النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: ساطع الحصري

  1. #1 ساطع الحصري 
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    ساطع الحصري




    ساطع الحُصْري


    ساطع الحصري 1918-1920
    ولادة 5 أغسطس 1879/17 شعبان 1296هـ
    صنعاء، الدولة العثمانية
    وفاة 23 ديسمبر 1968/4 شوال 1388هـ
    بغداد، الجمهورية العراقية
    مواطنة سوري
    عمل كاتب ومفكر قومي
    لقب أبو خلدون


    أبوخلدون ساطع الحُصْري مفكر سوري وأحد مؤسسي الفكر القومي العربي، وهو أحد الدعاة والمصلحين القوميين الذين زخر بهم المشرق العربي ممن تبنوا الدعوة إلى القومية العربية أمثال عبد الرحمن الكواكبي وشكيب أرسلان في أواخر القرن التاسع عشر، وزكي الأرسوزي ومحمد عزة دروزة في أوائل القرن العشرين.
    محتويات
    1 نشأته
    2 مؤلفاته
    3 دفاعه عن عروبة مصر
    4 مواجهاته ضد دعاة الإقليمية
    5 الحصري بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية
    6 وفاته
    7 المصادر والمراجع
    نشأته
    اسمه ساطع بن محمد هلال الحصري، ولد في صنعاء باليمن في 17 شعبان 1296 هـ/ 5 آب 1879م، وكان أبوه موظفا فيها، ثم درس في المدارس التركية وتخرج فيها ونال عدة وظائف تعليمية وإدارية، وكان مديراً لدار المعلمين في إستانبول، ثم عين محافظاً لبعض الولايات في البلقان، وكانت نزعته طورانية تركية بحتة، وعمل مع جمعية الإتحاد والترقي، وقد نشر عدة مقالات في الدعوة إلى الطورانية والتتريك في مجلة (تورك أوجاني) بتوقيع: م ساطع، أي مصطفى ساطع، ثم انقلب بين عشية وضحاها ليصبح رائداً من رواد القومية العربية وكانت في لغته رطانة. وشغل عدة مناصب في بلاط السلطان عبد الحميد الثاني حتى سقوط دولة الخلافة العثمانية ثم رحل إلى دمشق عام 1919.
    تولى في دمشق منصب وزير التعليم وعمل على وضع مناهج التعليم العربية وكانت له علاقات مع كبار المفكرين والعلماء في سوريا إلى أن خلع الملك فيصل الأول عام 1920.
    في هذه الفترة أبعد ساطع الحصري بعض علماء الدين عن التدريس فكان منهم الشيخ أبو السعود بن ضيف الله مراد فغضب الشيخ أبو السعود غضباً شديداً وهجاهُ ببيتين من الشعر قائلا:
    ساطع اظلم لما وسد الامر اليه
    خسف الدين بجهل لعنة الله عليه
    وعندما وقع البيتان بيد الحصري أغرق بالضحك وأحتفظ بالبيتين وجعل يرددهما على مسامع رواده وأصدقاءه. ثم ولي الملك فيصل الأول على عرش العراق وجاء معه ساطع الحصري، وعينه معاوناً لوزير المعارف ثم مديراً للآثار وتولى إدارة دار المعلمين العالية في بغداد، وكان الحصري علمانياً فلم يبد اهتماما بدروس الدين في المناهج المدرسية، بل جعل درس الدين لا قيمة له، وكتابه (القراءة الخلدونية) للصف الأول الابتدائي لا تجد فيه كلمات عن (الله، الرسول، كعبة، قرآن، قبلة، صلاة) وغير ذلك من الألفاظ الإسلامية، وفي سنة 1923م أحتج المعلمون في بغداد على سلوك الحصري وقدموا مذكرة للملك فيصل الأول، ثم نشروا كراساً بعنوان "سر تأخر المعارف"، ولكن الملك كان يلزم وزارة المعارف بأوامر ساطع الحصري ولم يهتم بآرائهم.
    ثم اشتدت الخصومة بين الحصري وفهمي المدرس وقد وقف الحصري ضد جامعة آل البيت وكتب المدرس عدة مقالات حول مسألة الجامعة، ولكن بقي الحصري مسؤولاً عن التعليم في العراق وعلى تطوير مناهج التعليم فيها، وظل يدعو إلى فكرة القومية العربية إلى أن قامت ثورة رشيد عالي الكيلاني عام 1941م.
    وإثر قيام ثورة رشيد عالي الكيلاني قام الإنجليز بنفي ساطع الحصري إلى حلب فتسلل منها إلى بيروت حتى عاد مرة أخرى إلى دمشق عام 1944 حيث قامت الحكومة السورية المستقلة بتكليفه للعمل كمستشار لصياغة النظام التربوي والتعليمي في البلاد واهتم بالفكر القومي وبتطوير مناهج التعليم. عين مديراً لمعهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة عام 1953م.
    مؤلفاته
    أصدر (حوليات الثقافة العربية) في ستة مجلّدات وأصدر كتبه التي تردُّ على دعاة الإقليمية والنعرات الطائفية وتدافع عن القومية العربية وأتسعت مؤلفاته التي تتناول الدعوة إلى فكرة القومية العربية إلى أكثر من عشرين مؤلفاً من أهمها:
    حول القومية العربية.
    آراء وأحاديث في القومية العربية 1944.
    آراء وأحاديث في الوطنية القومية 1951.
    دفاع عن العروبة.
    يوم ميسلون.
    العروبة أولاً.
    دراسات في مقدمة ابن خلدون (في جزئين)
    البلاد العربية والدولة العثمانية
    آراء وأحاديث في التاريخ والاجتماع
    صفحات من الماضي القريب
    آراء وأحاديث في العلم والأخلاق والثقافة
    أبحاث مختارة في القومية العربية
    هوية الثقافة العربية
    محاضرات نشوء الفكرة القومية
    آراء وأحاديث في التربية والتعليم
    العروبة بين دعاتها ومعارضيها
    دفاعه عن عروبة مصر
    تعددت مناظراته الفكرية ومجادلاته للدفاع عن القومية العربية، ففي مواجهة دعاة فكرة الإقليمية في مصر، أرجع الحصري تجاهل مصر الاستجابة لقضية القومية العربية قبل الثورة لعاملين:
    الأول: هو حالة العزلة التي أحدثها الاحتلال البريطاني.
    الآخر: إلى ارتباط بعض النخب في مصر بروابط وولاءات تتنافى مع الروح القومية.
    وقد أهتم الحصري بالرد على محاولات بعض المفكرين المصريين صياغة هوية ثقافية مصرية خاصة تستند إلى التراث الفرعوني، حيث أعترض على حجج الدكتور طه حسين التي جاءت في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" طابعها وطباعها، وأنها في نفس الوقت تحتفظ بهويه خاصة فرعونية الجوهر. واستنكر الحصري فكرة فرعونية مصر معللاً ذلك بأنه إذا كانت المشاعر الفرعونية تتأصل في وجدان المصريين فإنه يجب معه أن تستعيد لغة الفراعنة وحضارتهم، وأن مصر لايمكن أن تنبذ العروبة الحية تحت دعوى الانتماء إلى حضارة ميتة.أما فيما يتعلق بدعوى الانتماء لإنجلترا فقد دحض تلك الدعوى بتأكيده على أن مايشد ويربط مصر بدول عربية أقوى ممايربطها بدول البحر الأبيض المتوسط.
    مواجهاته ضد دعاة الإقليمية
    واجه الحصري دعاة الإقليمية في سوريا الكبرى والمشرق العربي وأبرزهم أنطون سعادة مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان ينفي وجود رابط قومي بين سوريا وغيرها من الأقطار العربية التي يصفها بالبداوة على عكس الأقطار السورية في الهلال الخصيب (سوريا ولبنان وفلسطين والعراق والأردن) مركزاً على الرباط الجغرافي للهلال الخصيب لتمييزه عن الأقطار العربية الأخرى. فهكذا نجد الحصري يرفض الرباط الجغرافي فقط كأساس للقومية، ويرفض أيضاً التسليم بوجود سمات ومميزات للسوريين (سكان الهلال الخصيب) تختلف عن تلك التي تتسم بها الشعوب الأخرى الناطقة بالعربية، بل أن الحصري كان ينفي تماماً وجود ما يعرف بالإقليم السوري (سورية الكبرى) بمعناه الإداري الحديث حتى عام 1943.
    ويقدِّم الحصْري وحدة اللغة على سائر عوامل الرابطة القومية . ويرى أنَّ الثقافة القائمة على اللغة تؤكد تشابه التكوين النفسي ويعتبره أساس الأمة . فيقول لطه حسين " اضمنوا لي وحدة الثقافة وأنا أضمن لكم كلَّ ما بقي من ضروب الوحدة " . وفرَّق بين الثقافة التي اعتبرها قومية وبين الحضارة التي اعتبرها أمميَّة . وتكلَّم عمَّا يدعى ويسمى ( العبودية الثقافية ) و( السيطرة الثقافية) التي تمارسها بلدان الغرب الإمبريالية ويراها تشكل خطراً على الثقافة القومية والوجود القومي العربي . وحذِّر من مخلَّفات السيطرة الاستعمارية الغربية التي تروِّج للتيارات والنـزعات الإقليمية .. وبالمقابل يؤكد الحصْري على شعبية الثقافة ويعتبرها الأساس في تكوين نفوس الشعب ولا يقصد بذلك التقليد بل البعث والنهوض . وهذا ما دعاه إلى رسم سياسة لغوية صحيحة في معركة النضال من أجل الوحدة العربية ، فأبرز أهمية إصلاح اللغة والتعمّق في معرفة الفصحى في مدارس البلدان العربية .
    ودافع عن قومية الأدب أمام المنادين بإقليمية الأدب فخاطب أحمد ضيف : " إنَّ الأدب العربي لم يكن أدباً واحداً . وإنما هو مجموعة آداب ، نشأت في بيئات مختلفة " ويستشهد بالمتنبي الذي ولد في الكوفه ونشأ في البادية وعاش في بغداد وحلب وسافر إلى القاهرة ، ومع ذلك حافظ على أصالته وصفته الموحّدة . وإنَّ الأدب حافظ على صفته الموحَّدة والموحِّدة حتى في أسوأ عصور تفكك الدول العربية وتفتُّت شعوبها . فيرى الحصري أن " التنوّع والأصالة شيء وإقليمية الأدب شيء آخر . فلا يوجد أدب مصري وأدب عراقي أو شامي أو تونسيٌّ … وإنما يوجد أدباء مصريون ، عراقيون ، شاميون ، وكلُّهم يسعون لتطوير الأدب وإبراز أصالته .. "
    وفي سبيل تكوين ثقافة عربية معاصرة يجدُ الحصْري التنوير أنجعَ أداة . ولا يقتصر التنوير عنده على التعليم المدرسي والتحصيل الجامعي بل يتعدّاه إلى تأثير المفكرين والإيديولوجيين من حملة الأفكار القومية والوطنية النيّرة . وهذا ما جعله يعتبر وحدة الثقافة مقدِّمة هامة وأساسيّة للوحدة السياسية . وهذا يستدعي إصلاح وتوحيد أنظمة التربية والتعليم في البلدان العربية وقد ساهم واهتمَّ بهذا الدور التنويريِّ الهام فاعتبرَ المدرسةَ مهمَّتُها إعدادُ الجمهور لتقبُّلِ الأفكار الجديدة وجعل الجيل الجديد عاملاً في إعداد مجتمع راق ، ولذلك دعا إلى الإبداع الخلاق وزرعه في نفوس الناشئة دون إلغاء الأصالة .
    لم يقض الحصْري عمرَه المديد وراء المكاتب وفي برجه بل كان مثالاً للباحث والمجرِّب والدارس الملتزم . يحاضر ويناقش ويطوِّر آراءه ونظراته ، ولم يغلق نوافذ ثقافته وتفكيره على ثقافة دون ثقافة بل أقاد كثيراً من نظريات تكوين الأمم تحديداً النظرية الألمانية والفرنسية . فقال الدكتور محمد أحمد خلف الله : " لقد كان ساطع الحصري يصدر عن العقيدة القومية في كلِّ أعمالِهِ التعليمية . كما دفعه ذلك إلى أن يسلك وسيلة خاصة مع المدارس التي ينشئها غيرُ العرب في العراق . فكان ينشئ إلى جانب كلِّ مدرسة إيرانية مدرسة عربية "
    ويشيد المؤرِّخ المصري محمد عبد الرحمن برج بدور الحصْري فقال عنه في كتابه ( ساطع الحصري) : " كان ساطع على رأس الرعيل الأول الذي دعا إلى القومية العربية وإلى تجسيد هذه القومية في وقت كانت فيه شخصيةُ الأمة العربية قد ذابت في شخصيات أخرى . واتجّه أبناؤها اتجاهات شتىّ .. "
    ويقول " الباحثون الغربيون ركزوا على الجذور الفلسفية لأفكار الحصْري ، ويعتبرونها نقلاً مباشراً لما كان رائجاً في أوروبا بالقرن التاسع عشر . ويتجاهلون عداءَه للإمبريالية وهي سمة من سمات مؤلفاته .. "
    الحصري بين الوحدة العربية والوحدة الإسلامية
    على عكس عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا، نجد الحصري يتبنى دعوته من منطلق علماني استناداً إلى اللغة والتاريخ متجاهلاً الرابط الديني أو الإسلامي متبنياً أن فكرة القومية العربية نشأت عند المفكرين المسيحيين قبل المسلمين، وأن المسيحيين ساهموا في بناء الحضارة العربية قبل وبعد الإسلام.
    وفي مواجهة تصور البعض للقومية العربية على أنها تتنافى مع الإسلام أو الذين يروا في القومية نوع من عودة إلى عصبية قد نهى الإسلام عنها أو أولئك الذين ينادون بالوحدة الإسلامية بدلاً من الوحدة العربية نجد الحصري يرى أنه برغم أن فكرة الوحدة الإسلامية تعد أوسع وأشمل من مفهوم الوحدة العربية إلا أنه ليس بالإمكان المناداة بالوحدة الإسلامية قبل المناداة بالوحدة العربية، لذلك نجده يؤكد أن من يعارض الوحدة العربية هو في الحقيقة معارض للوحدة الإسلامية أيضاً.
    بعض أقواله وآرائه :
    يقول (( إنَّ الدعوات الإقليمية الانعزالية تعوق رصّ الدول العربية في جبهة موحَّدة معادية للإمبريالية )) ويقول في مقدِّمة كتابه (( العروبة أوّلاً )) : (( إنّي أعتقد أنَّ أوَّلَ ما يجب عمله لتحقيق الوحدة العربية في الأحوال الحاضرة ، وهو إيقاظ الشعور بالقومية ، وبثّ الإيمان بوحدة هذه الأمة )) .
    ويقول أيضاً : (( إنَّنا ثُرْنا على الإنكليز ، ثُرْنا على الفرنسيين ، ثرنا على الذين استولوا على بلادنا ، وحاولوا استعبادنا .. وقاسينا في هذا السبيل ألواناً من العذاب ، وتكبَّدْنا أنواعاً من الخسائر ، وضَحَّيْنا كثيراً من الأرواح .. ولكن عندما تحرَّرْنا من نير هؤلاء أخذنا نستقدس الحدود التي أقاموها في بلادنا بعد أن قطعوا أوصالها … ))
    يُلمِحُّ في مقالاته على كشف نوايا الإمبريالية ودورها في التجزئة (( إنَّ الدول العربية القائمة الآن لم تتكوّن ، ولم تتعدَّد بمشيئتها ومشيئة أهلها ، ولا بمقتضيات طبيعتها ، إنّما تكوَّنَتْ وتعدَّدت من جراء الاتفاقات والمعاهدات المعقودة بين الدول التي تقاسمت البلاد العربية وسيطرت عليها …))
    ويتعمَّق في طرحِ أفكارِه محلِّلاً ماهية الوحدة العربية : فيقول : (( ويخطئ من يظنُّ بأنَّ قضايا الوحدة العربية يمكنُ أنْ تدرَّس وتعالج بأعمال حسابية ، ولْنعلَمِ العلم اليقين بأنّ (( الاتحاد يولّد قوّة )) ليس عن طريق جمعِ القوى . فحسب . بل عن طريق إيجاد حياة جديدة ، وأوضاع جديدة تولّد قوى جديدة ، تفوق مجموع القوى المتفرِّقة بآلاف الدرجات …)) وحول علاقة الفكر القومي بالدين ، وما تعرَّض له من ردود ونقاشات يبيّن الحصْري وجهة نظره في فصل الدين وعدم اعتباره من مقوِّمات القومية . (( إن التفكير في بعض الأمورِ مستقلاً عن الدين ، لا يعني إنكار الدين ، إنَّما يعني اعتبار تلك الأمور مما لا يدخل في نطاق الأمور الدينية . وذلك لا يحول دون الرجوعِ إلى الدين في سائر الميادين . ولذلك كلِّه . قلت ولا أزال أقول : إنَّ نَعْتَ القومية باللادينية والقوميين باللادينيين . لا يتفق مع حقائق الأمور بوجه من الوجوه … ))
    هذه الآراء والأفكار وضعته في مواجهة فكرية مع أنصار الرابطة الإسلامية .. فتصدى لهم عن طريق الحوار فنفى كون الدين عاملاً من عوامل تكوين الأمة العربية ، وأنكر دوره في تشكّل الفكرة القومية العربية . وحذَّر من اعتبار الدين عاملاً أساسياً رغم أنه يراعي تأثير الإسلام على الجماهير العربية العريضة . ويؤكّد الحصري أن الموقف الذي يقفه دعاة الرابطة الإسلامية حيال الوحدة العربية يجعلهم في مواقع العداء لمصالح الأمة العربية . فهم بنفيهم العصبة الجنسية وبتأييدهم للعصبة الدينية يسهمون في تعميق النـزاع بين المسلمين والمسيحيين وغيرهم من الطوائف فيقول : (( كيف يمكن لأحد أن يأمل بتكوين وحدة من البلاد الإسلامية التي تتكّلم بلغات مختلفة . دون تكوين وحدة من البلاد التي تتكلّم بلغة واحدة ، ولا سيما التي تتكلم بلغة القرآن .. ) )
    إنَّ اهتمام الحصْري بالقضايا المصيرية كان يدفعه إلى الحوارات والكتابة والإدلاء بآرائه . وقد تناثرت آراؤه القيمة في كتبه ومساجلاته ومحاضراته وهي ذات قيمة. فاعتبر الجامعة العربية خطوة بالغة الأهمية ،وهي سبيل إلى التلاحم القومي وبعث الوعي القومي الذي اعتبره سبيلاً إلى التلاحم في حال توفر الأسس الموضوعية لها . ويخرج بنا إلى آراء تحتاج إلى وقفة متأنية فيقول : (( إن الجامعة قد ألحقت الضرر بالقومية العربية بدلاً من أن تعمل لخيرها . قوبلت في البداية بحماسة شديدة ، لكن الوقائع خيَّبت آمال الكثيرين ويرى أيضاً : من الخطأ المطابقة بين جامعة الدول العربية وبين المسيرة الوحدوية القومية . ويؤكد على كونها جامعة للدول العربية لا جامعة عربية والأخيرة لا تزال بمثابة المثل الأعلى الذي تصبو إليه النفوس المدركةُ معنى العروبة ))
    وفاته
    وفي سنة 1965م، عاد إلى العراق وتوفي في بغداد في 4 شوال 1388 هـ/ 23 ديسمبر/كانون الأول 1968م، وصلى على جنازته الحاج معتوق الأعظمي في جامع أبو حنيفة، ودفن في مقبرة الخيزران، في الأعظمية، قرب مرقد الشيخ رضا الواعظ.
    وكرَّمته جامعة الدول العربية بعد وفاته وخصَّصت أسبوعاً لدراسة فكره ورؤيته تقديراً لدوره القومي والتربوي .
    المصادر والمراجع
    أعيان الزمان وجيران النعمان في مقبرة الخيزران - وليد الأعظمي - بغداد - مكتبة الرقيم - 2001م - صفحة 211.
    الدليل العراقي الرسمي - بغداد - مطبعة دنكور - 1936م - صفحة 889.
    مقالات فهمي المدرس الناقدة لمنهج الحصري في المجلات والجرائد العراقية.
    من النيل إلى الفرات..مصر وسوريا وتحديات الصراع العربي الإسرائيلي - جمال سلامة علي - الناشر دار النهضة العربية - 2003 - من ص 25 : ص 27.


