حماه ... وعالمها الراحل

الإمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي

لمدينة حماه في نفسي صورة عزيزة احفظها لها منذ سنوات طويلة، صورة متميزة فريدة تختلف عن صور ما قبلها وما بعدها من البلدان المنتشرة على طول ذلك الطريق المتجه إلى الشمال.

وما مرة حللت فيها بمدينة حماه زائراً، أو اجتزت بها مسافراً، إلا واستقبلتني هذه الصورة على مشارفها تنبهني إلى أنني من هذه البلدة أمام طبيعة أخرى غير التي عرفتها من طبائع الناس والبلاد. وما مرةً وقع فيها بصري على نواعيرها الصاعدة الهادرة، إلا ورأيت فيّ وقار مظهرها وانبعاث صوتها حديثاً طويلاً تظل تخاطب به كل داخل ومسافر، فإذا ما رنوت ببصري نحوها أتأمل حديثها أبصرتها تقول:

ههنا تربض كبرياء الشرف جنباً إلى جنب مع ورقة الخلق الإسلامي الرفيع، ههنا تلتقي قوة الثبات على الحق مع كرم المعشر ولطف الحديث. عند مداخل هذه المدينة تعود مرتدة جميع تلك الرياح والعواصف الهوج بما تحمله من نقيع التقاليد الآسنة ووباء الميوعة والانحلال، فمهما جلت في ميادين هذه البلدة أو سرت في سككها وشوارعها فلن تستنشق من حولك إلا نسيماً عذباً طاهراً يتخطر. لقد زعموا أن عجلة الدهر تنبذ كل قديم وراءها مهما كان نوعه لتستقبل كل جديد أمامها مهما كان نوعه.. أهي عجلة قطار هائج أفلتت من تحته قضبانه وصرع في داخله سائقه؟!. ربما.. ولكن عجلة الدهر في هذه البلدة إنما تسير على هدي من عقل. في داخلها وخارطة مرسومة أمامها. أما أنا فسأظل أدور ههنا حول نفسي في تطواف دائب لا ينقطع، لأغسل هذه البقعة مما قد يصيبها من وساوس هذا الفكر المتعفن. ربما أبصرني المار هنا فتوهم أنها الطبيعة، أرادت أن يكون عملي هذا هو العمل المكرر المعاد: أنضح الماء من هنا وهناك، ولكن الحقيقة أن هذه المدينة إنما أرادت لي أن يكون رمزاً للثبات على محور المبدأ، وليس للإنسان أن يجعل حياته إلا مطافاً ثابتاً من حوله، يعيش من أجله ويموت في فلكه.

قلت لصاحبي ذات يوم، وقد وصلت بنا السيارة إلى مشرف حماه، وتراءت لنا نواعيرها الذاهبة في جوّ السماء: ويحك، ألا تسمع إلى ما يقوله هدير هذه النواعير ؟.. ألا ترى إلى الصورة المتميزة المنبسطة على عرض هذه المدينة وطولها ؟.. ترى ما الذي جعلها تتميز عن غيرها بهذه الصورة، وما جعل نواعيرها تظل تنشد نشيد الكبرياء ؟!..

قال لي صاحبي: أولم تعلم سرّ ذلك بعد ؟.. أولم تسمع بشيخ هذه البلدة ومرشدها العظيم الشيخ محمد الحامد ؟.. قلت: لم أسمع باسمه قط. قال: فإن الله قد أقام هذا الرجل من هذه المدينة مقام ينبوع من الماء العذب وسط أرض ذات تربة نقية خصبة. فكان من ذلك ما ترى من تحول هذه البلدة إلى واحة الأنس والظلال.

قلت: وإن في هذه الدينة مثل هذا الشيخ وأنا لا أعرفه بعد ؟!.. وأصررت على أنني لن أبارح حماه إلا بعد أن أزوره واتعرف عليه واشد آصرتي به.

وكانت السيارة قد خلفت معظم معالم المدينة وراءها، ولم يبقى أمامنا منها إلا حاشية يسيرة من بيوت متفرقة هنا وهناك. فعادت بنها أدراجها، وأخذنا نتنقل بين الأزقة حتى وقفنا أمام منزل متواضع وسط أحد تلك الأزقة الضيقة. ولما دخلنا المنزل، أذن لنا إلى غرفة في أعلى الدار صعدنا إليها على درج ضيق متعرج.

وفي تلك الغرفة المتواضعة أبصرت لأول مرة الشيخ محمد الحامد، ورحت أسرح النظر فيه وفي هيئته باحثاً في شخصه بين مكان النبع الذي تحولت به هذه المدينة إلى دوحة وارفة الظلال.

