرحم على المسيحي.

وسيظل السؤال إذا ما كان هناك فشل أمني في الحفاظ على حياة حتر مطروحا في النقاش الأردني بالتأكيد في الأسابيع القادمة. ومع ذلك، فمنذ الآن أصبح الخطاب العام مغمورا بدعوات من كل حدب وصوب لاستبطان السؤال الكبير حقا: هل تُمارس في الأردن حرية التعبير والتسامح الحقيقي مع المواقف والآراء المثيرة للجدل، وهل تعمل الدولة بجدّية من أجل ترسيخ حرية التعبير عن الرأي وحمايتها. وهذه أسئلة برسم الجواب لأنّ الإجابة السلبية معروفة للجميع.

ربما ترغب السلطات في تصميم مجتمع مدني وبلورة خطاب عام متسامح وتعددي ولكنها غير مستعدة للعمل بجدية والتصادم مع المجتمع المحافظ. حتى إن يطبق القانون بصورة انتقائية بمثلاً على الاستخدام الحرّ للسلاح في المجتمع الشرق أردني. فقبل يوم واحد فقط من وفاة حتر قُتلت شابة بإطلاق نار عن طريق الخطأ خلال الاحتفال بانتخاب عمّها للبرلمان. أما جهود السلطات الإعلامية المبذولة للقضاء على الظاهرة يُمكن اعتبارها محدودة على ضوء حقيقة أنّه لا تُطبّق أية عقوبة تجاه مطلقي النار، المتسببين بالجرحى والقتلة في الأفراح والمناسبات.

سيغيب صوت ناهض حتر بشكل كبير في الأردن. ولكن ككبار المفكرين الآخرين، الماركسيين منهم بالتحديد، فقد وجد حتر صعوبة في أن يحس مصائب الناس العاديين. لقد كانت تكمن أهميتهم، في نظره، كمجموعات وليس كأفراد. ركّزت كتاباته ونشاطاته العامة في تحليل المجتمعات والطبقات والموارد وعلاقات القوة وتوازن القوى بين الدول والقوى العظمى والمراحل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

وربما هذا هو السبب أنّه رغم كونه يساريا مُخلصا، كما عرّف نفسه وكما عرّفه مؤيّدوه ومعارضوه، لم ينبس بكلمة تجاه الفظائع والمعاناة الرهيبة للسكان المدنيين التي أحدثتها الأنظمة التي دعمها. وعلى رأسها نظام الأسد، الذي حظي بدعم حتر حتى يوم وفاته لاعتبارات مُعقّدة اتخذها الأخير بخصوص تدخل القوى العالمية والإقليمية (وعلى رأسها قطر والسعودية) فيما يحدث في سوريا والشرق الأوسط. لقد اتُّهم مرارا وتكرارا بكراهية الأجانب: الفلسطينيين، العراقيين، السوريين، وآخرين. كانت لديه إجابات معقّدة ومثيرة للتفكير لمعظم تلك الاتهامات.

كره حتر الإخوان المسلمين وقطر، التي اعتبرها راعيتهم المقيتة، ولكنه احترم الإسلام وأهمية الدين لدى الطبقة الوسطى والدنيا. وقد كره أيضًا إسرائيل وعدوانيّتها، ودعم تنظيمات المقاومة مثل حزب الله وحماس ودولا مثل إيران وفقا لتحليله المُتغيّر للملابسات العربية. عارض استخدام العنف في الخطاب العام، ولكنه من حين لآخر اقترح إعداد "قائمة سوداء" للفلسطينيين والنيو- ليبراليين والإسلاميين. لم يُعرف كشخص صاحب فكاهة وثرثرة. كان نبي غضب مشبعا بالرسالية.

كان ناهض حتر رجل التناقضات، ولكن كانت كتاباته، دراساته، ومحاضراته مُدهشة وفي بعض الأحيان مُتألقة. كان يبدو في بعض الأحيان مندفعا وراء نظريات المؤامرة واستنتاجات داحضة، ولكن اتضح أحيانا أنّه رأى الغيب قبل أشهر وسنوات من حدوثه.

فقد الأردن أحد كبار مفكرينه، الأكثر تحدّيا وإثارة للجدل الذي كان بإمكان نظامه التعليمي أن يُنتجه قبل أن يتحوّل إلى آلة للعلامات والألقاب، والذي كان بإمكان ساحته السياسية أن تكوّن قبل أن تتحدّد كألية لتوزيع المناصب بين عائلات النخبة.

يمكن للمرء أن يأسف لا بسبب الدلالة الأمنية وتقويض الاستقرار الداخلي في الأردن في أعقاب عملية الاغتيال فحسب، ولكن كذلك على الملل والضجر الفكري اللذين سيخيّما على الخطاب العام والسياسي والايديولوجي في الأردن في غيابه.)