    ويكي
    رد مع اقتباس  
     

  2. #2  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    ساطع الحصري والتعليم وهموم ابناء العراق


    لعلّ واحدة من اهم الانتكاسات التي تعرض لها التعليم الاولي والابتدائي في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وحتى الآن هو تسلط البعض وعملهم على اعتماد آراءهم الشخصية بدفع متبنياتهم الخاصة الى الواجهة والعمل على تكريسها لتكون أساساً في نظام تعليم من المفترض ان يكون علمياً يدفع بأتجاه تطورهم لا ان يسهم في بقاءهم اسارى منظومة بعينها يراد لها الرواج وللمثال لابد ان نستطلع ونقرأ عن الدور الذي لعبه ساطع الحصري منذ الدفع به من قبل الملك فيصل الأول لوضع سياسة تعليمية في المدارس العراقية الابتدائية تحديداً لازالت قائمة حتى الآن رغم تجاهر الحصري برفض الدين ونشره مفاهيم القومية والعنصرية ولانعلم السبب في بقاء هذه السياسة وتطبيقاتها الخاطئة الهدامة حتى يومنا هذا رغم مرور ما يقارب التسعين عاماً على انطلاقتها، وللاسف فالمشكلة في بلادنا أعمق من خلدونية الحصري وبعض ما تبقى من تراثه الذي عفى عليه الزمن، لأن المسألة برمتها في خانة عدم وجود سياسة واضحة ليس في ترتيب ووضع المناهج بل تعدتها الى عدم رصانة التعليم الابتدائي وما قبله والدليل إننا نجد الكثيرين اليوم من التلاميذ والطلبة وفي صفوف الرابع والخامس والسادس وحتى بعض مراحل الدراسة المتوسطة لايقرءون ولايكتبون ولانعلم لماذا يصلون حتى هذه المراحل دون ان تستوقفهم ادارات المدارس وأسرهم وتسألهم عن سبب تأخرهم وعدم وصولهم الى المستويات المطلوبة أسوة بأقرانهم. لقد درج النظام التعليمي الابتدائي في العراق في العقدين الاخيرين على تمرير أعداد كثيرة من الطلبة والتلاميذ وإيصالهم الى مراحل تعليمية ليس من المفترض أنّ يصلوا اليها إلاّ باستحقاق لأنهم سيعانون ويفشلون لاحقاً لذا لابُدّ من التشديد وتفعيل نظم الرقابة ومحاسبة التدريسيين وإدارات المدارس بشكل مستمر لنضمن نجاح أجيالنا القادمة، كما لابُدّ من استثمار الدعوات التي تنطلق هنا وهناك ومنها الاهتمام بالتعليم المبكر وهو التعليم دون الابتدائية الذي يمثل أساساً مهما يبنى عليه الدراسة الابتدائية والإعدادية والجامعية وإذا كان الأساس رصيناً فستكون الدراسة في المراحل اللاحقة قوية ومتينة وإذا كان الأساس ضعيفا فستكون النتائج ضعيفة ومتلكئة حتماً حيث ان هناك 41 % في المعدلات العالمية من الاطفال دون الابتدائية بحسب الاحصاءات المعتمدة ممن يدخلون الى الروضات ويتعلمون في سن مبكر وفي المنطقة النسبة لمن يتعلم 18 % ولكننا في العراق تنخفض نسبة التعليم المبكر الى 7% فقط و 10 % من هذا الرقم المتواضع يشمل المناطق الريفية و90% داخل المدن مما يعني ان هناك نقص كبير في مسألة التعليم المبكر تحتاج الى معالجات حقيقة كل ذلك حسب إحصائيات اليونسكو واليونسيف هاتين المنظمتين الدولتين اللتان تتعاملان مع وزارة التربية بتطوير هذا الواقع، من هنا لابد من الاحاطة باهمية هذا الامر لاننا بحاجة الى وعي وثقافة جماهيرية واسعة لدفع أطفالنا الى التعليم المبكر كذلك لابد ان تسهم المؤسسة التربوية عبر برامج التثقيف والتعريف وتطوير خططها لتحسين الواقع التربوي و الاهتمام بهذه الشريحة الواسعة والكبيرة وهذا يتطلب استحداث مديرية في وزارة التربية تختص بشؤون التعليم المبكر تأخذ على عاتقها وضع الخطط والتفاصيل للنهوض بهذه المهمة التي يعتبرها الكثيرون مهمة وطنية ينبغي التعامل معها بمسؤولية كبيرة لنضمن نجاح وتفوق أجيالنا القادمة, إنّها دعوة للعمل أطلقها السيّد الحكيم حرصاً منه على مستقبل شعب وحياة أمة جديرة بالحياة عبر بوابة العلم والتعليم فهل من مجيب؟.
    عن دجلة نيوز