وأخذت أسأل نفسي _ وأنا أمعن النظر والفكر في مظهره ولحيته الوافرة البيضاء المحيطة بوجهه _ كيف استطاع هذا الشيخ أن يتسلل إلى أفئدة هذه البلدة فيحولها ويقلبها من حال إلى حال ؟.. وهل هو في هذا إلا كغيره من الشيوخ: لحية وجبة قامة ؟.. لقد رأيت شيوخاً كثيرين لهم ما له من سيما المظهر والجلال، فلم يفعلوا بذلك أكثر من أنهم وضعوا بينهم وبين الناس حجاباً من مظاهرهم هذه، يقف أحدهم من سواد الناس ودهمائهم فوق برج مرتفع بعيد، حيث ينثر عليهم من هناك صيغ الوعظ والإرشاد، فليس بينه وبين أولئك الذين ينساحون بعيدين عنهم في الأرض إلا نسب هذه الكلمات وحدها، تهبط هي إليهم من عليائها هناك ويتلقونها هم بآذانهم في الأرض، ثم يعود كل شيء إلى ما كان عليه لا يتبدل أي خط ولا ينقضي أي انحراف.

وعدت أتأمل في حال الشيخ، وهيأت نفسي لسماع قطعة من الموعظة المحفوظة المكررة ..، ولكني لم أسمع شيئاً من ذلك !..

لم يكن حديثه يهبط إلينا من علياء بعيدة، ولكنه كان يصعد من أغوار نفس مؤرقة متألمة !.. أخذ يكلمنا عن مشاكل المسلمين في حياتهم والعوائق التي تقف سداً دون رقيهم الاجتماعي، ثم تحدث عن المدارس والمعاهد والمناهج وما ينبغي أن تكو عليه أوضاع هذه المؤسسات، وأفاض بعد ذلك في الحديث عن دور الشباب والجيل الناشئ في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي المنشود، وعرض لنا تجاربه الشخصية في هذا الصدد، ثم انتقلنا إلى بعض المسائل والأبحاث العلمية، فاندفع يشرح وينقد ويحلل .. وفوجئت بما لم أكن أتصوره: إنه يقرأ كل جديد يقع تحت يده، ويطلع على كل فكرة تمرُّ من تحت بصره. ثم هو لا يقرأ شيء من ذلك ابتغاء تسلية أو لمجرد اطلاع كما هو شأن معظم القراء والباحثين، ولكنه يتناول كل ذلك بفكر الناقد البصير ويضعه تحت مجهر العقيدة التي يعيش لها، ثم ما هو إلا أن تثور به أعصابه تدفعه إلى ما ينبغي أن يقوم به المسلم تجاه ذلك، من نقد أو تأييد أو تصحيح مهما كلفه ذلك من مشقة وجهد !..

ومضت دقائق، وأنا أتخيل تناقضاً يتلبس حال الشيخ..

إن جلال مظهره ووقار سنه وهيئته، لا يتفقان وهذا الخوض في كل هذه الميادين .. ورأيت أن الصورة التي انطبعت طويلاً في ذهني تهمس إليّ بأن العالم لا ينبغي أن يتجاوز محراب المسجد الذي هو فيه، إلا أن يتحول بوجهه عنه مستدبراً إلى ما وراءه من صفوف العامة يعظهم ويرشدهم، ثم ما هو ألا أن ينفتل عنهم بعد ذلك ليعود إلى تسبيحه وشأنه.

وازدادت صورة هذا التناقض في مخيلتي وضوحاً، عندما همس إليّ صاحبي الذي كان إلى جانبي، بأن الشيخ مدرس في المدارس الثانوية العامة وأنه يمضي شطراً كبيراً من وقته بين صفوف الطلاب !..

وإني لأذكر الساعة جيداً كيف أخذت أحملق بعيني في مظهره وروعة لحيته ووقار شكله، دون أن يسعفني الخيال بالقدرة على تصور أن صاحب هذه الهيئة يمضي شطراً كبيراً من وقته في صفوف المدارس حيث يحفّ به التلاميذ ويوجههم ويعلمهم ويحادثهم !..

ولما أخذت تأمل بفكري هذه الظاهرة، أدركت أنها هي وحدها سرّ انصياع هذه البلدة لشيخها العظيم !.. فلو كان الرجل في حياته مع الناس مثل بعض العلماء الآخرين: يجول معهم ضمن دائرة محدودة تحصرها وظيفة معينة تستهدف غاية واحدة لا تتبدل، لما كان له أي أثر في الناس أكثر من آثار أولئك الأخرين، ولما كان لسعيه أي فائدة فيهم اللهم إلا فوائد جزئية متناثرة لا يمكن أن يتألف منها أي منهج قويم متكامل.

