قصيدة المديح في الشعر العربي
  • ظل الشاعر محمد مهدي الجواهري يكتب قصائد المديح حتي أيامه الأخيرة
  • في سنواته الأخيرة تحرر الجواهري من كل شيء إلا من قصيدة المديح
  • قصيدة المديح قصيدة مناسبات كما هي وثيقة لأحوال الشاعر وأحوال عصره

بقلم : جهاد فاضل :
بسط شعر المديح سلطانه علي الشعر العربي منذ امرئ القيس وصولاً إلي الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري الذي توفي قبل عشر سنوات من اليوم، والذي امضي ما لا يقل عن نصف قرن من حياته محسوباً علي اليسار وعلي الحزب الشيوعي العراقي بالذات.
وينهض هذا دليلاً علي ان التزلف والتكسب ليسا وحدهما دافع الشاعر العربي إلي نظم قصيدة المديح هذه، وإنما هناك أسباب أخري كثيرة والواقع ان من يدقق في الأسباب والعوامل التي انتجت شعر المديح الذي طرقه الشعراء العرب بكثرة، لوجدها في طبيعة الحياة الاجتماعية قبل سواها.فهناك حاكم يسعي إليه القوم جميعاً بما فيهم الشعراء. ومنذ وُجد هذا الحاكم اعتاد الشعراء ان يتحفوه بشعرهم. فهي عادة إذن. وليس لزاماً ان يكون وراء هذه العادة تزلّف أو تكسب. فكثيراً ما امتزج شعر المديح بشعر الحماسة، كما كان يسمي قديماً، أو بالشعر الوطني كما يُسمي حديثاً. وكثيراً ما مّثل الحاكم قيماً وفضائل وجد فيها الشعراء قيم الأمة فتغنوا بها. وهذا ما نلحظه بوضوح ما بعده وضوح في الشعر الجاهلي، وفي مراحل أخري في الشعر العربي، منها قصائد المتنبي في سيف الدولة التي كان من دوافعها الأساسية اعجاب المتنبي بخصال هذا الأمير ذي النزعة العروبية التي كانت نزعة الشاعر أيضاً.ومن الظلم تجاه سيرة سيف الدولة وشاعره بناء العلاقة التي قامت بينهما علي انها علاقة ارتزاق لا أكثر، أو لا غير. فلا شك ان المال كان عنصراً من عناصر هذه العلاقة، ولكن العنصر الاقوي فيها لم يكن المال أبداً. فالشاعر الذي كان مهموماً بقضية أمته، وجد في هذا الامير ما يجده كثيرون اليوم في هذا الحاكم، أو ذاك، ما يلبي طموحاتهم القومية، أو ما يعلقون عليه الآمال.علي أن أسطع دليل علي نفوذ قصيدة المديح في الشعر العربي، ودخولها في نسيج الحياة العربية العامة، هو ان كل الشعراء العرب القدامي - ونكاد نقول المحدثين - وإلي أية فئة أو جماعة انتموا، قد كتبوها. فكما كتبها المتنبي الذي لم يكن يجد فوق نفسه من مزيد، كتبها أيضاً شعراء بلا حصر من طبقته.كتبها أبو العلاء المعري، كما كتبها البحتري وأبو تمام والشريف الرضي. وفي زماننا كتب مثل هذه القصيدة شعراء كبار علي مدار القرن العشرين يتوزعون علي مدارس شعرية واجتماعية مختلفة. فكان ممن كتبوها شوقي وحافظ ومطران والزهاوي والرصافي والاخطل الصغير وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وصولاً إلي بدر شاكر السياب، إمام الشعر الحديث الذي كتب قصائد مدح كثيرة في مواقف وشخصيات لا التقاء فيما بينها: فقد مدح عبد الكريم قاسم الذي كاد يغزو الكويت، كما مدح أمير الكويت عبد اللَّه السالم الصباح. وعلي غرار بدر، كتب شعراء محدثون قصائد مدح في عدد من الزعماء والحكام. فأدونيس مدح زعيمه انطون سعادة مراراً، ورثاه في قصائد كثيرة جاءت أقرب إلي المدح منها إلي أي شيء آخر.وللتدليل علي رسوخ هذه القصيدة في ديوان الشعر العربي وصولاً إلي يومنا هذا، وعلي انها لا تقل نفوذا في هذا الديوان عن أية قصيدة أخري، نقف وقفة خاصة عند الشاعر الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري الذي لم يأنف من التعامل مع هذه القصيدة حتي بعد ان تحول إلي ما يمكن تسميته بشاعر اليسار العراقي والعربي والعالمي. فقد ظل يمدح حتي لفظت أشعاره انفاسها الأخيرة، رغم انه كان يفترض - لو صح ان المدح سّبة عار في سيرة الشاعر - ان يمتنع عن المدح وان ينصرف إلي جوانب أو أبواب الشعر الأخري.ولكنه افرط في المديح سواء في مرحلة ما قبل اليسار، أو في مرحلة اليسار، أو في المرحلة الأخيرة من حياته حيث تحرر الجواهري من كل شيء إلا من قصيدة المديح.. فإذا كان الشاعر المصري حافظ إبراهيم ذكر مرة في إحدي قصائده ان شعر المراثي يؤلف نصف ديوانه، فلا شك ان شعر المديح يؤلف نصف ديوان الجواهري، إن لم يكن أكثر من النصف.مع ان الجواهري، كما ذكرنا، كان قد تحّول (أو هكذا يُفترض) من شاعر تقليدي يمدح الملوك وغير الملوك، إلي شاعر يساري يفترض ان يترك شعر التزلف والتكسب إلي سواه من الشعر الذي يُحّيي علي القيم الجديدة التي تبشر بها الشيوعية.. ولكنه لم يتحول في الواقع، بل استمر يمدح ويمدح بلا انقطاع. ومن مدحهم لم يكونوا كلهم، أو جلهم، من أهل اليسار، بل كانوا في الأعم الأغلب من أهل اليمين.. وينطبق هذا الحكم علي مرحلته اليسارية كلها، لأن من مدحهم كانوا نجوم المجتمع البورجوازي التقليدي، لا من نجوم المجتمع الجديد. والطريف ان الجواهري عندما مدح نجوم المجتمع الجديد، وفي طليعتهم ستالين، كان أيضاً شاعراً تقليدياً لم يخرج في مدحه له عن المعاني والأساليب التي كان يمدح بها ممدوحيه الرجعيين الآخرين. ففي ستالين قال الجواهري:ستالين يا لحن التخيل والمني
تغنيه اجيال وترويه اعصرُ
ويا كوكباً في عالم غمّ جوّه
بلألائه يسترشد المحيّرُ
أرد خطةً تقدر وتنجح فاننا
عرفناك تمضي ما تريد وتقدرُ
ويبدو ان لقب شاعر السوفيات الذي اطلقه البعض علي الجواهري في مرحلته اليسارية، لم تحل بينه وبين ان يكتب قصيدة مدح أخري في الجنرال مونتغمري قائد معركة العلمين الشهيرة.
والطريف ان من طلب من الجواهري ان يكتب هذه القصيدة في مونتغمري، كان رئيس الحكومة العراقية نوري السعيد الذي (كما يقول كتّاب سيرة الجواهري) التقي يوما بالجواهري في حفل أقيم ببهو أمانة العاصمة، فقال له ان جيوش الحلفاء في العلمين تستحق قصيدة مثل قصيدة ستالينغراد، فاستجاب الجواهري، وأنشد يقول بعد أيام، وكأنه أحد شعراء العصر العباسي (أبو تمام أو سواه):
ويا منتكمري لو سقي اللَّه فاتحا
سقتك القوافي صفوَها السلسل العذبا
ولو كان ذوب العاطفات نثارة
نثرنا لك الاعجاب والشكر والحّبا
حللت علي رومل كرباً وقبلها
احل بأدهي منه ولنكتن كربا
ودحرجته من مصر وهو معّرس
بأحلامه يحصي الجراح الذي يُجبي!
وعلي سبيل الشرح نشير إلي ان ولنغنون الذي يرد في قصيدة الجواهري، هو قائد بريطاني شهير انتصر في معركة تاريخية هي معركة الطرف الأغر. اما رومل فهو القائد الألماني الذي هزمه مونتغمري في معركة العلمين.. وكان نوري السعيد، كما هو معروف بريطاني الهوي، في حين كان الجواهري علي مذهب لينين وستالين.ومع ان هذا الشاعر اليساري الذي مدح الرفيق يوسف سلمان (الملقب بفهد) مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، كان من المفترض ان يكون في خط معاكس لخط نوري السعيد، المتهم من هذا الحزب بأنه عميل للبريطانيين، إلا انه لم يمدح أحدا - وبحرارة ملفتة - كما مدحه، يحتل نوري السعيد مكانة كريمة في مدائح الجواهري. فهو يُثني علي جهوده ورجولته وأقدامه وشجاعته وظرفه واريحيته، ويهاجم معارضيه وخصومه. بل هو يدعو نوري السعيد صراحة إلي ممارسة الإرهاب في سبيل رقي الشعب
علي اسم الثورة الحمراء جرب
نشاطك ايها البطل الجريُّ
وهب ان الدماء تريد تجري
فشق لها ليندفع الأتيُّ
فإن لم يرق بالتلطيف شعب
فبالإرهاب فليكن الرقيُّ!
وقد ظل الجواهري يذكر نوري السعيد بالخير علي الدوام ويعتبره أحد قادة العراق الحديث التاريخيين، وفي مذكراته يتضح عمق تقديره له. ولكن هذا لم يمنع الجواهري من ان يطلب من اللجنة التي كلفتها وزارة الثقافة والإعلام العراقية جمع شعره، ان تهمل قصائده التي يمدح بها نوري السعيد، وان لا تشير إليها البتة.وكذلك طلب من هذه اللجنة اهمال قصيدته الشهيرة التي مدح بها الملك فيصل الثاني ملك العراق، يوم تتويجه، ومطلعها: يا ربيع بغصنك الزاهي الندي، ومنها هذان البيتان:يا أيها الملك الأغر تحية
من شاعر باللطف منك مؤيد
أنا غرسكم أعلي أبوك محلتي
نبلاً وشرف فضل جدك مقعدي!
وكان هذا الجد - أي الملك فيصل الأول - قد اتي بالجواهري من إحدي المدارس العراقية الابتدائية، أو الثانوية، حيث كان يعّلم، إلي بلاطه وعينه موظفاً في قسم التشريفات فيه، علي ان تكون وظيفته هذه، كما ذكر الجواهري في مذكراته، معبرا إلي مناصب اعلي في الدولة. ولكن الجواهري، بعد ان مدحه كثيراً، عاد وهجاه في قصائد كثيرة أشهرها قصيدة نُشرت في جريدة أم القري السعودية الرسمية. في هذه القصيدة يمدح الجواهري الأمير فيصل بن عبد العزيز، وزير خارجية السعودية في حينه، بمناسبة قدومه إلي العراق، في زيارة إلي بغداد، ويعرض في عدد من أبياتها بالملك فيصل الاول ملك العراق، حيث يقول:وقي اللَّه الحجاز وما يليه
بفضل ابيك من غصص الهوان
ومتّع ذلك الشعب الموقي
بسبع سنين شيقة سمان
علي حين اصطلي جبران نجد
بجمر لظي وسمّ الافعوان
وقد رقّت لها حتي عِداها
لكابوس بها مُلقي الجرانِ
إرادته اضطراراً لا اختياراً
وليس لها بدفعته يدان
فليت الساهرين علي دمار
فداء الساهرين علي الكيان
وما سيّان مشتملون حزماً
ومشتملون أحزمة الغواني
وكان الجواهري قد بدأ حياته الشعرية بمدح إيران في قصائد كثيرة له. ومن ممدوحيه في تلك الفترة وزير المعارف المنتفكي، وهو وزير شيعي. وقد قيل يومها ان الجواهري مدحه لأنه وقف إلي جانبه ضد مدير المعارف السنّي ساطع الحصري الذي كان اصدر قراراً بطرد الجواهري من وظيفته كمدرس في مدرسة ابتدائية لأنه اشتم رائحة الشعوبية من إحدي القصائد التي يمدح بها إيران.وعلي مدار حياته مدح الجواهري ما لا يحصي من الممدوحين كان منهم، في مرحلته الأخيرة الملك حسين ملك الأردن والملك الحسن الثاني ملك المغرب، والرئيس السوري حافظ الأسد، والمحسن الاماراتي الشاعر سلطان العويس الذي منحه مرة جائزة أدبية قيمتها مئة ألف دولار.وللمدح وجه آخر هو الهجاء، وقد ابلي فيه الجواهري بلاء عظيماً أيضاً، إذ هجا الكثيرين من خصومه وأعدائه السياسيين والثقافيين والشخصيين. ومن أشهر أهاجيه القصيدة التي يهجو بها خلقا ببغداد ، ومطلعها:عدا عليّ كما يستكلب الذيب
خلق ببغداد انماط اعاجيب
خلق ببغداد منفوخ ومطّرح
والطبل للناس منفوخ ومطلوب
خلق ببغداد ممسوخ يفيض به
تاريخ بغداد، لا عرب ولا نوبُ!
وهكذا نجد ان شعر المديح احتل مكانه هامة في ديوان الشعر العربي، قديمه وحديثه، ولم ينجح في التحرر منه إلا قلة قليلة من الشعراء أنفت وعن سابق تصور وتصميم، كما نقول بلغتنا المعاصرة، من الخوض في غماره مستندة في ذلك إلي سلبيات هذا الشعر، وهي معروفة.وهناك بالطبع باحثون نظروا إلي شعر المديح علي انه كان عالة أو عبئاً علي ديوان الشعر العربي لأسباب لا لزوم للتوقف طويلاً عندها، فهي أيضاً معروفة ومنها ان هذا الشعر صادر عن رغبة بالتكسب والارتزاق ولكن آخرين وجدوا في هذا الشعر ما يمت بصلة وثيقة إلي واقع الحياة العربية وتقاليدها وظروفها الاجتماعية العامة وقد اورد الامير شكيب ارسلان في كتابه عن أمير الشعراء شوقي، ما يؤلف دفاعاً عن شعر المديح الذي كتبه شوقي في عزيز مصر ، أو الخليفة العثماني .فهو يقول: عندما يهتف شوقي ومن في نمطه بتلك القصائد الرنانة إما في مدح عزيز مصر، أو في مدح الخليفة الأعظم، فإنما هو في الحقيقة يشيد باستقلال مصر في وجه الاجانب الطامعين المستأثرين بالأمر.وعندما يرسل كلماته الخالدة في مديح السلطان الخليفة، فإنما يقدّس مقام خلافة العزيز علي المسلمين، الناظم لشملهم، القائم في وجه عدوهم، فليس في هذا المذهب ما يدل علي سلوك طريق التزلف كما يظن من لا يدقق في أسرار الأمور، ولكنها الصارخة القومية والنزعة الإسلامية، والنضح عن حوض الخلافة والذود عن بنيان السلطنة، وهذا أشبه شيء بالدعاء الذي يقال في الجوامع نهار الجمعة.والواقع ان قصيدة المدح هي عبارة عن قصيدة مناسبة، وان الشاعر كثيرا ما يستغل قصيدته هذه ليشير فيها إلي قضايا كثيرة منها الشخصي ومنها العام، لا تمت بصلة إلي المدح. وتؤلف قصيدة للمدح هذه وثيقة من الوثائق تساعد أحياناً في فهم نفسية الشاعر المادح، أو نفسية الممدوح. فمن الظلم مثلاً اعتبار قصيدة المتنبي المدحية مجرد أداة للارتزاق، أو اعتبار صاحبها مجرد مرتزق متجول من نوع عمّال التراحيل .. ففي هذه القصيدة من خالد القول وجليل المعني ما يغفر للشاعر تلك الأوصاف التقليدية المألوفة في مديح الممدوح. وأياً كان الرأي في شعر المديح، فلا شك ان هذا الشعر لصيق بالحياة العربية، وإفراز من إفرازاتها وتقاليدها الاجتماعية.وعندما تتطور المجتمعات العربية، وتدخل مرحلة الحداثة، فعلاً لا قولا، ستختفي قصيدة المديح التقليدية إلي الأبد

عن الراية