توطئة:
قبل أن نستعرض الترجمة التي قمنا بها للنص الموسوم " Spinoza et la Qabalah"، ينبغي أولا أن نبدأ من البداية حتى يتسنى لقارئ هذا المقال الاقتراب من فحواه، فتحصل لديه الاستفادة التي هي مطلبنا من هذا العمل. و البداية تقتضي أن نقف، و لو في عجالة عند شقي العنوان؛ اسبينوزا و مذهب القبالة:
أما سبينوزا فهو باروخ (المبارك) أو بندكت سبينوزا (كما هو مثبت في الوثائق الرسمية اللاتينية) (1632-1677) المولود بامستردام، التي كانت ملاذ من لا ملاذ له، من أبوين يهوديين فرا إليها لاجئين بعدما اضطهدا الى جانب غيرهما من اليهود في البرتغال. التحق بندكت بمدرسة يهودية عالية في امستردام و تابع فيها دروسا في التلموذ و كتب موسى الخمسة، و حينما وصل سن الثامنة عشرة توجه نحو دراسة اللاتينية لتعلم العلم الجديد.
بعد وفاة والده، أثيرت عقيدة سبينوزا و مدى مسايرتها للمتواثر، فعرض عليه زعماء معبد اليهود معاشا إذا هو عاد عن غيه و انضوى تحت لواء العقيدة، فكان أن رفض العرض فحرم من الكنيس و على إثر ذلك انتقل الى إحدى ضواحي أمستردام معتمدا في معيشته على الحرفة التي اتقنها و المتمثلة في فن شحذ العدسات و صقلها، فكان يشتغل بها طوال النهار ثم ينكب على دراسته في الليل[1]، انكباب أثمر مؤلفات عدة لعل أبرزها كتاب الأخلاق الذي كشف عن علو كعب سبينوزا في مجال التأليف، الى جانب رسالة في اللاهوت و السياسة و رسالة في إصلاح العقل و مبادئ فلسفة ديكارت...الخ.
أما القبالة la Kabbale أو Qabbala بالعبرية، فهي تعني من الناحية الايتيمولوجية التلقي أو الاستقبال، و اصطلاحا تعتبر بالنسبة لكثير من دارسي التلموذ جزءا من دراسة التوراة و خاصة دراسة المعاني الدفينة فيها، لذلك اعتبرت بمثابة فرع من فروع الباطنية اليهودية السرية[2] التي بدأت تتشكل في شكل مذهب في القرن السابع واستمرت حتى القرن الثامن عشر الميلادي .. في محاولة ترمي إلى إدخال روح مستحدثة في اليهودية. وأتباع هذا المذهب يؤمنون بتناسخ الأرواح .. وبعض فنون السحر والتنجيم والهرطقة. لقد اعتبرت القبالة واحدة من أعقد الفلسفات الدينية لذلك ظلت طيلة قرون عديدة موصدة في وجه أي كان، فلم يسمح بدراستها سوى للرجال اليهود المتدينين جداً ممن يناهزون الأربعين الذين نذروا أنفسهم و كرّسوا حياتهم لخدمة الدين اليهودي.
لكنه وعندما قام الباحثون والمؤرخون بالتنقيب عن اصل "القبالة" فوجئوا بان هذه التعاليم تستند إلى فلسفة وثنية كانت موجودة قبل التوراة ثم تسللت إلى الدين اليهودي.
وإلى هذا يشير الماسوني التركي "مراد اوزكن آيفر Murat Ozgan Ayferفي كتابه"ما الماسونية؟" و المؤرخ اليهودي ثيودور ريناخTheodur Reinach الذي يصف القبالة بأنها السم السري الذي دخل إلى عروق الدين اليهودي.
