حقوق الإنسان ومسألة عالميتها واحترامها
د.أ. تيسير الناشف

من الطبيعي أن تكون للبشر حقوق جوهرية في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وأن تكون ذات طابع عالمي ومستقل عن الحدود الجغرافية والزمنية. ونظرا إلى تأصل هذه الحقوق في الطبيعة البشرية فإنها قائمة قبل وضع الصكوك الدولية من اتفاقات واتفاقيات ومعاهدات وبروتوكولات وغيرها المعنية بحقوق الإنسان. ونظرا إلى ذلك، فمما يتنافى مع عالمية حقوق الإنسان الانتقائية في ممارستها، واللجوء إليها حسب الفائدة التي يجنيها الشخص الذي يلجأ إلى هذه الانتقائية، مسترشدا بمقتضيات أهداف السياسة الخارجية والمصالح الاقتصادية والعسكرية.
من حقوق الإنسان الحق في العيش والحياة والحرية والكرامة، وفي السعادة وفي التحرر من المرض والخوف والعوز وفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية. إن لحقوق الإنسان ولقيمة الإنسان المتأصلة فيها من الأهمية ما يجعل من الإثم الكبير إخضاعها للاعتبارات السياسية أو استخدامها أداة للضغط السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو للإبقاء على نظام من النظم الظالمة العسكرية أو الاحتلالية أو العنصرية أو التوسعية أو الاستيطانية. والقيام بذلك من شأنه أن يؤدي يقينا إلى تقويض الثقة بنزاهة من يدعي أو يتشدق بالمناداة باحترام حقوق الإنسان.
وبما أن الطبيعة البشرية، التي تتأصل حقوق الإنسان فيها، واحدة فإن هذه الحقوق يترابط الواحد منها بالآخر ترابطا عضويا. وهي بالتالي تترابط بعضها ببعض في وجوب حمايتها، بمعنى أن حماية حق واحد من حقوق الإنسان تتطلب حماية الحقوق الأخرى، وانتهاك حق واحد منها انتهاك للحقوق الأخرى. لا تصح تجزئة مفهوم الحقوق بأن يعترف بحق ولا يعترف بحق أو حقوق أخرى، أو تجزئة مفهوم الحماية بأن يعترف بوجوب حماية حق ولا يعترف بوجوب حماية حق أو حقوق أخرى. لا تراعى حقوق الإنسان حينما يمارس الحق في التنمية الاقتصادية بينما لا يمارس الحق في الإعراب عن الرأي. إن ممارسة الحق في التنمية الاقتصادية لا تغني عن وجوب ممارسة الحق في التعبير عن الرأي.
ونظرا إلى أن البشر ينتمون إلى جنس واحد لا يصح أن يجزأ الإقرار بحقوق الإنسان تجزئة جغرافية بأن يقر بحقوق الإنسان لشعب دون شعب آخر في منطقة أو دولة أو قارة واحدة، أو لفرد دون فرد آخر في نفس الدولة لمجرد أن ذلك الفرد الذي لم يتم الإقرار بحقوقه يتكلم لغة ما، مثلا اللغة العربية، أو يعتمر كوفية ويضع عقالا على رأسه ولا يضع قلنسوة أو قبعة، أو ولد في مكان مثل نابلس أو رام الله أو بيروت ولم يولد في مكان أخر.
وللسبب الجوهري نفسه لا يصح أن يجزأ الإقرار بحقوق الإنسان تجزئة على أساس اللون أو الدين أو الانتماء العرقي أو الطائفي أو المذهبي. لا يصح أن يكون لشخص ولد في أوروبا حقوق إنسان أقوى وأكثر من حقوق الإنسان الفلسطيني لمجرد أن الأول ولد في الغرب وأن الشخص الآخر ولد في مصر أو بنغلاديش.
والاعتراف أو الإقرار بحق من حقوق الإنسان شيء وضمان ممارسة هذا الحق شيء آخر. مما له صلة وثيقة بانتهاك حقوق الإنسان التطورات المذهلة التي حدثت في السنوات القليلة الماضية على ساحة الاتحاد السوفياتي السابق وأوروبا الشرقية. لقد كانت نهاية الحرب الباردة وانهيار ما كان يسمى بالكتلة الشرقية وتفكك الاتحاد السوفياتي أحداثا تاريخية قلبت حالات دولية كثيرة وغيرت كثيرا من المعادلات والعلاقات الدولية. وكانت هذه الأحداث من الأسباب التي آدت إلى نشوء حالات انفعال قومي متطرف وعصبيات عرقية كانت مكبوتة أو خافتة في ظل الحكم السابق. وإن الهجمة القاسية على الشعب الفلسطيني المعاني في أراضيه انتهاك سافر لحقوق الإنسان الأساسية.
ونظرا إلى عالمية حقوق الإنسان – وهي العالمية المستندة إلى وحدة الجنس البشري – لا يصح أن يقصر تحديد هويتها أو تدوينها أو تعزيزها أو حمايتها على حفنة من الدول تتمتع بالتفوق السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو التكنولوجي. إن عالمية حقوق الإنسان، أو الطبيعة العالمية لهذه الحقوق، هي النقيض التام لأن ينتحل شخص أو فئة أو جماعة أو دولة أو ائتلاف أو تحالف لنفسه مهمة وضع معايير لحقوق الإنسان ومهمة إصدار الحكم على مدى مراعاة الآخرين لها ومدى تمسكهم بها.
ولتأصّل حقوق الإنسان في الطبيعة البشرية لا مفر من أن يتضمن ضرورة حماية هذه الحقوق. فتأصّل الحقوق في الطبيعة البشرية يقتضي بالتأكيد حماية هذه الحقوق. وحماية هذه الحقوق من شأنها أن تستدعي عدم انتهاك هذه الحقوق وتستلزم توفر ما يلزم لحمايتها من موارد مالية وقانونية وسياسية وثقافية. ويقصد بتوفر المورد السياسي توفر الإرادة السياسية الحكومية وغير الحكومية على حمايتها. فإذا قيل بوجوب حماية حقوق الإنسان دون توفر الموارد اللازمة لحمايتها وصونها فقد ينال ذلك من أثر هذه الحقوق.
لقد عقد في فينّا، على سبيل المثال، في حزيران/يونيه 1993 المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان. وأتاح عقد هذا المؤتمر فرصة طيبة لأن يقيّم المجتمع الدولي منجزاته ووجوه قصوره في مجال تعامله مع حقوق الإنسان في فترة ربع القرن التي انقضت منذ عقد المؤتمر الأول عام 1968. وتطرق مؤتمر فينّا إلى قضايا حيوية من قبيل احترام القيم الثقافية والدينية والأخلاقية لكل الأمم، وعدم قابلية حقوق الإنسان للتجزئة، ورفض الانتقائية والكيل بمكيالين والتلاعب والمناورة السياسية بقضية حقوق الإنسان. واعتمد مؤتمر فينّا وثيقة ختامية، هي إعلان وبرنامج عمل فينّا. وهذه الوثيقة ذات مغزى، إذ تمثل تحركا صوب تعزيز وحماية حقوق الإنسان بتأكيدها على عالمية هذه الحقوق وعلى عدم قابليتها للتجزئة.