جاء في ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر

لابن خلدون رحمه الله

وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسّرون في تفسير سورة «والفجر»
__________
[1] بمعنى: الأشخاص الذين يطوفون في البلاد (قاموس) .
[2] كذا بالأصل في جميع النسخ وتصويب العبارة: وأمّا مجاوزة أرض فارس.

(1/18)

في قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ 89: 6- 7 فيجعلون لفظة إرم اسما لمدينة وصفت بأنّها ذات عماد أي أساطين وينقلون أنّه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان هما شديد وشدّاد ملكا من بعده وهلك شديد فخلص الملك لشدّاد ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنّة فقال لأبنينّ مثلها فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدّة ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وأنّها مدينة عظيمة قصورها من الذّهب وأساطينها من الزّبرجد والياقوت وفيها أصناف الشّجر والأنهار المطّردة [1] ولمّا تمّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته حتّى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليهم صيحة من السّماء فهلكوا كلّهم. ذكر ذلك الطّبريّ والثّعالبيّ والزّمخشريّ وغيرهم من المفسّرين وينقلون عن عبد الله بن قلّابة [2] من الصّحابة أنّه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه وبلغ خبره معاوية فأحضره وقصّ عليه فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال هي إرم ذات العماد وسيدخلها رجل من المسلمين أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له ثمّ التفت فأبصر ابن قلّابة فقال هذا والله ذلك الرّجل.
وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض وصحارى عدن الّتي زعموا أنّها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زال عمرانه متعاقبا والأدلّاء تقصّ طرقه من كلّ وجه ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريّين ولا من الأمم ولو قالوا إنّها درست فيما درس من الآثار لكان أشبه إلّا أنّ ظاهر كلامهم أنّها موجودة وبعضهم يقول إنّها دمشق بناء على أنّ قوم عاد ملكوها وقد ينتهي الهذيان ببعضهم إلى أنّها غائبة وإنّما يعثر عليها أهل الرّياضة والسّحر مزاعم كلّها أشبه بالخرافات والّذي حمل المفسّرين
__________
[1] الجارية.
[2] هو عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي وكنيته: أبو قلابة وهو من التابعين (معجم الأدباء) .

(1/19)

على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظة ذات العماد أنّها صفة إرم وحملوا العماد على الأساطين فتعين أن يكون بناء ورشّح لهم ذلك قراءة ابن الزّبير عاد إرم على الإضافة من غير تنوين ثمّ وقفوا على تلك الحكايات الّتي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة الّتي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات وإلّا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام وإن أريد بها الأساطين فلا بدع في وصفهم بأنّهم أهل بناء وأساطين على العموم بما اشتهر من قوّتهم لأنّه بناء خاصّ في مدينة معيّنة أو غيرها وإن أضيفت كما في قراءة ابن الزّبير فعلى إضافة الفصيلة إلى القبيلة كما تقول قريش كنانة وإلياس مضر وربيعة نزار وأيّ ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الّذي تمحّلت [1] لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية الّتي ينزّه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصّحّة.