النتائج 1 إلى 4 من 4

الموضوع: إداورد سعيد

  1. #1 إداورد سعيد 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    ادوارد سعيد اخر العمالقة جاء من فلسطين





    قبل عام غيب الموت المبدع العالمي والرمز الثقافي الفلسطيني - الأمريكي البروفسور ادوارد سعيد .. كان الرجل يعرف انه مقبل على الموت بسبب مرض العضال، فأنتظر موته بصبر ، لكنه قبل ان يسافر الى العالم الآخر ترك آخر أعماله على شكل مذكرات، فأغنى الحياة الثقافية والمكتبة العالمية بمؤلف جديد وفريد.
    رحل ادوارد سعيد لكن أعماله الكبيرة بقيت معروضة لمن يبحث عن المعرفة وللذين بمقدورهم الغوص فيها للبحث والدراسات والتنقيب عما هو جديد. الكتابة عن هذا الصرح الحضاري والثقافي العالمي ليست بالسهلة، لأن الذي يريد الدخول في عالمه عليه الكتابة عن الرجل كشخص وعنه كقضية وطنية وثقافية ونسخة عن شعب موزع ومشتت في الأرض قاطبة،وبعيدا عن وطن سلب ، سرق، أغتصب واستعمر على مرأى من عالم ساهم في الزيّف والخداع وتكريم ضحيته بنحر ضحية أخرى قربانا لها. ذاك المنطق أكد سابقا ويؤكد الآن على عدم وجود فارق كبير بين الذين يقطعون رؤوس الضحايا الأجانب المختطفين في العراق وبين الذين قطعوا رؤوس الفلسطينيين في النكبة والنكسة والانتفاضة وما بينهم من أزمنة.ليس الصراع بين الشرق والغرب سوى تسمية خاطئة لبرامج حرب خاطئة،إذ لا يوجد حوار حقيقي أو حوار بمعناه العلمي بين الشرق والغرب. وعدم وجوده لا يعتبر دليلا على انعدامه، بل تكريس طبيعي لحالة الفوضى التي تسود العالم منذ عاصفة الطائرات الأيلولية في نيويورك وواشنطن. ثم أن الصراع الحق والطبيعي والحقيقي يجب أن يكون لا بين الشرق والغرب أو بين الديانات بل بين الحق والباطل. فسيطرة وهيمنة القوي على الضعيف هي من أهم أسباب بروز معوقات الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات. الصراع هذه الأيام يدور بين رؤوس تفكر وأخرى تعادي الفكر، وبين أموال وشركات ضخمة مستعمرة تمتص دماء الفقراء لصالح الأغنياء، هو صراع بين رؤوس تقطع لأجل هذا وذاك هنا وهنالك وهناك، وبين قطاعين للطرق وللرؤوس وللأرزاق ينتشرون في عالم اليوم.كان المرحوم ادوارد سعيد من المثقفين الموسوعيين الذين اهتموا بأصناف كثيرة من العلوم والاختصاصات،حيث لم يكن مفكرا، مستشرقا وناقدا أدبيا فقط لا غير، بل كان أيضاً من المهتمين بأمور أخرى كثيرة مثل السياسة والرياضة و الموسيقى والرقص الشعبي ( كان ادوارد سعيد عازف بيانو ممتاز، وكان له عامود نقدي ثابت عن الموسيقى في مجلة اليسار الأمريكي " ذا نيشن "التي هي مجلة المثقفين الأمريكان اليساريين) وقد كتب ادوارد سعيد دراسات هامة في الموسيقى أهمها "من الصوت الى الصمت وعود على بدء". وقد وظف سعيد علاقاته القوية والمتينة مع عظماء المويسقى في العالم مثل عازف الكمان اليهودي الراحل مينوهين. كذلك مع الشهير الارجنتيني اليهودي دانيال بارينباوم قائد الأوركسترا المعروف. وقد أثمرت تلك الصداقة مع الموسيقيين اليهود فأنتجت مدارس موسيقية استقطبت واستقبلت طلبة من فلسطين، وكذلك نتج عنها مواقف تدين إرهاب إسرائيل الممارس ضد الشعب الفلسطيني، وهي مواقف هامة لأنها تصدر عن يهود مشهورين ومعروفين، ومواقفهم هذه ستساعد الآخرين على اتخاذ مواقف من الصهيونية وأعمالها الإجرامية في فلسطين المحتلة.بحسب المترجم والباحث صلاح حزين " يتناول سعيد فكرة الصوت والصمت باعتبارهما مكونين أساسيين من مكونات الموسيقا حيث الصمت موسيقا أيضا، ويطبقها على التاريخ وحركة المجتمع، فيرى أن الصمت ليس سوى صوت المقموعين والمهمشين والمضطهدين عبر التاريخ، وأن الانتفاضات الفاشلة التي قام بها هؤلاء عبر التاريخ لم تكن سوى تعبير صامت عن قمعهم وظلمهم واضطهادهم، فالانتفاضة حين تفشل تتحول صوتا مقموعا، تتحول صمتا." ولا بد ان الشعب الفلسطيني الذي أطلق العنان لصرخته المدوية في الانتفاضة الثانية قد تعلم من الانتفاضة الأولى واستفاد من نظرة ادوارد سعيد تلك. فالصوت الصارخ يجب ان يخترق خزان الصمت ويصل الى الهدف المحدد.