منذ ذلك اليوم، أصبح اسم الشيخ محمد الحامد مِلءَ نفسي وكياني كله، لا من أجل مزيد علم وتحقيق قد يمتاز به عن غيره من العلماء، ولا من أجل مزيد من الصلاح والتقوى قد لا تجد منها عند سواه، ولا من أجل لطف معشر أو رقة حديث قد يجذب بهما من حوله من الناس، ولكن من أجل هذه الظاهرة التي أثارت لديّ الدهشة والتي لم أجدها عند كثير من العلماء الأخرين.

إن الذي لفت نظري من حياة الشيخ محمد الحامد رحمه الله وجعله بذلك ملء قب حباً وتعظيماً، هو هذا التكامل الرائع الذي تجلى لي في حياته الإسلامية، ولقد أخذت _ من بعد هذا اللقاء الأول معه _ لا أتأمل من ترجمته وشؤون حياته إلا هذه الظاهرة وحدها، وكان كلما امتدت بي الأيام وازددت معرفة بالشيخ وأحواله، ازدادت هذه الظاهرة لديَّ تألقاً ووضوحاً.

تتأمل في حياته وأعماله العلمية، فتجده يذهب مذهباً يوليه كل اهتمامه وفكره، حتى ليخيل إليك أن الرجل قد تجاوز به الأمر إلى حد الإفراط والقسوة، وأنه إنما يعيش حياةً عقلانية جافة مجردة، ولكنك تنظر بعد ذلك، فتراه _ مع هذا كله _ مستغرقاً في حالة من العبادة والتبتل وتقوى النفس، متحلياً بأسمى حقائق التصوف الإسلامي الصحيح، يتمثل في سلوكه الدائم قول الله عز وجل: (وذروا ظاهر الإثم وباطنه)

حتى ليكاد يخيل إليك أن الشيخ إنما ينظر إلى الإسلام من خلال زاوية أوراد ورياضات صوفية مجردة. ولكنك تتأمل، فتجده إلى جانب ذلك ثائراً على كل بدعة، منكراً لكل تزيد، محذراً من كل انحراف، مهتاجاً في وجه كل منكر ولو جاء مغلفاً بما يسمى بالحقائق أو الشطحات. ونظن أخيراً أن هذا هو كل ما عند الشيخ من مسلك وبحث وفهم. ولكنك تنظر وإذا به يصبّ هذه القيم العلمية والسلوكية كلها في طريق من الدعوة الإسلامية المركزة، يؤمن بتنظيم الفكر والمنهج والسلوك ولا يرى عند الكلمات الجوفاء وصيغ الوعظ والإرشاد المجردة أي جدوى لتحقيق أي حق. يعتقد أن الشباب الواعي هو مادة العمل الإسلامي وسر بقائه ونموه، ولذلك فهو يخلط حياته بمشاعرهم ويقيم دعوته على جانب كبير من إيمانهم وجهودهم. وهيهات أن تراه ذات يوم وقد دعوته على جانب كبير من إيمانهم وجهودهم. وهيهات أن تراه ذات يوم وقد حصر نفسه في زاوية ضيقة من جوانب الإسلام ليقول لك _ كما يقول بعضهم _ وهذا ما حصرت عليه نفسي ولا شأن لي بما وراء ذلك.

ولكنه يفهم كل عالم واعٍ أخلص لله في علمه وإسلامه: أن الإسلام جوانب متكاملة إن هدم منه جانب سرت بذلك عوامل التصدع والزلزال إلى الجوانب الأخرى، ولذلك فما ينبغي للمسلم (إذا كان صادق الإسلام) إلا أن يكون قائماً بحق هذه الجوانب كلها، يرعاها بعقله ودمه وحياته، ولعل هذا المعنى هو الذي كان يجعله يردد قوله المعروف: "أنني لا أتمنى أن أكون حاكماً، ولكن الذي أتمناه هو أن أكون مستشاراً لحاكم مسلم."

هذا التكامل في العلم والفهم والسلوك الإسلامي، هو الغاية التي إن وصل إليها العالم المسلم في بلده وقف بذلك في مرتبة ليس بينه وبين النبوة فيها إلا درجة الوحي، وما كان العالم خليفة ووارثاً للنبي إلا على هذا المعنى وبهذا القيد والشرط.