اما المؤرخ اليهودي الآخر "شلمون رينخ Salomon Ranch فيصفها بأنها اسوأ انحراف للعقل الإنساني.[3]
ما يهمنا نحن في هذا المقام هو معرفة ما إذا تمكن هذا "السم" من التسرب الى فلسفة سبينوزا، بمعنى آخر هل هناك علاقة ما تجمع بين مذهب القبالة هذا و بين مضمون فلسفة سبينوزا؟
لا يتعلق الامر بشكوك مجانية وضعت هكذا بشكل اعتباطي، بل هي شكوك / تساؤلات تجد سندا لها فيما ذهب اليه بعض المؤرخين من أن التعليم الذي كان سبينوزا قد تلقاه في المدرسة اليهودية، على يد كل من ابن عزرا و بعض أتباع ابن ميمون، قد أثر على طريقة تفكيره بشكل حاسم، بل لا يقف الامر عند هؤلاء اليهود التقليديين، إذ من المؤرخين من اعتبر أن سبينوزا قرأ حتما ليفي بن جيرسون الذي كان قد هبط بمعجزات الكتاب المقدس إلى مجرد أسباب طبيعية، وأخضع الإيمان للعقل قائلاً "أن التوراة لا يمكن أن تحول دون أن نعتبر حقاً كل ما يستحثنا عقلنا على أن نؤمن به أو نصدقه[4]". هذا و قد ورد مثل هذا الفرض لدى ويل ديورانت في مؤلف "قصة الحضارة يقول:"(...) و الحق انه بقي دائما
في سبينوزا إثارة أو حالة من التصوف ربما جاءته من القبالة، و الآن غذتها عزلته و زادتها قوة."[5]
كانت هذه مجرد فروض أردنا من خلالها أن نشير الى أنه إذا لم يكن متيسرا إثبات تأثر سبينوزا بمذهب القبالة في تعاطيه مع النص المقدس، و مع الدين بشكل عام، فإنه من الصعب كذلك إثبات براءته تماما من أي انتساب إليها، لذلك حسبنا في هذا النص المترجم موقعة سبينوزا و فكره في موضع بين الاثبات القطعي و النفي التام:
محايثة و تعالي:
يعتبر الله بالنسبة لسبينوزا كائنا محايثا و ليس مفارقا، إنه متجل في ثنايا الطبيعة، كما في كل المخلوقات، فهو أزلي و لا متناهي كالعالم المخلوق تماما. لقد وجد الكون الالهي عبر كل الازمنة و سيظل متواجدا، و هذا يفيد بأنه ليس هناك بداية و لا نهاية.
"تكمن ماهية الاله في القدرة": عبارة تفيد أنه ما دام الاله هو الطبيعة، فإن ماهية الطبيعة أو "جوهرها" يتمظهر عبر قدرتها اللامحدودة، في المكان كما في الزمان، على الخلق و على التحويل و التطور. فكل شيء هو تجسيد لهذا الجوهر، في طابعه الفردي و الملموس الذي يتبدى به. إذ على النقيض تماما من فكر القبالة، ليس هناك مطلقا، عند سبينوزا، مكان لإله مشخص و خفي.
إن إله سبينوزا هو الى حد ما يوناني؛ فهو مرتبط بالطبيعة الى درجة تنعدم معها أسئلة الخلق: متى؟ كيف؟ لكن إن شئنا البحث فالجواب يتمثل في كون الاله متجسد و متضمن في كل المخلوقات. أما فيما يتعلق بسؤال لماذا الخلق، فنحن نلفي تقاطعا بين سبينوزا و بعض القباليين الذين يرون أن الاله خلق العالم حبا في ذاته، لكي يتأمل صورته، مادام هو ذاته العالم.
في التقليد القبالي المحايثة تعني الألوهية الحاضرة أو " الشيخناه"، التي تعود الى السًفر العاشر و الاخير من شجرة الحياة، في تماس مع الكون المخلوق. إن هذا الحضور المؤنث لا يمتزج كلية مع الطبيعة كما لا يتعلق فقط بالقوانين التي تحكم العالم. بل هو يملأ الكون المخلوق بضوء الاله و باسمه، و هو لا يرى إلا من طرف أولائك الذين يبحثون عنه، عبر بوابة العالم الوسيط المكون من الملائكة و الارواح، و الذي يمتزج بعالم الرسائل العبرانية. و يكون حضور "الشيخناه" أقل او أكثر قوة بحسب السلوك الاخلاقي للشعب الاسرائيلي. إنه حضور تابع للانقسام الاصلي و هو مؤقت: عندما تتمكن " التيشوفا" أو العودة / الفداء من قلب البشرية، ستعود الشيخناه الى مكانها لتعثر على الوحدة الاصلية في التعالي.
إن سؤال التعالي غير وارد بالنسبة لسبينوزا، كونه يرى أننا لا نستطيع ان نصدق إلا ما نراه و بأن اعتقادنا في إله خفي لا يعدو أن يكون ذريعة الجاهل أو وسيلة لاستعباد الشعب. فسبينوزا لا هو بالمؤمن و لا بالمتدين، فعالمه هو عالم عقلي و علمي، موضوعي و مادي. لذلك يرتبط وجود الاله عنده بالمعرفة، بمعنى تلك المعرفة المتصلة و المعمقة بالكون و بذواتنا التي هي أتفه جزء فيه.
إن هذه المسألة المثمثلة في الاله/ المعرفة هي وحدها ما يقرب سبينوزا من القباليين، فهو، كما أسلفنا، لا يعترف بأي بحث عن التعالي عبر بوابة الافتداء، مادام هذا البحث لن يكون سوى ذاتيا. بهكذا نتيجة لن تعدو الصلاة أو التأمل إلا ضربا من الهروب المرتبط بالقصور الفكري أو نتيجة للخوف من الموت الذي يعتبره نهاية و ليس بداية. ليس هناك إذن عالم "سيأتي" و لا عالم وسيط، لذلك يلزمنا أن نعيش حياتنا بتمامها بسعادة لأنه ليست هناك حياة أخرى، إذ الموت هو نهاية المشوار الطبيعي للإنسان. وحده تفكيره يسعفه، و به فقط يستطيع أن يخلد، بما ان الفكر أو التفكير هو الروح. فعن طريق دفع هذا الفكر نحو الكمال عبر بوابة العقل، نساهم في الاتحاد بالإله فنبلغ بذلك السعادة الارضية.
العقل و الأحاسيس:
في سياق المقارنة دائما بين فكر سبينوزا و رؤية التقليد القبالي، نجد أن هذا الاخير بدوره يلقن الفرد واجب الاستمتاع الى أقصى الحدود بالحياة المادية، لأن الحياة المستقبلية هي من نظام آخر و من طبيعة مختلفة. دون أن يثنيه ذلك عن تشجيع الأفراد نحو العودة الى العالم المفارق، و غير المدرك، و بكلمة واحدة نحو عالم الغيب. لكن و بالرغم من هذا السعي نحو الالوهية، فإن التقليد القبالي لا يشجع الاتحاد بالإله، بل على العكس تماما، يقر بوجود مسافة فاصلة بين الانسان و الإله ناتجة عن توازن بين الحب و الرهبة من هذا الإله، خلافا لموقف سبينوزا الذي يدفع الانسان نحو نوع من الانغماس المطلق في ما يسميه بالطبيعة-الاله.
إن عالم الخيال و الطوبى هو عالم غريب عن سبينوزا، نظرا لتناقضه مع عالم العقل، الذي هو وحده كفيل بأن يمكن المؤسسات السياسية، عبر استغلاله و استعماله، من تثبيت سلطتها، و لم لا استعباد الافراد الاكثر سذاجة. إن عالم سبينوزا هو عالم رياضي، محدود بالمعارف المكتسبة و التي يمكن إثباتها و البرهنة عليها؛ فليس هناك ادنى استنتاجات يمكن التوصل اليها بطريقة عشوائية من خلال تطلعنا الى العالم الماورائي، كما ليس هناك صدفة! ولعل هذه المواقف كانت سببا وراء تسمية سبينوزا بملحد "النسق".
إن الانسان كائن خاضع لحتميات، فإن اعتقد انه حر، فلأنه لا يعلم، و هو كذلك لأنه ببساطة جاهل. لذلك لن يتأتى له الحصول على حريته الا عندما تتم له المعرفة الكاملة بالإله، و هذه المعرفة الكاملة هي ضرب من الحب، لكنه حب عقلي خالص.
أما الأحاسيس فمنبعها جميعا من الثالوث "رغبة، فرح و حزن". الرغبة هي ماهية الإنسان، فهي التي تدفعه الى التحقق في أفعال و الى ان يكون ذاته؛ فعندما ترتفع حدة قدرة جسده و فكره على الفعل، يكون فرحا، و بالمقابل عندما تنخفض هذه القدرة ينتابه إحساس بالحزن. فالإنسان، مثل الطبيعة، يتصرف تحت الضرورة، بدون نهاية؛ و بدافع الجهل يتوهم نهاية ما. و "الخير" هو ما تبث نفعه بواسطة العقل بعيدا عن أية عاطفة، أما "الشر" فهو ما يحول بيننا و بين بلوغ هذا الخير. بهذا المعنى يمكن ان نعتبر أن الانسان الفرح هو من يضع كل طاقاته العقلية و كل ملكاته الفكرية و الجسدية في سبيل بلوغ او بالأحرى التوحد مع الاله الطبيعة و يزيح من طريقه كل العقبات الداخلية و الخارجية التي تميز الشر و التي تمنعه من تحقيق هدفه. أم الانسان الحزين فهو يحرم من إدراك الإله لأنه يفكر بشكل سيئ، كما انه لا يستنفر كل طاقاته الضرورية في البحث عن المعرفة العقلية بالاله.
