للمسعودي كتابان جليلان في التاريخ،، ظهر أولهما مروج الذهب في عدة طبعات تداولها اكثر علماء هذا الجيل، فعرفوا من المسعودي عالما، جليلا، فلكيا، حاسبا، منجما، جغرافيا، أخباريا، فقيها، محدثا، جدليا، نظارا، ديانيا، مؤرخا، نسابة، فيلسوفا، أديبا، راوية.
وانه كان ملما بعدة لغات، وكان ذا حظ وافر من الثقافات التي انتهى إليها علم الانسان، منذ بدأ الله الخلق إلى عصره.
وظهر ثانيهما، وهو التنبيه والاشراف في طبعة واحدة قبيل نهاية القرن
التاسع بسبع عشرة سنة في مطبعة بريل بمدينة ليدن بهولانده، ضمن المكتبة الجغرافية، التي عني بنشرها البروفسور " دي جوجي ".
ويندر أن يعرف علماء العصر الحاضر عن هذا الكتاب شيئا، إذ لم يصدر منه سوى هذه الطبعة الاوربية، وطبعات أوربا من الغلاء بحيث لا يستطيع الرجل المتوسط الثراء أن يقتنيها.
وقد قمت بنشر هذا الكتاب وسيذاع بين يدي الجمهور بعد بضعة أيام، ريثما أتمم طبع فهارسه المطولة.
وسوف يرفع هذا الكتاب من منزلة مؤلفة العلامة المسعودي، ويحله الذروة بين الرجال النابهين، ذوي الثقافات الواسعة والمعلومات الكثيرة،
وسيرى العلماء قدرة المسعودي الفائقة وبراعته وعلمه الغزير الذي بدا لهم في ثنايا كتابه مروج الذهب، سيرون أنه قد عاد فظهر فيه بأوضح وأجلى مما ظهر في صنوه المروج من قبل.
وكتاب " أخبار الزمان " هذا، ثالث كتاب يبرزه عالم الطبع من مؤلفات ذلك الامام الكبير.
وقد يلاحظ من يقرأ كتاب مروج الذهب أو كتاب التنبيه والاشراف أن المسعودي أكثر من الثناء عليه، وأحال عليه في مواضع كثيرة.
وأنه أوفى كتاب التاريخ، وأوسع المراجع العلمية الاسلامية التي وضعت في أواسط العصر العباسي ويظهر أن المسعودي ضمنه كل ثروته العلمية، إذ هو أول ما ألف من كتب، ثم راعته ضخامة الكتاب، فعمد إلى اختصاره عدة مرات، ثم عمد إلى تلك الثروه العلمية الهائلة فبعثرها في كتبه، وفرقها بين مصنفاته،
تفرقة عادلة، وقسمة مرضية، راعى فيها أن يكون في كل مؤلف منها ما يحببه إلى القراء، ويرفع قدره ويسني منزلة بين العلماء.
فكثيرا ما يرى الباحث في كتب المسعودي أنه يعرض إلى إجمال بعض الموضوعات الطريفة، والاحاديث الغريبة، في مختلف العلوم والفنون في هذين الكتابين، يلم بالموضوع إلمامة سريعة، ثم يذكر أنه بسطه مفصلا، وذكره بتمامه في كتاب " أخبار الزمان " فلا يزال الباحث يبحث عن ذلك الكتاب ضمن ما طبع أو ما لم يطبع، وربما دعاه الشوق إلى البحث في مكاتب أوربا، والمكاتب العامة الخاصة.
ثم لا تكون نتيجة هذا البحث إلا الخيبة والفشل، والتحسر الدائم على ما فقد وضاع من تراث الآباء.

ذلك كان موقفي عند ما قرأت مروج الذهب للمسعودي لاول مرة، ولطالما أمضيت الايام في البحث، وأضنيت النفس في التنقيب عن كتبه، ولا سيما عن كتاب أخبار الزمان الذي هام به العلماء، لا فراط المسعودي في تقريظه، وإلماعه بما تضمنه من علوم وأبحاث مفيدة - اعتقدت أن في العثور عليه إشباعا لرغباتي العلمية، بل ظننت أن سعادة العالم رهينة بما قد ضمنه ذلك الكتاب من حلول لمسائل علمية معقدة، ومشكلات لم يصل العلم إلى حلها، ولا سيما مسائله الفلسفية، وما وراء الطبيعة، وأخباره الطريفة.
ولم أكن فريدا في الشعور بتلك الحالة، بل ذلك شأن كل من يقرأ كتب المسعودي، أو يلم بها بعض الالمام.
ولقد حدثت أن مستشرقا استهواه علم المسعودي، وأسلوبه الجذاب،
وفتنته إحالاته العجيبة، فبحث أولا بنفسه، ثم لجأ إلى حكومته فأمدته بالمال، فظل يبحث ويتابع البحث، حتى عثر على نسخة من كتاب " أخبار الزمان " في مدينة شنقيط بصحراء افريقية، فرام شراءها، وبذل فيها ثمنا عاليا، فما سمحت أنفس الشناقطة ببيعها، ولا رضوا أن يستبدلوها بالذهب الوفير.
فلما أعياه شراؤها عرض عليهم أن يصورها بالفتوغرافيا نظير مبلغ من المال جسيم، فما اعاروا عرضه ذلك التفاتا، بل منعوه النظر إليها والاستمتاع بها.
فرحل عنهم حقبة من الدهر، ولما استيقن أن القوم قد أنسوا شخصه، وما كان قد جاء لاجله، عاد إليهم خائفا يترقب، وقد عزم استنساخها، فاكترى رجلا منهم عهد إليه باستنساخها.

يقول المسعودي :

والفرق بينه (أي الفيل) وبين سائر أنواع الدواب ما يظهر من الفيل من الجزع عند ورود المياه من الغدران والانهار للشرب إذا كان الماء صافيا، فانه يثيره ويكدره ويمنع من شربه حين صفائه، وان ذلك يوجد في أكثر الخيل إذا وردت الماء وكان صافيا ضربته بأيديها فكدرته، فتشرب حينئذ.
وتوافق الخيل الفيلة في هذا المعنى، دون سائر الحيوانات، وإن ذلك لمشاهدة صورها في الماء لصقالته وصفائه، ولعلمها بذلك عند زوال كدره.
وإن الابل الاغلب منها يفعل ذلك، ولمعان غير ذلك مما وصفنا من أن ما عظم من الحيوانات إذا رأى صورته منعكسة على صفاء الماء أعجبته لعظمها وحسنها، وما بان له من حسن الهيئة عما دونه من أنواع الحيوان، وليس يفعل ذلك من الحيوان غير ما ذكرنا من الخيل والابل.
وإن الفيل مع عظم جسمه ولطافة نفسه وخفة روحه وحسن تمييزه والمعرفة بوليه وعدوه من الناطقين وغيرهم، وقبوله الرياضة تمتنع أنثاه، كما تمتنع النوق إذا لقحت.
وليس شئ من الدواب يمتنع من السفاد من الاناث عند حملها إلا الفيلة والابل، وهذا باب إن نحن تقصيناه وذكرنا ما فيه طال به الكتاب، وخرج