وما كان عمل النبي صلى الله عليه وسلم مع صحبه، طيلة حياته النبوية الي عاشها، إلا نموذجاً رائداً لهذا التكامل، أرأيت كيف كان يبني بيمين صبره وجهاده صرح الحقيقة الإسلامية شامخاً يملأ حياة المسلمين من كل جانب، يملؤها بالعقيدة الراسخة الصحيحة حتى لا تبقي فيها ثغرة يدلف إليها أي وهم من الأوهام الباطلة، ويفيض عليها صبغة العبودية لله عز وجل حتى لا يبقى فيها منزع ذل أو خضوع لغيره سبحانه وتعالى، ويكسبها الواقع الاجتماعي والسياسي الصحيح حتى لا يتهددها شيء من فوضى السلوك والخلق والحياة _ إن هذا البناء المتكامل القائم على هذه الجوانب كلها، هو الإسلام الذي بعث به محمد عليه الصلاة والسلام، ودعا إليه في حياته، ثم وكل إلينا شأن رقابته والحفاظ عليه بعد وفاته.

ولا يكون المسلم مسلماً حقاً ولا العالم الإسلامي أميناً على ما استأمنه عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، إلا إذا كان عمله الإسلامي متكاملاً على النحو الذي ذكرنا.

ليس المهم في العالم أن يكون علَّامة فيما يحفظ ويفهم من حقائق الشريعة الإسلامية وأحكامها الاجتهادية المختلفة، فرب عالم متبحر لم يكن علمه إلا وبالاً على الإسلام وأهله.

وليس المهم فيه أن يكون مستغرقاً في الزهادة يملأ بياض أيامه وسواد لياليه بالأذكار والعبادة والأوراد، فربُّ جماعاتٍ من هذا القبيل جرفهم سلوكهم هذا إلى حياة سلبية منطوية مؤلمة حجبتهم عن الإحساس بأي غيرةً على الإسلام وشعائره وحكمه، قد يرى أحدهم معاول الهدم والتدمير تدك صرح الحقيقة الإسلامية دكا، فلا يتحول مع ذلك عن سبحته وخلوته وأوراده !..

وليس المهم في العالم أيضاً أن يكون مجرد داع وواعظ أو مرشد، يهيج الناس بخطبه المتأججة، ويحمسهم بكلماته الهائلة، ويشيد في أخيلة الناس صرحاً عظيماً من الحكم أو المنهج الإسلامي القويم _ فرب دعاة من هذا القبيل أصبح في أيديهم وهم في ذروة تهييجهم وتحميسهم للآخرين، عندما قيل لهم: لقد آمنا وصدقنا، فما السبيل وما المنهج وما الحكم ؟.. ولا والله ماضرَّ بالإسلام وأهله أكثر من رجلين اثنين: خامل يرى النار تلتهم شرعة الله وحكمه فلا يتحول عن محرابه إليها بأي جهد أو محاولة، ومهيج مهذار يبيع الناس كلاماً ويملؤهم وعوداً وحماساً دون أن يتحرك من أرضه أو يحرك الناس إلى سبيل من الفكر والعمل والتدبير.

وأعود مرة أخرى فأقول: إن شعوري بهذه الحقيقة هو الذي جعل اسم الشيخ محمد الحامد ملء قلبي وكياني كله. لقد كانت حياته كلها رداً على معنى التجزؤ والشتات البارزين _مع الأسف_ في حياة المسلمين اليوم.

أجل فقد كانت حياته رداً قوياً صارخاً على معنى ما أسميه بالتوظف والتعصب لجهة من جهات العمل الإسلامي مع الإعراض الكلي عن الجهات الأخرى إن لم نقل: مع الحرب لها. ومن أجل ذلك استطاع الشيخ محمد الحامد أن يقيم من ورائه هذا الأثر الكلي المتكامل في مدينته الصغيرة الرائعة. ومن أجل ذلك لا تجد هناك أي ظاهرة مهمة تذكر، لداء التناقض المفرق للصفوف، على نحو ما قد ترى في مدن وأماكن أخرى.

ومن أجل ذلك تنظر في مسلك تلاميذه وأخلاقهم وطبيعة وعيهم، فترى صورة هذا التكامل منعكسة على حياتهم وأفكارهم: يؤمنون بالعلم وأهله ويذهبون في تقديره مذهباً يجعلهم يعتقدون أن أي خطوة في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي لا ينبغي أن تكون إلا بهدي من العلم الراسخ الدقيق. يتميزن بالعبادة والورع والتقوى حتى ليخيل إليك أنهم مريدون سلكهم شيخهم في طريق من التربية ولكنهم يتحلون مع ذلك بالوعي والتمسك بأهداب السنة المطهرة لا يتحولون عنها إلى أي بدعة يعلمون أنها بدعة. وهم بعد هذا كله شعلة تتقد في سبيل مستقيمة من الدعوة إلى الحق وأهله لا يبالون من أجل ذلك بحياة أو نعيم.