إنه بإمكاننا ان نعثر على السعادة ببحثنا عما ينفعنا، عبر التوجيه الصحيح للعقل، و الرفع من قدرة الفكر. و عن طريق الوعي بالوحدة الحميمية التي تجمع بين فكرنا و بين الإله، تلكم الوحدة التي تنم عن أقصى حدود التفكير، كما بإمكاننا أن نتعرف على انفسنا كتجسيد لفكر الاله و المشاركة في طبيعته. فالخلاص مرتبط بإدراك الاله: إدراك صفاته، أفعاله، مخلوقاته، إدراك الاشياء الخاصة، ليس عن طريق قوانين مجردة، و لكن عبر رؤية الاشياء ذاتها.
حسب التقاليد المتعارف عليها، فإن إدراك الاله او إدراك الاخر البشري، يستلزم حبهما ليس فقط بالفكر و لكن أيضا بالقلب، حتى و إن كنا بهذا القول نسيء للعقل بل و نعتدي على تفكير سبينوزا. لنتذكر هنا أن السيرة الذاتية لسبينوزا قد خلت من أي ذكر للنساء، و الاصدقاء، و العشيقات، و لا من أي ارتباطات: ليس هناك سوى زوجات أبيه الثلاثة، و التي توجد بينهم أمه. و لم يكن هناك أطفال...
و بعيدا عن مفاهيم الالوهية و السعادة، نعثر على اختلاف جوهري بين فكري سبينوزا و التقليد القبالي يتعلق بمعنى الزمن.
معنى الزمن:
هناك زمن واحد عند سبينوزا هو زمن الطبيعة، الذي هو زمن سرمدي؛ لا يوظف في أي بحث عن الاله. فالزمن كما الموت ليس لهما إلا وجود ذاتي محض، لذلك سرعان ما يبددهما التفكير الحقيقي حينما يزيل هالة التعظيم عنهما. إن العالم الحقيقي بدون بداية و لا نهاية. والحقيقة الخالدة و المعنى المطلق لا وجود لهما الا في فكر الاله. إذ إذا كان الفرد يموت فإن تفكيره يعيش، ليساهم في التفكير الكلي، تفكير الاله. فالانا مستبطنة في الاله، عبر بوابة الوعي الكلي بالعالم، و الفضيلة تكمن في أن نفهم، و الفهم يقتضي العيش في ما هو خالد.
أما الزمن، في التقليد القبالي، فهو العامل الاساس، الى الحد الذي يبدو معه أن كل شيء يساهم في خلقه، ذلك الخلق الذي هو وسيلتنا للتقرب من الالهي. فالموت و الولادة ليستا سوى كسورا نعيد لحمها عبر مراحل الحياة، بفضل الزمن الذي نخلقه.
الدين:
سعيا منها نحو سد الحاجات النفسية ذات الطابع اللاعقلاني لدى الحشود الضعيفة و الجاهلة، تؤسس كل ديانة نفسها على العبادة، والصلاة و على الوحي. و هي عناصر تساهم في نوع من الاستلاب الذاتي للحشود، يعززه ما تسمعه من الاطراء و التملق من قبل زعماء الاديان، مما يساهم في تهييج هذه الحشود الى درجة تدفعها حد التضحية. سبينوزا، في موقف هو مزيج بين النخبوية و السخاء، يقترح برنامجا يفضي بالشعب تدريجيا الى ما يسميه "نصف عقلانية".
ينبغي، في مرحلة أولى، إلغاء الديانات التاريخية و استبدالها بديانات شعبية كونية، ديانات عقلانية مجردة من أية تعقيدات مذهبية: و الشعب ليس في حاجة الى فهم جماع السيرورة المنطقية المفضية الى حقيقة العقل الكوني، بل يكفيه الامتثال الى ما قدم له من أمور عقلانية من قبل دولة علمانية و متنورة. فبمكنته بلوغ ما سميناه "نصف عقلانية" إن هو خضع للسلطة المزدوجة المتمثلة في العقل من جهة و في الانجيل الموحى من جهة أخرى، على شرط أن يتم إعادة تأويل النص الانجيلي، و ان يتم التعامل مع محتواه بشكل موضوعي على غرار ما يتم في العلم. لقد كان سبينوزا على بينة من أنه من المبكر كما من المخاطرة تجريد شعب من مخدر أدمن عليه و اعتاده، لذلك اختار الانطلاق من الانجيل اليهودي لسهولة عقلنة مضامينه في اعتقاده.
