الجغرافيـا فـي الحضـارة الإسـلامية
الدور والتاريخ


دكتور خالد حربي
اهتم العرب قبل الإسـلام في العصر الجاهلي بالجغرافيـا, وذلك يرجع إلى ظروف معيشتهم التي اتسمت بالترحـال لقطاع كبير منهم, جرّياً وراء الكلأ والماء، ويرجع أيضاًً إلى اشتغال بعضهم بالتجارة, فقد ذكر القـرآن الكريـم أن قريشاً كانت ترتحل مرتين في العام, رحلة الشتاء, ورحلـة الصيف, فكان ذلك دافعاً إلى معرفة الطرق التجاريـة, وما يرتبط بها من وصف تفاصيلها, وهو ما يطلق عليه فـي الاصطـلاح الحديث: (الجغرافيـا الوصفيـة).ومع ظهور الإسـلام زاد اهتمام المسلمين بالجغرافيا كنتيجـة طبيعيـة لاتسـاع رقعـة الخلافـة الإسلاميـة التي امتدت من حـدود الهند والصين شرقاً إلى المحيـط الأطلنطي غرباً, فعرفوا عمل الخرائط, وازدادت معرفتهم بأقسـام الأرض وصفاتها، فلقد أدت الفتوحـات الإسـلامية إلى زيادة اهتمام الخلفـاء بعلم الجغرافيا لمعرفـة حدود خلافتهم, ومدنها وقراها, والطرق المؤديـة إليها, وذلك لتسهيل الاتصـال والبريد بين عاصمة الخلافـة المركزيـة وبقية أرجائهـا.وقد ساعد فـي ذلك أيضاً انتشار ظاهرة الرحلة في طلب العلم, وخاصة في تتبع رواة الحديث النبوي, فضلاً عن كثرة الرحلات التجارية نتيجة للتطور الاقتصادي, كل ذلك أدى إلى التوسع في البحوث الجغرافية وتنشيط التأليف الجغرافي.فاليعقوبي, أبو العباس أحمد بن يعقوب بن وهب بن واضح (ت 292 هـ / 905م) طاف بكثير من البلاد الإسلامية، كفلسطين ومصر والمغرب وأرمنيا وخراسان والهند, وكان يسجل كل ما يعاينه بنفسه من أحوال بلاد العالم الإسلامي, وصنف كتابين مهمين, الأول «تاريخ اليعقوبي», والآخر «كتاب البلدان» وهو سبب شهرته الجغرافية, اعتمد اليعقوبي في تأليفه على الدراسة الميدانية, فجاء جديداً في منهجه وعرضه لأنه غير منقول من كتب أخرى، بدأه بدراسة مستفيضة عن بغداد وسامراء لأنها – كما ذكر – مدينة الملك وبلاد الخلافة, ووصف بلاد فارس والعراق وتركستان, ثم بلاد العرب ومصر والنوبة والمغرب والأندلس, وذكر كما يقول: أسماء الأمصار, والأجناد, والكور, وما في كل مصر من المدن والأقاليم, ومن يسكنه ويغلب عليه ويترأسه.. وسهله وجبله, وبره, وبحره, ونهره, وحره وبرده.. نشر الكتاب المستشرق جوينبول في ليدن سنة 1861م, وفي ليدن أيضاً نشره المستشرق دي غويه سنة 1892م ضمن المكتبة الجغرافية العربية, وفي سنة 1937 حققه ونشره بالفرنسية جاستون فيت.أما ابن خرداذبة, أبو القاسم عبد الله بن أحمد (ت: 300ه/912م) فقد صنف كتابه «المسالك والممالك» الذي يعد أول مصنف عربي كامل في الجغرافيا الوصفية, واستغرق ابن خرداذبه في تأليفه ما يقرب من ثلاثين عاماً.