    عمل و درس ادوارد سعيد أيضا في صباه في الغابات وتقطيع الأخشاب وكان طالبا نشطا ونوعيا في تلك الفترة من عمره. وادوارد سعيد لم يكن معروفا في العالم العربي مثلما عرف وذاع صيته في الغرب. كما أنه لم يقرأ بالشكل الصحيح في عالمنا الذي أصبح صعبا عليه تمييز الصحيح من الغلط في هذا الزمن الصعب، الزمان الرخو. لذا لا يمكن إعطاء الرجل حقه إلا عبر دراسة أعماله التي تخطت فلسطين والعرب لتكون عالمية واسعة الانتشار والسمعة، إذ لا تخلى مكتبة عالمية أينما كانت من أعمال ومؤلفات ادوارد سعيد وأهمها الاستشراق. وحين يسأل الفلسطيني عما يفخر به أمام الناس في العالمين وبالذات الغربي منه يكون أحد أهم أجوبته : ادوارد سعيد...عرف عن ادوارد سعيد حبه ومساندته ودعمه الشديد للمظلومين في العالم ، لذا فحبه ودعمه لقضية فلسطين لم يكن عبر العاطفة والقلب وبحكم الأصول والجذور والانتماء العائلي والمكاني والعصبوي، بل نتيجة لما رآه وشاهده وعرفه من وعن الظلم الكبير الذي لحق بشعب فلسطين. وقد امتاز ادوارد سعيد بمعرفته الواسعة لعالم الغرب العادي والأكاديمي حيث عرف الفكر الغربي و الحضارة والعقلية والثقافة الغربية ودرسهم بعمق حتى فهمهم فهما موسعا، دقيقا وعميقا ساعده في ترسيخ مكانته الثقافية والفكرية. يقول الدكتور أحمد محدوبة أستاذ الأدب الأمريكي في الجامعة الأردنية: "أول ما سمعت بإدوارد سعيد كان في خريف عام 1980 عندما كنت طالباً في جامعة كورنيل، وهي إحدى الجامعات الثماني المشار إليها أعلاه، عندما أتى أستاذ مادة:”نظريات النقد والفكر الحديث” على ذكر إدوارد سعيد من بين عدد قليل من عمالقة النقد الفلسفي الغربي.المغزى من هذا كله أن إدوارد سعيد هو من بين القلائل الذين اخترقوا الحضارة الغربية، وسبروا غورها من داخلها، ثم قلبوا مفاهيمها التقليدية رأسا على عقب، محدثين في علوم التفسير والقراءة والتحليل، وفي الخطاب بوجه عام، نقلة ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني. إدوارد سعيد يقدم في الغرب على أنه من عمالقة الفكر الغربي نفسه، لا على أنه دخيل عليه".إذن الرجل أوسع من ان تنحصر سمعته او ثقافته في الثقافة الفلسطينية وحدها لذا فهو عالمي وموسوعي ومعرفي صاحب مساحة تمتد الى ما لا نهاية في عالم الفكر، مثقف ومفكر بكل معنى الكلمة، لكي نستطيع فهمه، فنحن والآخر بحاجة لمثقف من وزنه هو نفسه يستطيع تحليل ودراسة "إستشراقه" وفكره ورؤيته. وقد كان الأكاديمي والشاعر الدكتور محمد عبيد الله دقيقا حين قال : " ربما أن اكتشافنا نحن العرب ادوارد سعيد جاء متأخرا بعض الشيء، على الرغم من أن بعض انتاجه قد نُقل الى العربية مبكرا. لكن الانتباه الى عالميته والى تأثيره الطاغي انطلاقا من تلك العالمية كان متأخرا بعض الشيء.. وما يُخشى منه حقيقة أن يتحول الاكتشاف المبهور بادوارد سعيد الى نوع من التصنيم المناقض للحرية في البحث والثقافة وفي الجدل السياسي وهو ما دافع عنه ادوارد سعيد نفسه.. أي أن يتحول سعيد اسما وفكرا الى سلطة أخرى من تلك السلطات التي سعى الى نقدها وتفكيك خطاباتها."..لقد حرص ادوارد سعيد على ان يكون الهم الفلسطيني همه لأنه بالأساس ضد الظلم ومع الحق والعدالة للإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعقيدته وجنسه، وقد مثل ادوارد سعيد قضية شعبه خير تمثيل على طريقته ووفق رؤيته التي رفضت التعصب والتزمت وكانت منفتحة على الدراسة والتحليل والتدقيق والتمحيص في كافة المجالات وحتى في إخضاع المسلمات للفحص والنقد. كان الرجل موضوعيا ومنطقيا وصاحب فكر منفتح ساعده في تأطير الأنصار والأصدقاء للقضية وخاصة في الجانب اليهودي العالمي. في السابق وقبل ان يفهم البعض طريقة فهم وتفكير الغرب كانوا يقفون ضد توجهات الانفتاح على الغرب والأخذ بعين الاعتبار رؤيته للصراع. ثم هناك منهم من أعتبره خرقا للثوابت الفلسطينية، لكن وبعد أن عرفت المواقف وعاشوا في الغرب وتعرفوا على ناسه وطرق تفكيرهم ومواقفهم صار لديهم استعداد لفهم مواقف ادوارد سعيد ومنهم من ذهب ابعد من ذلك وتبناها تماما.لقد دخل الفلسطنيي المثير ادوارد سعيد الى وطنه فلسطين من بوابة العالم والفكر والثقافة والحضارة التي لا تقبل بالظلم والامتهان، فكان فلسطينيا كما هو عالمي، ومن العجيب ان بعض الفلسطينيين الرسميين وبالذات المنتفعين عادوه وحاربوه لأنه وقف ضد اتفاقيات اوسلو والقيادة الفلسطينية التي لم تستشر شعبها بما أقدمت عليه في لقاءات و حفلات المفاوضات والاتفاقيات مثل اوسلو وأخواتها. اعتبر سعيد اتفاقية اوسلو كارثة على الشعب الفلسطيني أولاً لان الذين فاوضوا ووقعوا واتفقوا يحهلون حتى اللغة الإنكليزية وليسوا متمكنين منها بشكل يؤهلهم للقيام بذلك، وثانيا لأنهم تنازلوا عن الحقوق مقابل لا شيء مضمون، وقد عقب عليهم " لأول مرة في القرن العشرين تقوم حركة تحرر وطني على التفريط بإنجازاتها الضخمة وتقبل التعاون مع سلطة الاحتلال، قبل ان تجبر هذه السلطة على الاعتراف بعدم شرعية احتلالها للأراضي بالقوة العسكرية". وقد كتب أيضا في هذا المجال الكثير من المقالات وهناك مؤلف كامل بعنوان غزة أريحا فيه مجموعة مقالات هامة لادوارد سعيد عن هذا الموضوع. لقد غضب عليه "الأوسلويون" لأنه قال ذلك. لكنه لم يعيرهم كثير اهتمام وكتب فيما بعد أنهم لا يملكون شرعية أو حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني والتنازل عن حقوقه الشرعية. فقد عرف ادوارد سعيد أن هذا هو دائما حال الفلسطيني عندما يقف في صف معارضة الحاكم وحاله كحال أي عربي ينطق بحرف الضاد ويعيش شرق المتوسط. لقد أدرك ادوارد سعيد مكانة الحوار بين الأمم لذا كان رافضا للحوار الشكلي مع الآخر فهو أراده حوارا منتجا مثمرا لا فارغا ومموها يعطي البعض مكاسب شخصية آنية ثم تنتهي القضية الأساسية بكارثة تاريخية، من هنا رفض اوسلو وعلى هذا الأساس جاء تقديم الكاتب الصحفي العربي الكبير محمد حسنين هيكل لكتاب غزة/ أريحا كالتالي " إن مسافة الاستقلال التي يحتفظ بها سعيد بعيداً عن المؤسسة السياسية جعلته الأقرب إلى كبرياء العالم والتزام المفكر وأحزان الوطني الذي رأى أن يأخذ قضيته ويذهب بها إلى الناس محتفظاً لها بكل جلال الفكر ورقيه".امتازت مواقف الراحل ادوارد سعيد بالجرأة العالية في مواجهة الحركة الصهيونية واللوبي اليهودي وكيان إسرائيل مما جعله مُحاربا بقوة من قبل تلك الجماعات واللوبيات وبعض أركان الفكر والثقافة والسياسة من المتصهينين في زمن انفلات القوة الأمريكية وسياستها التي لا تهادن ولا تجامل ولا تعير العقل والمنطق والقانون أي انتباه. لكنه التزم بموقفه الواضح من حرب أمريكا وحصارها للعراق وضوح موقفه من نظام البعث والرئيس المخلوع صدام حسين. فعارض الحرب بشدة مثلما عارض قبلها الحصار، وأدان الإدارة الأمريكية واتهمها بالتسبب في موت مئات آلاف العراقيين نتيجة الحصار الاقتصادي. وقد هاجمه البعض بسبب تلك المواقف المعلنة، دون أن يقدموا طرحا علميا مضادا لمواقفه الجريئة والإنسانية قبل أي شيء آخر.توفي ادوارد سعيد يوم الخميس في الخامس والعشرين من أيلول سنة 2003 في احد مستشفيات نيويورك، وقد قال يومها كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة "بغيابه سيصبح العالم العربي وأمريكا أكثر فقراً".. و كان ادوارد سعيد ولد في مدينة القدس الفلسطينية في الأول من تشرين الثاني 1935 من ابوين فلسطينيين، كان والده التاجر المسيحي الفلسطيني من أثرياء المدينة ويحمل الجنسية الأمريكية. بعد النكبة الفلسطينية الكبرى استقرت العائلة في مصر ولبنان أما ادوارد فقد درس في الولايات المتحدة الأمريكية وتخرج من جامعة برنستون، ثم نال الدكتوراه من جامعة هارفرد عن أدب الإنكليزي من أصول بولندية جوزيف كونراد. أصبح بعدها اشهر أستاذ للأدب المقارن في جامعة كولومبيا الأمريكية وأحد أهم المفكرين في العالم. وله 18 مؤلفاً ، كتابه الأول كان عن جوزيف كونراد في العام،1966 والأخير قد يكون عن“فرويد وغير الاوروبيين” (فيرسو - لندن، نيويورك)، عبارة عن محاضرة ألقاها في متحف فرويد في لندن، ومن كتبه أيضا : الاستشراق ، البدايات 1978 ، لوم الضحية 1978 ، مسألة فلسطين 1979 ، الأدب والمجتمع 1980، إكتشاف السلام 1981، العلم والنص الناقد 1983، بعد السماء الأخيرة 1986، الثقافة والامبريالية 1993، القلم والسيف 1994 ، غزة وأريحا 1994، اوسلو 2 سلام بلا ارض 1995، ومجموعة اصدارات أخرى أجملها كتاب خارج المكان - Out of Place - الذي يروي سيرته الشخصية، كتاب سيرة ممتع وأكثر من رائع. وجدير بالذكر ان كتابه الاستشراق تُرجم الى ستة وعشرين لغة.لقد كان ادوارد سعيد مثقفا عربيا، عالميا موسوعيا عاش في قلب الغرب وعرفه وفهمه وأصبح من أهم أساتذته ومفكريه ومراجعه العلمية وعمالقته، وقد خدم الثقافة العربية خير خدمة حين فضح الاستعمار في كتابه الاستشراق. لذا فأن على العرب واجب تكريم الرجل عبر افتتاح مكتبة أو متحف يضمان كل شيء عن حياته وأعماله خاصة ان في أمريكا هناك من ينادي بشطب تراث ادوارد سعيد. دفن ادوارد سعيد في لبنان حيث مسقط راس زوجته وبناءا على وصيته، ليصبح فلسطيني المولد، مصري الطفولة، أمريكي الحياة ولبناني القبر وعالمي الفكر والرؤية.
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    مريم سعيد: هكذا كانت حياتي مع إدوارد!
    محمد شعير
    السبت 1/4/2006

    أربع وعشرون ساعة قضتها مريم سعيد أرملة المفكر الراحل إدوارد سعيد في القاهرة الأسبوع الماضي.التقت فيها بالدكتور جابر عصفور الأمين العام للمجلس الأعلي للثقافة للاتفاق علي نشر ترجمة لبعض أعمال سعيد في المجلس.كما حرصت علي مشاهدة بالية (زوربا) الذي كان معروضا في دار الأوبرا.قبل سفرها التقينا بها لنعرف منها بعض الجوانب الخفية في حياة المفكر الراحل.
    سألتها في البداية عن زيارتها للقاهرة؟

    أجابت: ليست زيارة شخصية، إنما زيارة عمل خاصة لاستكمال مشروع إدوارد سعيد الموسيقي الذي بدأه مع الموسيقي الأرجنتيني اليهودي الشهير دانيال بارينباوم قائد الأوركسترا المعروف. والمشروع هو اوركسترا ديوان الغرب والشرق وهو مشروع إنساني لتعليم الموسيقي ومعرفة الآخر حيث يعزف العرب واليهود الموسيقي سويا، ويمكنهم التعرف علي بعضهم البعض وهو ما يفتح المجال لتعايش إنساني يكسر جدار الكراهية .وإدوارد كان يؤمن في نهاية حياته أن حل القضية الفلسطينية يكمن في دولة علمانية واحدة.وقد جئت مع مجموعة من الأساتذة الألمان لعمل اختبارات لمجموعة من التلاميذ المصرين لاختيار بعضهم للانضمام إلي الاوركسترا. وسوف نقيم (ورشة عمل) في أسبانيا الصيف القادم لتدريبهم، لأن المشروع يتبناه الأسبان.واختيار الأسبان للمساهمة في المشروع ذو دلالة لأن العصر الذهبي للحضارة الأندلسية كان في الوقت الذي استطاعت فيه الأديان الثلاثة أن تعيش سويا في سلام ولم تكن هناك تفرقة علي أساس ديني.

    وهل هناك مؤسسات عربية رسمية مشاركة في المشروع؟


    لا، المشروع خاص ، نحن نختار نصف المشاركين من كافة الدول العربية، ومثلهم من إسرائيل ثم نقوم بتدريبهم ،ثم يقومون بجولة إلي عدة مدن. وقد عزفوا في الرباط بالمغرب،وفي رام الله.وكانت أمنية إدوارد أن يعزف الاوركسترا في جميع المدن العربية. وكان يري أنه إذا حدث ذلك سيكون برهانا علي أن الإنسان يستطيع أن يتعامل مع الآخرين بدون الحكومات الرسمية. هذا هو الجانب الإنساني للمشروع،أما الجانب الآخر فهو مشروع تعليمي،فقد كان إدوارد يؤمن أن التعليم العادي يطور العقل،ويفتح الآفاق، ولكن تعليم الموسيقي يطور الشعور. وإذا تكامل الاثنان سيخلقان جيلا جديدا منفتحا علي المستقبل،جيل يمكن أن يفكر بطريقة مختلفة، عما عودته عليه الحكومات العربية وتمكنه من أن ينهي هذه الكراهية.وكان يري أن الحل العسكري لن يصل بنا علي نتيجة، بل المزيد من الدماء.ووجد الحل في فتح الآفاق والحوار من خلال الموسيقي.وخاصة أن المتفوقين من العرب كانت المؤسسة ستتحمل تكاليف دراستهم في أوروبا،ليعود بعد ذلك ليعلموا الآخرين.وبعد وفاة إدوارد قررت أنا وعائلتي أن نستكمل المشروع الذي كان قريبا جدا إلي قلبه.
    * * *
    لا تحب مريم سعيد أن تحكي كثيرا عن حياتها الشخصية وعلاقتها مع المفكر الراحل،لأنها تري أن علاقتها بإدوارد كانت شيئا شخصيا تخصها وحدها هي وعائلتها.ولكنها تحدثت عن المرة الأولي التي التقت فيها إدوارد سعيد. التقيا صدفة في بيروت ،كانت صديقه لأخته حيث يدرسان سويا في الجامعة.ثم تقدم لخطبتها وتزوجا لتسافر معه إلي نيويورك.
    إدوارد سعيد ..شخص مهدد دائما نتيجة ما يكتبه ويعلنه من أراء،يكرس لعمله وقته ومشغول دائما،وعلي سفر دائم...كيف كنت تتعاملين مع نمط حياته؟
    حياتنا كانت إلي حد ما تسير وفق النمط الغربي، مليئة بالعمل الشاق ،فقد كنت أعمل أيضا في بنك،أذهب إلي مكتبي صباحا وأعود في المساء،وألتقي إدوارد في "الويك إند".
    وماذا عن التهديدات الدائمة لحياته...كيف كنت تتعاملين معها؟وخاصة انه أعلن مؤخرا عن وضع سعيد تحت مراقبة ( FBI)؟


    وقتها لم نكن متأكدين أن تكون تليفوناتنا مراقبة،ولكننا كنا نظن ذلك.وقد تلقي إدوارد أكثر من مرة تهديدات بالقتل.وقد أتصل بي ذات مرة أحد المحققين من البوليس الأمريكي بعد مقتل ماير كاهانا وسأل عن إدوراد ،وكان مسافرا إلي أكسفورد لإلقاء محاضرة هناك ، وطلب مني أن اخبره أين هو؟ لأن حياته مهددة،فاتصلت بإدوارد وطلبت منه أن يتصل بالمحقق. في اليوم التالي دخل إدوارد إلي جامعة أكسفورد محاطا بالحرس. وفيما بعد قام البوليس في نيويورك بتغير زجاج النوافذ في منزلنا حتي يقاوم الرصاص ، ووضعوا داخل المنزل أجهزة إنذار، وظل تحت حراسة مشددة لفترة طويلة. وهو أمر كان صعبا علينا ووضعنا في قلق دائم،وخاصة عندما كان أطفالنا صغارا.
    وكيف كان يتعامل هو مع هذه التهديدات؟