في مرحلة ثانية، و من أجل تحرير الشعب، لابد للأفراد من المساهمة في تكوينه؛ بأن تحدد لهم و ترسخ في أذهانهم مبادئ هذه "النصف عقلانية"، و اللبنة الاولى و الاساسية تكمن في احلال مدرسة علمانية مكان مدرسة القساوسة و الحاخامات. و في انتظار و على أمل أن تسود حالة من العقلانية الكونية، نتيجة هذا التدبير، تبقى الدولة وحدها مالكة الحقيقة المعيارية التي يلزم الشعب الانصياع لها من أجل بلوغ العقلنة المنشودة، عن طريق التكرار و العادة.
و بغية نشر هذا البرنامج، تتألف فئة وسيطة من نخبة من الناس، الاكثر حظوة و الاكثر قدرة على التأثير و المؤمنين بديانة العقل: ينبغي ان يستعملوا لغة ذات طابع رياضي، و يؤسسوا لتفكير عماده الاستنتاجات المنطقية؛ لكنهم ينبغي أن يسلكوا بحذر و أن يخفوا ببراعة أهدافهم. بمعنى أنهم ملزمون، لتحقيق أهدافهم، بأن يسلكوا طريقة الاقناع مع الاعتماد على المنهج الجدلي، كأن يكشفوا مظاهر التناقض التي يحويها الانجيل، للتمكن من هدم أسسه.
و رغم مرور ما يقرب من ثلاثة قرون و نصف على وضعه، لايزال هذا البرنامج الحالم و المبهر في آن، مقبولا الى يومنا هذا، فقد تمكنت أفكار سبينوزا من أن تصبح موضة هذا العهد، الذي أحست فيه النخب العلمانية و الملحدة بخواء فكري و عقدي. لكنه، من جهة أخرى، برنامج يحمل في طياته أخطارا قد تنتج عن نوع من استبداد العقل، و عن إفراط في النمذجة، أو نتيجة نوع من الفاشية العلمية.
عقيدة الخلاص و العودة:
على الرغم من اختلاف فكر سبينوزا عن الفكر القبالي في جوانب تم ذكرها، إلا انه يظل فكرا ذا مسحة تخليصية. بيد أنها مسحة تختلف عن نظيراتها القبالية أو الحسيدية[6] اللتان تتركان لكل فرد، مهما كان وضيعا أو جاهلا، ذكيا أو أميا، إمكانية اختيار طريق العودة او الافتداء التي يراها مناسبة و بالطرق التي تبدو له كفيلة بالمساهمة في المعرفة الكونية بالالوهية. أما سبينوزا فيقترح الخلاص على طريقة النخبة "قليلة السعادة"، القادرة على بلوغ المعرفة من النوع الثالث. لنذكر أن المعرفة من النوع الاول تكمن في الاعتقاد الخرافي للجموع. أما النوع الثاني فيتعلق بالعقل، في حين يرتبط النوع الثالث من المعرفة بـ"الماهية الصورية لبعض الصفات الالهية المفضية الى معرفة ماهية الاشياء". بمعنى أكثر وضوحا، يتعلق الامر بالحدس المبدع المؤسس على بحث عقلاني طويل و على جهد عميق و مضني: إنها منهجية الاكتشاف العلمي. فباكتشافنا للقوانين المحايثة للطبيعة، نكتشف الاله.
بدورها تقترح القبالة سبلا للبحث تقوم على التركيز و التأمل من شأنهما أن تقودا الى نوع من الحدس التنبؤي. إلا أنها، و بخلاف سبينوزا، لم تزح الجوانب اللاعقلانية في الانسان، بل تعاملت معها كما هي، سواء ارتبطت بالعالم المادي أم لا. أكثر من ذلك اقترحت على الانسان طرقا متعددة للسمو نحو الالوهية.
لقد كان سبينوزا، بحق، عبقريا و سابقا لزمانه، كيف لا و قد درس التلمود عن سن الثالثة عشرة. و يمكن أن نفترض كذلك أن إمكانية اهتمامه بالقبالة، التي كانت مزدهرة في أوربا منذ العصر الوسيط، لم تكن سوى من باب الفضول فقط. لكن الامر لا يعدو كونه مجرد فرضية مادام لم يثبت قطعيا أن سبينوزا كان لديه معلم قبالي. و لكن ربما كانت قراءاته [للقبالية] تتم في نوع من السرية؟ أما ما امتلكنا دائما اليقين بشأنه فهو أن سبينوزا حينما عمد الى وضع مذهبه الاخلاقي، اللاهوتي و السياسي، كان قد تأثر بالمذهب الديكارتي و بالعقلانية الحديثة الولادة آنذاك أكثر من تأثره بالباطنية اليهودية التي كانت تلائم متنصرا أندلسيا او على الاصح متنصرا أندلسيا سابقا.
لقد كان سبينوزا، على غرار المذهب القبالي، مصدر إزعاج كبير: فالعقل و المنطق مستخدمين في أقصى حدودهما ساهما في خلق انسجام و تماسك على النسق الفلسفي، و لكنهما بالمقابل أرعبا الاديان القائمة أكثر مما ألهما الفلاسفة قاطبة منذ ذلك العهد، و لم يجن سبينوزا من ذلك كله سوى الكره بدلا من الحب؛ فقد طرد من جماعته، إذ اعتبر مهرطقا و و شخصا خطيرا من طرف الكاتوليك و البروتستانت على السواء، و لم ينله من الفلاسفة الاخرين سوى الاساءة. عدا محاولة الاغتيال التي كان قد تعرض لها. إن ما يجعل من سبينوزا مصدر ازعاج، ليس كونه يقدم مبحثا في الفكر، و لكن كما هو الحال مع القبالة، كونه يقدم طريقا غير متفق حوله لبلوغ الحقيقة، و الادهى من ذلك أنه طريق يقوض الحقيقة التي كانت متعارفا عليها.
فأمام العسف الدوغمائي للديانات القائمة و المنظمة و أمام نتائجها المعروفة المتمثلة في الاقصاء و الطرد و القتل البشع و غيرها، حمل سبينوزا تباشير تحرير الانسان و تخليصه من ربقة القلق، معتقدا أنه مالك الحقيقة الوحيدة، غير مدرك أن المجتمع آنذاك لم يكن ليسمح له بذلك، كما أن العمر لم يسعفه، إذ سرعان ما تظافر السل مع المحن في التعجيل بموته ليترك للاجيال القادمة مهمة الجهر بما حوته بطون كتبه و من ثم إكمال المشوار[7].
أليست المحايثة و التعالي مجرد حلمتين في جسد العقل الكوني نفسه ؟



[1] الموسوعة الفلسفية المختصرة، إشراف د. زكي نجيب محمود، دار القلم بيروث، باب السين، اسبينوزا، ص 248.
[2] الموسوعة الحرة، ويكيبيديا.
[3] نفسه.
[4] ويل ديورانت، قصة الحضارة، الكتاب الحادي عشر، نسخة إلكترونية، ص 11425.
[5] نفس المرجع، ص 11429.
[6]الحسيدية أو "حسيدوت" بالعبرية، مصطلح يشيرالى الحركة الدينية الصوفية الحلولية التي أسسها وتزعمها بعل شيم طوف. (المترجم)
[7] عاش سبينوزا 43 سنة، في أواسط القرن 17، تقريبا في نفس الوقت الذي عاش فيه Shbetay Zvi، الرسول المزيف، و قد كان حتما على علم بهذه المهزلة الميتافيزيقية. لقد ولد في فجر العصر العلمي حيث بدأت بوادر اكتشاف العالم الجديد و الاحساس بقيمة العقل. و قد وجد نفسه ملزما بإقصاء كل لاعقلانية و كل خيال، كانت تمثلهما الاديان و الفكر الخرافي. و نحن لم نعلم بوجود منطقة في دماغ الانسان تتحكم في الجانب اللاعقلاني الذي هو ضرورة فيزيائية لا نستطيع اجتثاتها دون إحداث أضرار، إلا منذ زهاء نصف القرن. و بالمثل تخصص آخر المباحث حول تشكل الكون مكانة مهمة للظواهر الخارجة عن التحكم