روسيا الحرام وأمريكا الحلال!
عبد الحليم قنديل
على كثير ممن يصفون أنفسهم بعلماء الدين أن يبتلعوا ألسنتهم، وأن يريحونا من شذوذهم العقلي والوجداني، وأن يسكتوا عما يجهلون، ومن قال لا أعلم فقد أفتى.
هؤلاء يبيعون الدين في أسواق النخاسة، ويقدمون الفتاوى بحسب الطلب، ويخضعون الدين لأهواء السياسة، ويتقلبون على الأجناب والجيوب، خدمة لمرامي سلطات سياسية أو تنظيمات سياسية، تبتغي عرض الدنيا، وتجند زرافات من العلماء إياهم، لخدمة أهداف ومصالح الوقت، ومن ذلك قول هؤلاء، إن التدخل الروسي في سوريا حرام، بينما التدخل الأمريكي حلال، وكأن التدخل الأجنبي تقاس خطورته وحرمته وحله بأسماء وعناوين المتدخلين، فتفرش الورود، وتهدي الفتاوى للتدخل والغزو الأمريكي للعراق، ثم للتدخل الأمريكي والأوروبى لتحطيم ليبيا، وإلى حد وصف غارات طائرات حلف الأطلنطي بأنها«الطير الأبابيل»، بينما الطائرات الروسية عناوين الشياطين.
وقد وصل الأمر بعشرات من العلماء الأدعياء إلى إصدار بيان عجيب، دعا لدعم من سماهم «المجاهدين» لصد الغزو والاحتلال الروسي، ووصف غارات الطائرات الروسيةبأنها الهجمة «الصليبية الأرثوذكسية»، وكأن الصليبية صارت هي الأخرى على أنواع وأشكال وألوان، فلو كانت صليبية «أرثوذكسية» فهي مكروهة، ولو كانت صليبية «بروتستانتية» على الطريقة الأمريكية والبريطانية، أو صليبــــية «كاثوليكية» على الطريقة الفرنسية، فهي أعظم إيمانا وأدعى للاطمئنان، وأقرب حظوة للمسلمين، وهي الرحمة المهداة والخير العميم، ولذلك تجد العلماء الأدعياء في صف استعجال التدخل الأمريكي، ومناشدة أمريكا أن تتدخل جويا وبريا لإطاحة بشار الأسد، وكأن صالح المسلمين في يد أمريكا، التي تقيم قواعدها العسكرية في أقطار هؤلاء العلماء، ويتنعمون ببركتها وحمايتها، ولا مانع عندهم من التعامل مع المخابرات الأمريكية كأنها جماعة إسلامية، ومع الجنود الأمريكيين كأنهم حماة الديار، ومع الأمريكيين كأنهم أمة على وشك دخول الإسلام، بل ربما يكون الأمريكيون ـ بدون علمنا ـ قد دخلوا دين الإسلام أفواجا، وأصبح سيد البيت الأبيض خليفة لعموم المسلمين.
خطيئة هؤلاء أنهم يحشرون الدين في ما ليس فيه دين، وكاتب السطور ليس علمانيا،ويؤمن باستقلال السياسة عن الشريعة، في ما لم يرد به نص قطعي مقدس، ويميز بين دائرة الدين بأحكامه ونواهيه الإلهية والنبوية حصرا، ودائرة السياسة التي نحن أعلم بها، كما قال الرسول في حديثه الشريف «ما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به»، وطوال التاريخ الإسلامي، ظهرت آراء ونظريات لما سموه «السياسة الشرعية»، وما وصفوه بدار الحرب ودار الإسلام، وكانت مطبوعة مشفوعة بمواصفات وأحوال زمانها، تماما كما هي قصة الخلافة الإسلامية بعد الأئمة الراشدين الأربعة، فلم تكن هذه الخلافة سوى قصة دنيوية بحتة، أساءت وأحسنت، صعدت وهبطت، ازدهرت واندثرت، صنعت حضارة وقادت إلى تخلف، وكان رباطها واهيا بالدين في أغلب أزمان ملكها العضوض، ومراجعة كتب «السياسة الشرعية» تثبت هذه الحقيقة الدنيوية البسيطة، إقرأ مثلا كتاب «الأحكامالسلطانية والولايات الدينية» للماوردي ذي المذهب الشافعي، وإقرأ معه كتاب «الأحكام السلطانية» لمعاصره أبو يعلى الفراء ذي المذهب الحنبلي، ولن تجد سوى كلاما طيبا مرصعا بالروايات والأحاديث عن الشورى في عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين، والتقلبات المبكرة في نظام «أهل الحل والعقد»، واشتراطات عابرة ومتناقضة عن الحد الأدنى لأعدادهم المطلوبة، نهاية للقول بأنه يكفي وجود بيعة من خمسة، ثم إنقاص العدد الأدنى إلى ثلاثة أشخاص، ثم إلى واحد هو الذي يغلب بالسيف، فتكون الخلافة والإمامة لمن غلب، وتتوجب طاعته برا كان أو فاجرا، هكذا(!)، فلا تكاد تعرف حكمة في ما كتبوا، ولا تفهم معنى لصرفهم الجهد الجهيد في تدبيج هذه الكتب المطولة المملة، ما دامت الخلاصة على هذا القدر من الهزال العظيم، وترديد كلام لا يليق في مقام الخلق أو العقل أو الدين، وقادت إليه نزعات الإفتاء في أي شيء وكل شيء، حتى لو وهنت صلته بالأمر الديني، وابتداع أقوال تلصق بالدين وهو منها براء، وهي عادة رذيلة ظلت في حياتنا إلى اليوم، وتفاقمت في أجواء التخلف الروحي والحضاري، والتطوع «الديني» في خدمة الأعداء والظالمين، وإشاعة الفرقة بين الناس، وتكفير المسلمين بعد توثين غيرهم، واستسهال إصدار الأحكام بتكفير الخصوم، وابتداع إسلام على المقاس، والحكم على من لا يوافقك الرأي الدنيوي بدخول جهنم والعياذ بالله، وتسويـــغ عادة أن تفتي بغير علم، وأن تقيم من نفسك إلها يحكم على الناس، وهذا هو الكفر بعينه، فإن الله يغفر كل شيء إلاأن يشرك به. وقد أقام هؤلاء العلماء الأدعياء من أنفسهم آلهة.
ولو كان هذا «الجهل» مما يخص أصحابه، لقلنا سلاما وعفوا وإعراضا عن الجاهلين، لكن فتاوى الجهالات تزور وعي وحركة الناس وتنشر البلاوي، وتقتل وتسيل دما حرمهالله، وتدمر الأوطان والأديان، وتبيد الحرث والنسل، وتهلك الحجر والبشر، وعلى طريقة ما جرى ويجري في سوريا، فقد دمرت فتاوى الجهالات ثورة الشعب السوري السلمية ضد ديكتاتورية بشار الأسد، وساعدت الأسد نفسه على القفز على الثورة السلمية ومطالبها المشروعة، والهروب للأمام بدفن الثورة تحت الأنقاض، وإحلال حرب طائفية لا شرف فيها ولا دين ولا ضمير، قتلت من السوريين مئة ضعف الذين استشهدوا في كل الحروب مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وحولت سوريا الجميلة إلى خرائب وأطلال، وانتهت بملايين السوريين ـ وهم أكرم الناس ـ إلى محنة العوز والتشرد واللجوء الهائم، وحولت البلد إلى غابة وحوش على طريقة وحشية جماعة الأسد، وإلى حدائق ديناصورات على طريقة الجماعات المسماة زورا بالإسلامية، التي لا تؤمن لا بثورة ولا بحرية ولا بعدالة ولا بمساواة، بل تؤمن فقط بالهلاك اللانهائي، وبدعوى إقامة خلافة وإمارة فوق جماجم السوريين، وتحويل سوريا إلى خلاء مفتوح، فقدت فيه القضية «سوريتها» بطمس الثورة السلمية، التي لم تستمر سوى لبضعة شهور، ثم جاءت أطيار الشؤم من كل جنس ومن مئة دولة، وتحولت المحنة إلى مأساة لا تبدو فيها من فرجة أمل، وفقد الوضع السوري «سوريته»، ثم فقدت قضية سوريا «عروبيتها» بتخاذل العرب، وبمسارعة بعضهم إلى تقديم عشرات مليارات الدولارات طعاما للنار، بهدف تحطيم سوريا بالكامل، وتسليم ركامها لقوى إقليمية من نوع تركيا وإيران، ثم جرى تجاوز «الأقلمة» إلى «الدولنة»، ودخول «الروسنة» ـ أي التدخل الروسي الكثيف ـ كآخر صيحة على خط التدويل، وبديهي أنه لا تركيا ولا إيران ولا أمريكا، ولا روسيا تريد خيرا للسوريين، فالكل يسعى لتأمين مصالحه على جثة سوريا، وتحويل الأراضي السورية ـ بعد هلاك البشر ـ إلى كعكة قابلة للتقسيم، وإلى مناطق نفوذ وامتيازات متبادلة، وفي ذلك، فلا يفترق التدخل الروسي عن التدخل الأمريكي، اللهم إلا في جدية روسيا وعزمها على حماية مصالحها وقواعدها ومناطق امتيازاتها على الشاطئ السوري بالذات، فلا «صليبية» ولا «أرثوذكسية» في الموضوع، إنما هو زمن تقسيم الغنائم السورية بعـــد إهلاك الثورة والبلد، والبركة في الفتاوى الجهولة، التي تنتقل من تدمير بلد عربي إلى آخر، وعلى طريقة ما جرى ويجـــري فيالعراق وسوريا واليمن والصومال والسودان وليبيا، حيث تبدو «داعش» كعنوان خراب نهائي، بينما فتاوى الجهالات من جماعات السلفيين والوهابيين والإخوان هي التي مهدت الأرض، وأخضعت الدين لملة الهلاك بالجملة، فـ»داعش» هي أعلى مراحل تطور ما يسمى بحركات الإسلام السياسي، إلا من عصم ربك وثاب إلى عقله ورشده.
وليست القضية في أن يبقى بشار الأسد أو أن يذهب، فلم نعد في ترف التطلع إلى نظام سياسي أفضل في سوريا، بل في محنة السؤال عن مصير سوريا نفسها، وعن فرص بقائها على خرائط الدنيا، وبعد أن بانت عليها الشروخ وعلامات التقسيم، فقرابة نصف الأراضي السورية يحتلها «داعش»، واسترد أكراد سوريا بعضا من أراضي دولة «داعش»، فيما ذهب خمس الأراضي السورية لسيطرة جبهة «النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة» المدعومة من تركيا، وذهبت عشرة بالمئة من سوريا إلى جماعات وفصائل زواريب تعد بالمئات، وتبقى أقل من خمس أراضى سوريا، بما فيها المدن الكبرى وغالب السكان، في حوزة جماعة بشار الأسد المدعومة من إيران، ودخلت روسيا على الخط أخيرا، وبقوة نيران هائلة، وبهدف منع الإسقاط النهائي لبشار الأسد، واسترداد أراض ضائعة إلى حوزة نظامه، وجعل مركزه التفاوضي أفضل إذا أتى زمان التسويات، وجعل «سوريا المفيدة» لا سوريا الكاملة من نصيب النفوذ الروسي، فالخطر الماثل هو فناءسوريا، وتحطيم الدولة والجيش يعني ذهاب سوريا إلى دفاتر الذكريات وكتب التاريخ.