    رد مع اقتباس  
     

  3. #3  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    ساطع الحصري.. الدين والعلمانية
    الوحدة
    الأحد14/8/2011
    في كتاب صغير الحجم , كبير الفائدة تناول الكاتب احمد ماضي الكثير من الموضوعات التي اشتغل
    عليها المفكر النهوضي / ساطع الحصري / لتبيان العلاقة بين الدين والعلمانية . وساطع الحصري مفكر سياسي قومي , عدو الإمبريالية والاستعمار . وفي نظره أن العرب , درسوا التواريخ العربية . والامة العربية من اعظم الأمم في التاريخ , كانت لها حضارة قبل الاسلام , وارتقت كثيراً بعد الاسلام , ساعدهم المسيحيون العرب في بنائها . لقد كان لساطع الحصري رؤيا عصرية علمانية لإذكاء مسيرة العرب التحررية الوحدوية على حد تعبير المؤرخة الروسية / تيخونوفا / ولعل ما نشر في كتابها ( ساطع الحصري رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي ) من الاسباب التي حفزت احمد ماضي على تقصي مصادر علمانية الحصري وتجلياتها في الفكر والممارسة السياسية معا . يحدوه في ذلك حشد من الدراسات التي شددت على ان الدعوة الى القومية العربية العلمانية ولدت على ايدي مفكرين مسيحيين , لكن انخراط الحصري فيها اعطاها زخما كبيرا نظرا لموقعه الفكري في الوطن العربي , فهو من اكثر المفكرين العرب المسلمين ادراكا لاهمية الدعوة الى القومية العربية العلمانية التي تعد بحق المدخل السليم الى بناء مواطنه عربية حقيقية , فلا تمييز بين عربي واخر على اساس ديني . ولقد نبه احمد ماضي الى ان بعض دارسي الحصري قد اتهموه بكثير من التسرع وقليل من الدراية والاطلاع المعمق على كامل تراثه الفكري , انه تأثر الى حد بعيد بالقومية الاوروبية ذات المنحى العلماني التي دعت وفق النموذج الفرنسي والى فصل الدين عن الدولة . لا شك في أن الحصري تعرف عن كثب على المصادر الاساسية للقومية العلمانية من مصادرها الغربية مباشرة 0لكنه لم يقتبس أياً من شعاراتها . فأسس مقولات علمانية مبتكرة ذات توجه قومي عربي غايتها توحيد شمل العرب في دولة مركزية علمانية تعتمد العلوم العصرية والبحث العلمي والفكر العقلاني بمختلف تجلياته وكان هاجسه قيام دولة قومية علمانية ,تحت لوائها جميع العرب من جميع المذاهب والطوائف وفي جميع المناطق » فالدين لله والوطن للجميع « 0 والوطن المنشود يضع المسلمين والمسيحيين على قدم المساواة , فللمسيحيين ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من واجبات . وخشية ان يتهمه الاسلاميون بمعاداة الدين ووضع القومية العربية العلمانية في موقع التعارض مع الدين الاسلامي بحيث يسهل ضربها ومحاربة الداعين والمنتسبين اليها , دافع عن مقوله مبتكرة لديه , رفض فيها نعت القومية العربية باللا دينية والقوميين العرب باللادينيين . وأكد أن نعت القومية العربي باللادينية يشوه معانيها تشويها كبيرا لأنها لا تتضمن اصلا أي إنكار للدين 0 وليست على تضاد معه 0 إلا أن دعاتها ينأون بالدين عن التسييس الامر الذي يجعل القابضين على السلطة عرضة للحساب والمساءلة أمام الشعب وفق ما نصبت عليه تعاليم الاسلام من جهة وما اقرته القوانين الوضعية في الدول الديمقراطية المتطورة التي تجعل الشعب وليس الحاكم مصدر جميع السلطات . وشدد على ان الحضارة المنشودة لبناء نهضة عربية جديدة سوف تكون عربية لادينية بل مدنيةٍ علمانية . ولقد تمسك الحصري طوال ايام حياته بأن الحضارة العربية لم تكن بحته بل غنية ومتنوعة .‏
    رد مع اقتباس  
     

  4. #4  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    ساطع الحصري ومدرسة الموسيقى في العراق


    ساطع الحصري ومدرسة الموسيقى في العراق
    إبراهيم العلاف
    قلة من الناس تعرف بأن للأستاذ ساطع الحصري المربي والمفكر المعروف ، والذي عمل مديرا عاما للمعارف –التربية في العراق بعد تشكيل الدولة العراقية الحديثة ، كان أول من فكر في تأسيس ماسمي في حينه "المعهد الموسيقي العراقي " . وقد تأسس المعهد أواخر كانون الثاني –يناير سنة 1936 وقد اشغل المعهد جناحا خاصا من نادي المعلمين .وكان الأستاذ الحصري في تلك السنة يعمل مديرا عاما للتدريس في وزارة المعارف –التربية ، وقد استقدم لهذا المعهد فريقا اختصاصيا من كبار الفنانين وأسندت وزارة المعارف إلى الأستاذ حنا بطرس إدارة المعهد .
    ومما أنجز آنذاك تشكيل فرقة موسيقية كاملة العدة قوامها طلاب دار المعلمين ليقوموا بدورهم عند تخرجهم من المدرسة بالتدريب الموسيقي في مراكز الألوية العراقية . وقد بدأت التدريبات الموسيقية في أوائل نيسان من تلك السنة ومما ذكره الدليل الرسمي العراقي لسنة 1936 أن إدارة المعهد عملت على تأليف فرقة موسيقية على غرار فرقة الجيش الموسيقية وكان معلمي النشيد يدعون للاجتماع مرتين أسبوعيا لتوحيد الأناشيد المدرسية وتنظيمها وتعميم احدث الأناشيد وتأليفها على حسب النوتة الشرقية او ما سمي في حينه "المدرج الميلودي " .وقد تطورت فكرة المعهد فيما بعد ونجم عنها فتح مدرسة بغداد للموسيقى والباليه سنة 1969 واستقدم لها مدرسون من مسرح البولشوي الروسي وكان للأستاذ منير بشير وأخيه فكري وزوجة فكري السيدة أكنس بشير والتي هي عراقية من أصل روسي دور في تأسيس هذه المدرسة وتطويرها وتولت إدارتها فيما بعد ولمدة أكثر من 20 سنة السيدة ناجحة نايف حمادي
    التعديل الأخير تم بواسطة طارق شفيق حقي ; 23/10/2014 الساعة 08:51 PM
    رد مع اقتباس  
     

  5. #5  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    دور ساطع الحصري في ترسيخ الطائفية في العراق

    عبد الخالق حسين


    لعب المفكر ساطع الحصري (1880-1968)، أحد الرواد الأوائل في حركة القومية العربية، دوراً كبيراً في ترسيخ الطائفية في الدولة العراقية الحديثة، وربطها بالقومية العربية، حيث اعتبر بحق عرابها، وأسبغ عليها طور الحداثة. وغني عن القول أن الطائفية كانت موجودة في العراق منذ تأسيس الدولة الأموية، ولكن كما أشرنا في الفصل السابق وما قبله، أنه خلال حرب الجهاد، وثورة العشرين، ومهما كان موقفنا منهما، توفرت أجواء وظروف جيدة للتقارب بين الشيعة وأهل السنة، وبالتالي كان ممكناً استثمار هذه الأجواء للتخلص من الطائفية، ولكن هذين الحدثين (حرب الجهاد وثورة العشرين) دفعا المحتلين لأخذ موقف انتقامي من القائمين بهما، ولقي هذا الموقف التأييد والدعم من القادة العراقيين الجدد، خريجو المدرسة التركية، الذين أرادوا الاستمرار على الموروث التركي العثماني في العزل الطائفي. ولذلك يعتقد البعض أن الإنكليز كانوا قد استوردوا الحصري إلى العراق خصيصاً لهذا الغرض.


    ولم يتوقف دور الحصري عند الحدود العراقية فحسب، بل تعدى تأثيره في مختلف المجالات السياسية والفكرية والتربوية إلى البلاد العربية الأخرى، فهو مفكر موسوعي، وصاحب المؤلفات العديدة في الفكر القومي العربي، واعتُبِرَ فيلسوف العروبة بعد أن غادر العراق عام 1941. لذلك فالرجل يستحق منا وقفة لمناقشة دوره في تكريس الطائفية وتنشيطها، إثارة نعرتها في الدولة العراقية الحديثة دون أن نغمط حقه.


    ونظراً لأهميته، فقد صار الحصري بعد وفاته موضوعاً للباحثين في كتابة البحوث والرسائل الجامعية، ليس في البلاد العربية فحسب، بل وفي أمريكا وروسيا وغيرهما. ولعل من أهم هذه البحوث هو الكتاب القيم الذي ألَّفه الباحث الأمريكي ويليام كليفلاند، الأستاذ في جامعة برنستون، الموسوم: "الحصري من المفكرة العثمانية إلى العروبة"، وكتاب آخر للباحثة الروسية، تيخونوفا الموسوم: "ساطع الحصري رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي." ويعتبر كتاب كليفلاند من أهم المصادر في هذا الصدد.


    يقسّم كليفلاند حياة الحصري إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى هي التي قضاها في خدمة الدولة العثمانية، والتي حاول الحصري إحاطتها بالكتمان والغموض. إلا إن كليفلاند استطاع الحصول على موافقة الحكومة التركية والإطلاع على الوثائق التاريخية في العهد العثماني التي تخص حياة الحصري. فاكتشف الباحث القسم الغامض من حياته.


    والحصري مشكوك في أصله، فهو يدعي أنه من سلالة الإمام علي (ع)، ولقبه الحصري يعود إلى بلدة في اليمن، إلا إن الشاعر محمد مهدي الجواهري يؤكد في كتابه (ذكرياتي ج1) أنه سأل الكثيرين ممن التقاهم من أهل اليمن، عن وجود مكان في اليمن بهذا الاسم، فأنكروا ذلك. ويدعي الحصري أن والداه استقرا في مدينة حلب، وأنه من مواليدها عام 1880، وهذا ما ينكره كليفلاند حيث دقق في سجلات المواليد في تلك الفترة في حلب، فلم يعثر على اسمه. ويستنتج الباحث أنه على الأغلب أن ساطع الحصري قد ولد في إسطنبول حيث نشأ وتعلم فيها، ولم يرحل إلى البلاد العربية حتى بلغ الأربعين من عمره وبعد سقوط الدولة العثمانية.


    فالمرحلة الأولى من حياة الحصري البالغة أربعين عاماً، هي مرحلة العثمنة، (من العثمانية) حيث عاش وتثقف في إسطنبول وباريس. ففي هذه المرحلة كان الحصري من أبرز المدافعين عن الفكرة العثمانية ضد الأفكار الداعية إلى إجراء إصلاحات في الدولة على ضوء تقسيم الشعوب قومياً.. ولم يكن ذلك على أساس ديني.. لأنه ظل في جميع مراحل حياته بعيداً عن الإسلام. ولم يكن قومياً عربياً في مرحلته التركية العثمانية، وعندما قام الحاكم التركي جمال باشا في سوريا، الملقب بجمال السفاح، بإعدام القوميين العرب ومنهم عبد الغني العريسي وعبد الكريم خليل الذي كان صديقاً للحصري، لم يتحرك الحصري ولو بكلمة تأبين لصديقه، ولم يساهم في حركة دعاة الدستورية والحرية، وكان من جماعة الأتراك الشباب (تركيا الفتاة) التي كانت تطالب بعصرنة الإمبراطورية العثمانية، فكان مع العثمنة وضد القومية العربية، ولم يغيّر موقفه منها إلا بعد أن سقطت الدولة العثمانية على أيدي الحلفاء في الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وانسلخت عنها الأقطار العربية.


    والجدير بالذكر، أن في أواخر العهد العثماني كان شقيق ساطع الحصري، بديع بيك، متصرفاً للواء الناصرية. وكانت الحكومة المركزية في إسطنبول قد خططت عملية اغتيال السيد طالب النقيب لأنه كان من دعاة الحركة العربية، فأناطت هذه المسؤولية بالسيد بديع بيك مع القائد العسكري التركي في البصرة فريد بيك. ولكن جماعة النقيب كانوا أكثر حذراً ومهارة، وقرر السيد طالب النقيب أن يتغدى بهما قبل أن يتعشيا به! فقُتِلا على أيدي رجال النقيب في 19 حزيران 1913 في تلك المحاولة. (1). ولعل هذه الحادثة كان لها أثر بليغ في إثارة حقد الحصري على العراقيين الذي ظهر في سلوكه فيما بعد.


    ولما تأسست المملكة العربية السورية، غيَّر الحصري موقفه السياسي ورحل إلى الشام عام 1920 حيث كان في الأربعين من العمر، فانتمى إلى جماعة الأمير فيصل بن الحسين (شريف مكة)، وعُيّن مديراً للمعارف. وهنا بدأت المرحلة الثانية من حياته. وكان يجهل اللغة العربية مما أثار حنق السوريين عليه، وكان يجيد التركية (لغة الأم) والفرنسية كلغة ثانية.


    بعد سقوط المملكة السورية في واقعة ميسلون عام 1920، عاد الحصري إلى إسطنبول، ثم إلى إيطاليا وبعدها سافر إلى القاهرة بحثاً عن عمل في التدريس، وهنا سمع من الدوائر الإنكليزية أن هناك مخططاً لتأسيس مملكة في العراق، وتنصيب فيصل ملكاً لها، فراح يبحث عن أحوال العراق وشعبه والتقى بالشاعر العراقي عبد المحسن الكاظمي الذي كان مقيماً في القاهرة آنذاك حتى وفاته عام 1935. وكل ما اهتم به الحصري من معلومات عن العراق هو أن في العراق طائفة شيعية تشكل الأغلبية العربية، وكانت مضطهدة من قبل الحكم العثماني. فقرر الانتماء إلى جماعة فيصل ثانية. (2)

    وصل الحصري بغداد في آب1921، لتبدأ أخطر مراحل حياته التي ظلت مجهولة على القارئ العربي بينما عُرفت المرحلة الأخيرة بتفاصيل وافية بعد خروجه من العراق عام 1941، ونشره عدداً من المؤلفات القومية المهمة حتى وفاته.

    يقول الأستاذ حسن العلوي: "لم يقم الحصري بأية علاقة مع أي عراقي خلال عشرين عاماً من عمله وإقامته في العراق. ولم يذكر العراق بخير،.. لكنه تحدث كثيراً عن العجم.. وكثرة العداوات.. والمؤامرات على شخصه. فخلال الأشهر الست الأولى من وصوله بغداد، قضاها مع الإنكليز وانعقدت بينه وبين عدد منهم مثل كورنواليس، وغاربيت، والمس بيل، ومع سميث فيما بعد، أواصر عمل مشترك ومودة روحية." (3)

    اعتمد الإنكليز على ساطع الحصري لتحقيق المخطط البريطاني كعراب للقومية العربية في العراق وربطها بالطائفية، واضطهاد أربعة أخماس عرب العراق، وحرمانهم من حقوق المواطنة في بلدهم. عمل بإجهاد لتنفيذ هذا المخطط الطائفي خلال عمله في العراق كمدير عام للمعارف. ولم يشعر الحصري بأي انتماء للبلد الذي عاش فيه عشرين عاماً، ولم يعرف أو يقدر مشاعر سكانه إزاء تاريخهم وأعرافهم.


    فلسفة الحصري

    يؤكد كليفلاند أن الحصري أرتكز إلى أفكار التنوير البرجوازي الأوربي وليس إلى مذاهب جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده الإصلاحية، فقد شغل موقع "المراقب الأجنبي"، الذي حلَّق بعيداً فوق البنية الاجتماعية المحيطة (4). أما نضاله ضد دعوات الإقليمية والجامعة الإسلامية فيصفها الباحث بقوله: "إن اقتراحاً مثل هذا التعديل الجديد والجذري في الولاء لا يمكن أن يتقدم به إلا شخص، لا يضرب جذوراً عميقة في المجتمع العربي، ولا تهمه الاعتبارات السياسية والارتباطات المحلية" (5).


    وقد تأثر الحصري بفلسفة فيختة وهيغل، لذلك اقتبس أفكار هذين الفيلسوفين الألمانيين وإضفاءها على القومية العربية. وفي هذا الصدد تقول الباحثة الأمريكية ج.هايم التي ترّد مآثر الحصري في حقيقة الأمر إلى "تقديم فيختة وهيغل في صورة أساتذة للفكر العربي الإسلامي" . وتقول في مكان آخر إن نزوع الحصري إلى صياغة نظريته في قوالب تتوافق شكلياً مع الإسلام، إنما جاء من كونه "قد اتخذ من فيختة، لا القرآن مصدر إلهام له." (6) وليس غريباً من شخص كالحصري، المعجب بالفلسفة الألمانية (هيغل وفيختة) أن يتبنى الفاشية في التنظير القومي، فيؤكد كليفلاند ذلك عن الحصري قوله: "إن النظام الذي يجب أن تتجه نحوه آمالنا ومساعينا هو نظام فاشستي." (7)

    والحصري لا ينكر موقفه من الدين ودوره في العروبة. فهو برغم تأكيده على "الدور العظيم المنقطع النظير الذي قام به ظهور الإسلام في تكوين الأمة العربية، وتوسيع نطاق العروبة" إلا إنه يستدرك قائلاً: "ومع كل ذلك لم تر أبحاثي مجالاً ولا لزوماً لاعتبار الدين من المقومات الأساسية للقومية العربية" فرغم "إن الحركة الإسلامية … أوجدت تحولاً انقلابياً خطيراً في أحوال العرب… لم تبق مرتبطة بالقومية العربية ارتباطاً تاماً، لأن بعض الجماعات استعربت دون أن تعتنق الديانة الإسلامية. وبعكس ذلك فإن بعض الجماعات اعتنقت الديانة الإسلامية دون ان تستعرب." (8).


    دور الحصري في التربية والتعليم

    عُيّن الحصري مديراً للمعارف بالإضافة إلى كونه مستشاراً للملك. ومن الأحداث اللاحقة تبيَّن أن كلمته كانت فوق كلمة الوزير، بل وحتى فوق كلمة الملك في بعض الأحيان، لأنه كان مدعوماً من قبل الإنكليز، حيث أنيطت به، وبإيعاز من الإنكليز، مهمة نشر الطائفية ومعاداة الشيعة، والطعن في عروبتهم ووصفهم بالعجمة والشعوبية.

    وكان للحصري تأثير بالغ في وضع المناهج التدريسية، وتوجيه طلاب المدارس وجهة تفضي إلى اغتراب العراقيين عن تراثهم الأدبي. ففي كتب الأدب العربي وتاريخه، لم يذكر أي أديب أو شاعر عراقي من أصول شيعية، قديم أو معاصر، رغم كثرتهم ودورهم الكبير في خدمة الأدب العربي، من أمثال: الكميت بن زيد الأسدي، والمتنبي، والمعري، والمعاصرين منهم من أمثال: محمد رضا الشبيبي، ومهدي المخزومي، وباقر الشبيبي، والفقيه والشاعر الكبير محمد سعيد الحبوبي، أو الجواهري، واستمرت الحالة هذه طوال العهد الملكي، بينما ركز على الأدباء والشعراء العرب من سوريا ومصر وغيرهما دون العراقيين.


    والجدير بالذكر أن الحصري هو الذي أدخل في المدارس عقوبة الجلد والطرد ضد تلامذة، العقوبة المذلة التي أثبت علم النفس آثارها النفسية المدمرة على شخصية التلميذ ومستقبله، ودفعه لممارسة العنف مع الآخرين. وبهذه المناسبة، أقترح على المسؤولين عن التربية في العراق الجديد، وحرصاً على تربية الجيل الحالي والأجيال القادمة تربية علمية صحيحة، وحمايتهم من العقد النفسية والانحرافات الأخلاقية، اقترح بحث البرلمان العراقي على إصدار قانون يمنع بموجبه العقوبات الجسدية في جميع مراحل التعليم.


    دور الحصري في تمذهب السلطة

    ومما تقدم، نعرف دور الحصري في بناء الدولة العراقية الحديثة على أساس الطائفية التي مارستها الحكومات العراقية المتعاقبة بضراوة ضد غالبية الشعب العراقي، ابتداءً من حكومة عبد الرحمن النقيب إلى حكومة صدام حسين، باستثناء فترة حكومة ثورة 14 تموز 1958، لأن قائدها الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم أصر على معاملة العراقيين بالتساوي، وبدون أي تمييز عنصري، أو طائفي، أو عشائري، أو مناطقي ... لذلك انتقموا منه شر انتقام.


    لقد تركزت حملة الحصري وحكومة "النخبة" على التشكيك في عروبة الشيعة التي استمرت لحد هذه اللحظة. والمعروف أن العشائر في الوسط والجنوب هم من العرب، ومن المهزلة بمكان ان تبرز الحاجة للدفاع عن عروبتهم، فهم عشائر التميم، والخزاعل، والزبيد، وربيعة، والخفاجة، وآل فتلة، والجبور، وبني حجيم، وبني أسد، والأزيرج، وبني كعب، وبني لام، وشمر، وعنزة وغيرهم. فهؤلاء أختلطوا بأقوام وادي الرافدين من السومريين، والأكديين، والبابليين والآثوريين والكلدانيين وغيرهم. وبمرور الزمن اختلطت هذه العناصر البشرية في بوتقة واحدة وهي الأمة العراقية.


    كما وتركزت حملة الحصري ضد ثورة العشرين وتشويه سمعة قادتها. فيذكر في مذكراته على لسان أحد الإنكليز وهو(غاربيت) تنديداً واسعاً بالثورة والثوار قائلاً: "يجب أن نعذر هؤلاء-الإنكليز- لأنهم شاهدوا الفظائع التي ارتكبها الثوار. إنهم ذبحوا بعض الضباط الإنكليز ذبح الشاة. وقد مثلوا بأيديهم وبأرجلهم وقطعوها إرباً إرباً، وقد وجدنا أكثر من عشر جثث بمثل هذه الأحوال الفجيعة. نحن سعينا أن نخفي ذلك. لم نقل العرب يحاربون هكذا، بل قلنا لعائلاتهم أننا دفناهم بالاحتفالات اللازمة، ولكن هناك من عرف ذلك وشاهده فإذا ما رأيتموهم يسلكون مسلك القسوة يجب أن لا تتعجبوا على ذلك" (9) . ويقول العلوي لا شك فمن التعابير الحاقدة، يظهر جلياً أنها عبارات الحصري نفسه وليست غاربيت.


    ويلخص حسن العلوي موقف الحصري من العراق على الشكل التالي (10): - مناوئ إلى حد البغض للوطنيين العراقيين سنة كانوا أم شيعة.

    - مناوئ للعراقيين الشيعة وطنيين كانوا أم عملاء.

    - مناوئ للأكراد في الحالتين.


    وكان الحصري يمارس الطائفية بدهاء، خاصة في تعامله مع الطلبة الشيعة في إرسال البعثات إلى الخارج، إذ يذكر الراحل عبد الكريم الأزري عن إنحياز الحصري ضد طلبة الشيعة في إرسال البعثات فيقول: " لا أذكر تماماً عدد طلاب البعثة العلمية الموفدة إلى خارج العراق في السنة الدراسية 1931 ولكني أتذكر أن عدد الطلاب في البعثة من الشيعة كان أقل بكثير من عدد اليهود وكان قد حدث حادث ليس غريباً ولا غير متوقع للبعثة المذكورة إذ أوفد معظم طلاب البعثة العلمية إلى (صفد) في فلسطين لكي يدرسوا اللغة الإنكليزية هناك ويتقنوها. وهناك في صفد التحق أحد طلاب البعثة من اليهود بإحدى المنظمات الصهيونية التي تبنته."(11)


    فتنة أنيس النصولي

    كلما أرادت بريطانيا توقيع أية معاهدة أو اتفاقية مجحفة ضد العراق، كانت توعز للحصري أن يقوم بعملية لشق وحدة الصف الوطني، وذلك بإثارة فتنة طائفية لإشغال الشعب وإلهائه في قضايا جانبية وتمرير المعاهدة. فعندما أرادت بريطانيا توقيع اتفاقية النفط وكان الحصري قد استورد مدرساً لبنانيا للتدريس في العراق يدعى أنيس النصولي الذي قام بنشر كتاب تعرض فيه بشخصية الإمام علي، وفرضه على طلبة المدارس، وكان عملاً مدبراً متحدياً مشاعر العراقيين، وأثار الكثير من الاضطرابات.


    جاء في كتاب النصولي الموسوم: (الدولة الأموية في الشام) وطبعه في مطبعة دار السلام في بغداد في سنة 1926، وسبب ردود أفعال عنيفة من قبل الشيعة لأنه تعرض بالإمام الحسين وتبجيل بني أمية وخاصة يزيد بن معاوية، ومما جاء فيه سب الحسين قوله: " ولطالما استمسك بنو أمية بعروة الخلافة وبينوا جلالها وأهميتها الدينية، فادعوا أن الله ناصرها ومذل أعدائها، وإن الذين يسعون في الخلافة عليها هم الكفرة الفجرة. ولا غرابة في ذلك فالعاهل الأموي كان خليفة رسول الله، ومن يخرج على الخليفة فإنما يخرج على رسول الله، ومن يخرج على رسول الله فإنما يخرج على الله ومقره جهنم وساءت مصيرا." والجدير بالذكر أن حسين جميل كان مؤيداً للنصولي، ولم ير في كتابه إهانة لمعتقدات الشيعة". ويعلق عبدالكريم الأزري قائلاً: "إني أوجه هذا السؤال، بل الامتحان الوجداني، إلى حسين جميل، المفكر والمحامي، والقانوني الضليع، راجياً منه جواباً صريحاً، وكل أملي أن يخرج من هذا الامتحان بنجاح."(12)


    وكان المخطط هو فرض كتاب النصولي على المدارس الثانوية في درس التاريخ بتعليمات من الحصري طبعاً، الأمر الذي أثار فتنة، وخرجت الجماهير إلى الشارع محتجة على هذا الإجراء الطائفي، مما حدا بوزير المعارف، السيد عبدالمهدي المنتفكي آنذاك، بفصل النصولي الذي غادر العراق، وأكد ذلك الشاعر محمد مهدي الجواهري في قصيدته "تحية الوزير" التي مطلعها: (13)

    حيِّ الوزير وحيِّ العلمَ والأدبا ........ وحيِّ من أنصـف التاريخ والكتبا

    هم حـاولوها لأغراضٍ مذمَّـمةٍ ........ حتى إذا سُعِّرَتْ كانوا لها حطبــا

    هذا نتاجُ شعورٍ جـاش جائشُـه ....... راعوا عواطفَ هذا الشعب يا غُربا


    وفتنة طائفية أخرى

    وفي حزيران /يونيو 1933، واجهت حكومة رشيد عالي الكيلاني نزاعاً طائفياً ظهرت شرارته الأولى بنشر كتاب "العروبة في الميزان" الذي كتبه المدعو عبد الرزاق الحصّان الذي كان يعمل في وزارة المعارف العراقية، أي تحت إمرة الحصري أيضاً. وكان قد طرح في كتابه هذا فكرة مفادها أن الشيعة في العراق لم يكونوا عرباً، بل أنهم انحدروا من المجوس القدماء، وهم في العراق من بقايا الساسانيين، كما أنه قدم وصفاً لنزعة الشيعة نحو إبداء الولاء إلى إيران، وإن تاريخهم هو تاريخ الشعوبية نفسه. ولقد أحدث الكتاب غضباً كبيراً بين الشيعة وخاصة في المدن المقدسة، ويكرر التاريخ نفسه إذ نجد نفس التهمة، وإلى يومنا هذا، توجه إلى شيعة العراق وقادتهم السياسيين. وقد قدمت الاحتجاجات إلى السلطات في كل من النجف وكربلاء والحلة والكوفة وغيرها من المدن والأقاليم. كما وجرت أعمال عنف وهجوم على دوائر الحكومة. وأخيراً اضطرت الحكومة بمصادرة الكتاب وتمت محاكمة المؤلف وحكم عليه بالسجن.(14). وكان واضع الرسالة (عبدالرزاق الحصان) من حاشية نوري السعيد، وظهر فيما بعد أن ياسين الهاشمي كان وراء المؤلف، وقد تبناه شخصياً طه الهاشمي طيلة حياته. (15)


    معاناة الجواهري على يد الحصري

    يذكر أن الحصري فَصَلَ الشاعر محمد مهدي الجواهري من سلك التعليم لأنه وصف في قصيدة له أحد مصايف إيران عام 1927، متهما إياه بالشعوبية والتبعية الإيرانية، وأصر على فصله رغم تدخل الملك فيصل الأول، مما أضطر الملك تعويض الجواهري بتعيينه موظفاً في البلاط. وقد خصص الجواهري عشرات الصفحات من مذكراته عما عاناه على يد الحصري من تعسف بدوافع طائفية بحتة. (الجواهري: ذكرياتي ج1).


    وقد بقت تهمة التبعية الإيرانية تلاحق آل الجواهري، وحرم العديد منهم من شهادة الجنسية العراقية التي بدونها لا يسمح لشبابهم بدخول الجامعات العراقية أو الحصول على وظيفة في الدولة. فخلال خدمتي في المناطق النائية كطبيب في قضاء أبي صخير عام 1971، تعرفت على الكثير من أفراد ينتمون إلى عائلات تحمل لقب الجواهري، ومنهم شباب خريجو المدارس الثانوية. ولما سألتهم لماذا لم يلتحقوا بالجامعة لإكمال دراستهم، كان جوابهم أن السلطات ترفض منحهم شهادة الجنسية وذلك لكونهم أقرباء شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري. فهل هناك إجحاف أكبر من هذا بحق مواطنين ساهم آباؤهم في ثورة العشرين التي تعتبر السبب المباشر لتأسيس الدولة العراقية، ولهم دور في إغناء الثقافة العربية في العراق والعالم العربي، أن يحرموا من أبسط حقوق المواطنة؟ وما زال الألم يعتصرني على هؤلاء الشباب المتحمسين لتلقي العلم، والمعرفة، ويطمحون في مستقبل زاهر لهم في وطنهم العراق، وقد حرموا من تحقيق طموحاتهم لا لشيء إلا لأنهم شيعة ومن أقارب محمد مهمدي الجواهري، وبقرار من إنسان غير عراقي أصلاً ألا وهو الحصري.


    موقف الحصري من الطوائف الأخرى

    لم يقتصر حقد الحصري على الشيعة فحسب، بل كان ضد الشعب العراقي ككل كما يبدو من أعماله الأخرى، وما الطائفية إلا إحدى الوسائل الفتاكة التي استخدمها لتنفيذ مخططه في عرقلة مسيرة الشعب العراقي بسلام. لقد عمل كل ما في وسعه على تدمير ثقة الإنسان العراقي بنفسه، فزرع فكرة في نفوس العراقيين أن العراقي لا يصلح لأي شيء. وكان العراقي لا يحصل على تعيين في وزارة المعارف إلا بشق الأنفس، إذ كان يصر على استيراد المعلمين من سوريا ولبنان ومصر وتفضيلهم على العراقيين. علماً بأن كان هناك الآلاف من خريجي المدارس الدينية في النجف وكربلاء والكاظمية وبغداد وسامراء، يصلحون للتدريس في اللغة العربية وآدابها ومادة التاريخ والرياضيات.. وغيرها.


    ولما أمر الملك فيصل بفتح دار للمعلمين في الحلة وأخرى في الموصل، رفض الحصري المشروع بشدة، وذكر في مذكراته فيما بعد، أنه رفض المشروع لأنه كان في الحلة يفيد الشيعة وفي الموصل يفيد المسيحيين، وقال ما نصه: "وأنا لم أتردد في الحكم بأن تنفيذ هذه الخطة- إنشاء دار للمعلمين في الحلة وأخرى في الموصل- يعرض الوحدة الوطنية لخطر عظيم لأنه كان من الطبيعي في تلك الظروف أن تكون الأكثرية الساحقة من طلاب دار المعلمين في الموصل من أبناء المسيحيين وفي الحلة من أبناء الجعفريين."(16)


    وكان يرفض الاعتراف بخريجي المدارس الجعفرية، وأصر على عدم تعادل شهادتها بالشهادة الثانوية. وكانت تُرفض طلبات الطلبة الشيعة في القبول في كلية الحقوق. ولما كثرت الاحتجاجات على هذا السلوك، أوعز الملك بفتح صف إضافي في كلية الحقوق لقبول الطلبة الشيعة من خريجي المدارس الجعفرية. والجدير بالذكر أن إجراء الملك هذا واجه معارضة ليس من قبل الحصري وحده، بل ومن مسؤولين آخرين سنأتي عليه في فصل قادم.


    موقف الحصري من المدارس الجعفرية

    وفي المرحلة الثالثة والأخيرة من حياته، وبعد أكثر من عشرين عاماً من مغادرته العراق، حاول ساطع الحصري أن يظهر نفسه مدافعاً عن حقوق الطوائف الأخرى ويدافع عن نفسه في مواقفه المتشنجة ضد العراقيين أيام كان مديراً عاما للمعارف. وبهذا الخصوص تدافع الباحثة السوفيتية تيخونوفا عنه وتستشهد بأقواله من مذكراته في العراق فتقول: "فقد اصطدم في منصبه كمدير عام للمعارف العراقية بإحدى المشكلات السياسية الداخلية. وكانت من بين الدوافع الرئيسية لاستقالته افتراءات الإقليميين (كذا)، الذين راحوا يتهمونه بـ"احتقار العراقيين" وبـ"خدمة الدخلاء"، وتهجمات بعض الجماعات الجعفرية، التي وصمته بمعاداة الجعفرية، وذلك بسبب إجراءاته للحد من تأثير "المدارس الإيرانية."(17) وهنا العذر أقبح من الفعل، إذ يعتبر الحصري المدارس الجعفرية في العراق التي أسسها أسرة أبو التمن البغدادية المعروفة، مدارس إيرانية. ألا يعتبر هذا السلوك طائفياً؟.


    الحصري يغير مواقفه متأخراً

    والمفارقة، أن الحصري يحاول في كتابه (حول القومية العربية) الصادر في بيروت عام 1961 أن ينتقد تماماً غيره على ما كان يمارسه هو في حياته العملية عندما كان مديراً للمعارف في العراق في العشرينات والثلاثينات، حيث لعب دوراً بارزاً في تسعير الخلافات المذهبية، وموقفه المتحيز ضد الشيعة، فيعيب في كتابه هذا على كتاب د.جمال حمدان، الموسوم بـ(دراسات في العالم العربي) الذي يتحدث فيه عن "الأقليات الدينية" (والتسمية لجمال حمدان) حديثاً، بعيداً عن اللياقة والاحترام. فعندما يذكر "الطوائف والمذاهب الإسلامية المختلفة، كالشيعة والدروز والعلويين، يقول: "إن ذلك في حقيقة الأمر ليس إلا جموداً دينياً، تحجر في بيئات محلية جبلية منعزلة". أما الحصري فيرفض رفضاً قاطعاً مثل هذا الطرح للمسألة، فيقول: " وغني عن البيان أن أمثال هذه الأقوال تتنافي مع مقتضيات السياسة القومية الرشيدة، لأن أولى قواعد السياسة المذكورة يجب أن تكون احترام جميع الأديان والمذاهب القائمة في البلاد، وتجنب كل ما يجرح عواطف معتنقيها ومشاعرهم الخاصة". (18) فهل انتبه الحصري ولو متأخراً إلى مواقفه الخاطئة إزاء الطوائف الأخرى لكي ينتقد الآخرين على مواقفهم المتعسفة التي تشبه ممارساته هو عندما كان في العراق؟ وهل غيرته الأيام ولكن بعد فوات الأوان؟؟

    كذلك اتخذ الحصري موقفاً متعسفاً من الإقليمية دون أدنى احترام لمشاعر المواطنين إزاء ثقافاتهم الوطنية والإقليمية وذلك لتركيزه على القومية العربية ككل. وهذا يعكس حياته التي قضاها في التنقل وعدم الاستقرار في أي قطر من الأقطار العربية، بمعنى أنه لم ينتمِ إلى أي بلد عربي، إذ قضى السنوات الأربعين الأولى من عمره في تركيا وعشرين عاماً في العراق، وقضى السنوات السبع والعشرين الأخيرة من عمره في الكتابة والتأليف، متنقلاً بين الشام وبيروت والقاهرة.(19). لذلك يعلل الباحث الأمريكي ويليام كليفلاند نضال الحصري ضد دعوات الإقليمية والجامعة الإسلامية فيصفها بقوله: "إن اقتراحاً مثل هذا التعديل الجديد والجذري في الولاء لا يمكن أن يتقدم به إلا شخص لا يضرب جذوراً عميقة في المجتمع العربي، ولا تهمه الاعتبارات السياسية والارتباطات المحلية".(20)


    ويظهر ذلك جلياً من مذكراته بجزئيها، وكما يقول العلوي: "فقد قضى عشرين عاماً في العراق وخرج منه دون أن يأتي ولو بإشارة إلى ذكر نخلة، أو نهر، أو جلسة بغدادية، ولم يظهر فيه أنه أرتاح يوماً لا لرائحة التراب العراقي المرشوش، ولا لرائحة خبز التنور، ولا أحب حياة الناس البسطاء في أسواقهم ومقاهيهم... ولكنه تحدث كثيراً عن كثرة العجم.. وكثرة العداوات.. وكثرة المؤامرات على شخصه.. لذلك لم يترك الحصري أثراً طيباً بين العراقيين، ولم تكن له مدرسة شعبية أو أتباع شعبيون."(21)


    ورغم أن الحصري قد كرس ما تبقى من حياته بعد مغادرة العراق عام 1941 وحتى وفاته عام 1968، في سبيل العروبة وقضية القومية العربية والوحدة العربية، إلا إنه وكغيره من القوميين العرب في العراق، قد ألحقوا أشد الأضرار بحركة القومية العربية بسب بناء القومية العربية على أساس معاداة الشيعة في العراق والتشكيك بولائهم الوطني. وبذلك فقد ضحوا بالعروبة والقومية في سبيل الطائفية البغيضة. وقد لعبت هذه السياسة دوراً كبيراً في الدمار الذي لحق بالعراق بصورة خاصة، والعالم العربي بصورة عامة.


    تلامذة الحصري

    والحق يقال، أن الراحل ساطع الحصري ترك جروحاً عميقة في الشعب العراقي، وتراثاً لا يختفي أثره بمجرد رحيله عن العراق أو إلى العالم الآخر، إذ خلَّف تلامذة أوفياء ساروا على نهجه بكل إخلاص، وما يجري الآن من حرب الإبادة ضد الشعب العراقي من قبل فلول البعث وحلفائهم أتباع القاعدة إلا نتاج الماضي وجهود هؤلاء، ومنهم السيد خير الدين حسيب (رئيس مركز دراسات الوحدة العربية) الذي قال عنه العلوي: [ يعتبر الوريث الشرعي لساطع الحصري في الطائفية وتبنى المشروع البريطاني في التشهير بالشيعة وطعن أصولهم العربية في العراق بطريقة استفزازية التي وردت في مذكرات الحصري وعلى لسان غلاة الطائفيين، يطعن في أحد منشوراته بمذهب الأغلبية العربية العراقية فقد جاء في الصفحة 216 من التقرير الذي يحمل اسم (مستقبل الأمة العربية): "ان المذهب الشيعي امتزج بالقومية الفارسية"](22)


    ومنذ سقوط حكم البعث الفاشي عام 2003، طلع علينا نفر من الكتاب من تلامذة الحصري الصغار، راحوا ينشرون مقالات ظاهرها البكاء والنحيب على الشعب العراقي، والحرص على وحدة العراق أرضاً وشعباً، وباطنها السم الزعاف لتسميم العقول، والبكاء على عهد صدام البائد، وتحقير العراق الجديد، الذي يعتبرونه قد انتهى بعد حكم صدام، فمشاركة كل العراقيين من مختلف الأطياف في الحكم، في عرفهم "محاصصة طائفية وعرقية بغيضة" وفيه نهاية العراق كدولة، وكل هذه الانتخابات والمؤسسات الديمقراطية هذه هي "ديمقراطية كسيحة"، والإدعاء بأن العراق ما كان يعرف الطائفية من قبل إلى أن جاء الأمريكان فخلقوا لنا هذه المشكلة.

    ننقل هنا غيضاً من فيض من بعض العبارات وعناوين المقالات لتي ينشرها هؤلاء، مثل: )يريدون العراق "طولة عجم"(، و: "نهاية العراق من دون شهادة وفاة !!"، و"العراق السابح في بحر الظلمات"..الخ. واعتبار الذين يحكمون العراق من بعد صدام هم "من سقط المتاع استوردهم الأمريكان". طبعاً يقصد بسقط المتاع فقط أولئك السياسيين من طائفة معينة، بدليل أن الكاتب مدح وروَّج للمشاركين في العملية السياسية من هم من طائفته، ونسي أن الذين وصفهم بـ"سقط المتاع" كانوا قد قادوا أكبر معارضة في التاريخ ضد أبشع نظام ديكتاتوري فاشي همجي يقتل معارضيه بأحواض الأسيد، ويطاردهم بكاتمات الصوت في كل مكان من المعمورة. كما و يعتبر هذا الكاتب خريجي المدرسة التركية العثمانية الذين رحبوا بالاحتلال البريطاني أوائل القرن الماضي، وتعاونوا معه، بأنهم وطنيون مخلصون وديمقراطيون ليبراليون، والويل لمن ينتقدهم، بينما يعتبر الذين تعاونوا مع الاحتلال الأمريكي في سبيل الخلاص من أبشع نظام فاشي، هم من سقط المتاع!! واعتبار كل من عارضه في الرأي متطفلاً على الثقافة، يجب عزله ما لم ينل شهادة حسن السلوك منه!!، وكإجراء ترهيبي، يعتبر هؤلاء كل من يكتب ضد الطائفية التي مورست في العهود السابقة هو طائفي "يدعو إلى الإثارة للانقسام والجهر بالانتقام".

    وهكذا يجيدون ليّ عنق الحقيقة، ورفع سيف تهمة الطائفية ضد كل من يتجرأ لفضح الطائفية ومعالجتها. يقول المثل العربي:"رمتني بسهمها وانسلت".

    وليث شعري، كيف يمكن لهؤلاء توحيد الأمة العربية في "وحدة ما يغلبها غلاب" كما يدعون، وهم يميزون بين مكونات الشعب العراقي أبشع تمييز وبدوافع طائفية؟؟

    ــــــــــــــــ

    المصادر

    1) علي الوردي، لمحات اجتماعية، ج3، ص214-215، دار كوفان- لندن، 1992

    2) حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية في العراق، ص 254-255، مطبوعات CEDI فرنسا عام 1989.

    3) حسن العلوي، نفس المصدر، ص 257

    4) وليم كليفلاند، الحصري من المفكرة العثمانية إلى العروبة، ص71.

    5) وليم كليفلاند، نفس المصدر، ص 133

    6) تيخونوفا، ساطع الحصري رائد المنحى العلماني في الفكر القومي العربي، ص14، دار التقدم، موسكو، 1985

    7) كليفلاند، نفس المصدر، ص142

    8) تيخونوفا، نفس المصدر، ص53، مقتبس من أبحاث مختارة في القومية العربية، ج2، ص125-126، دار التقدم، موسكو، 1985).

    9) مذكرات الحصري، ص258

    10) حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية في العراق، ص 258،

    11) عبدالكريم الأزري، مذكرات الأزري، ج1، ص30-31

    12) عبدالكريم الأزري، مشكلة الحكم في العراق، لندن، 1991، ص 237

    13) د.سعيد السامرائي، الطائفية في العراق، ص 116، ط1، 1993، مؤسسة الفجر، لندن، عن ديوان الجواهري، المجلد الأول، ص 214

    14) د.خالد التميمي، محمد جعفر أبو التمن، ص320-321، دار الوراق، لندن، 1996.

    15) حسن العلوي، التأثيرات التركية، ص 12، دار الزوراء، لندن، 1988، نقلاً عن مذكرات الهاشمي، ج2 ص 244

    16) مذكرات الحصري، ص 80.

    17) تيخونوفا، نفس المصدر، ص30

    18) ساطع الحصري، حول القومية العربية، ص97

    19) تيخونوفا، نفس المصدر، ص27

    20) كليفلاند، نفس المصدر، ص 133

    21) حسن العلوي، الشيعة والدولة القومية في العراق، ص 256.

    22) حسن العلوي، نفس المصدر، ص 288

    ــــــــــ

    الفصول السابقة

    الطائفية السياسية في العراق (مقدمة: لماذا هذا الكتاب؟)

    http://www.abdulkhaliqhussein.com/?news=385


    الفصل الأول: دور الطائفية في الأزمة العراقية*

    http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/342.html


    الفصل الثاني: جذور الانقسام السني – الشيعي في الإسلام*

    http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/384.html


    الفصل الثالث: الطائفية في العهد العثماني

    http://www.abdulkhaliqhussein.com/?news=386


    الفصل الرابع: الطائفية في عهد الاحتلال البريطاني وحرب الجهاد

    http://www.abdulkhaliqhussein.com/news/390.html


    الفصل الخامس: ثورة العشرين ودورها في تأسيس الدولة الطائفية

    http://www.abdulkhaliqhussein.com/?news=405

    ــــــــــــــــــــــــ

    الموقع الشخصي للكاتب http://www.abdulkhaliqhussein.com/
    رد مع اقتباس  
     

  6. #6  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    نحو إحياء السنن المعرفية العراقية في منظوماتنا التعليمية
    إصلاح المنظومة وتدريس الفلسفة ؟
    د.علي ثويني - السويد

    نقلت الأخبار في صيف العام 2006، أن طالبا فرنسيا أسمه جيروم شاراس ابن شقيق وزير اشتراكي سابق قد كسب معركة قضائية ضد الدولة الفرنسية بعدما رسب في امتحان الفلسفة لان مدرسّه كان نادر الحضور الى الصف.وفي أول حكم من نوعه في البلاد التي تمارس حماية كبيرة لموظفيها ولجذورها الثقافية فاز الطالب بالقضية، بعد أن أدى إخفاقه في التعرف على الفيلسوف الالماني (أرتور شوبنهاور) الى حرمانه من دخول كلية رفيعة المستوى.
    وهكذا نلمس دور درس الفلسفة في المنظومة التعليمية للدول المتحضرة، والذي يبدأ به مبكراً من العمر،نظراً لما له من دور في رسوخ الأفكار والتوجهات. وعلى خلاف ما عندنا في العراق حينما خلت منظومة ساطع الحصري (1880-1968) التعليمية، من أي نفحات عقلية وانفتاح فلسفي. ولا نخمن أو نستبعد أن كان الحصري قد تعرض في حينها الى ضغوط من بعض المتشنجين الدينيين وتحديدا السلفيين .كان للحصري باع مع موقف المتشنجين في السلطنة، والأهم هو باعه في وضع منظومة كرواتيا التعليمية،أو ربما هكذا كانت مراميه ورهطه، ممن جلبهم فيصل الأول وزكتهم الخاتون كرترد بيل(1869-1926). ومن الجدير بالذكر أن الحصري بدأ حياته السياسية قوميا تركيا (طورانيا) حد النخاع وعضوا فاعلا في حزب الاتحاد والترقي، ثم تحول بعدها بقدرة قادر،الى (مفكرعروبي) لا يدانى، ومن أساطين تكريس الوضع الطائفي والعرقي في السلطة العراقية، وتسنى له بعدها وضع منظومة التعليم والتعريب العراقية، حتى تعلمنا جميعا من كتابه (القراءة الخلدونية) الذي وردت تيمناً بأسم ولده خلدون .

    الحاجة للفلسفة
    لم يتبنى الحصري في منهجه تعليم الفلسفة وعلم الكلام المسترسل من التراث، بما تناغم بشكل مريب مع توجهات سلفية تمنع تدريس وبث الفلسفة في ثنايا الحياة الفكرية. ويمكن أن يكون القصد من وراء إشاعة التعليم "مثلما كان مألوفا في المدارس العثمانية" هو تخريج موظفين وكتبة وماسكين سجلات، لتمشية أمور الإدارات والسكوت على علاتها ومهازلها. حتى أن مشروع جامعة أهل البيت الذي أقره الملك فيصل الأول عام 1924 وجد من يخلق له العراقيل ويجهضه تباعاً .
    والخشية من درس الفلسفة لها ما يبررها، فهي تمكث آلية للبحث والتفكير وسعي إلى فهم غوامض الوجود والواقع، ومحاولة لكشف ماهية الحقيقة ، وإدراك قيم الأمور وأهميتها في الحياة. وكون أن الفلسفة تنظر في العلاقات القائمة بين الإنسان والطبيعة، وبين الفرد والمجتمع، وتنبع من التعجّب وحب الاطلاع(الفضول) والرغبة في المعرفة والفهم. بل هي عملية تشمل التحليل والنقد والتفسير والتأمل وتنعكس على عدة جوانب حياتيه منها الأخلاق والجمال، الذي تسعى كل المجتمعات لتكريسها، بعدما سعت لها الأديان منذ نشوءها الأول.
    ولفت نظرنا خبر الطالب الفرنسي جيروم، كون فرنسا كانت ومازالت موئل للفلسفة الأوربية، فمنذ "عقلانية" ديكارت، حتى" تفكيكية" دريدا، مروراً بسارتر الوجودي، ورهط طويل من الفلاسفة، حيث تبوأت الثقافة الفرنسية من خلاله الحضور الأوفر في الثقافات كلها، وتقمصها حتى أعدائها كالإنكليز والألمان والأسبان. ويمكن أن يكون جاك دريدا Jacques Deridda ([1])، آخر هذا الرهط. وأهميته تكمن في أن مذهب (التفكيكية Deconstruction ) الذي دعى له مازال سارياً في عالم الثقافة والنقد الأدبي ، ووطأ حتى العمارة. ولدينا المعمارية العراقية زها كأحد المشايعين لهذا التيار.
    لقد وصف الدكتور سيار الجميل دريدا : (كان كلامه أشبه بالطلاسم التي لا يفهمها إلا المختصون بعلم اللغة وعلم الصوت )([2]). والحقيقة أن دريدا لم يشذ عن رهط كبير من المتفلسفين الفرنسيين الذين لم يفهم من كلامهم شئ، وكأنهم يتفوهون كلمات ليس لها رابط،والأمر لا يهمهم غرورا،والأنكى أنهم يكرسون الإبهام من تحاشيهم ضرب الأمثلة التوضيحية "التبسيطية"، على الطريقة الإنكليزية.
    وفي سياق الأمر فأن(ميشيل عفلق) كان متأثرا بهذا الرعيل بسبب "خلفيته الصربونية"، فلم يفهم في أحاديثه وندواته شئ. وكان البعثيون يسكتون على ذلك رياءا ودجلا، كي يبينوا أن مفكرهم فاهم ،وأنهم فهموا ما تفوه به!، والحقيقة أن أي منهم لم يفهم شئ، فضاع نصاب حركة الفكر وتقهقر العقل ،وانتهى الى مهازل، نشكو اليوم من وقعها. وجدير بالتذكير هنا أن ميشيل عفلق مؤسس البعث يهودي أيضا أصله من رومانيا، ورد أبوه بعد أحداث 1895 الى اليونان ثم الشام، وأستقر بها ،فولد ميشيل من أم شامية نصرانية وأب يهودي روماني([3]).
    وبصدد فلسفة دريدا فانه مكث (شكوكي) بالمسلمات، وطفق يفسخ(يفكك) كل ما ورد من كنف التراث الإنساني ويعيد تركيبه من جديد. وقد سار دريدا على سنة قديمة في (الشكوكية)، تعود للفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) الذي عمت فلسفته أوربا يوماً، ويعزي الكثيرون أن أنوارها ونهضتها جاءت من جراء أفكاره الجريئة والواقعية، وتسنى له أن يؤثر في كل التوجهات النهضوية تباعاً، حتى بعد وفاته المفاجأ الذي حدث في السويد النائية، بعدما استعارته الملكة كرستين نفسها ليعلمها الفلسفة، ولم يكن الجو البارد يلائم صحته. وكانت الملكة قد حددت له الساعة الخامسة صباحاً وقتاً للتحدث معه في الفلسفة وكانت تلك الساعة المبكرة شاقة جداً على الفيلسوف ، فأصيب بالتهاب رئوي وتوفي صباح 11 شباط البارد من عام 1650.
    وفي هذا السياق نذكر بأن ديكارت الذي تبنى المنهج (الشكوكي) في الفلسفة بموجب مقولته الشهيرة (أنا أفكر فأنا موجود)، وتسنى للشك أن يولجه إلى حقيقة أن العقل إذا أدرك أنه يفكر فهو دليل إثبات على وجود من يفكر.. ودليل مضاف على وجود الروح الحية. وتسنى له أن يشع بفكره وأن تتمخض (شكوكيته) تباعاً عن منظومة (الأنوار Elightenment) في القرن الثامن عشر التي عمت ألمانيا أكثر من فرنسا نفسها، بسبب الأحداث السياسية والتقلبات (الثورية). ومفهوم التنوير هذا كان قد وضعه ديكارت نفسه، بمفهوم لا ديني ،ولم يكن يريد أن يكون نقيضا للدين البته، كما ذهب الى ذلك فولتير وديدرو في فرنسا من بعده .
    وكان قد أشار الوزير الجزائري المثقف المرحوم (مولود قاسم نايت بلقاسم)([4]) مراراً بأنه وجد في مكتبة ديكارت التي تقبع اليوم في باريس على كتاب غير ذي شأن للأوربيين، مؤلفه الإمام أبو حامد الغزالي (1058-1111م)، وهو ملئ بالهوامش، يكرر فيها عبارة (وهذا مانتفق معه ونتبناه)، أي أن مبدأ الشك واليقين الذي تقمصه ديكارت، قد جاءه من مدد الإمام الغزالي، الذي بدوره أتى بسنة فلسفية عراقية قديمة جوهرها الشك والبحث عن اليقين دون طائل، بما حرك العقول وشوق النفوس وصنع جدوى للحياة في بيئة يعمها الطوفان والكوارث كل عام ، وأرضها مسرح للحروب والغزاة والطغاة ،ولا حدس في ما تؤول إليه الأمور.
    الغزالي والشكوكية العراقية
    وطأ الغزالي مبدأ (الشكوكية) بعدما حل بالعراق، ووجّه جهده إلى محاولة التماس الحقيقة التي اختلفت حولها الفرق الأربعة التي سيطرت على الحياة الفكرية في عصره وهم :
    · "الفلاسفة" الذين يدّعون أنهم أهل النظر والمنطق والبرهان،
    · "المتكلمون" الذين يرون أنهم أهل الرأي والنظر،
    · "الباطنية" الذين يزعمون أنهم أصحاب التعليم والمخصوصون بالأخذ عن الإمام المعصوم،
    · "الصوفية" الذين يقولون بأنهم خواص الحضرة الإلهية، وأهل المشاهدة والمكاشفة.
    وسعى الغزالي جاهداً ليتقصى الحقيقة بين تلك التيارات الأربعة؛ فدرسها بعمق شديد، حتى ألم بها وتعرف عليها عن قرب، واستطاع أن يستوعب كل آرائها، وراح يرد عليها الواحدة تلو الأخرى. وقد سجل ذلك بشكل مفصل في كتابه (المنقذ من الضلال). بيد أنه خرج من تلك التجربة بجرعة كبيرة من الشك جعلته يشك في كل شيء حتى مهنة التدريس التي أعطاها حياته كلها، وحقق من خلالها ما بلغه من المجد والشهرة والجاه، وهكذا أصابته "السوسة" العراقية فأنتج في ترحاله وقراره أكبر ما تفتخر به البشرية من فكر (شكوكي) .ونجد مذهبه شارحاً إياه: ( إن العلم اليقيني هو الذي يُكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم). وفي البحث عن الحقيقة يقول ( فأقبلت بجدٍّ بليغ أتأمل في المحسوسات والضروريات وأنظر: هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضا ). وهو يفسر ذلك مصرحاً: (من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر يبقى في العمى والضلال) ([5]). ثم اقترن أسم الغزالي تباعا بمقولة (الشك علمني اليقين). وهنا نلفت النظر الى عدم فهم (الشكوكية) المطروقة فلسفيا، كنزعة للريبة كما في مفهومها المرضي النفسي السلبي المتعارف عليه اجتماعيا والعياذ بالله ، فالشك العلمي هو شك إيجابي .
    وتجسد مبدأ (الشك واليقين) بأقدم نموذج عراقي مدون جاء في ملحمة كلكامش حينما عكست شكا في ثوابت الكون ومطلقه وهو (الموت)، الذي لا ريب فيه، ونجد في ثنايا الملحمة إشارات للتصوف والزهد وطلاق الدنيا، الذي لا نستغرب ظهوره في العراق الإسلامي بعد قرون من تلك الريادة. وقد عكست ملحمة كلكامش بصدق هواجس عراقية وردت من بيئتها ،واستمر"ثابتا" ثقافياً الى اليوم، وتبناها في الأزمنة (العتيقة antiquity )حتى فيثاغورس (Pytagoras) (الحراني) استنادا الى إشارة خفية ورامزة ولبيبة وردت في رسائل ( إخوان الصفا وخلان الوفا) حينما وسموه بـ (شيخنا فيثاغورس الحراني)، أي كونه عراقياً أو تأثر بالفكر العراقي من مصدره في حران التي هي إطلالة وبوابة الفكر العراقي (الشكوكي) على جهات الغرب، ونسب جزافاً بسبب أسمه وجغرافية (حران) بعد تبدل الدول، الى النتاج الفكري الأغريقي، ودليلنا بأن نظرية المثلثات التي نسبت إليه، قد وجدت في بابل برقم طيني تعود الى ألف عام قبله، وانه قدم سكن بابل ردحا، ثم اجتذبه داريوس الى بلاطه، في فارس ، فقضى هناك الشطر الاكبر من حياته المهنية([6]).
    ويمكن أن تشكل هذه المعلومة تشجيعا للبحث والتدقيق في فك رموز المليون رقم طيني ونيف المسروقة من المواقع الآثارية العراقية ، والتي تقبع اليوم منسية وتائهة وتحمل الكثير من الأسرار في متاحف اسطنبول وبرلين واللوفر والأهم ما تضمه (سراديب) المتحف البريطاني، ويقدر عددها وحدها بنصف مليون رقم، و التي سوف يكون فتح رموزها وبالاً على مسلمات العلم وشطحات النظريات التي لوت أعناق الحقائق خلال قرون. فيا ويلها من فتح قمقم الأسرار الأركيولوجي، وياصدمة المتشنجين ودعاة المركزية الغربية ومعجزة اليونان المنزلة، بعدما ستعلن الجذر العراقي للفلسفة اليونانية (الشكوكية). وهذا الأمر قدم له (مارتن برنار) الأنكليزي في كتابه الموسوعي (أثينا السوداء) التي أثار بعد صدوره عام 1989 زوابع ، وأعلن من خلاله بالبحث المقارن الجذور المصرية والشامية والعراقية للحضارة اليونانية، وان آلهة اليونان كلها سامية، وأن ثمة احتلال (هكسوسي) "سامي" لليونان حدث حوالي عام 1500 قبل المسيح .
    ومن الجدير بالذكر أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) تبنى نفس المنهج الفلسفي العراقي وأطلق مقولته (سوء الظن من حسن الفطن)،التي هي حالة شكية بمغزاها. ولقد أرتبط الإمام بفكر أهله وفضل الإقامة بها خمسة أعوام من أعوامه الست التي خلف بها ([7]) ، وقد تأثر وأثر في التوجه (الشكوكي) الذي أثمر تباعاً .
    أن مبدأ الاحتمالية في الرياضيات حالة واردة من سياقات (الشك واليقين)، وأنها شكلت الأساس والجوهر لعلم (اللوغارتمات) الذي أوجده محمد بن موسى الخوازمي (ت 847م) في البيئة الفكرية العراقية ، وقد تداعى هذا العلم الى اختراع الكومبيوتر في الأزمنة الحديثة، والتي اعتمدت أساساً على (الشكوكية) ومبدأ الحيرة بين رقمي الصفر والواحد (0-1) حتى تكون (البايت) من ثمان مراتب وتضاعف العد فيه الى الكيلو والميكا والكيكا. وهذا ما دعى الكثيرون ومنهم الدكتور رشيد الخيون يذهب الى أن إيقاع المدد الحضاري لو كان قد أستمر بمنهجه لدى (المعتزلة) لكان قد توصل لقانون الجاذبية قبل تفاحة (نيوتن) بقرون طوال كونه ورد في سياقات مدوناتهم ، وكذلك الحال في اختراع الكومبيوتر منذ ذلك الحين. كل ذلك حث خيال بعض العلماء الألمان حينما تتبعوا أن أصل علم اللوغارتمات هو من نتاج الحضارة العربية الإسلامية وأن محركه هي اللغة العربية ومنهجيتها البنيوية في التفكير (بحسب النظرية القومية المعتمدة على اللغة كجوهر محرك للفكر وليس العكس). وهكذا اقترحوا تلقين بعض الطلاب الألمان النابغين اللغة العربية، كي يتقمصوا روح الخوارزمي في بيت حكمة بغداد ليخترعوا جيل جديد من اللوغارتمات، التي ستشكل أساس لجيل جديد من أنظمة الكومبيوتر، غير ما نعهده اليوم، وأجزم هنا أنهم سيبوئون بالفشل لتباين البيئات التي تخلق النزعات وتتسامى حينما تحين الفرص التاريخية.
    وجوهر (الشكوكية) في الفلسفة هو: التأكيد بأنه لا يمكن التوصل إلى معرفة حقائق الأشياء، ويتناول (الشكوكي) بالدراسة مبادئ وطرائق المحاكمة العقلية؛ و يستكشف كيفيات التمييز بين المحاكمة القويمة والمحاكمة السقيمة. ويُسمَّى المثال المستخدم في المحاكمة البرهان أو الاستدلال. ويتمثل البرهان في جملة من الحجج تسمى مقدمات، وهذه تقترن بحجة أخرى تسمى النتائج التي من المفروض أن تستند إلى المقدمات أو تنبثق عنها. إن البرهان القوي يكون سندًا للنتائج، بعكس البرهان الضعيف.
    ويوجد نوعان أساسيان من المحاكمة العقلية، يسمى أحدهما الاستنتاج والآخر الاستقراء. يوصف البرهان الاستنتاجي بأنه صحيح عندما يأتي الحكم صحيحًا بالضرورة من المقدمتين. ويوصف بأنه باطل إذا كان حكمه النهائي لا يتولد بالضرورة عن المقدمتين. فالبرهان الذي صيغته كما يلي مثلاً : البشر كلهم عُرضة للموت. العراقيون بشر. إذن العراقيون كلهم عُرضة للموت، هذا البرهان الاستنتاجي صحيح. لكن البرهان الذي صيغته: البشر كلهم عُرضة للموت. العراقيون كلهم عُرضة للموت. إذن العراقيون كلهم بشر، هذا البرهان باطل وإن كان الحكم النهائي صحيحًا، لأن هذا المنوال من المحاكمة العقلية يجعلنا نفترض جدلاً أن الكلاب باعتبار أنها أيضًا عُرضة للموت هي بشر أيضًا.
    وتُستعمل المحاكمة العقلية الاستنتاجية لاستكشاف النتائج المترتبة على بعض الافتراضات. أما المحاكمة العقلية الاستقرائية فيستعان بها لإثبات الوقائع والقوانين الطبيعية، وليس هدفها أن تكون صحيحة من الناحية الاستنتاجية. فالذي يحكم عقليًا أن السناجب تحب الجوز، على أساس أن كل السناجب التي رصدناها تحب الجوز، يكون قد بنى حكمه بطريقة استقرائية. فالحكم النهائي قد يكون هنا باطلاً حتى ولو كانت المقدمة صحيحة. ومع ذلك فالمقدمة توفر سندًا قويًا لاستخلاص الحكم النهائي .
    وهكذا أمست الفلسفة ونوعها العراقي (الشكوكي) مصدر كل النتاجات القانونية والأخلاقية والجمالية والعلمية وأنعكس على منظومة القيم الفكرية، ويمكن أن يكون سبباً في وفرة الشعراء في البيئة العراقية وكذلك وجود لمحات ماكثة في عرف اجتماعي لأشخاص يطلق عليهم في القرية العراقية (الفريضه) ، الذي يتعامل بنفس المبدأ (الشكوكي) ومنهجه الإستنتاجي، ولدينا في قصة (علي آل صويلح الزيرجاوي) أو (أبو فدعة) في ديوان حمد الحمود شيخ الخزاعل في الديوانية التي تناقلتها الألسن منذ نهايات القرن الثامن عشر أسوة ومثال، بالرغم من أن الرجل عاش ومات أمياً ولم يطلع على فكر الغزالي أو ديكارت.
    ويبدوا أن تفسير أرنولد توينبي بشأن نشوء وارتقاء الحضارات ينطبق على الحالة العراقية، فبقدر كون تحدي الطبيعة يكون قوياً فأن الإنسان يذعن له، ويسلم أمره لبارئه، والحال عينه ينطبق على التحديات الهينة للطبيعة التي تخلق لدى الإنسان حالة من الدعة والاستسلام وتحد من الطموح. أما الحالة العراقية فينطبق عليها التصنيف الوسطي ،حينما يكون تحدي الطبيعة متوسط الوقع وقابلاً للسيطرة ، وحينها تظهر لدى الإنسان طاقة خارقة مخزونة، ونزعة الى مقابلة التحدي بالفكر والحذق والحيلة، وهكذا تسنى له بناء منظوماته الحياتية الحاذقة والحذرة، التي تكتنفها حالة الجدل الشكي. وهكذا كان طوفان النهرين السنوي وغياب الغطاء النباتي والحرارة المفرطة سببا في إرساء منظومات العيش (ومنها العمارة) والإيمان والمشاعر العراقية.
    وبالرغم من رسوخ الفلسفة في كثير من حيثيات الحياة الفطرية العراقية، لكن غياب المنظومة الفلسفية الناضجة الموروثة والمكتسبة ولاسيما المسيرة للإرادة السياسية العليا، تجعلنا متخبطين في حياتنا حتى أننا لم نستطع اليوم أن نصنع لنا دستورا مقنعاً ، وما صنعناه اليوم لا يرتقي الى دستور( أور- نمو) الإنساني الذي سنّه قبل 4200 سنة، أو حمورابي الذي سنّه قبل 3700 سنه.

