مدارات - إدوارد سعيد ودانيال بارونبوئيم: أوركسترا الديوان الغربي – الشرقي
التاريخ: Thursday, September 25
اسم الصفحة: نتاجات ابداعية

أدونيس :-
يعرف المعنيون جميعاً أن فكرة «الديوان الغربي – الشرقي» ولدت في السنة 1998 بمبادرة من شخصين كبيرين: المفكّر عازف البيانو إدوارد سعيد، والمايسترو عازف البيانو دانيال بارونبوئيم. وقد أرادا من هذه الفكرة أن يُوجدا مكاناً – مَشْغلاً أو محترفاً، يلتقي فيه شبان موسيقيون فلسطينيون وعربٌ ويهودٌ للدراسة معاً، والتعارف القريب الوثيق في ما بينهم.


وقد تحققت هذه الفكرة، عملياً، بإنشاء «أوركسترا الديوان الغربي – الشرقي» في السنة 1999، تضم عازفين شباناً يهوداً وفلسطينيين ومصريين وسوريين ولبنانيين وأردنيين، إضافة الى مجموعة من الموسيقيين الألمان، وعزفوا معاً في فايمار في ألمانيا، لمناسبة مرور مئتين وخمسين عاماً على ولادة غوته صاحب الديوان المشهور الذي استوحي منه اسم الأوركسترا.


وانضمت الى الأوركسترا عازفة الفيولونسيل المشهورة «يو – يو ما». ويعرف الجميع أن «الديوان الغربي – الشرقي» لغوته شهادة عالية على إعجاب هذا الشاعر الكبير بالشعر الفارسي، وبالشعر العربي على السواء. وقد أكد صاحبا المبادرة أن مشروعهما هذا فنّي خالصٌ لا علاقة له بالسياسية إطلاقاً، موقنين بأنه لا يمكن أن يكون هناك حلٌّ عسكري للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.

هكذا يكون الهدف من هذا المشروع تنمية التفاهم بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتعميقه، بوساطة المعرفة، وبخاصة في شكلها الإبداعي الرفيع: الموسيقى، والعمل على افتتاح طريق لحل سلمي عادل ودائم.


تتألف الأوركسترا من حوالى ثمانين عازفاً تتراوح أعمارهم بين 13 و26 سنة، وتجتمع كل صيفٍ من كل سنة، للعمل معاً على مدى شهرٍ كامل، قبل أن تقوم بجولة في مختلف أنحاء العالم. وقد اتخذ المحترف مقراً له، منذ 1999، في مدينة فايمار بألمانيا.
ثم انتقل الى شيكاغو، سنة 2000. وفي السنة 2002 استقرّ في أشبيلية بفضل مساعدة إدارية ومالية من الإدارة المحلية في الأندلس. وانضم الى الأوركسترا عدد من الموسيقيين الإسبان.
وفي هذه السنة نفسها منح صاحبا المبادرة إدوارد سعيد ودانيال بارونبوئيم، جائزة أمير آستوريا في أوفييدو في إسبانيا تحية لعملهما من أجل السلام. في السنة 2003 في آب (أغسطس)، عزفت هذه الأوركسترا في الرباط في المغرب، البلد العربي الأول الذي استقبلها. وفي السنة 2005، في آب كذلك، عزفت في رام الله.
وكان ذلك حدثاً رمزياً كبيراً. وفي السنة 2006 عزفت في قصر الحمراء في الأندلس. وفي السنة 2007 شاركت في مهرجان سالزبورغ. وفي هذه السنة 2008 عزفت في باريس في صالة بلييل، بعد جولة في إسبانيا وإيطاليا وبريطانيا والدنمارك وبرلين.


* تقديراً لهذا المشروع وإعجاباً به، التقيت في باريس بدانيال بارونبوئيم، في حضور السيدة مريم سعيد، زوجة الراحل الكبير، إدوارد سعيد والتي تخلفه في هذا المشروع، عشية تقديمه حفلته الموسيقية في قاعة بلييل، في 25 آب الماضي، وكان بيننا حوار يسعدني أن أقدم لقرّاء هذه الصفحة خلاصة عنه، في ما يأتي:
** مشروعكما هذا، إدوارد وأنت، ليس كما يبدو مجرد مشروع موسيقي...

- صحيح. إنه، بالإضافة الى ذلك، منبرٌ عامٌ، أو منتدى مفتوح، من أجل التأمل والحوار في كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي. فعبر التبادل والتفاعل الثقافيين بين الفنانين، يمكن أن يلعب هذا المشروع دوراً بالغ الأهمية فيسهم في تجاوز الخلافات السياسية والثقافية القائمة بين البلدان التي ينتمون إليها. وهو في ذلك يقدم أنموذجاً جميلاً للديموقراطية، وللتعايش المتحضر. وكان إدوارد يعتقد أن هذا المشروع بداية، يتخذ من الفن منهجاً وطريقة في التقارب والتفاهم، وفي معرفة الآخر. خصوصاً أن المتضادات تتلاقى، كما تعرف، في الموسيقى، وتتناغم. وقد دعمت إسبانيا، على نحو خاص، هذا المشروع، استمراراً للتعايش النموذجي الذي أسس له العرب في الأندلس، بين الشعوب والأديان والثقافات. وفي المشروع أيضاً بعدُ ثقافي يتمثل في تعليم الموسيقى، ودعم الموهوبين موسيقياً، والعمل على فتح أبواب العالم أمامهم.

** هذا المشروع يعمل كما تقول للتعايش والحوار والتفاهم. ألا تلاحظ أن العرب قدموا في هذا الإطار ويقدمون الكثير من أجل هذا كله، بينما لم تقدم إسرائيل شيئاً. تريد أن تأخذ كل شيء، من دون أن تعطي أي شيء.

- صحيح. وعليها أن تدرك، أساسياً، أن أمانها وأمنها لا يكمنان في جيشها، ولا في أسلحتها، وإنما يكمنان في الاعتراف بحقوق الفلسطينيين، وفي الحوار، وفي السلام العادل والدائم.


** الغريب أيضاً أن المثقفين اليهود في العالم، خارج إسرائيل، لا يمارسون، باستثناء قلة قليلة، أي ضغط على السياسة الإسرائيلية، من أجل السلام.
- هذا صحيح أيضاً، ومؤسف. لكن لا يجوز أن يثنينا عن متابعة نضالنا من أجله ومن أجل العدالة، والتعايش الكريم والحر على هذه الأرض الواحدة: فلسطين. نواة هذا التعايش نجدها في «أوركسترا الديوان الغربي – الشرقي»: أربعون في المئة من الأفراد الذين يكوّنونها عرب، وأربعون في المئة يهود، والآخرون من جنسيات أخرى.
** أنت متفائل، حقاً...:
- على مدى بعيد. لكن في المدى المنظور، لا أكتمك بأنني لست متفائلاً. بل يمكن أن أقول إنني متشائم. لذلك يجب أن نخلق مناخاً عقلياً يؤدي بالضرورة الى الحوار الذي يؤدي الى إقامة السلام. والموسيقى تساعدنا. فهي قائمة على التناقض المتناغم. ألاّ يرى الإنسان إلا تاريخه الفاجع الخاص، مهملاً تاريخ الآخر الفاجع هو أيضاً، أمرٌ يجب أن يتخلص منه الإسرائيليون. يجب أن يتفهموا واقع الفلسطينيين المأسوي، وتاريخهم المأسوي أيضاً. بهذا وحده نتجاوز الماضي، ونتقدم نحو المستقبل.
** في كتابك الجديد «الموسيقى توقظ الزمن»، الصادر عن دار فايّار، في باريس هذه السنة 2008، تتحدث عن رؤيتك للمسألة الفلسطينية – الإسرائيلية بصفتك تحمل الجنسية الفلسطينية، رسمياً، الى جانب كونك تحمل الجنسية الإسرائيلية. حبذا لو توجزها للقراء العرب.


- في رأيي أن الفكر والحسّ الأخلاقي أمران لا ينفصلان. وأظن أن الحِسّ الأخلاقي جزءٌ لا يتجزأ من الرأسمال التاريخي الذي يملكه الشعب اليهودي، وأنه أتاح له أن يستمر متخطياً أشكال العداء للسامية في أبشع صورها. دولة إسرائيل، اليوم، آخذة في تبديد هذا الرأسمال بسبب احتلالها المستمر، والمستوطنات التي تقيمها على أرض ليست لها. الحاجة الى المعايير الأخلاقية كانت دائماً جذراً أساسياً في الفكر اليهودي عبر التاريخ. والعدالة (لا المحبة، كما في المسيحية) كانت دائماً مركز الفكر الديني اليهودي.

وهكذا فإن إبادة اليهود جريمة وحشية لا يجوز أن تتكرر، ليس بالنسبة الى الشعب اليهودي، وحده، بل بالنسبة الى جميع الشعوب. ذلك أن إبادتهم مسألة إنسانية كونية. وعندما نقول نحن اليهود، لا يجوز أن تتكرر هذه الجريمة، فإننا نعني، غالباً، الشعب اليهودي وحده – في حين أنها لا يجوز أن تتكرر في أي مكان، وأي زمان، وضد أي شعب.
وأنا مقتنع بأن القدرة على فهم هذا الأمر بهذه الطريقة هي التي تتيح لإسرائيل الوضوح في النظر، وتوفر لها إمكان التعاطف الضروري مع الفلسطينيين. وإذا كان صحيحاً أن الفلسطينيين لا يستطيعون أن يقبلوا إسرائيل، إلا بقبول تاريخها، ومن ضمنه الإبادة، فمن الصحيح أيضاً أن إسرائيل لا تستطيع أن تقبل الفلسطينيين كمتساوين مع اليهود، ما دامت الإبادة معياراً أخلاقياً وحيداً، خاصاً بها وحدها.
ولئن كانت إسرائيل تريد أن تجد لها مكاناً دائماً في الشرق الأوسط، فإن عليها أن تصبح جزءاً عضوياً منه، وأن تعي الثقافة القائمة فيه قبلها، وتتفهمها، بدلاً من ادعائها الذي طالما رددته بأنه ليس في هذا الشرق غير الصحراء والجهل. إن على الإسرائيليين، من أجل ضمان أمن إسرائيل، أن يفتحوا عقولهم على الثقافة العربية وأن يُصغوا إليها.
وليس معنى ذلك أن ينكروا جذورهم الغربية، بل معناه بالأحرى أن يمدوا هذه الجذور بغذاء جديد هو التراث الثقافي عند العرب. وما دامت إسرائيل مغلقة ضد التأثر العقلي والثقافي بجيرانها، فإنها ستظل جسماً غريباً. وقد يؤدي ذلك الى نتائج كارثية. لا يقدر عضوٌ غريبٌ أن يوجد في مجتمعٍ أو موسيقى أو جسم إنساني إلا فترة قصيرة ومحدودة. وهنا أذكّر بالفيلسوف اليهودي الإسرائيلي مارتن بوبر، وبما سماه «الاقتضاء الفكري». فهو يعني أن فلسطين أرضٌ لشعبين، ليس تاريخهما واحداً، لكن حقوقهما واحدة. هكذا كان يقول: «لا سلام بين اليهود والعرب إذا كان مجرّد إيقافٍ للحرب.

يكون سلامٌ بينهم إذا كان تعاوناً صادقاً وصحيحاً»، وأقول بعبارة ثانية: السلام يقتضي الحوار، وإن كان أليماً، أحياناً. ربما أطلت. مع ذلك أريد أن أضيف مختتماً بما قلته مرة في الجامعة العبرية في القدس، في السنة 1996: قد نفهم تحديد اليهودي الأرثوذكسي (للأرض المحتلة، بصفتها «أرضاً محررة»)، لكن الأكثر تعقيداً هو تحديد اليهودي العلماني. وما دمنا لا نقدر أن نقدّم تحديداً، ولا نقدر أن نشرح ما يدفع شخصاً لأن يكون وأن يشعر بأنه يهودي، فإننا لن نقدر أن نشرح لأنفسنا أساس وجودنا، ولن نقدر أن نتحاور في ما بيننا، ولا مع جيراننا الفلسطينيين.

إنني أنتمي الى ذلك الاتجاه الفكري اليهودي المنخرط في كونية التجربة الإنسانية، والمنتمي إليها: سبينوزا، هاينرش هاينه، مارتن بوبر، وسيغموند فرويد، تمثيلاً لا حصراً. فهؤلاء لم يكونوا يميزون أو يفرّقون بين اليهود والآخرين. الأحزاب السياسية الدينية في إسرائيل تمثل التعارض الأقصى مع رحابة هؤلاء المفكرين، وآفاقهم النظرية الإنسانية الواسعة. هذه الأحزاب تنظر الى الأرض المحتلة، بصفتها «أرضاً محررة» كما أشرت، أو بصفتها، وهذا أسوأ، «أرضاً توراتية محررة».
**في الفن، في الموسيقى بخاصة، ما يستجيب لهذه الرحابة، وما يوسّع حدودها كذلك...


- صحيح. يمكن الموسيقى أن تكوّن نموذجاً للمجتمع. فهي تعلّمنا أهمية التشابك العلائقي بين الشفافية والقوة والسلطة. وعلينا أن ننظر الى الموسيقى نظرتنا الى الوجود الإنساني. الموسيقى حركة دائمة – نموّ وتغيّر وتحوّل. لا شيء ثابت. حتى الجملة الموسيقية المكررة، يجعلها مرور الزمن مختلفة. والكائن الإنساني هو نفسه متغيرٌ باستمرار. وخصوصية الموسيقى هي في أنها تخاطب الإنسان في مختلف أحواله ومظاهره – الحيوانية، والانفعالية، والعقلية والروحية. باختصار، تعلّمنا الموسيقى أن كل شيء مرتبط بأي شيء، بكل شيء.
**إدوارد سعيد مفكراً شرقياً – غربياً
أستعير من غوته اسم ديوانه الغربي الشرقي، وأسمّي إدوارد سعيد المفكر الشرقي – الغربــي. ليس لأنه يجمع في فكره بين الغـــرب والشـــرق، أو يـــــؤالف بينهما، كما فعل ويفعل بعضهم، بل لأنه يتخطى ذلك فيعيد النظر فيهما معاً، مخــــترقاً الحدود التي تفصل ما بينهما، معيداً خلقــــهما، وخلق العلاقات بينهما، كما لو أنه يؤلف قطعة موسيقية أو يبدع قصيدة. ينظر إدوارد سعيد الى الشرق العربي بصفته موضوعاً مسكوناً بالغرب وجزءاً منه، في معزل عن النزوع الاستعلائي الساذج عند بعض المسلمين والعرب، وينظر الى هذا الغرب، لا بصفته مجرد تقنية أو مجرد سوق، بل في حقيقته من داخل.

هكذا يرجّ نظرتيهما الى العالم، ويزلزل سياساتهما، بحيث يبدوان متشابكين، معاً في بؤرة فكرية واحدة، وفي محرق سياسي واحد.

ويجسّد نظرته هذه في نموذج للتعايش الإنساني بين الأطراف هو إنشاء دولة واحدة عربية – يهودية على أرض فلسطين، دولة هي في العمق شرقية – غربية. يتميز إدوارد سعيد، في هذا المجال، ببعدين خاصين به: الأول هو أن رؤيته للعالم لا تنحصر في النظر المجرد، وإنما تقترن بالعمل، أو بكيفية بناء هذا العالم على أسس إنسانية عادلة وحرة. والثاني هو أن هذه الرؤية مسكونة بحساسية الفنان الذي لا يكتفي بتفسير العالم وإنما يتخطاه الى التغيير، راسماً له صورة جديدة.
وفي هذا يتم تقاطع تراجيدي بين التاريخ والواقع، يتحول بكيمياء خاصة الى صراع تراجيدي بين الحاضر والمستقبل. تصبح الهوية نفسها عصية على الاختزال الأيديولوجي أو القومي، لتغدو انفتاحاً. لا تعود الهوية إرثاً جاهزاً، وإنما تصبح ابتكاراً متواصلاً. وهكذا تختزن كتابته الطاقة الخلاقة التي تعاند الذوبان في انتماء محدد ومغلق.


يصح إذاً القول إن إدوارد سعيد أعطى للفكر بعداً شعرياً يؤسس لكل ما يتيح للكائن البشري أن يعيش على هذه الأرض بكينونته كلها: انفعالاً وتعقلاً، أحلاماً كبيرة لا يحدّها الواقع، واعتباراً واعياً ونفّاذاً لهذا الواقع نفسه، شجاعة في اقتحام الحياة وحباً لها بتفاصيلها وأجزائها جميعاً. إنه فكرٌ يصل الأشياء والأفكار بسياقاتها وقرائنها، بما يتقدمها ويلحق بها، في تشابك وتلاحم، عضويين. هكذا يبدو لي أن إدوارد سعيد يؤسس لفكر هو نفسه مشروع منفتح. وهو مشروع شامل وكلي، كما نقول عن عمل فني إنه شامل وكلّي.

إننا نجد فيه، بصفته كذلك، البهاء المأسوي عند سوفوكليس والصفاء العقلي عند أرسطو. أو لنقل تمرّد المتنبي وعقلانية ابن رشد. في هذا الأفق أقرأ هذا المساء(1) وفاءً لإدوارد سعيد الصديق، وتحية لذكراه العالية، شاكراً السيد رئيس الجامعة، والأصدقاء الذين نظّموا هذا اللقاء، وأساتذة هذه الجامعة. ولكم جميعاً أيها الحضور الكريم شكري وامتناني.
* نَصّ الكلمة التي سيقدّم بها أدونيس لأمسيته الشعرية، في 28 أيلول (سبتمبر) الجاري 2008، في جامعة كولومبيا، في نيويورك، مشاركة منه في إحياء الذكرى الخامسة لرحيل إدوارد سعيد.

عن مرافىء