    (ضاحكة) لم يكن يخاف، كلما زاد تهديدهم له، كان يقول: "أنا حأفرجهم" نطقتها باللهجة اللبنانية وأضافت :كان يحب التحدي دائما،وهذه إحدى صفاته العظيمة،ولكنها بالنسبة لنا كانت "مخيفة"!
    أي أنه كان يتعامل مع التهديد باعتباره شيئا عاديا وبسيطا؟


    كان لديه مقدرة ألا يجعل هناك شيئا يشغله عن عمله،عندما يعمل ينسي كل شئ،وكلما كان التهديد أقوي كان يزيده حماسا للعمل.
    المرض مثلا؟


    المرض من الأشياء التي كان من المكن أن تشله عن العمل، ولكنه بالعكس كان يري أن الوقت أمامه قصير، فصار يعمل بحماس أكثر حتي ينجز ما كان يريد إنجازه.
    وهل أثر المرض علي تركيبته الشخصية؟


    تجربة المرض عذبته كثيرا وأثرت علي مزاجه اليومي، ولكن عندما كان يقف أمام طلبته محاضرا كان ينسي كل الآلام ، ولم يكن يريد أن يشعر أحد كم كان يتعذب.
    وماذا عن علاقتك بأفكاره...هل كنت أول قارئة لما يكتب؟

    كنت أقرأ كتاباته، ولكن لم أكن القارئ الأول له، لأنه عندما كان يفكر في فكرة جديدة،كان دائما ما يحاضر فيها، ويدرسها لطلابه، ثم يكتب عنها كما حدث مع "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، وكتبه المتخصصة كنت أقرؤها كأي شخص عادي عندما تنشر، أما كتبه "السهلة" مثل سيرة حياته كان يعطيني إياها قبل النشر،ولكن مقالاته التي كان يكتبها للحياة أو للأهرام كنت أقرؤها بمجرد انتهاءه منها وكان يستمع إلي رأيي ولكن أحيانا كان يوافق علي ما أقول، وفي أكثر الأحيان كان يرفض ملاحظاتي.
    هل كان حادا في التعامل مع منتقديه؟


    كان صريحا إلي أقصي حد، وكان يرفض أن يتنازل عما يراه صوابا.ولكن في معاملته للآخرين كان مرنا ولم يكن عنيدا، كان يستمع إلي آراء الآخرين،ويحترمها، ولكن إذا رأي أن حديث الآخرين سخيفا وضعيفا،تتحول مرونته إلي حدة،وخاصة مع تلاميذه الذين كان يريد أن يكون علي درجة عالية من الفهم، لأنه كان يحب "الكمال".
    * * *
    تحكي مريم عن الأيام الأخيرة في حياة سعيد:"ذهب إلي المستشفي لتلقي العلاج وهناك أخبره الطبيب أن عليه التوقف تماما عن السفر، وأن ينتبه لصحته جيدا لأن الحالة متقدمة،خرج إدوارد من المستشفي، وبعد يومين تدهورت صحته، وراح في غيبوبة عميقة استمرت ثلاث أيام، كان يعرف تماما أن أيامه في الحياة معدودة، ولكنه ونحن أيضا لم نكن نتوقع أن يكون الرحيل سريعا هكذا".
    كان الحكي قاسيا عليها وهي تتذكر ..وكان لابد أن أتخفف قليلا من الحديث في هذه المنطقة المؤلمة.
    سألتها:ماذا كان يحب إدوارد من الأكل؟

    أدهشها سؤالي قليلا وقبل أن أوضح غرضي منه أجابت: الكبة نية!
    أكله لبنانية.. هذا يدفعني للسؤال عن نمط حياتكم داخل المنزل...كيف كان يعيش إدوارد سعيد داخل المنزل؟ هل كان يقاوم منفاه باستحضار أجواء شرقية؟
    بيتنا في نيويورك كان مثل أي بيت عربي، لبناني أو فلسطيني،وكان الطعام أغلب الوقت شرقيا، وكنا حريصين علي ذلك دائما،وحريصين علي أن يعرف أبناؤنا عائلتهم،ولذلك كنا نسافر كل عام إلي بيروت لزيارة والده إدوارد حيث كانت تقيم هناك ولزيارة أهلي أيضا. ولذلك تربي أولادنا وديع ونجلا في هذا الجو.وأكثر الوقت كنا نتحدث العربية في المنزل،ولكن كنا نحكي بالإنجليزية لظروف خاصة بالمجتمع،والأبناء. فيما بعد حرص وديع أن يأتي إلي القاهرة لتعلم العربية في الجامعة الأمريكية وهو الآن يجيدها حديثا وكتابة، أما نجلا فستطيع التحدث بالعربية ولكنها لا تكتبها. بالمناسبة أنجب وديع مؤخرا ابنا أسماه إدوارد.
    وكيف كانت تربيتكما لوديع ونجلا..هل اتفقتما علي طريقة خاصة بالتربية؟


    لم نربهم علي أساس أننا شرقيين، بل قلنا لهم أنتم أمريكان، وتعيشون في مجتمع أمريكي ...ربيناهم حتي يستطيعوا العيش في هذا المجتمع الذي ولدوا وتربوا فيه.ولذلك تربوا علي أن تكون أفكارهم حرة وآراءهم حرة،إذ كنت أنا وإدوارد ضد فكرة "احترام الكبير" لمجرد أنه كبير حتي وإن كان علي خطأ، ولذلك قلنا لهم لا تفعلوا شيئا ضد رغبتكم لمجرد أنكم لا تريدون اغضابنا،لابد ان تعلنوا رأيكم واختلافكم معنا بصراحة ولا يعنيكم غضبنا.
    هل كان لإدوارد طقوس خاصة في الكتابة؟


    كان يستيقظ باكرا، ويعمل منذ الخامسة والنصف لمدة ساعتين، ثم يعاود العمل من التاسعة وحتي الحادية عشر.وهذا كان وقته للكتابة،أما بقية النهار كان يخصصه للقراءة ومتابعة الأخبار طول الوقت،كان حريصا أن يعرف "شو صار" في العالم.

    وماذا عن الموسيقي؟


    كان يحب الموسيقي الكلاسيك الغربية، وخاصة فاجنر.
    * * *
    سألتها: هل هناك أحلام لم يستطع تحقيقها؟


    كان يريد أن ينتهي من كتاب(Late Style)،وهو كتاب عن أساليب الكتابة في أواخر حياة الكتاب،وخطط أن يسلم الكتاب للناشر في ديسمبر 2003 ،ولكن توفي قبل أن ينجز مهمته. وهذا الكتاب سوف يصدر في إبريل القادم ، ولأنه غير مكتمل كما كان يريد إدوارد اسماه الناشر والمحرر
    On Late Style) ).
    سألتها : وهل هناك كتابات أخري لم تنشر ؟

    أجابت:هناك أوراق كثيرة تركها ولم نفرزها بعد، وهناك أيضا عشرات المقالات التي نشرها ولكن لم تصدر بعد في كتاب.وسنحاول أن نفعل ذلك.وكان أحد أحلامه أن يكتب رواية ولكنه لم يفعل، طول الوقت كان يقول (بدي أكتب عن هيك وهيك في رواية) ولكن فكرة الرواية لم تنمو وتكتمل بشكل كافي، وربما يكون في الأوراق التي تركها تخطيطات للرواية.
    هل لدي الأسرة خطط للحفاظ علي ما ترك إدوارد سعيد من أوراق ومقتنيات شخصية... إقامة متحف يضمها مثلا؟

    سوف نتبرع بكل ما ترك سعيد لجامعة كولومبيا حسبما أوصي، وسوف تكون كتاباته وأوراقه الخاصة،وأصول أعماله متاحة للجميع.ويمكن أن يروا خطه وتخطيطاته.
    ألم يكن يستخدم الكومبيوتر في الكتابة؟

    كان يستخدم القلم في الكتابة،ولكن في سنواته الأخيرة كان يكتب مقالات الأهرام والحياة علي الكومبيوتر مباشرة.
    سألتها: هل ثمة وصية كان حريصا علي أن يوصيها لأبنائه؟

    أجابت:كان يقول دائما لنجلا ولوديع ولأصدقائهما:( إننا حاربنا في العالم الغربي من أجل أن تبقي قضيتنا حية،وأنتم مؤهلون أكثر منا لأن تدفعوها إلي المستقبل).
    قلت : أخيراّ هل تشعرين أن إدوارد سعيد قد رحل؟

    صمتت قليلا قبل أن تجيب:إدوارد كان يقول دائما أنه يؤسس لأفكار،وواجب الأجيال الجديدة أن تبني علي هذه الأفكار.ولذلك إذا درست أفكاره،وتم الاشتغال عليها ،لابد أن تتطور هذه الأفكار.ولو حدث ذلك سيظل بالنسبة لنا حيا.
    (عن "أخبار الأدب" المصرية)
    رد مع اقتباس  
     

  3. #3  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سنة أولى بلا إدوارد سعيد

    في الذكرى الأولى لرحيله يوم 25-9-2004

    نضال حمد - أوسلو

    قبل عام غيب الموت المبدع العالمي والرمز الثقافي الفلسطيني - الأمريكي البروفسور إدوارد سعيد.. كان الرجل يعرف بأنه مقبل على الموت بسبب مرضه العضال، فانتظر موته بصبر، لكنه قبل أن يسافر إلى العالم الآخر ترك آخر أعماله على شكل مذكرات، فأغنى الحياة الثقافية والمكتبة العالمية بمؤلف جديد وفريد.
    رحل إدوارد سعيد لكن أعماله الكبيرة بقيت معروضة لمن يبحث عن المعرفة وللذين بمقدورهم الغوص فيها للبحث والدراسات والتنقيب عما هو جديد.
    الكتابة عن هذا الصرح الحضاري والثقافي العالمي ليست بالسهلة، لأن الذي يريد الدخول في عالمه عليه الكتابة عن الرجل كشخص وعنه كقضية وطنية وثقافية ونسخة عن شعب موزع ومشتت في الأرض قاطبة، وبعيداً عن وطن سلب، سرق، اغتصب واستعمر على مرأى من عالم ساهم في الزيّف والخداع وتكريم ضحيته بنحر ضحية أخرى قرباناً لها.
    ذاك المنطق أكد سابقاً ويؤكد الآن على عدم وجود فارق كبير بين الذين يتهمونهم بالإرهاب واللاإنسانية لأنهم يقطعون رؤوس الضحايا الأجانب المختطفين في العراق, وبين الذين قطعوا رؤوس الفلسطينيين في النكبة والنكسة والانتفاضة وما بينها من أزمنة.
    ليس الصراع بين الشرق والغرب سوى تسمية خاطئة لبرامج حرب خاطئة، إذ لا يوجد حوار حقيقي أو حوار بمعناه العلمي بين الشرق والغرب. وعدم وجوده لا يعتبر دليلاً على انعدامه، بل تكريس طبيعي لحالة الفوضى التي تسود العالم منذ عاصفة الطائرات الأيلولية في نيويورك وواشنطن. ثم إن الصراع الحق والطبيعي والحقيقي يجب أن يكون لا بين الشرق والغرب أو بين الديانات بل بين الحق والباطل. فسيطرة وهيمنة القوي على الضعيف هي من أهم أسباب بروز معوقات الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات. الصراع هذه الأيام يدور بين رؤوس تفكر وأخرى تعادي الفكر، وبين أموال وشركات ضخمة مستعمرة تمتص دماء الفقراء لصالح الأغنياء، هو صراع بين رؤوس تقطع لأجل هذا وذاك هنا وهناك وهنالك، وبين قطاعين للطرق وللرؤوس وللأرزاق ينتشرون في عالم اليوم.
    كان المرحوم إدوارد سعيد من المثقفين الموسوعيين الذين اهتموا بأصناف كثيرة من العلوم والاختصاصات، حيث لم يكن مفكراً، وباحثاً وناقداً أدبياً فقط لا غير، بل كان أيضاً من المهتمين بأمور أخرى كثيرة مثل السياسة والرياضة والموسيقى والرقص الشعبي (كان إدوارد سعيد عازف بيانو ممتاز، وكان له عمود نقدي ثابت عن الموسيقى في مجلة اليسار الأمريكي "ذا نيشن" التي هي مجلة المثقفين الأمريكان اليساريين) وقد كتب إدوارد سعيد دراسات هامة في الموسيقى أهمها "من الصوت إلى الصمت وعود على بدء". وقد وظف سعيد علاقاته القوية والمتينة مع عظماء المويسقى في العالم مثل عازف الكمان اليهودي الراحل مينوهين. كذلك مع الشهير الأرجنتيني اليهودي دانيال بارينباوم قائد الأوركسترا المعروف. وقد أثمرت تلك الصداقة مع الموسيقيين اليهود فأنتجت مدارس موسيقية استقطبت واستقبلت طلبة من فلسطين، وكذلك نتج عنها مواقف تدين إرهاب (إسرائيل) الممارس ضد الشعب الفلسطيني، وهي مواقف هامة لأنها تصدر عن يهود مشهورين ومعروفين، ومواقفهم هذه ستساعد الآخرين على اتخاذ مواقف من الصهيونية وأعمالها الإجرامية في فلسطين المحتلة.
    بحسب المترجم والباحث صلاح حزين "يتناول سعيد فكرة الصوت والصمت باعتبارهما مكونين أساسيين من مكونات الموسيقا حيث الصمت موسيقا أيضاً، ويطبقها على التاريخ وحركة المجتمع، فيرى أن الصمت ليس سوى صوت المقموعين والمهمشين والمضطهدين عبر التاريخ، وأن الانتفاضات الفاشلة التي قام بها هؤلاء عبر التاريخ لم تكن سوى تعبير صامت عن قمعهم وظلمهم واضطهادهم، فالانتفاضة حين تفشل تتحول صوتاً مقموعاً، تتحول صمتاً.
    ولا بد أن الشعب الفلسطيني الذي أطلق العنان لصرخته المدوية في الانتفاضة الثانية قد تعلم من الانتفاضة الأولى فالصوت الصارخ يجب أن يخترق خزان الصمت ويصل إلى الهدف المحدد.
    وإدوارد سعيد لم يكن معروفاً في العالم العربي مثلما عرف وذاع صيته في الغرب. كما أنه لم يقرأ بالشكل الصحيح في عالمنا الذي أصبح صعباً عليه تمييز الصحيح من الغلط في هذا الزمن الصعب، الزمان الرخو. لذا لا يمكن إعطاء الرجل حقه إلا عبر دراسة أعماله التي تخطت فلسطين والعرب لتكون عالمية واسعة الانتشار والسمعة، إذ لا تخلو مكتبة عالمية أينما كانت من أعمال ومؤلفات إدوارد سعيد وأهمها الاستشراق.
    وحين يسأل الفلسطيني عما يفخر به من مفكريه أمام الناس في العالمين وبالذات الغربي منه, يكون أحد أهم أجوبته: إدوارد سعيد...
    عرف عن إدوارد سعيد حبه ومساندته ودعمه الشديد للمظلومين في العالم، لذا فحبه ودعمه لقضية فلسطين لم يكن عبر العاطفة والقلب وبحكم الأصول والجذور والانتماء العائلي والمكاني والعصبوي، بل نتيجة لما رآه وشاهده وعرفه عن الظلم الكبير الذي لحق بشعب فلسطين. وقد امتاز إدوارد سعيد بمعرفته الواسعة لعالم الغرب العادي والأكاديمي حيث عرف الفكر الغربي والحضارة والعقلية والثقافة الغربية ودرسهم بعمق حتى فهمها فهماً موسعاً، دقيقاً وعميقاً ساعده في ترسيخ مكانته الثقافية والفكرية.
