الدكتور علي الشعيبي والوعي المجروح
مقدمة
الدكتور علي الشعيبي باحث سوري طالعتنا به القنوات السورية بعدما اندلعت الأحداث الدامية في سوريا، هو باحث من مدينة الرقة يمتاز بالدماثة والبساطة وسعة العلم وقد تميز برقة مشاعره تجاه سوريا، وكثيراً ما ترقرقت الدموع في عينيه وهو ينصح الناس بالانتباه والحذر على الوطن الأم سوريا، الشعيبي كان غير معروف في الأوساط الثقافية والفكرية في سوريا حتى كانت الفتنة الدامية.
يذكر لنا الشعيبي تجربته الحياتية في السعودية حيث كان وهابي الفكر وقد اختلط بعلية القوم في السعودية وعرف فكرهم وطباعهم وأفكارهم جيداً، ومن ثم تاب إلى الله عن هذه المزالق الفكرية وعاد عن وهابيته، لا شك أن الرجل يعتبر كنز من المعلومات خاصة أنه كان وهابي الفكر فلم يبخل أصحاب الأرض عليه بأسرارهم وطباعهم الحقيقية وقد كان.
ولقد حذر الدكتور علي شعيبي من خطر الوهابية والسلفية في كتابه ثقافة الوعي فقال :" فإنني ألفت النظر حول ما يمكن أن يقوم به السلفيون من أعمال إجرامية في السنوات القادمة وما حدث في السودان من قتل عشرين مصلياً ... بسبب الخلاف على بعض النصوص الدينية مثال على الفكر المرعب إنهم الورقة القادمة بين أعداء الإسلام والسلام والتقدم والتنوير " ص 71
يتناول الشعيبي في كتابه " ثقافة الوعي " الأقسام التالية : قبل الكلام – تعريف الوعي – الوعي النبوي أمام الحديث النبوي – تحنيط الوعي في الفكر السلفي ظاهرة قديمة جديدة – السلفية بين وعي المحدثة ، ووعي المتكلمة – غياب الوعي الديني الإيجابي أدى إلى الفوضى واستغلال الظاهرة الدينية – فئة المنافقين والمرضى في العصر النبوي – تخلف الوعي الديني ساعد على ضياع القدس وفلسطين – أهمية الوعي بالنسبة للتراث – الوعي ومسائل أخرى – بعد الكلام

لكن لي وقفة تعجبت فيها من آراء الرجل في كتابه : " ثقافة الوعي" – د علي الشعيبي - ط1 2002 م – دار الجمهورية للطباعة دمشق *

علي الشعيبي والحديث الشريف
يختمُ الشعيبي كتابه في قسم بعد الكلام بقوله : " خلاصةُ ما أريد قوله بعد الكلام الذي مرَّ بنا ، كلام صريح قراح دعوة إلى كلمة سواء ألا نعبد إلا الله ، وأن لا نتخذ الحديث بدلاً عن القرآن الكريم وأن نسعى إلى الحرية والتحرر ، وأن نسدل الستار على كل ذلك الماضي ما له وما عليه ، وأن لا نأخذ منه إلا ما يصلح لبشريتنا المعاصرة ، دون اجتهادات في هذا الذي يصلح أو ذاك" ص 145
ينسف الشعيبي في أسطر معدودة لا حجة لها الحديث الشريف والصحيح منه فيقول " وعلينا أن نعلم أن قولنا حديث صحيح لا يعني أنه صحيح على وجه القطع ، بل يعني أن صح على شروط دارسيه ، كما أن قولنا حديث غير صحيح ، لا يعني الجزم بعدم صحته ، فهو قد يكون صحيحاً في الواقع ولكنه لم يصح على شروط دارسيه"
هذه الجرأة في ضرب علم قائم بذته وهو علم الحديث ،عمل علماء على ترسيخه بقواعد صارمة لم يعرفها علم سابق ولا لاحق ، هو كلام ضعيف الحجة ذلك أن الرجال الذين نقلوا لنا الحديث الشريف هم أنفسهم الذين نقلوا لنا القرآن الكريم
هذه الجرأة لم تقف عند علم الحديث بل نالت من كبار علماء المسلمين كأبي حامد الغزالي والإمام الزركشي والإمام البوطي، لا أحد يمنع الشعيبي أن يختلف مع أي عالم كان من يكون ، لكن هذه اللغة الجريئة لا تناسب أي بحث علمي ولا تليق بباحث، فهل هذه اللغة السيئة ستنفرنا من كلام الغزالي في الوقت الذي تكون حجة الشعبي واهية ضعيفة أمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه الله لنفصل الحديث إذن.

