العرب ومسألة روسيا في سورية

كلوفيس مقصود

تطورات تحصل حالياً في المنطقة العربية من شأنها أن تمهد لإعادة الخريطة بشكلٍ، يستهدف رسوخ الوجود الروسي، لا في سورية فحسب، بل في خطوات التنسيق بين إيران والعراق وروسيا وسورية. عمل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على ترسيخ هذا التحالف المحتمل، وجعله إحدى آليات التنسيق بين الدول المذكورة، والعمل الدؤوب على أن تتمتع هذه المجموعة بما يمكنها من مناعةٍ، تؤهلها لاحتمال تغيير جذري في الجغرافيا السياسية، وتوفر ضماناً لروسيا أن تستعيد بعض النفوذ الذي كان لها في أثناء وجود الاتحاد السوفييتي، إلا أن أي دليل على استقطاب ثنائي بين روسيا والولايات المتحدة لن يغيّر في ميزان القوى دولياً، بحيث يبقى الاتحاد الأوروبي طاقة احتياطية لدور أميركي إذا اقتضت الحاجة.
ما يهمنا، كأمة عربية، أن لا ينسحب هذا الاستقطاب المستجد على احتمالات قدرة الدول العربية على الاستمرار في ممارسة استقلالها، واتخاذ قراراتها بصورة سيادية قومية. من هذا المنظور، من الأهمية بمكان أن تستعيد الدول العربية المناعة.
يستتبع ذلك أن روسيا كانت أكثر تصميماً على ترسيخ وجودها في سورية، بهدف الإسهام في محاربة داعش وأمثالها، حيث توجد أعداد كبيرة من أبناء الشيشان وآسيا الوسطى، وثانياً كونها حريصة على أن يكون لها حضور استراتيجي عسكري، من خلال قاعدتها البحرية في طرطوس، وتأمين استقرار عالمي في هذا الحقل الاستراتيجي لها. كما توجيه رسالة إلى العالم والولايات المتحدة أن روسيا تدعم حلفاءها، حتى لو اقتضى ذلك تدخلاً عسكرياً منها. من هنا، حرصها على إظهار تأييدها والتزامها التاميْن بالنظام السوري. كما أنها توجه رسالة إلى مواطنيها في الداخل بأن روسيا ما زالت دولة عالمية قوية، ولم تنكفئ عن دورها العالمي. هذا ما يفسر اتفاق روسيا مع كل من إيران والعراق وسورية على التحالف وتبادل المعلومات في مواجهة داعش، وغيرها من المنظمات الإرهابية.
لن يتم هذا الاندفاع الروسي على المنطقة من دون مساع معاكسة للحد من هذا التمدد، بما يوحي أن هذه المنطقة لا يمارس فيها النفوذ الذي يعيد الاستقطاب، بل إن من شأن الدور الأوروبي أن يضع حداً للثنائية التي قد تنشأ في حال استمرار السياسة الأميركية في حذرها، كما مارسته منذ بداية الأزمة السورية التي تفاقمت في السنوات الأربع الماضية.
هل يعني ذلك أن الولايات المتحدة لن تتدخل في هذا الوضع الجديد؟ وأين موقف إسرائيل من
"تسعى روسيا إلى إظهار نفسها للعالم أنها ما زالت دولة قوية ذات شأن، أما أميركا فهي لا تحتاج إلى ذلك، إذ يكفي مجرد وجودها أو احتمال تدخلها لإضفاء جدية على الوضع العام"
ذلك كله؟ تعتقد الأخيرة أن الموقف الأميركي يشكل رادعاً لمحاولة إسرائيل القيام بضربات عسكرية في المنطقة. وهذا بمثابة الدور الأميركي الذي يعتقد أنه يوفر استقراراً استراتيجياً بين خصوم تقليديين لإسرائيل في الدول العربية وإيران. وبالتالي، يشكل محافظة على المصالح الأميركية، بدون المشاركة العملية، ما يوفر لها حرية الحراك الاستراتيجي العام في المنطقة، إذا اضطرت إلى ذلك.
هذا التطور الجديد الحاصل في المنطقة، والذي يعتقد بعضهم أنه يوفر الاستقرار للحكومات الموجودة حالياً، لا يعني مطلقاً أن النظام السوري القائم مع الدعم الروسي القوي سيبقى في منأى عن تغييرات كبيرة مطلوبة، تتسم بالانفتاح السياسي مما سورية عليه الآن.
وتسعى روسيا، في الظرف الراهن، وعبر تدخلها في سورية، وإقامة تحالفات مختلفة مع بعض الدول، إلى إظهار نفسها للعالم أنها ما زالت دولة قوية ذات شأن، وإن لم تعد كما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي. أما الولايات المتحدة، بقوتها وهيمنتها، فليست بحاجة إلى إثبات ذلك. إذ يكفي مجرد وجودها واحتمال تدخلها في منطقة أو دولة ما لإضفاء جدية على الوضع العام. لذلك، هي تتردد كثيراً قبل أي تدخل، ولا تتصرف إلا عندما يكون هنالك ضرورة ترجيح قوة على أخرى. هذا نتيجة قناعة عامة بأن الولايات المتحدة هي الدولة العظمى بالمطلق. وعليه، يجب أن لا تعوق هذه الحسابات الدول العربية عن التنسيق الملزم فيما بينها. واتخاذ ما يستوجب من إجراءات، لاستعادة المناعة التي أضعفتها الحروب الداخلية، وعودة تأهيل جامعة الدول العربية، بما يمكنها من التدخل السريع عند الاضطرار وتوفير السلام الأهلي بين شعوبها، فهي، بنظري، ينبغي أن تكون الجهاز الحريص على إبقاء شعلة الوحدة بين أقطارها، والتكامل بين أعضائها، حتى تسترجع الأمة دورها النهضوي، وأن تتصرف فريقاً قومياً ملتزماً بمصالح الأمة، من دون تمييز.
قد يقال إن هذه التمنيات والاقتراحات مرّ عليها الزمن، وهي من باب التفاؤل، ومحاولة لردع الحالة الراهنة في العالم العربي. وقد يكون صحيحاً أن استرجاع الأمل صعب، لكنه غير مستحيل. الأهم أن نسترجع البوصلة، ونركز جهودنا على استعادة الحقوق الوطنية الفلسطينية، ووقف الحروب العبثية القائمة داخل الدول العربية وبينها، وأن نرجح التزاماتنا على إمكانية الإنجاز، وأن نستعيد حيوية الجماهير العربية وتفاؤلها، تأميناً لمستقبل أجيالنا، حتى لا تصبح الهجرة الجماعية بديلاً لتوظيف طاقاتنا، لإعادة بناء مجتمعاتنا والإصرار على تنميتها. كما استرجاع دورنا الثقافي والحضاري، لكي لا تبقى هذه الطاقات البشرية مهمشة، بل فاعلة بكامل طاقاتها وحيويتها.