    يقول الدكتور أحمد محدوبة أستاذ الأدب الأمريكي في الجامعة الأردنية: " إدوارد سعيد هو من بين القلائل الذين اخترقوا الحضارة الغربية، وسبروا غورها من داخلها، ثم قلبوا مفاهيمها التقليدية رأساً على عقب، محدثين في علوم التفسير والقراءة والتحليل، وفي الخطاب بوجه عام، نقلة ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني. إدوارد سعيد يقدم في الغرب على أنه من عمالقة الفكر الغربي نفسه، لا على أنه دخيل عليه".
    إذن الرجل أوسع من أن تنحصر سمعته أو ثقافته في الثقافة الفلسطينية وحدها لذا فهو عالمي وموسوعي ومعرفي صاحب مساحة تمتد في عالم الفكر، مثقف ومفكر بكل معنى الكلمة. لكي نستطيع فهمه، فنحن والآخر بحاجة لمثقف من وزنه هو نفسه لنستطيع فهم فكره ورؤيته. وقد كان الأكاديمي والشاعر الدكتور محمد عبيد الله دقيقاً حين قال: "ربما أن اكتشافنا نحن العرب لإدوارد سعيد جاء متأخراً بعض الشيء، على الرغم من أن بعض انتاجه قد نُقل إلى العربية مبكراً. لكن الانتباه إلى عالميته وإلى تأثيره الطاغي انطلاقاً من تلك العالمية كان متأخراً بعض الشيء.. وما يُخشى منه حقيقة أن يتحول الاكتشاف المبهور بإدوارد سعيد إلى نوع من التصنيم المناقض للحرية في البحث والثقافة وفي الجدل السياسي وهو ما دافع عنه إدوارد سعيد نفسه.. أي أن يتحول سعيد اسماً وفكراً إلى سلطة أخرى من تلك السلطات التي سعى إلى نقدها وتفكيك خطاباتها".
    لقد حرص إدوارد سعيد على أن يكون الهم الفلسطيني همه لأنه بالأساس ضد الظلم ومع الحق والعدالة للإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعقيدته وجنسه، وقد مثل إدوارد سعيد قضية شعبه خير تمثيل على طريقته ووفق رؤيته التي رفضت التعصب والتزمت وكانت منفتحة على الدراسة والتحليل والتدقيق والتمحيص في كافة المجالات وحتى في إخضاع المسلمات للفحص والنقد. كان الرجل موضوعياً ومنطقياً وصاحب فكر منفتح ساعده في تأطير الأنصار والأصدقاء للقضية وخاصة في الجانب اليهودي العالمي.
    في السابق وقبل أن يفهم البعض طريقة فهم وتفكير الغرب كانوا يقفون ضد توجهات الانفتاح على الغرب والأخذ بعين الاعتبار رؤيته للصراع. ثم هناك منهم من اعتبره خرقاً للثوابت الفلسطينية، لكن وبعد أن عرفت المواقف وعاشوا في الغرب وتعرفوا على ناسه وطرق تفكيرهم ومواقفهم صار لديهم استعداد لفهم مواقف إدوارد سعيد ومنهم من ذهب أبعد من ذلك وتبناها تماماً.
    لقد دخل الفلسطنيي المثير إدوارد سعيد إلى وطنه فلسطين من بوابة العالم والفكر والثقافة والحضارة التي لا تقبل بالظلم والامتهان، فكان فلسطينياً كما هو عالمي، ومن العجيب أن بعض الفلسطينيين الرسميين وبالذات المنتفعين عادوه وحاربوه لأنه وقف ضد اتفاقيات أوسلو والقيادة الفلسطينية التي لم تستشر شعبها بما أقدمت عليه في لقاءات وحفلات المفاوضات والاتفاقيات مثل أوسلو وأخواتها. اعتبر سعيد اتفاقية أوسلو كارثة على الشعب الفلسطيني أولاً لأن الذين فاوضوا ووقعوا واتفقوا يحهلون حتى اللغة الإنكليزية وليسوا متمكنين منها بشكل يؤهلهم للقيام بذلك، وثانياً لأنهم تنازلوا عن الحقوق مقابل لا شيء مضمون، وقد عقب عليهم: "لأول مرة في القرن العشرين تقوم حركة تحرر وطني على التفريط بإنجازاتها الضخمة وتقبل التعاون مع سلطة الاحتلال، قبل أن تجبر هذه السلطة على الاعتراف بعدم شرعية احتلالها للأراضي بالقوة العسكرية". وقد كتب أيضاً في هذا المجال الكثير من المقالات وهناك مؤلف كامل بعنوان (غزة - أريحا) فيه مجموعة مقالات هامة لإدوارد سعيد عن هذا الموضوع. لقد غضب عليه "الأوسلويون" لأنه قال ذلك, لكنه لم يعيرهم كثير اهتمام وكتب فيما بعد أنهم لا يملكون شرعية أو حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني والتنازل عن حقوقه الشرعية. فقد عرف إدوارد سعيد أن هذا هو دائماً حال الفلسطيني عندما يقف في صف معارضة الحاكم وحاله كحال أي عربي ينطق بحرف الضاد ويعيش شرق المتوسط.
    لقد أدرك إدوارد سعيد مكانة الحوار بين الأمم لذا كان رافضاً للحوار الشكلي مع الآخر فهو أراده حواراً منتجاً مثمراً لا فارغاً ومموهاً يعطي البعض مكاسب شخصية آنية ثم تنتهي القضية الأساسية بكارثة تاريخية. من هنا رفض أوسلو وعلى هذا الأساس جاء تقديم الكاتب الصحفي العربي الكبير محمد حسنين هيكل لكتاب (غزة - أريحا) كالتالي: "إن مسافة الاستقلال التي يحتفظ بها سعيد بعيداً عن المؤسسة السياسية جعلته الأقرب إلى كبرياء العالم والتزام المفكر وأحزان الوطني الذي رأى أن يأخذ قضيته ويذهب بها إلى الناس محتفظاً لها بكل جلال الفكر ورقيه".
    امتازت مواقف الراحل إدوارد سعيد بالجرأة العالية في مواجهة الحركة الصهيونية واللوبي اليهودي وكيان ما يسمى (إسرائيل) مما جعله مُحارباً بقوة من قبل تلك الجماعات واللوبيات وبعض أركان الفكر والثقافة والسياسة من المتصهينين في زمن انفلات القوة الأمريكية وسياستها التي لا تهادن ولا تجامل ولا تعير العقل والمنطق والقانون أي انتباه.
    لقد التزم بموقفه الواضح من حرب أمريكا وحصارها للعراق وضوح موقفه من نظام البعث والرئيس المخلوع صدام حسين. فعارض الحرب بشدة مثلما عارض قبلها الحصار، وأدان الإدارة الأمريكية واتهمها بالتسبب في موت مئات آلاف العراقيين نتيجة الحصار الاقتصادي. وقد هاجمه البعض بسبب تلك المواقف المعلنة، دون أن يقدموا طرحاً علمياً مضاداً لمواقفه الجريئة والإنسانية قبل أي شيء آخر.
    توفي إدوارد سعيد يوم الخميس في الخامس والعشرين من أيلول سنة 2003 في إحدى مستشفيات نيويورك، وقد قال يومها كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة: "بغيابه سيصبح العالم العربي وأمريكا أكثر فقراً"..
    ودفن إدوارد سعيد في لبنان حيث مسقط رأس زوجته وبناء على وصيته، ليصبح فلسطيني المولد، مصري الطفولة، أمريكي الحياة, ولبناني القبر, وعالمي الفكر والرؤية.
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    سنة أولى بلا إدوارد سعيد