وفي يقيني أن هذا التكامل الإسلامي إذا ما توفر بهذا الشكل الذي وصفت، فليس من ضير في أن يكون صاحبه غير معصوم عن الخطأ والسهو، كما هو شان كل إنسان.

ومعنى هذا أن الشيخ محمد الحامد رحمه الله لم يتبوأ هذه المكانة في الصدور، ولم يترك من ورائه هذا الأثر الإسلامي العظيم، من أجل أنه كان معصوماً في كل ما يعرضه من آراء وما يعالجه من مسائل العلم والبحث.. ولذلك فلا قيمة ولا معنى لمحاولة نقده أو النيل منه من هذا الجانب، وإنما كان ذلك كله من أجل أنه لم ينصرف بعمله الإسلامي على زاوية خاصة من زواياه يحصر نفسه فيها ويتعصب لها ولا يدعو إلا إليها، وإنما صرف حياته إلى جملة العمل الإسلامي كله فجعل من اتجاهه إلى كل زاوية من زواياه سبيلا يستعين به على التوجه إلى الزاوية الأخرى. ومثل هذا السعي الرائع العظيم لا يضيره عدم العصمة لا يؤثر فيه إمكان الوقوع في الخطأ. بل ولم تكن سنة الله عز وجل قاضية في يوم من الأيام أن يكون الخطأ في الرأي _بعد التمحيص وبذل الجهد_ سبباً لأي إخفاق أو أصلاً لأي فساد.

لقد ارتحل هذا العالم العظيم إلى جوار ربه، بعد أن سار طويلاً في هذا الدرب الذي وصفت: وبعد أن خلف وراءه أثراً عظيماً يتحدث بنفسه عن نفسه. ولا ريب أن ارتحاله أعقب فراغاً خطيراً في ميدان العمل الإسلامي الصحيح. وقد لا تكون خطورته من الناحية العلمية وحدها أو من ناحية الوعظ والتوجيه، أو من ناحية الإرشاد ففي المسلمين عندنا اليوم من يقوم بشأن هذا الجانب أو ذاك.

ولكن الفراغ الخطير الذي خلفه الشيخ من ورائه، إنما هو حاجة المسلمين إلى ما قد أوضحت وبينت..

إلى تكامل العمل الإسلامي والقيام بأعبائه من كل جانب.

إن هذا التكامل، هو وحده الدواء الذي يحتاجه المسلمون اليوم، وهو وحده السبيل إلى جمع صفوفهم ولم شعثهم، وهو وحده المرقاة إلى سالف مجدهم وعزهم.

وإن في القلب من هذا لغصة.. ولكن عزاؤنا الوحيد وجود بقية صالحة من أهل العلم والفضل لا تزال بلادنا ترفع الرأس فخاراً بهم، وإني لعلى يقين بأنهم يشعرون بالحاجة التي استشعرها، وإن كثيراً منهم ليسير بخطى ثابتة مطمئنة في نفس السبيل.. ومهما كانت ثمة سبل متعرجة ملتوية تزخر بخليط من الشذاذ والأقزام والمنتفعين، فإن الصراط المنير المستقيم الذي اختطه الله عز وجل واضح للأبصار كلها في طبيعته ومنتهاه، وإنه لصراط يلتقي عليه كل ذي وعي سليم وحرية صادقة، وإنهم ليزدادون مع الزمن، وإنه للحق الذي وعد الله به عباده الصادقين.

وأعود الآن إلى الصورة التي أحفظها في نفسي عن مدينة حماه..

إنها صورة ستبقى في نفسي مع الزمن.. وستزداد لديَّ مع الأيام تألقاً ووضوحً. صورة لها في نفسي مكان التقدير والإجلال، منذ أن عرف الشيخ محمد الحامد في منزله المتواضع الصغير. ولها في نفسي مكان الحب والوداد منذ أن تحرك القلب اليها وعرفت الكثير من أهلها وذويها.

وسيظل القلب على ما هو عليه، وستبقى الصورة حية مشرقة مع الزمن.. وإن في الحق لغصة.. ومن وراء الصدر نفاثات كاوية.. وما كان أسعدني ببثها وشرحها، لو اتسعت لذلك هذه الصفحات ولكن فلتحبس النار في الأعماق فربما اتخذت منها قبساً ينير لي الطريق أو أجد به على النار هدى ولكل أجل كتاب.
نسيم الشام