يقول علي الشعيبي في كتابه ثقافة الوعي
"فما فعله الصحابة فيما بينهم من قتل وسفك دماء هو اجتهادات ! ... كل منهم له اجتهاده الخاص ، ولاستمرارية الحب والكره لبعضهم استخدموا الدين مشوهاً ، ألبسوا قتالهم فيما بينهم لبوساً دينياً ومشروعية دينية ، فتلك الأعمال التي يخجل جهال المسلمين من القيام بها ، ما هي إلا اجتهادات ، من أصاب منهم له أجران ، ومن أخطأ له أجر ..! و يا لعظمة الاجتهاد..... وهم أناس ما كانوا يخجلون من أعمالهم يقترفونها فيما بينهم ، إن الحقيقة التي يصل إليها الباحث المحلل الذي لا يهتم بثوب القداسة كبيرة ومؤلمة ، الحقيقة إنهما ما كانوا يملكون الوعي الديني الراقي ولا الوعي الحضاري وما كانوا يملكون الوعي فعلاً.." ص 19

يقول د علي الشعيبي
" صلى الله عليك يا سيدي يا رسول الله ، يا من نظرت بوعي النبوة الربانية، فمنعت تدوين الحديث، لو أنك رأيت كتب الحديث المسانيد منها وما سمي بالصحاح منها ، وكيف أدت إلى انقسام المسلمين ، كيف أباحوا لأنفسهم الحديث عن يهود ، وأفكار يهود ، ومعتقدات يهود، وتصرفات يهود ، فأدخلوها في الحديث بدعوى ظالمة نسبوها إليك" بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج "
ص 35 ثقافة الوعي

هذه الدعوة ليست بجديدة على الفكر الإسلامي، فلقد نشأت فرقة تعرف بالقرآنيين: هم منكرو السنة جملة وتفصيلاً ويعبدون الله بما ظهر لهم من القرآن فقط وهو منتشرون في شبه القارة الهندية الباكستانية منذ قرن ونصف قرن ولهم نفوذ في إنجلترا أيضاً.

يقول رسول الله صلى الله وسلم : "صلى الله عليه وسلم -- قال (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول : عليكم بهذا القرآن ، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه ، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا وإن ماحرم رسول الله مثل ماحرم الله ) رواه أبو داود والترمذي
ولنعد للقرآن الكريم لنعرف أن القرآن الذين يدعون بالأخذ به يصف ما يعلمه الرسول صلى الله عليه وسلم من سنته للمؤمنين بالحكمة من الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى :
" لقد مَنَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين " (آل عمران: 164)

يقول الإمام الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي في مقدمة كتابه " فقه السيرة النبوية
المسلم لا ينبغي له أن يتصور أن المعجزة الوحيدة في حياته صلى الله عليه وسلم إنما هي القرآن ، ما دام أنه ينكر أن له عليه الصلاة والسلام سيرة يحاول أن يفهم حياته من خلالها . أما إن كان ينكر وجود هذه السيرة فإن عليه أن ينكر معجزة القرآن. إذ لم تبلغنا معجزات رسول الله المختلفة إلا من حيث بلغتنا منه معجزة القرآن . والإقدام على تأويل هذا وتسليم ذاك طبق ما يستهوي النفس ويتفق مع الغرض ، إسفاف غريب في تصنع البحث والفهم لا يقدم عليه من كان كريماً على نفسه معتزاً بعقله "
ص 11 فقه السيرة النبوية

تطاوله على الإمام البوطي
يقول الشعيبي بحق الإمام البوطي رحمه الله وهو من أبرز الأعلام التي تصدت للوهابية وأعلامها في سوريا والوطن العربي ،ويصف الشعيبي رده عليهم بالمهاترات :" وتمشياً مع أسلوب الطرفين القائم على المهاترات وبيان بطلان دعوة كل طرف للطرف الآخر ، وما كتبه الدكتور البوطي على غلاف كتابه من كلام الإمام الشاطبي " ص 45
تطاوله على الإمام الزركشي
" ثم لا يجد الزركشي جواباً لهذا الكلام بمعنى آخر ليس عنده من الوعي والجرأة ما يجعله يسأل كيف يكون هذا ، وهو مناقض لوعد الله في حفظ القرآن ولا يجد لديه جواباً، ولا يملك لهذا وعياً، لأن إرادته مسلوبة، وعقله مصادر تحت ذرائع المقدسات والمقدسين الذي كان جزء منهم ليس باليسير من المنافقين والمنافقات" ص 94
تطاوله على عمر بن الخطاب في موضوع الآية المنسوخة الشيخ والشيخة
"أليس من المعيب والمخجل أن يتداول المسلمون كلاماً من هذا النوع على كتاب الله ، وإذا كان عمر متأكداً أنهم كانوا يقرؤونها على عهد رسول الله فكيف حذفت، وكيف يخشى مقولة الناس، لا يخشى غضب الله على حذف آية من كتابه العزيز ، وأين هذه الواقعة، .. ولهذا أؤكد مرة أخرى على مسألة غياب الوعي عن الدور الذي لعبه المنافقون من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة والفقهاء والمحدثين ولا عذر لمن لا ينظر إلى الموضوع بهذه الجدية وهذه الجرأة" ص 93
تطاوله على أبو هريرة


يقول علي الشعيبي في كتابه ثقافة الوعي



"ما هو موقف الصحابة من أقوال أبي هريرة؟
حفظ عن رسول الله - كما يدعي- وعاءين بث أحدهما بين المسلمين وهذا الذي بثه . بلغت أحاديثه ( 5374) حديثاً روى منها أحمد بن حنبل في مسنده ( 3848 ) حديثاً .
وفي البخاري ومسلم ( 325 ) حديثاً وما أدرى لاذا لم يذكرها البخاري ومسلم كلها ولا أظنهما إلا كذباه أيضاً فأمسكا عن الكتابة عنه.
وهذا الذي بثه منه الكثير المكذوب الذي استحق عليه ضرب عمر بن الخطاب الخليفة وزجره فأمسك حتى مات عمر ، ويستغرب المرء كيف يروي له ابن حنبل تلك الكمية من الأحاديث ( 3848 ) في حين يكتفي البخاري ومسلم ب ( 325 ) حديثاً فهل تثبت صحتها عن ابن حنبل ولم تثبت عن البخاري ومسلم ؟!
لا ندري ولكن ما ندريه أن هذا الكم الهائل من الأحاديث لم يخل من أباطيل وترهات وأكاذيب نسبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وما كان هذا لولا غياب الوعي الديني ، والوعي الفكري بل غياب عموم الوعي في هذه المسألة وإلا لكان على عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب أن يفعلا به كما فعل عمر إن صح أن أبا هريرة بقي يحدث في عهدهما ولا أعتقد ذلك واجتهد رأيي من خلال معالجة هذا الموضوع أنه ظل مقلاً بعد موت عمر إلى أن جاء معاوية بن أبي سفيان فصار يكثر من وعائه هذا إلى أن صار قرآناً عن كثير من المسلمين دون وعي منهم .... والحمد لله أنا أبا هريرة لم يبث الوعاء الثاني الذي يزعم أنه حفظه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعجيب أنه لو كان صادقاً ولم يبث هذا الوعاء بين المسلمين كما بث الوعاء الأول ألا يعتبر كاتما للحق وساكتاً عن الحق فيكون شيطاناً أخرس؟ّ!" ص31
يضرب علي الشعيبي بما كتبه الصحابة من أحاديث عرض الحائط وخاصة ما أورده أبو هريرة وربما سمعنا غير ذي مرة من يقول كيف له بحفظ هذا الكم من الأحاديث وهي وفق ما سرده الشعيبي (5374 )
و أعجب ممن يتعجب من هذا ونحن اليوم نرى طالب البكالوريا يحفظ أكثر من عشرة كتاب مع الفواصل والنقاط .
وكيف لو عرفنا أن العرب تميزوا بملكة الحفظ وهم أمة سماعية، وكيف لو عرفنا أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا له وقد كان يشكو للرسول صلى الله عليه وسلم من حفظه، إذن هي بركة دعاء الرسول .
ثم يقول أن أبا هريرة امتنع عن الحديث أيام عمر ثم بعد موته عاد لذلك ، وينسب علي الشعيبي ذلك لقلة وعي علي وعثمان، وإني والله لأضحك من هذا الكلام المتطاول وهذه الجرأة العجيبة من دكتور له العديد من المؤلفات، و ينالني الشك من أنه كتب هذا الكتاب أصلاً لولا أنه بين يدي.
هل كان علي بن أبي طالب ولي المسلمين بعلمه ورشده قليل الوعي ليمنع أبا هريرة عن الحديث بينما فعل عمر بن الخطاب ؟
هل وعي علي الشعيبي كان أعمق وأكثر حضارة من صنديد العرب علي بن أبي طالب عليه السلام ليقول ما قاله؟
ثم كأن سرد الشعيبي يحمل في طياته شكلاً من أشكال البوليسية والجمعيات السرية، حيث يقول إن أبى هريرة بقي لا يحدث حتى زمن معاوية فأكثر من الحديث ،وكأن هناك نفخاً في قصة قديمة أكل عليها الزمان وشرب.
لقد توقفت قبل ذي مرة عند كلام علي الشعيبي على قناة الميادين حين نال من عمل اتحاد علماء المسلمين في كتاب " فقه الأزمة" فضعفه وضرب به عرض الحائط ، هذا الاستخفاف بعمل علماء أهل الشام يحمل إشارة استفهام حول أطروحات الرجل، وهو القادم من خلفية سلفية مضت به لسنوات طويلة حتى انقلب عليها وقد اعترف بهذه الخلفية ، هل تخلص فعلاً د علي الشعيبي من هذا التشدد أم إنه حمل إلينا تشدداً مضاداً ؟؟
وهنا أستعرض لكم كلام العلامة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي عن موضوع تدوين الحديث من كتابه فقه السيرة النبوية :
" فلا جرم أن كتابة السنة، أي الحديث النبوي ، كانت أسبق من كتابة السيرة النبوية عموماً . إذ السنة بدأت كتابتها كما هو معلوم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم بإذن ، بل بأمر منه عليه الصلاة والسلام . وذلك بعد أن اطمأن إلى أن أصحابه قد تنبهوا للفارق الكبير بين أسلوبي القرآن المعجز والحديث النبوي البليغ ، فلن يقعوا في لبس بينهما . " ص 18
إذن لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتدوين سنته وأحاديثه وكان قد نهى بداية الأمر لكي لا يختلط الأمر على الصحابة.
رحمك الله يا سيدي البوطي وطيب ثراك وإني لأنصح كل مسلم بالعودة لكتابه العظيم الفائدة الغزير الأنوار " فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة" طباعة دار الفكر - دمشق
لأن هذا الكتاب يبين فيه تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويظهر الكثير من الفوائد ويجلي كثير من المعاني ويفند فيها كثيراً من الأباطيل والترهات كالتي سقناها عن كتاب د علي الشعيبي في كتابه " ثقافة الوعي

تطاوله على الإمام أبي حامد الغزالي حجة الإسلام
تذكر كتب التاريخ أن عماد الدين زنكي نهل العلم على يد أبي حامد الغزالي وعبد القادر الجيلاني وآق سنقر
والرجل عرف بمقارعته للصليبيين ،ما أقف عنده اللحظة من ذكر ذلك ، أنني كنت أحذر من فكرة فلسفية كانت تنخر في عقول المثقفين كما تنخر الدودة في التفاحة ، وهي " إعادة البناء" وهي فكرة فلسفية.
لسنوات كانت شرائح المثقفين تتناقل هذه الفكرة الهدامة وهي قاسم مشترك لدى تيارات علمانية وإسلامية على حدا سواء ،شاركوا بهدم بلدهم باسم الحرية وضربوا على رؤوسهم بعد خرابها حيث لم تنفعهم الفلسفة الهدامة.
لو قيض الله لنا في هذا الزمان أمثال الغزالي لنقض مثل هذه الفكرة الهدامة فلا تقوم لها قائمة كما فعل في زمانه، فلم تقم للفلسفة السلبية قائمة بعد كتابه تهافت الفلاسفة ، لقد نهض البوطي منذ سنوات خلت بالمناظرات الفكرية وكان يناظر الفيلسوف السوري الطيب التيزيني ، لقد هزم الإمام البوطي الطيب التيزيني فكرياً وهزمه عملياً.
ماذا لو انتصر الطيب التيزيني لكان أتباعه في سوريا بالملايين ولكانت الأفكار الهدامة قد دمرت سوريا عن بكرة أبيها
نعم فالرجل – التيزيني- خان وطنه وقد عبثت بعقله أفكار براقة كالديمقراطية والحرية
بينما وقف البوطي على منبر الأموي يحذر المسلمين من الفتنة قبل حدوثها و بعد اندلاعها ، ملايين من المسلمين في سوريا اتبعت حكمة هذا الرجل ولم تغوها الأفكار الفلسفية الملونة البراقة ولقد قوض تلك الأفكار البراقة واحدة واحدة
لم يفند البوطي كلام الفلاسفة فحسب بل فند خطابات الثورة ومصطلحاتها التي هوت بعقول الشباب، ألم يقل لهم كيف يكون جهاداً في سبيل الله تحت راية الناتو الصليبية ، لقد كان عميق الفكرة رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه، وما أحوجنا اليوم وكل يوم لحكمته وجرأته في هزيمة الأفكار الفلسفية الهدامة التي تبرق في أعين الشباب كما يبرق السراب للعطشان، لقد كان الإمام الشهيد البوطي خطراً على مشروع الشرق الأوسط الجديد فقتلوه ظناً منهم أنهم يقتلون فكره، وها قد انتشر فكره أكثر من ذي قبل وخاب مشروعهم القذر.

لقد ناظر الغزالي في وقته الفلاسفة وهزمهم ثم ، ولقد انتصر المشرق على الصليبيين ،بينما زالت الأندلس وأحرقت كتب ابن رشد ، ولا أدري هل كانت أفكار ابن رشد تعبث بعقول الشباب كما عبثت الفلسفة بعقول شباب اليوم ؟
وهل كانت فكرة " إعادة البناء " رائجة في عقول الأندلسيين ، كل ما أعرفه إن أحد ملوك غرناطة الملك عبد الله الصغير الذي سلم مفاتيح المدينة للملوك جاثياً على ركبتيه بكى بكاء مراً فقالت له أمه بيت الشعر المشهور
"ابك كالنساء ملكاً لم تصنه كالرجال"



قياس الشعيبي

لنقف عن عقل الشعيبي ودوافعه وآلياته الفكرية، إن هذه الآليات لمن السهل أن تجدها قاسماً مشتركاً بين زمرة من الباحثين العقلانيين ، فأول خطوة يقوم صاحب العقل لينهض بأمته أن يقلد أمة نهضت بنفسها من ربقة الجهل والتخلف، والمثال البراق هو الحضارة الأوربية المعاصرة، فتراهم يقيسون الفكرة بالمسطرة متجاهلين السياق الاجتماعي والدوافع الفكرية وتبيان الحضارة والدين وآليات الفكر والرسالة.
سقطة العقل كانت في القياس يقول الإمام علي كرمه الله وجهه : " لا تقيسوا فإن أول من قاس إبليس" إذ قال خلقتي من نار وخلقته من طين، ولعمري أن الإمام علي يقصد بالقياس هنا القياس الخاطئ، وللطرافة فإن الغزالي له كتاب اسمه " معيار العلم في فن المنطق" يقول حجة الإسلام في ذلك : " وحد القياس أنه قول مؤلف إذا سلم ما أورد فيه من القضايا لزم عنه لذاته قول آخر اضطراراً وإذا أوردت القضايا في الحجة سميت عن ذلك مقدمات . وتسمى قضايا قبل الوضع كما أن القول اللازم عنه يسمى قبل اللزوم مطلوباً وبعد اللزوم نتيجة. وليس من شرط في أن يسمى قياساً أن يكون مسلم القضايا بل من شرطه أن يكون إذا سلمت قضاياه لزم منها النتيجة ، وريما تكون القضايا غير واجبة التسليم ونحن نسميه قياساً لكون بحيث لو سلم للزمت النتيجة " ص 109
إذا سلمت قضاياه لزم منها النتيجة ، فهل كان قياس عقل الشعيبي واجب التسليم ؟ هل توجب لنا أن نسلم أن علينا أن نخرج من تسلط الدين والمسجد كما تخلصت أوربا من تسلط الكنيسة فتطورت ؟

هذا هو القياس الذي يورطنا في كل مرة ونقع ضحية له، فهل هناك من عاقل سأل قبل أن يقيس وبحث في صحة مسألة العقلانيين ؟
يقول الشعيبي " وكي لا نقع فيما وقع فيه الأوربيون في عصر النهضة ، الذي عاني أهله من التسلط الكنسي ، وإفرازات محاكم التفتيش فخرجت أوربا كلها من ثوب الكنيسة الحديدي ، .... كي لا تأتي أجيال حرمت من الحرية الدينية ، حرمت من التنوير الديني حرت من التقدم العلمي ، حرمت من كل وسائل الحياة المعاصرة ، وهي تئن بثوب الغزالي الحديدي ، تتحمل صدأ وعفن السنين ، كي لا يحدث انتقام عاصف من هذا الثوب، ادعو المسلمين فقهائهم ، وعلمائهم إلى فكفكة هذا الثوب الحديدي ، ووجب الدعوة إلى الإصلاح الديني ، تعبيراً عن التغيرات الزمنية إننا نتعبد الله بثوب صناعي حديدي ، أرادته السياسة الأموية والعباسية وأراده فقهاء معاصرون يعيشون على موائد الفقه القديم" ص 143
إذن الشعيبي يدعو للإصلاح الديني على الطريقة اللوثرية ، لكن السؤال لأصحاب العقول ، هل جملة " الإصلاح الديني" صحيحة أم الأصح " الإصلاح المذهبي " ، هل يقدر الشعيبي تصحيح دين الله وشريعته ؟ أم إنه يقصد تصحيح مذهب ما ورأي فقهاء ما ؟

وإننا لو عدنا لمصطلح " الإصلاح الديني" فهو إن كان يقول الديني، لكنه يعني الطائفي أو المذهبي ، ذلك أن الطوائف الكبرى المعروفة لدى المسيحية وهي الكاثوليكية والبروتسنتية والأرثوذكسية لم تكن مذاهباً كما هي المذاهب الإسلامية، بل كانت أدياناً فهناك الديانة المسيحية الكاثوليكية كما هي الكنيسة الكاثوليكية، وهناك الديانة المسيحية البروتسنتية كما هي الكنيسة البروتستنتية وهناك الديانة المسيحية الأرثوذكسية، نعم لقد كانت ديانات ولم تكن مذاهب أو طوائف والخلافات بينها خلافات عقيدة عميقة وليست مجرد شكليات، فهذا يرفض ألوهية المسيح وذلك يؤمن بأنه ابن الله، وهذا يرفض عبادة الأيقونات وتعليقها في الكنائس وعبادة القديسين ورفع الصليب، وذلك يرفض الزواج من أبناء الكنيسة الأخرى وهذا يكفر هذا وذلك يكفر ذاك.
ولقد تناولت في مقالة مطولة الزواج في أوربا والأسباب الحقيقة التي دفعت الشباب لتبني الزواج المدني ، فلربما أتفهم رغبة الشاب الأوربي الذي مل قيود الكنيسة وحرمانه من الزواج من فتاة مسيحية من طائفة أخرى، فدفعه ذلك للبحث عن حل وهو الزواج المدني، لكني أضحك من شاب مسلم يبحث عن زواج مدني من فتاة مسلمة من ذات طائفته ، إنهم يأخذون دواءً لمشكلة غيرهم، ولازال الزواج المختلط ليومنا هذا منتشر بين كل المذاهب الإسلامية ، نعم لدينا مشاكل وهي بحاجة لحلول، لكنها حتما لن تحل بأدوية أمراض أخرى.

إذن لقد وقعت عقول نخب بأكملها ضحية قياس خاطئ ، والموضوع بحاجة لنقاش مطول
ولقد تناول الإمام الشهيد البوطي في مقدمة كتابه السيرة النبوية هذه القضية يقول : " ولقد علم عامة الباحثين والمفكرين أن من أهم أسباب نشأة المدرسة في حينها ، ذلك الانبهار الذي أصيب به كثير من العقول العربية المسلمة من أنباء النهضة العلمية في أوربا . فقد راحت تلك العقول تتوهم – تحت تأثير ذلك الانبهار – أنه ليس بين المسلمين وبين أن ينهضوا مثل تلك النهضة إلا أن يفهموا الإسلام هنا كما فهمت أوربا النصرانية هناك ، وأن يضعوا حقائق الإسلام الغيبية من وراء اكتشافات العلوم المادية ، فلا يؤمنوا بغيب لم يدركه علم ، ولا يعرجوا على معجزة لم يؤيدها اكتشاف أو اختراع . فإذا فعلوا ذلك نهضوا نهضة أوربا في علومها ولحقوها في رقيها وفنونها .
ومن هنا أنشأ أقطاب تلك المدرسة ما زعموا ( الإصلاح الديني ) والدين الصحيح ما كان يوماً ليفسد حتى يحتاج إلى مصلح أو إصلاح " ص 10










الزبدة التي ينهي بها د علي الشعيبي كتابه ثقافة الوعي :
" أنا مع عبد الله بن المقفع في كتابه ( رسالة الصحابة) الكتاب الذي يطرح فكرة تنظيم الدولة على أساس علماني . ومعه في "باب بروزيه" الذي أضافه في ترجمة ألف ليلة وليلة حين طرح اختلاف الأديان وتصارعها، ورأى أن الحل يكمن في اعتماد العقل وحده ، وليس صحيحاً ما قاله بعض الدارسين عن علمانية ابن المقفع أنها صادرة عن منظور غنوصي مانوي"
ص 145


ماذا بعد الربيع العربي

يدعي الدكتور علي الشعيبي أن الفترة التي أعقبت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها وعي ثقافي وحضاري وديني ،الكتاب ألفه علي الشعيبي عام 2002 ولا أدري هل ما زال عند كلامه أم تراه غير وجهة نظره ،خاصة بعد الربيع العربي وإطلالات الوعي الحضاري المعاصر، هل مازال الدكتور علي الشعيبي عند مقولته أم أنه يتمنى لو أنه لم يكتب كتابه ذلك .
وإذ أتكلم عن علي الشعيبي أتذكر كلام الدكتور عماد فوزي شعيبي وهو من أنصار القطيعة الأبستمولوجية مع التراث ، يقول الدكتور في لقاء له على قناة الميادين" يا سيدي إن اثنين من الخلفاء ماتوا قتلاً ،وهذه الجملة تترد كثيراً في أوساط المثقفين
فما هو الإيحاء الذي يصل لأي مثقف صغيراً كان أو طالب علم من هذا الكلام ؟
جملة عماد فوزي شعيبي تحمل إيحاءً أن الخلفاء تقاتلوا على الحكم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل أحدهم الآخر.
هل يعني قتل الحاكم دليلاً على فشله ؟! لكن لنطرح السؤال التالي :
فهذا نبي الله شعياء قد قتل ،ونبي الله يحيى ،ونبي الله زكرياء ونبي الله عيسى صلب أو شبه لقتلته ذلك.
لا بل يروى أن اليهود قتلوا في يوم واحد سبعين نبياً ، وعموماً قتلوا أكثر من ألف نبي مرسل إليهم
هل نهاية هؤلاء الأنبياء تعني أنهم فشلوا في رسالتهم ؟؟
هل صلب المسيح أو كما شبه لهم يعني فشل المسيح برسالته ؟
يقول النصارى أن العقيدة المسيحية تقوم على الفداء حيث افتدى المسيح البشرية حين صلب، ولماذا لا يقول المسلمون عن فداء عثمان بن عفان إذ رفض أن يقاتل من حصاروه وهو الأقدر والعارف به ؟ لماذا ننظر للقتلة ولا ننظر للحكيم ؟
ماذا يريد أنصار التميز المعاصر قوله عبر ادعاء الترفع عن هذا الماضي ؟؟
والسؤال لو قارنا بين عصر الخلفاء الراشدين وبين عصرنا عصر الثورات العربية والخيانات والمؤامرات والرايات السود وسفك الدماء ،وفشل منظومات حكمت لعشرات السنوات
هل كان هذا العصر عصر الشعيبيين أفضل وأرقى وأكثر وعياً من العصر الراشدي ؟؟
لا والله إنها الخيبة الفكرية التي تظلل أصحاب هذا النظريات
إنهم اليوم يتكلمون عن النزاع الذي ساد في سقيفة بني ساعدة وكأن عصرهم ناصع البياض.
وحين يسمع الجاهل عن القضية يحسب أن هناك مؤامرة حيكت بليل ، وأن فشلاً تاريخياً قد بدأ من هذه اللحظة .
أيها السادة وأيها المتابع وأيها العاقل العربي وأنت اليوم ابن عصرك ، قد تابعت أحداثاً عظام من الحرب الخليجية الأولى حتى الثانية ، فاحتلال العراق وإعدام رئيس دولة العراق ، ثم حروب لبنان وغزة ، فالصومال ، فتقسيم السودان فهروب بن علي رئيس تونس، فقتل رئيس ليبيا معمر القذافي ،فمحاكمة مبارك مصر ثم محاكمة مرسي الإخوان، فتنحي رئيس اليمن علي عبد الله صالح، فالحراك في البحرين ، فالقتال في سوريا، فخروج أصحاب الرايات السود ثم اقتتالهم فيما بينهم، فحرب اليمن ،فانتشار كل هذا الكم من الدماء والتخريب
أنت يا صاحب العقل هل وجهت لنفسك سؤالاً : لماذا كانت كل هذه الدماء في هذا الوقت المعاصر وخلال أقل من عشرين سنة ؟؟
ألم تكن على الحكم والملك ؟
بالله عليكم هل سفكت قطرة دماء واحدة في المؤامرة المزعومة في سقيفة بني ساعدة ؟؟
هؤلاء الذين اجتمعوا فيها بشر ، أناس مثلنا لهم آراء سياسية مختلفة، لكنهم حين اختلفوا هل حمل كل واحد على الأخر السيف ؟
ألم يقبلوا بالطرف الآخر رغم خلافهم معه ؟
ألم يقبل صنديد العرب وصمصامة المسلمين علي بن أبي طالب بما جرى في سقيفة بن ساعدة ؟؟
هل حمل السيف وحرض جماعته على الدفاع عن حقه في الحكم؟
لماذا لم يرفض عمر ولاية أبي بكر و حرض قبيلته وجماعته ؟
لماذا لم يرفض عثمان بن عفان وكبار الصحابة ما جرى ؟
نعم لقد اختلفوا لكنهم قدموا أمثولة حضارية لا يمكن مقارنتها بالاختلاف الدموي المعاصر على الحكم والسلطة .
لكن من قتل عمر كان فارسياً وليس عثمان بن عفان أو علي بن أبي طالب
ومن كان وراء مقتل عثمان بن عفان اليهودي "عبد الله بن سبأ" شبيه "برنار ليفي" اليوم .
ومن كان وراء قتل علي بن أبي طالب الخوارج ومثلهم الدواعش اليوم
هل يحسب العقل المعاصر أنه بقادر على التميز الاجتماعي والفكري بحفنة من المصطلحات الواهية كحقوق الإنسان، والمجتمع الدولي والأمم المتحدة وحق تقرير المصير وهذه الخدع المعاصرة التي لا تنطلي إلا على الجهال والسذج.
هل يحسبون أنهم بقادرين على التميز على عصر الخلافة الراشدة بأنهر تسيل من الدماء
أنا لا أدعو أن نقف عند ذلك العصر لا أبداً ، لكني أفضح وأكشف زيف محاولات التميز الفاشلة لأعلام كبار .
إننا مطالبين بالتقدم وانجاز ما لم ينجز عبر تاريخ أجدادنا، مطالبين أن نطور الوعي الذي ساد في السقيفة وأن نكون على أخلاق أصحاب السقيفة وأن نحقق الدولة المدنية التي يسودها العدل والانتخاب النزيه وبناء دولة المؤسسات الحقيقة .
وهذا العقل المعاصر مطالب أن يفهم الحادثة التاريخية في سياقها التاريخي، ومطالب أن لا يخدع نفسه بمصطلحات معاصرة مضللة ،ومطالب أن يكون صادقاً مع نفسه في أخطر اللحظات التاريخية التي تمر بها الحضارة الإنسانية وإلا سيدفع أولادنا وأحفادنا ضريبة نزواتنا الفكرية ومعادلاتنا العقلية الخاطئة..


طارق شفيق حقي