وكان هدف ابن خرداذبه من وضع الكتاب، هو خدمة الإداريين وعمال الدواوين خاصة وأن وظيفته (صاحب البريد بفارس) قد مكنته من الاطلاع على الوثائق الرسمية, الأمر الذي جعل بياناته تتصف بالدقة, فوصف طرق العالم الإسلامي بدرجات متفاوتة من التفصيل، وإحصاء جباية الدولة العباسية في القرن الثالث الهجري وملاحظات عن التقسيمات الإدارية, وبيانات الخراج, وتقسيم الأرض وعجائب العالم والأبنية المشهورة, ووصف الطرق في العهود الإسلامية الأولى.وقد أثر الكتاب في الجغرافيين اللاحقين على ابن خردذابه من أمثال: ابن حوقل, والمسعودي.. وغيرهم, وامتد هذا التأثير حتى العصر الحديث, فنشر دي غويه الكتاب في ليدن بالفرنسية سنة (1306 هـ/ 1889م) معتمداً على ثلاثٍ نسخٍ خطية من الكتاب.ووضع الإصطخري, أبو اسحق إبراهيم بن محمد (ت: في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري) كتابه «مسالك الممالك» الذي يبدأه بمقدمة يشرح بها الغرض من تفسيره, والمنهج الذي اتبعه في تصنيفه, وفيه رأى الإصطخري أن عماد ممالك الأرض أربعة: مملكة الهند, ومملكة الصين, ومملكة الروم, ومملكة الإسلام, وقد انتظمت هذه الممالك بالديانات والآداب وتقويم العمارة، والشعوب الأخرى التي لا حظ لها من ذلك, لم تحفل باهتمام الإصطخري.ويفصّل الكتاب بعد ذلك الحديث عن بلاد الإسلام التي يقسمها الأصطخري إلى عشرين إقليماً, وكل إقليم يفرد له فصلاً مستقلاً يعالج فيه علاقاته المكانية, والأقسام الفرعية التي ينقسم إليها, ومظاهره الطبيعية المختلفة, وكبريات المدن وأهميتها, وطرقها وأطوالها ونقودها ومكايلها, وموازينها.امتاز كتاب الإصطخري بخرائطه التي أفرد منها لكل إقليم خريطة على حدة, وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب الذي ترجمه ج. هـ. موللر إلى اللاتينية ونشره مختصراً سنة 1830م, ونشره دي غويه كاملاً في ليدن سنة 1870م باعتباره المجلد الأول من مجموعة المكتبة الجغرافية العربية, ونشرته وزارة الثقافة المصرية ضمن سلسلة تراثنا سنة 1961م.وزار أبو القاسم محمد بن حوقل (ت: في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري) كثيراً من البلدان مثل الأندلس وصقلية ونابولي وإفريقيا الشمالية والعراق وفارس والهند, والتقى بأحد أعلام الجغرافيا في عصره, وهو الأصطخري, ونقل عنه, واستفاد من معلوماته الجغرافية في تأليف كتابه «صورة الإرض» الذي وصف فيه بلاد الإسلام إقليماً إقليماً، وصقعاً صقعاً, فبدأ بذكر ديار العرب باعتبارها واسطة هذه الأقاليم عنده, ثم أتبعها بفارس والمغرب ومصر وبلاد الشام, ووصف أجنادها وجبالها وأنهارها وبحارها, وما على سواحلها من المدن, ثم وصف بحر الروم وما عليه من المدن, ووصف العراق وأنهاره متمثلة في دجلة والفرات, وذكر الجزيرة وبلاد السند ومدنها وبلاد الهند وأذربيجان وطبرستان وخراسان, ونهر جيحون وما وراءه من أعمال بخارى وسمرقند وخوارزم.يقول ابن حوقل: قد عملت هذا الكتاب على صفة أشكال الأرض ومقدارها في الطول والعرض وأقاليم البلدان, ومحل الغامر منها والعمران من جميع بلاد الإسلام بتفصيل مدنها, وتقسيم ما تفرد بالأعمال المجموعة إليها ولم أقصد الأقاليم السبعة التي عليها الأرض، لأن الصورة الهندية وإن كانت صحيحة فكثيرة التخليط، وقد جعلت لكل قطعة أفردتها تصويراً وشكلاً يحكي موضع ذلك الإقليم, ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع وما في أضعافها من المدن والأصقاع, وما فيها من القوانين والارتفاع, وما فيها من الأنهار والبحار, وما يحتاج إلى معرفته من جوامع ما يشتمل عليه ذلك الإقليم من الأموال والجبايات والأعشار والخراجات والمسافات في الطرقات وما فيه من المجالب والتجارات.ترجم كتاب «صورة الأرض» إلى الإنجليزية, وطبع في لندن سنة 1800م, وترجم الجزء الخاص بإفريقيا, والجزء الخاص ببالرمو إلى الفرنسية, وطبع الأول في باريس سنة 1842م, وطبع الآخر في باريس سنة 1845م, ونشر المستشرق الهولندي دي غويه الكتاب كاملاً ضمن المكتبة الجغرافية العربية سنة 1873م ونشره كريمرز في ليدن سنة ( 1938 - 1939).واشتهر شمس الدين أبو عبد الله بن أحمد المقدسي (ت 390 هـ - 1000م) بكثرة أسفاره إلى أقاليم العالم الإسلامي المختلفة، وتدوين مشاهداته وملاحظاته فيها، وجاءت حصيلة تلك المشاهدات كتابه الجغرافي المشهور «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم» الذي يعد من أهم كتب الجغرافيا في تاريخ هذا العلم، ضمّنه المقدسي خرائط ملونة كي يسهل على الناس فهم مضمونه كما يقول: «رسمنا حدودها وخططها، وحررنا طرقها المعروفة بالحمرة، وجعلنا رمالها الذهبية بالصفرة، وبحارها المالحة بالخضرة, وأنهارها المعروفة بالزرقة وجبالها المشهورة بالغُبرة، ليقرب الوصف إلى الأفهام، ويقف عليها الخاص والعام». ووصف المقدسي منهجه الذي اتبعه في كتابه هذا قائلاً: «اعلم أنني أسست هذا الكتاب على قواعد محكمة واستعنت بفهم أولي الألباب، ووصفت ما شاهدته وعرفته، فما وقع عليه اتفاق الذين قرأت لهم أو سألتهم أثبته، وما اختلفوا فيه نبذته، وما لم يكن بد من الوصول إليه والوقوف عليه بنفسي قصدته، وما لم يقر في قلبي وما لا يقبله عقلي وكان لابد من ذكره، أسندته إلى الذي ذكره».
يتضح من النص أن المقدسي اعتمد في تدوين الكتاب على ثلاثة مصادر رئيسية أولها ملاحظاته ومشاهداته وتجاربه الشخصية، وثانيهما: ما رواه له الرواة الثقات، وثالثها: ما وجده مصنفا في الكتب.
وصنف أبو عبيد عبد الله بن عبد العزيز البكري (ت: 487هـ/1094م) أول معجم جغرافي عربي مرتب بحسب حروف الهجاء، وهو كتاب «معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع»، يتناول فيه أسماء البلاد والمواضع الواردة في القرآن، والحديث، والشعر القديم، وأخبار المغازي الأول. والكتاب فريد لا يمكن مقارنته بشئ آخر علي حد قول دونري، ويمثل مرجعاً أساسياً لمن يبحث في التاريخ القديم والجغرافيا، والشعر الجاهلي.طبع الكتاب ونشر في جوتنجن سنة 1876م ونشرته لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة بتحقيق مصطفي السقا في أربعة أجزاء سنة (1364هـ - 1945م/ 1371هـ - 1951م).أما الإدريسي,أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس، ويلقب بالشريف لانتهاء نسبه بالإمام علي بن أبي طالب، فقد ولد بسبته سنة (493هـ / 1100م)، لكنه نشأ وتعلم في قرطبة، وعاش في الأندلس فترة طويلة، ثم سافر إلى جزيرة صقلية، فحبب إليه ملكها روجر الثاني الإقامة في بلاطه بباليرمو فبقي بها لما بعد وفاة روجر سنة 1154م، ثم عاد في شيخوخته إلى مسقط رأسه سبته وتوفي بها سنة (564هـ / 1160م).ألف الإدريسي كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» بتكليف من الملك روجر الثاني، ولذلك يعرف هذا الكتاب بكتاب روجار أو الكتاب الروجاري.يقول الإدريسي في مقدمة الكتاب - بعد ذكره لروجر -: إنه لما اتسعت أعمال مملكته وتزايدت همم أهل دولته وأطاعته البلاد الرومية ودخل أهلها تحت طاعته وسلطانه، أحب أن يعرف كيفيات بلاده حقيقة، ويقتلها يقيناً وخبرة، ويعلم حدودها ومسالكها براً وبحراً، وفي أي إقليم هي، وما يخصها من البحار والخلجان الكائنة بها، مع معرفة غيرها من البلاد والأقطار في الأقاليم السبعة التي اتفق عليها المتكلمون، وأثبتها في الدفاتر الناقلون والمألفون، وما لكل إقليم منها من قسم بلاد يحتوي عليه ويرجع إليه.وأخذ الإدريسي في تأليفه خمس عشرة سنة جمع له فيها روجر كتب من سبقه، والعارفين بشؤون البلاد المختلفة كي يدلوا له بما لديهم من معلومات عنها، وفرغ الإدريسي من التأليف سنة 548هـ. كما صنع الإدريسي كرة ضخمة من الفضة تضمنت صور الأقاليم بأقطارها المختلفة، وخلجانها، وبحارها، ومجاري مياهها، ومواقع أنهارها، وما بين بلادها من الطرقات المطروقة والمسالك المحددة.
ويتميز كتاب الإدريسي بشموله لجميع أقاليم العالم، وبما احتواه من خرائط كثيرة ودقيقة موضحة للأماكن التي يتحدث عنها، فقد رسم خرائط على الورق للأقاليم السبعة بعد أن قسم كلاًّ منها إلى عشرة أقسام فأصبح المجموع سبعين خريطة استخرج منها ميلر خريطة جامعة للعالم كما رسمه الإدريسي، وهي الخريطة التي عني المجمع العلمي العراقي بتحقيقها وتصحيحها وإعادتها إلى أصلها العربي وطبعها في بغداد سنة 1951م.
وتطرق الإدريسي في كتابه للجغرافيا الفلكية، إذ يرى أن الأرض مدورة كتدوير الكرة والماء لاصق بها وراكد عليها ركوداً طبيعياً لا يفارقها, والأرض والماء مستقران في جوف الفلك كالمحَّة في جوف البيضة، ووضعهما وضع متوسط والنسيم محيط بهما من جميع جهاتهما وهو جاذب لهما إلى جهة الفلك أو دافع لهما.وبعد وصف مجمل الأقاليم والبحار والخلجان يصف الإدريسي سطح الأرض بالتفصيل على الأساس السباعي للأقاليم ويقسم كل إقليم إلى عشرة أقسام، ثم يتكلم عن كل إقليم منها مبتدئاً من الشرق إلى الغرب، فوصف عن مشاهدة وخبرة شخصية شمال إفريقيا وإسبانيا وصقلية وإيطاليا، وكذلك تعد معلوماته عن أوربا الشمالية والبلقان معلومات وافية بمقاييس عصره، كما بحث الإدريسي في الجغرافيا البشرية، حيث ذكر في كتابه كثيراً من عادات وأعراف وتقاليد الشعوب، وبحث أيضاً في الجغرافيا الاقتصادية، حيث فصل الحديث عن غلات مدن الأندلس والمغرب، وصناعاتها ومواردها الطبيعية ونوعية الأعمال التي يمارسها سكانها.

طبع الكتاب مختصراً في روما سنة 1592م باسم «نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق»، ثم ترجم جبرائيل الصهيوني وحنا الحصروني هذا المختصر إلى اللاتينية ونشراه في باريس سنة 1619م, وترجم كوندي وصف الأندلس إلى الإسبانية ونشره مع الأصل العربي في مدريد سنة 1799م، ونشر جوبير في باريس جزءاً كبيراً من الكتاب بالفرنسية سنة 1840م، ونشر دوزي القسم الخاص بالمغرب والسودان ومصر والأندلس في ليدن سنة 1864م، وفي ليبزج نشر ميلر وصف فلسطين وبلاد الشام سنة 1882م، وفي روما نشر أمالري الجزء الخاص بإيطاليا سنة 1985م.
وولد ابن جُبير, أبو الحسين محمد بن أحمد الكناني في بلنسية بالأندلس وتعلم الفقه والحديث على يد علماء عصره حتى صار من العلماء، إلا أن شهرته ترجع إلى علمه بالجغرافيا والذي دوّنه في كتابه المشهور «رحلة الكناني» أو «رحلة ابن جُبير» تلك التي بدأها عام (578هـ - 1182م) إلى الحجاز للحج، وأثناء هذه الرحلة والعودة منها، سجل ابن جُبير على مدار ثلاث سنوات كل ما شاهده في الحجاز الشام والعراق ومصر، فدوّن معالم وأحوال تلك البلاد السياسية والاجتماعية والاقتصادية، كما وصف طرقها ومساجدها ومستشفياتها ومدارسها. كما سجل بعض الأحداث التاريخية وخاصة الاحتلال الصليبي لبيت المقدس، والذي عاد إليه في رحلته الثانية سنة (585هـ 1189م) بعد تحريره من الصليبيين على يد القائد المظفر صلاح الدين الأيوبي، واستقر المقام الأخير بابن جُبير بالإسكندرية فأقام بها حتى وفاته سنة (614هـ - 1217م).
ويعد كتاب «رحلة الكناني» أو «رحلة ابن جُبير» من أهم مصادر الجغرافيا العربية، وتواصلت أهميته وتأثيره إلى الأجيال اللاحقة لابن جُبير، وامتد التأثير إلى علماء الغرب المحدثين، فنشره وليم رايت سنة 1852م في ليدن, وترجمه اسكيابار يلي إلى الإيطالية ونشره سنة 1900 في روما ونشره دي غويه سنة 1907 في ليدن، كما ترجمه أمالري إلى الفرنسية ونشره في باريس.
وصنف أبو عبد الله ياقوت بن عبد الله الحموي(ت626هـ/1228م) عدة كتب، منها «إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب»، ويعرف «بمعجم الأدباء»، و«معجم البلدان» الذي يعد من أوسع المؤلفات الجغرافية التي تترجم لبلدان العالم الإسلامي، ويذكر ياقوت أن عدم وجود مؤلف شامل في عصره هو الذي دفعه إلى تأليف هذا المعجم، فكان ذات يوم في مجلس صاحب مرو، وأنه سُئِلَ عن كلمة «حباشة» وهو اسم موضع جاء في الحديث النبوي، وهو سوق من أسواق العرب في الجاهلية، فقال إنه حُباشة بضم الحاء فانبرى له رجل من المحدثين وقال: إنما هو حباشة بالفتح، وصمم على ذلك وكابر، فيقول ياقوت: فأردت قطع الاحتجاج بالنقل، فاستعصي كشفه في كتب غرائب الأحاديث ودواوين اللغات مع كثرة مثل هذه الكتب، فألقي حينئذ في روعي افتقار العالم إلى كتاب في هذا الشأن، فشرع ياقوت في تأليف معجمه الذي اشتمل على مقدمة وخمسة أبواب، الباب الأول في ذكر صورة الأرض، ورواية ما قاله المتقدمون في هيئتها وما روي عن المتأخرين في صورتها، الباب الثاني في ذكر اختلافهم في الاصطلاح على معنى الإقليم وكيفيته واشتقاقه ودلائل اتجاه القبلة في كل ناحية، الباب الثالث في ذكر ألفاظ يكثر تكرار ذكرها في المعجم ويحتاج إلى معرفتها كالبريد والفرسخ والميل والكورة، الباب الرابع في بيان حكم الأرضين والبلاد المفتوحة في الإسلام, وحكم قسمة الفئ والخراج فيماً فتح صلحاً أو عنوة، الباب الخامس في ذكر أخبار البلدان الذي يراه ياقوت متمما لفائدة الكتاب ليستغني به عن غيره في هذا الموضوع.وفي باب أخير يعود ياقوت إلى الغرض الرئيسي من الكتاب، فيقسمه ثمانية وعشرين كتاباً على عدد حروف المعجم, فيذكر اسم المكان واشتقاقه ثم تعيين موقعه الجغرافي ووصفه وصفاً دقيقاً، ثم يبين طول المكان وعرضه، ويتبع ذلك بالحديث عن تاريخه وما عرف عنه من أخبار، ويبين مواضع ذكره في القرآن والحديث، وذكر أسماء العلماء والأدباء المنتمين إليه.فمعجم البلدان ليس كتاباً جغرافياً مختصاً بالبلدان فحسب، بل هو خلاصة وافية للجغرافيا الفلكية والوصفية واللغوية، وهو موسوعة تاريخية واجتماعية وأدبية، لم يقصر ياقوت نفسه فيه على العالم الإسلامي وحده، كما فعل غيره من الجغرافيين، بل اهتم بكل جهات العالم المعروف عصرئذ، ولذلك صار معجم البلدان مرجعاً أساسياً مازال يعتمد عليه الباحثون حتى الآن.نشر فستنفليد الكتاب في ستة مجلدات في ليبزج من سنة (1866م إلى سنة 1873م)، ونشره أمين الخانجي في القاهرة سنة 1906م، مذيلاً إياه بعنوان «منجم العمران في المستدرك على معجم البلدان» يستدرك فيه على ياقوت بعض ما فاته كما ظن، ويضيف إليه بعض المدن والبلاد الحديثة.وألف القزويني, زكريا بن محمد بن محمود(ت682ه/1283م) مؤلفاً كبير في الطبيعيات أسماه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات»، ووضع في الجغرافيا والتاريخ كتاباً أسماه «آثار البلاد وأخبار العباد»، ويسمى أحياناً «عجائب البلدان»، وصف فيه الأرض بحسب التقسيم السباعي المعروف للأقاليم، فجاء الكتاب عبارة عن سبعة معاجم مستقلة كل منها خاص بإقليم، وفي داخل كل معجم أو إقليم يصف مختلف البلاد والمدن، والجبال والجزر والبحيرات والأنهار وفقاً لحروف المعجم، وتعدى القزويني في كتابه حدود المملكة الإسلامية التي وقف عندها كثير من الجغرافيين من قبله, فاتصل بكثير من الرحالة الذين زاروا أوروبا، فذكر في كتابه غرائب أوروبية كثيرة وذكر بعض المدن الألمانية والفرنسية والهولندية مثل: أبو لدة Fulda، واطبورونة Paderborn، وايطرخت Utrecht، وسلشويق Schleswig، ومغانجه Mainz.