    في الذكرى الأولى لرحيله يوم 25-9-2004

    نضال حمد - أوسلو

    قبل عام غيب الموت المبدع العالمي والرمز الثقافي الفلسطيني - الأمريكي البروفسور إدوارد سعيد.. كان الرجل يعرف بأنه مقبل على الموت بسبب مرضه العضال، فانتظر موته بصبر، لكنه قبل أن يسافر إلى العالم الآخر ترك آخر أعماله على شكل مذكرات، فأغنى الحياة الثقافية والمكتبة العالمية بمؤلف جديد وفريد.
    رحل إدوارد سعيد لكن أعماله الكبيرة بقيت معروضة لمن يبحث عن المعرفة وللذين بمقدورهم الغوص فيها للبحث والدراسات والتنقيب عما هو جديد.
    الكتابة عن هذا الصرح الحضاري والثقافي العالمي ليست بالسهلة، لأن الذي يريد الدخول في عالمه عليه الكتابة عن الرجل كشخص وعنه كقضية وطنية وثقافية ونسخة عن شعب موزع ومشتت في الأرض قاطبة، وبعيداً عن وطن سلب، سرق، اغتصب واستعمر على مرأى من عالم ساهم في الزيّف والخداع وتكريم ضحيته بنحر ضحية أخرى قرباناً لها.
    ذاك المنطق أكد سابقاً ويؤكد الآن على عدم وجود فارق كبير بين الذين يتهمونهم بالإرهاب واللاإنسانية لأنهم يقطعون رؤوس الضحايا الأجانب المختطفين في العراق, وبين الذين قطعوا رؤوس الفلسطينيين في النكبة والنكسة والانتفاضة وما بينها من أزمنة.
    ليس الصراع بين الشرق والغرب سوى تسمية خاطئة لبرامج حرب خاطئة، إذ لا يوجد حوار حقيقي أو حوار بمعناه العلمي بين الشرق والغرب. وعدم وجوده لا يعتبر دليلاً على انعدامه، بل تكريس طبيعي لحالة الفوضى التي تسود العالم منذ عاصفة الطائرات الأيلولية في نيويورك وواشنطن. ثم إن الصراع الحق والطبيعي والحقيقي يجب أن يكون لا بين الشرق والغرب أو بين الديانات بل بين الحق والباطل. فسيطرة وهيمنة القوي على الضعيف هي من أهم أسباب بروز معوقات الحوار بين الشعوب والأمم والحضارات والثقافات. الصراع هذه الأيام يدور بين رؤوس تفكر وأخرى تعادي الفكر، وبين أموال وشركات ضخمة مستعمرة تمتص دماء الفقراء لصالح الأغنياء، هو صراع بين رؤوس تقطع لأجل هذا وذاك هنا وهناك وهنالك، وبين قطاعين للطرق وللرؤوس وللأرزاق ينتشرون في عالم اليوم.
    كان المرحوم إدوارد سعيد من المثقفين الموسوعيين الذين اهتموا بأصناف كثيرة من العلوم والاختصاصات، حيث لم يكن مفكراً، وباحثاً وناقداً أدبياً فقط لا غير، بل كان أيضاً من المهتمين بأمور أخرى كثيرة مثل السياسة والرياضة والموسيقى والرقص الشعبي (كان إدوارد سعيد عازف بيانو ممتاز، وكان له عمود نقدي ثابت عن الموسيقى في مجلة اليسار الأمريكي "ذا نيشن" التي هي مجلة المثقفين الأمريكان اليساريين) وقد كتب إدوارد سعيد دراسات هامة في الموسيقى أهمها "من الصوت إلى الصمت وعود على بدء". وقد وظف سعيد علاقاته القوية والمتينة مع عظماء المويسقى في العالم مثل عازف الكمان اليهودي الراحل مينوهين. كذلك مع الشهير الأرجنتيني اليهودي دانيال بارينباوم قائد الأوركسترا المعروف. وقد أثمرت تلك الصداقة مع الموسيقيين اليهود فأنتجت مدارس موسيقية استقطبت واستقبلت طلبة من فلسطين، وكذلك نتج عنها مواقف تدين إرهاب (إسرائيل) الممارس ضد الشعب الفلسطيني، وهي مواقف هامة لأنها تصدر عن يهود مشهورين ومعروفين، ومواقفهم هذه ستساعد الآخرين على اتخاذ مواقف من الصهيونية وأعمالها الإجرامية في فلسطين المحتلة.
    بحسب المترجم والباحث صلاح حزين "يتناول سعيد فكرة الصوت والصمت باعتبارهما مكونين أساسيين من مكونات الموسيقا حيث الصمت موسيقا أيضاً، ويطبقها على التاريخ وحركة المجتمع، فيرى أن الصمت ليس سوى صوت المقموعين والمهمشين والمضطهدين عبر التاريخ، وأن الانتفاضات الفاشلة التي قام بها هؤلاء عبر التاريخ لم تكن سوى تعبير صامت عن قمعهم وظلمهم واضطهادهم، فالانتفاضة حين تفشل تتحول صوتاً مقموعاً، تتحول صمتاً.
    ولا بد أن الشعب الفلسطيني الذي أطلق العنان لصرخته المدوية في الانتفاضة الثانية قد تعلم من الانتفاضة الأولى فالصوت الصارخ يجب أن يخترق خزان الصمت ويصل إلى الهدف المحدد.
    وإدوارد سعيد لم يكن معروفاً في العالم العربي مثلما عرف وذاع صيته في الغرب. كما أنه لم يقرأ بالشكل الصحيح في عالمنا الذي أصبح صعباً عليه تمييز الصحيح من الغلط في هذا الزمن الصعب، الزمان الرخو. لذا لا يمكن إعطاء الرجل حقه إلا عبر دراسة أعماله التي تخطت فلسطين والعرب لتكون عالمية واسعة الانتشار والسمعة، إذ لا تخلو مكتبة عالمية أينما كانت من أعمال ومؤلفات إدوارد سعيد وأهمها الاستشراق.
    وحين يسأل الفلسطيني عما يفخر به من مفكريه أمام الناس في العالمين وبالذات الغربي منه, يكون أحد أهم أجوبته: إدوارد سعيد...
    عرف عن إدوارد سعيد حبه ومساندته ودعمه الشديد للمظلومين في العالم، لذا فحبه ودعمه لقضية فلسطين لم يكن عبر العاطفة والقلب وبحكم الأصول والجذور والانتماء العائلي والمكاني والعصبوي، بل نتيجة لما رآه وشاهده وعرفه عن الظلم الكبير الذي لحق بشعب فلسطين. وقد امتاز إدوارد سعيد بمعرفته الواسعة لعالم الغرب العادي والأكاديمي حيث عرف الفكر الغربي والحضارة والعقلية والثقافة الغربية ودرسهم بعمق حتى فهمها فهماً موسعاً، دقيقاً وعميقاً ساعده في ترسيخ مكانته الثقافية والفكرية.
    يقول الدكتور أحمد محدوبة أستاذ الأدب الأمريكي في الجامعة الأردنية: " إدوارد سعيد هو من بين القلائل الذين اخترقوا الحضارة الغربية، وسبروا غورها من داخلها، ثم قلبوا مفاهيمها التقليدية رأساً على عقب، محدثين في علوم التفسير والقراءة والتحليل، وفي الخطاب بوجه عام، نقلة ليس لها مثيل في التاريخ الإنساني. إدوارد سعيد يقدم في الغرب على أنه من عمالقة الفكر الغربي نفسه، لا على أنه دخيل عليه".
    إذن الرجل أوسع من أن تنحصر سمعته أو ثقافته في الثقافة الفلسطينية وحدها لذا فهو عالمي وموسوعي ومعرفي صاحب مساحة تمتد في عالم الفكر، مثقف ومفكر بكل معنى الكلمة. لكي نستطيع فهمه، فنحن والآخر بحاجة لمثقف من وزنه هو نفسه لنستطيع فهم فكره ورؤيته. وقد كان الأكاديمي والشاعر الدكتور محمد عبيد الله دقيقاً حين قال: "ربما أن اكتشافنا نحن العرب لإدوارد سعيد جاء متأخراً بعض الشيء، على الرغم من أن بعض انتاجه قد نُقل إلى العربية مبكراً. لكن الانتباه إلى عالميته وإلى تأثيره الطاغي انطلاقاً من تلك العالمية كان متأخراً بعض الشيء.. وما يُخشى منه حقيقة أن يتحول الاكتشاف المبهور بإدوارد سعيد إلى نوع من التصنيم المناقض للحرية في البحث والثقافة وفي الجدل السياسي وهو ما دافع عنه إدوارد سعيد نفسه.. أي أن يتحول سعيد اسماً وفكراً إلى سلطة أخرى من تلك السلطات التي سعى إلى نقدها وتفكيك خطاباتها".
    لقد حرص إدوارد سعيد على أن يكون الهم الفلسطيني همه لأنه بالأساس ضد الظلم ومع الحق والعدالة للإنسان بغض النظر عن دينه ولونه وعقيدته وجنسه، وقد مثل إدوارد سعيد قضية شعبه خير تمثيل على طريقته ووفق رؤيته التي رفضت التعصب والتزمت وكانت منفتحة على الدراسة والتحليل والتدقيق والتمحيص في كافة المجالات وحتى في إخضاع المسلمات للفحص والنقد. كان الرجل موضوعياً ومنطقياً وصاحب فكر منفتح ساعده في تأطير الأنصار والأصدقاء للقضية وخاصة في الجانب اليهودي العالمي.
    في السابق وقبل أن يفهم البعض طريقة فهم وتفكير الغرب كانوا يقفون ضد توجهات الانفتاح على الغرب والأخذ بعين الاعتبار رؤيته للصراع. ثم هناك منهم من اعتبره خرقاً للثوابت الفلسطينية، لكن وبعد أن عرفت المواقف وعاشوا في الغرب وتعرفوا على ناسه وطرق تفكيرهم ومواقفهم صار لديهم استعداد لفهم مواقف إدوارد سعيد ومنهم من ذهب أبعد من ذلك وتبناها تماماً.
    لقد دخل الفلسطنيي المثير إدوارد سعيد إلى وطنه فلسطين من بوابة العالم والفكر والثقافة والحضارة التي لا تقبل بالظلم والامتهان، فكان فلسطينياً كما هو عالمي، ومن العجيب أن بعض الفلسطينيين الرسميين وبالذات المنتفعين عادوه وحاربوه لأنه وقف ضد اتفاقيات أوسلو والقيادة الفلسطينية التي لم تستشر شعبها بما أقدمت عليه في لقاءات وحفلات المفاوضات والاتفاقيات مثل أوسلو وأخواتها. اعتبر سعيد اتفاقية أوسلو كارثة على الشعب الفلسطيني أولاً لأن الذين فاوضوا ووقعوا واتفقوا يحهلون حتى اللغة الإنكليزية وليسوا متمكنين منها بشكل يؤهلهم للقيام بذلك، وثانياً لأنهم تنازلوا عن الحقوق مقابل لا شيء مضمون، وقد عقب عليهم: "لأول مرة في القرن العشرين تقوم حركة تحرر وطني على التفريط بإنجازاتها الضخمة وتقبل التعاون مع سلطة الاحتلال، قبل أن تجبر هذه السلطة على الاعتراف بعدم شرعية احتلالها للأراضي بالقوة العسكرية". وقد كتب أيضاً في هذا المجال الكثير من المقالات وهناك مؤلف كامل بعنوان (غزة - أريحا) فيه مجموعة مقالات هامة لإدوارد سعيد عن هذا الموضوع. لقد غضب عليه "الأوسلويون" لأنه قال ذلك, لكنه لم يعيرهم كثير اهتمام وكتب فيما بعد أنهم لا يملكون شرعية أو حق تقرير مصير الشعب الفلسطيني والتنازل عن حقوقه الشرعية. فقد عرف إدوارد سعيد أن هذا هو دائماً حال الفلسطيني عندما يقف في صف معارضة الحاكم وحاله كحال أي عربي ينطق بحرف الضاد ويعيش شرق المتوسط.
    لقد أدرك إدوارد سعيد مكانة الحوار بين الأمم لذا كان رافضاً للحوار الشكلي مع الآخر فهو أراده حواراً منتجاً مثمراً لا فارغاً ومموهاً يعطي البعض مكاسب شخصية آنية ثم تنتهي القضية الأساسية بكارثة تاريخية. من هنا رفض أوسلو وعلى هذا الأساس جاء تقديم الكاتب الصحفي العربي الكبير محمد حسنين هيكل لكتاب (غزة - أريحا) كالتالي: "إن مسافة الاستقلال التي يحتفظ بها سعيد بعيداً عن المؤسسة السياسية جعلته الأقرب إلى كبرياء العالم والتزام المفكر وأحزان الوطني الذي رأى أن يأخذ قضيته ويذهب بها إلى الناس محتفظاً لها بكل جلال الفكر ورقيه".
    امتازت مواقف الراحل إدوارد سعيد بالجرأة العالية في مواجهة الحركة الصهيونية واللوبي اليهودي وكيان ما يسمى (إسرائيل) مما جعله مُحارباً بقوة من قبل تلك الجماعات واللوبيات وبعض أركان الفكر والثقافة والسياسة من المتصهينين في زمن انفلات القوة الأمريكية وسياستها التي لا تهادن ولا تجامل ولا تعير العقل والمنطق والقانون أي انتباه.
    لقد التزم بموقفه الواضح من حرب أمريكا وحصارها للعراق وضوح موقفه من نظام البعث والرئيس المخلوع صدام حسين. فعارض الحرب بشدة مثلما عارض قبلها الحصار، وأدان الإدارة الأمريكية واتهمها بالتسبب في موت مئات آلاف العراقيين نتيجة الحصار الاقتصادي. وقد هاجمه البعض بسبب تلك المواقف المعلنة، دون أن يقدموا طرحاً علمياً مضاداً لمواقفه الجريئة والإنسانية قبل أي شيء آخر.
    توفي إدوارد سعيد يوم الخميس في الخامس والعشرين من أيلول سنة 2003 في إحدى مستشفيات نيويورك، وقد قال يومها كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة: "بغيابه سيصبح العالم العربي وأمريكا أكثر فقراً"..
    ودفن إدوارد سعيد في لبنان حيث مسقط رأس زوجته وبناء على وصيته، ليصبح فلسطيني المولد، مصري الطفولة، أمريكي الحياة, ولبناني القبر, وعالمي الفكر والرؤية.
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. عيد سعيد
    بواسطة احميداني في المنتدى الشعر
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 01/11/2011, 09:38 AM
  2. ادوارد سعيد
    بواسطة فريدة ابراهيم في المنتدى مكتبة المربد
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 23/10/2010, 10:02 AM
  3. عيدكم سعيد
    بواسطة محمود كامل في المنتدى إسلام
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 09/09/2010, 11:23 PM
  4. يوم سعيد
    بواسطة محمد يوب في المنتدى الواحة
    مشاركات: 183
    آخر مشاركة: 15/05/2010, 08:06 AM
  5. سعيد..
    بواسطة ابو مريم في المنتدى القصة القصيرة
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 30/03/2009, 09:07 AM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •