من تفسير الشعراوي
من لُطْف الله بعباده ورحمته بهم أنْ شرع لهم التوبة وجعل بابها مفتوحاً لا يغلق، والتوبة أمل يتعلق به المسيء ويجد فيه حبل النجاة فيعود وتحسن سيرته ويتقوَّم سلوكه وينتفع به مجتمعه، أما إنْ أغلقنا باب التوبة في وجهه وألجأناه إلى اليأس تمادى في عصيانه فشَقِي وشَقِي به مجتمعه.

والتوبة تعني رجوع المسيء إلى الله، ولها مراحل: شرع الله التوبة ومجرد مشروعيتها فضل من الله، ثم إذا تاب العبد قبلَ الله منه توبته، لذلك قال تعالى
{ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوۤاْ }
[التوبة: 118] تاب عليهم. يعني: شرع لهم التوبة ليتوبوا فيقبل توبتهم.

والتوبة ليست كلمة تقال: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه، إنما التوبة منهج متكامل، وقد بيَّنها لنا الإمام علي رضي الله عنه عندما أقيمت الصلاة فسمع رجلاً في الصف يقول: أستغفر الله العظيم، الله أكبر، فلما انتهى من الصلاة قال له: لقد استعجلتَ في التوبة فتوبتك تحتاج توبة.

إذن: ليس مجرد كلمة، إنما منهج وبرنامج تستعرض فيه أولاً ما فاتك من سيئات وما حدث منك من تفريط، فتندم أولاً على ما بدر منك، وقد ورد في الحديث: " الندم توبة ".

وفي قصة بني آدم:
{ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ }
[المائدة: 30] فعندما هدأتْ عنده سَوْرة الشر والخصومة عاد إلى الصواب فندم على ما فعل، ثم تتذكر ما فاتك من فروض الصلاة فتقضيها أو تجبرها بصلاة النوافل.

ثم ترد المظالم إلى أهلها. فهذه شروط ينبغي توافرها، ثم زدْ على ذلك أن تذوب في الحسنة كما ذُبْتَ في السيئة، وأنْ تذوق مرارة مشقة الطاعة كما ذقتَ حلاوة المعصية.

والقياس في اللغة أن نقول: يقبل التوبة من عباده، لكن الحق يقول { عَنْ عِبَادِهِ.. } [الشورى: 25] فكأن الحق سبحانه يرد عنهم ذنوبهم حين يقبل منهم التوبة، فتكون النتيجة مغفرة الذنوب التي ارتكبوها لكن الذنوب التي ارتكبوها لها صفات من الحق تطلب حقَّها فيه.

فحين يفعل العبد الذنب تأتي صفة القهار والجبار والمنتقم وهي صفات الجلال، وهذه الصفات تقتضي العقاب، ثم تأتي صفات الجمال من الحق سبحانه صفة الغفور الرحيم التواب.. الخ.
لذلك قال في حديث آخر رمضان: " شفع المؤمنون، وشفع النبيِّون، وشفعتْ الملائكة، وبقيت شفاعة أرحم الراحمين ".
فإذا كان المؤمنون والنبيون والملائكة سيشفعون عند الله تعالى فعند مَنْ يشفع أرحم الراحمين؟ قالوا: لأن لله صفات جلال وصفات جمال، فإذا أخذتْ صفات الجلال حقَّها من المذنب العاصي تأتي صفات الجمال لتشفع له عند صفات الجلال في نَفي مستحقاتها عنده.
إذن { وَهُوَ ٱلَّذِي يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ.. } [الشورى: 25] عبَّر بـ (عَنْ) مع أن التوبة منهم، فقال عنهم ليحملهم عنهم.لذلك تجد دقة في استخدام هذه الحروف في القرآن الكريم، ولكل منها معنى لا يؤيده غيره، اقرأ مثلاً قوله تعالى:
{ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ.. }
[طه: 71].
ومعلوم أن الصَّلْب يكون على الجذوع، لذلك قال بعض المفسرين أي: على جذوع النخل، لكن لماذا عدل القرآن عن (على) إلى (في) لا بدَّ أنَّ لها معنى لا تؤديه (على). إذن: المراد لأصلبنكم تصليباً شديداً مُحكماً، بحيث تدخل بعض أجزاء المصلوب في المصلوب عليه، لذلك قال
{ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ.. }
[طه: 71].
كذلك في قوله تعالى
{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى ٱلْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ.. }
[إبراهيم: 39] بعضهم قال: يعني مع الكبر. كيف و (على) ثلاثة أحرف و (مع) حرفان. فلا بدَّ أن لها معنى لا تؤديه مع، ما هو؟
قالوا: (على) تفيد الاستعلاء، فالكبر مانعاً من الإنجاب، لكن قدرة الله وإرادته عَلَتْ وغلبتْ هذا المانع. ومثلها تماماً قوله تعالى:
{ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ.. }
[الرعد: 6] فكأن المعصية التي فعلوها كانت تستوجب العقوبة، لكن عفو الله ومغفرته ورحمته بعباده عَلَتْ على العقوبة.

وقوله: { وَيَعْفُواْ عَنِ ٱلسَّيِّئَاتِ.. } [الشورى: 25] أي: يمحوها { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ.. } [الشورى: 25] لأن علمه تعالى محيط شامل لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، فإذا كنتَ قد اقترفت سيئة ولا يعلم بها أحد فالله يعلمها ولا بدَّ أنْ تتوب عنها، حتى خواطرك التي تجول في نفسك ولم تظهر على جوارحك يجب أن تتوب عنها.

ثم يقول الحق سبحانه:

{ وَيَسْتَجِيبُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ.. }