يقول القزويني: إني قد جمعت في هذا الكتاب ما وقع لي وعرفته وسمعت به وشاهدته من لطائف صنع الله تعالى وعجائب حكمته المودعة في بلاده وعباده، فإن الأرض جرم بسيط متشابه الأجزاء، وبسبب تأثير الشمس فيها، ونزول المطر عليها وهبوب الرياح بها ظهرت فيها آثار عجيبة، وتختص كل بقعة بخاصية لا توجد في غيرها، فمنها ما صار حجراً صلداً، ومنها ما صار طيناً حراً، ومنها ما صار طينة سبخة، ولكل واحدة منها خاصية عجيبة وحكمة بديعة، فإن الحجر الصلد تتولد فيه الجواهر النفيسة كاليواقيت والزبرجد وغيرهما، وطين الحر ينبت الثمار والزروع بعجيب ألوانها وأشكالها وطعومها وروائحها, والطينة السبخة يتولد فيها الشبوب والزاجات والأملاح وفوائدها، وكذلك الإنسانُ حيوانٌ متساوي الآحاد بالحد والحقيقة، لكن بواسطة الألطاف الإلهية تختلف آثارهم، فصار أحدهم عالماً متحققاً، وآخر عابداً ورعاً،.. وهكذا.
وضمّن القزويني كتاب «آثار البلاد وأخبار العباد» ثلاث مقدمات الأولى: في الحاجة الداعية إلى إحداث المدن والقرى.الثانية: في خواص البلاد وفيها فصلان، يبحث الأول في تأثير البلاد في سكانها, والثاني يبحث في تأثير البلاد والمعادن والنبات والحيوان.الثالثة: في أقاليم الأرض، والتي قسمها إلى سبعة.نشر كتاب «آثار البلاد وأخبار العباد» بتقديم فرديناند وسنفيلد في جوتنجن سنة (1264هـ / 1848م). ونشرت فاطمة ولدان كاسترو الجزء المتعلق بالأندلس باللغة الأسبانية في إشبيليه عام 1990م، ونشرته جامعة طهران مترجماً إلى الفارسية عام 1994م.أما أبو الوفاء, سلطان حماه، إسماعيل بن نور الدين بن جمال الدين بن نجم الدين أيوب(ت742ه/1341م) فوضع عدة مؤلفات منها، «المختصر في أخبار البشر في التاريخ»، وأهمها «تقويم البلدان» في الجغرافيا الذي يعد من أنفس مؤلفات الجغرافيا العربية.يقول أبو الفداء: فإني طالعت الكتب المؤلفة في نواحي الأرض من الجبال والبحار وغيرها فلم أجد فيها كتاباً موفياً بغرض، فمن الكتب التي وقفت عليها في هذا الفن كتاب ابن حوقل وهو كتاب مطول، ذكر فيه صفات البلاد مستوفياً، غير أنه لم يضبط الأسماء، وكذلك لم يذكر الأطوال ولا العروض.قسم أبو الفداء كتابه إلى قسمين تناول في الأول الأرض بصورة عامة ومساحتها، والمعمور منها، والأقاليم السبعة ووصف البحار والبحيرات والأنهار والجبال،وقسم القسم الآخر من الكتاب إلى ثمانية وعشرين قسماً، وجعل كل قسم خاصّاً بإقليم هي بلاد العرب: مصر، السودان، المغرب، الأندلس، جزر البحر المتوسط، جزر المحيط الأطلسي، الجزيرة العربية، بلاد الشام، العراق، خرستان، سجستان، فارس, كرمان، الهند، السند، الصين، الروم، أرمينيا، جزر البحر الشرقي، العراق العجمي، طبرستان، الديلم، خرسان، طخارستان، زبلستان، خوارزم،ش ما وراء النهر، واتبع أبو الفداء منهجاً في دراسة كل إقليم يتضمن وصف الإقليم وسكانه وعاداتهم وتقاليدهم وآثارهم، وابتكر أبو الفداء جداول لم يستخدمها جغرافي من قبل تحتوي على أسماء بلاد الأقاليم، وبلغ عدد البلاد التي ذكرها 623بلداً، محدداً طول كل بلد وعرضه، والإقليم الجغرافي والفلكي الذي يقع فيه.
وعلى ذلك يتميز كتاب أبي الفداء بالأصالة والدقة والوضوح، فتأثر به الجغرافين اللاحقون لأبي الفداء، وامتد هذا التأثير إلى الغرب، فلم تعرف العصور الوسطى كتاباً يمكن أن يقارن بكتاب أبي الفداء على حد قول رينو.
نشر جريفز الجزء المتعلق بخوارزم وما وراء النهر في لندن سنة 1650م، ونشر المستشرق الفرنسي جان دي لاروك ترجمة جزء من الكتاب سنة 1918م، وفي ليبزج نشر كويلر الجزء الخاص بالشام سنة 1966م, وبين سنتي (1770 - 1771م) نشر المستشرق رايسكة أول ترجمة كاملة للكتاب، وفي عام 1776 نشر ميخائيليس في جوتنجن الترجمة اللاتينية للجزء الخاص بديار مصر مع النص العربي، وفي جوتنجن أيضاً نشر إيخهورن أجزاء تتعلق بإفريقيا عام 1791، وفي عام 1840 نشر رينو ودي سيلان الكتاب كاملاً مترجماً إلى الفرنسية وعرف في الترجمة الفرنسية باسم «جغرافيا أبي الفداء» والذي نشره ثانياً المستشرق الفرنسي جيار سنة 1883م.
وفي الختام؛ نقف مع الرحالة المغربي ابن بطوطة أبي عبد الله بن محمد بن إبراهيم في طنجة الذي ولد سنة (703هـ / 1303م) وشبَّ محباً للترحال، فبدأ في سن الثانية والعشرين من عمره حياة ترحال طويلة استمرت ما يقرب من ثلاثين سنة تضمنت ثلاث رحلات، الأولى وهي أطولها بدأت عام (725هـ/ 1325م) من طنجة لأداء فريضة الحج، وفي طريقه مر بالجزائر وتونس وليبيا ومصر وفلسطين وسوريا والحجاز، ومن مكة غادر إلى العراق وبلاد فارس والأناضول، ثم عاد إلى مكة لأداء فريضة الحج وأقام بها سنتين، ثم رحل إلى اليمن والسودان والحبشة، ثم عاد إلى اليمن، ومنها إلى عمان والبحرين والإحساء، ثم غادر إلى القسطنطينية وخوارزم وخرستان وتركستان وأفغانستان والهند والصين وجزر الهند الصينية، ثم عاد إلى مكة ومنها رجع إلى بلاده واستقر في مدينة فاس عام (750هـ - 1349م)، ومن فاس بدأت رحلته الثانية سنة (751هـ 13/1350م) وتوجه إلى الأندلس وقضي بها قرابة عام ثم عاد إلى فاس ومنها بدأت الرحلة الثالثة أيضاً عام (753هـ /1352م) فتوجه إلى السودان ماراً ببعض دول غرب إفريقيا ومنها عاد إلى فاس سنة (754هـ / 1353م)، واتصل بالسلطان المغربي أبي عنان المريني الذي أعجب برحلاته وبالقصص التي كان يرويها عن تلك الرحلات فأمره بتدوين تلك الأخبار، فأملاها ابن بطوطة على محمد بن جُزيّ الكلبي، كاتب السلطان وأطلق على هذه الرحلات اسم «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، واشتهرت حتى اليوم برحلة ابن بطوطة والتي وصف فيها الأحوال الاجتماعية للبلدان التي زارها، متناولاً سكانها وعاداتهم وتقاليدهم وأخلاقهم وملابسهم ومآكلهم ومشاربهم وتاريخهم، كما وصف الكتاب البلاد من الناحية الطبيعية، وما فيها من أنهار وبحار ومعادن ونبات.ومن هنا يعد كتاب «رحلة ابن بطوطة» من أهم الكتابات في تاريخ علم الجغرافيا العربي الإسلامي بل وفي تاريخ علم الجغرافيا العالمي.من كل ما سبق يتضح أن أعمال الجغرافيين المسلمين تمثل منظومة علمية مهمة وممتدة، كشفت مناطق كانت مجهولة من العالم، فأفادت الإنسانية وأدت إلى تأسيس وقيام علم الجغرافيا الحديث.

مجلة الرافد