    المنظومة التربوية العراقية
    نعود الى المنظومة التعليمية العراقية التي أرساها ساطع الحصري ورهطه القادم من مدارس تركيا السلطانية والبلقان المتمرد عليها، والتي نعتبرها متخلفة كثيراً عن نظيراتها في الغرب أو حتى لدى نظرائنا في المغرب العربي، الذي سار على المنهج الفرنسي، والذي قفز في تدريس الفلسفة للناشئة، وتمخض الأمر عن تكوين تيارات متفلسفة ورهط ورموز من الفلاسفة ، يبشرون بمستقبل واعد بالرغم من الوضع السياسي المتأزم والمتشنج بسبب التأرجح بين مصالح وارتباطات: ملكية متزمتة، وعسكرتارية مستحوذة، ودكتاتوريا شمولية. لكن وبالرغم من ذلك سمعنا عن فلاسفة مثل مالك بن نبي ومحمد أركون الجزائريان وعابد الجابري المغربي ، وحركات وحلقات للفكر تستثمر إطلاعها على الفلسفة من خلال مصادرها الفرنسية الأصلية.
    وربما يكون هذا سببا مقنعا وراء تخلف الحركة الفكرية للمشارقة والعراق تحديدا بالمقارنة مع المغاربة ،ولاسيما الفكر المشرئب الى نفس المصدر الغربي مثل اليسارية والشيوعية ، كونهم أطلعوا على النظرية الماركسية من خلال النصوص الفرنسية الأصلية وبعقلية راجحة منذ ديكارت، بينما شيوعيونا في المشرق أخذوها من خلال الترجمات الروسية المشوهة، منذ لينين ورهطه المشوه. وزاد طينها بلة مشروع (الكومنترن) أو (الأممية الثالثة) والذي تبنى مبدأ (دكتاتورية البروليتاريا) الشمولي، والذي أساء في فهم الماركسية وإفهامها فلسفياً. وهكذا مكثنا في العراق ولاسيما المتفلسفين من الماركسيين نشتري من فكر مترجم ومشوه أصلاً، وينأى عن الأعراف الفلسفية التوفيقية المفعمة بالروحية المتسامحة العراقية، التي نبذت الصراعات كما الصراعات الطبقية والقومية، ورمنا أن نبني عليه منظومة قيم نأت بالنتيجة عن المنال ،وتداعت الى صراعات طائفية وجهوية، ندفع ثمنها اليوم أرواح تزهق ودم يهرق.
    ويمكن أن يكون التغاضي عن فهم الخصوصية (الشكوكية) العراقية جزء من السبب. و كان الأجدر لمفكرينا أن يدرسوها بعمق ويحاولوا ربط الخيوط المتقطعة بين التراث المحلي الثابت مع آليات ووسائل الحاضر العالمي المتحرك، من أجل الوصول الى النظرية الفلسفية المحلية ، التي هي كفيلة بموائمتها مع الذات العراقية، ويمكن أن تنحو نحو العالمية مثلما فعل ديكارت، حينما تقمص روح الغزالي بنفس غربي وبثه بمقياس عالمي. ونتذكر في هذا السياق المبدأ الذي شاع في الدنيا ويتعلق بعلاج الجرحى والمعطوبين إبان الحروب، وبعيداً عن ساحات الوغى والتي تبناها السويسري (أنري دو نان Henri Dunant) منذ العام 1863, بعدما أطلع عليها بصيغتها المبسطة لدى بعض القبائل البدوية في تونس وتفاهمها على هذا المبدأ. وحينها قفزت له فكرة تكريسها عالميا. وهكذا جاءت فكرة (الصليب والهلال الأحمر) ، كوجه للممارسة الأخلاقية المتداعية من تعاليم قديمة تبنتها الثقافات خارج نطاق المركزية الغربية.
    كنت قد درست العمارة وتخطيط المدن في معهد العمارة في بوخارست، وكانت مفاجأتي كبيرة حينما وجدت ظالتي في أحد مواد الدراسة الذي يفسر الكثير مما كنت أتساءل عنه. كنت أستغرب من جذوة اللذة بعد أن إنجاز عملاً ما، كالرسم أو التصميم أو حتى كتابة رسالة لأهلي. وتبين لي أن ثمة علم يسبر غور تلك الظاهرة الوجدانية يدعى (الجمال - الأستطيقا) الذي يبحث في اللذة والقيمة والتعجب والجودة في الحبكة الإبداعية، وكذا في المبادئ التي يقوم عليها الفن، كما أنه يدرس أفكارنا ومشاعرنا وأذواقنا حينما نرى ونسمع ونطالع شيئًا جميلاً مثل الرسم أوالنحت أوالموسيقى أوالقصيدة الشعرية أوالمسرحية أوالفيلم، أوحتى غروب الشمس أو زهرة نظيرة أوغيرها من الظواهر الطبيعية. فضلاً عن ذلك، فإنه يستقصي الخبرة التي اكتسبها من يمارس أنشطة مختلفة.
    ويتطابق هذا العلم أحيانًا مع فلسفة الفن التي تبحث دائمًا في طبيعة الفن ومجريات الإبداع الفني وطبيعة التجربة الجمالية ومبادئ النقد. لكن ميادين تطبيق علم الجمال أوسع، حيث تشتمل على الأعمال الفنية التي أبدعها الإنسان، وكذا مظاهر الجمال الملحوظة في الطبيعة. وندرك من خلال هذا العلم علاقة الجمال بالأخلاق والفلسفة السياسية حينما نتساءل: أي دور ينبغي أن يؤديه الفن والجمال في المجتمع، وفي حياة الفرد؟ .ومن بين تلك الأسئلة أيضًا: كيف يمكن تحسين ذوق الإنسان في مجالات الفن، وتهذيب طبعه وترويض روعه ،وجعله مسالما دمثا؟. والأهم هو كيف ينبغي أن نعلّم الفنون في المدارس؟ وهل للحكومات حق في وضع القيود للتعبير الفني؟.
    وعلمت بعد حين بأن ثمة فرع في الفلسفة أسمه (علم المنطق) الذي يتناول بالدراسة مبادئ وطرائق المحاكمة العقلية؛ فهو يستكشف كيفيات التمييز بين المحاكمة القويمة والمحاكمة السقيمة. ويُسمَّى المثال المستخدم في المحاكمة البرهان أوالاستدلال. ويتمثل البرهان في جملة من الحجج تسمى مقدمات، وهذه تقترن بحجة أخرى تسمى النتائج التي من المفروض أن تستند إلى المقدمات أوتنبثق عنها. إن البرهان القوي يكون سندًا للنتائج، بعكس البرهان الضعيف.
    وحينها قفزت لخاطري جواب عن سؤال: لماذا لم يضع (ساطع الحصري) ولا حتى سلطة البعث في منظورها أن تدّرس المنطق للناشئة العراقية؟. والجواب: كونه يفتح في عقولهم مرصداً "لمنطق" الأمور، والشروع في عملية محاسبة لكل ماعداها، ومن ضمنها ممارسات تلك السلطات النائية تماماً عن أي منطق وعقل. حتى أن عفلق نفسه القادم من (الصربون) والثقافة الفرنسية "المتفلسفة" لم يرى ضرورة لتدريس تلك المفاهيم للعراقيين، كونها تكشف عورته ورهطه قبل غيره.
    وحينما عرف السبب بطل العجب، فلم يدرس الجمال للعراقيين كي يوغلوا بالتوحش، ويصلوا أن يقتل ويقطع رأس أحدهم الآخر كما هو دائر اليوم، أو يفجروا جماليات معمارية مترعة بالروحانية والقدسية، مثل قبة الإمام العسكري (ع) في سامراء، أوأثر عظيم مثل منارة الملوية، أويفجروا كنائس المتقشفين المسالمين ، أويقتلوا أهلنا الصابئة حماة الوداعة والتجمل الماكث في التراث العراقي من تعاليم ماني البابلي .
    قرأت يوماً بأن إنكليزي نصح سلطة الإحتلال إبان الحرب العالمية الأولى بأن تراعي فضول العراقي ،وبكونه محب للتعلم وسماع الأخبار، يتناقلها ويتداولها في محيطه، ويتجادل بها. لذا نصح الإنكليز بأن يروجوا لجريدة يومية تنقل للناس الأخبار وتلهيهم وتروضهم "أنكليزيا"،والأهم أنها تسعى للتوائم مع سجاياهم الفضولية، كي يتركوا الإنكليز يخططون لدولة المحاصصات التي سنتها (الخاتون) منذ ذلك الحين. ومن مقتضيات الأمر فتح مدارس لتعليمهم لفك رمز الحروف .
    ولم يخطر على بال هذا الإنكليزي أو ساطع الحصري، أن يعوا طبيعة العقلية العراقية المتفلسفة الباحثة عن بواطن الأمور خلف قشورها، والمتشككه حتى بالمسلمات، وبالنتيجة فتلك الذات باحثة دؤوبة عن الفضيلة والمكارم التي جسدها في كم الديانات والفلسفات والمذاهب الفكرية التي خرجت من رحمها، وكلها وغيرها تلتقي عند النقطة (الشكية) والأخلاقية في الفلسفة. وهذا يعني أن تدريس الفلسفة هي الأقرب والأرغب لسجايا العراقي .

    العراقيون والسلفية
    إن للفلسفة وتدريسها مخالفون، هم السلفيون، الذين تبنوا شعار (من تمنطق فقد تزندق) ، وتذرعوا بأن الإسلام دين إيمان، وأن العقل يقوم بالتشويش على القلب، وأن اللجوء للتفكير المنطقي أمر مكروه وكانت خشيتهم متأتية من مخاطر التدقيق والغوص في باطن الأفكار وخفي الأمور ومتذرعين بالتيهية الجالبة للضلالة والمؤدية للنار. ومكثوا متمسكين بسلامة النصوص الموروثة ، ومبجلين للأسلاف ومنزهين لسيرهم من أي خطأ أو زلة، وأسبغوا عليهم عصمة غير معلنة ، وبالنتيجة فأنهم ودون وعي، حرموا العقل من مهامه ونشاطه ، وكبحوا تطور بنيته العضوية ثم ملكاته.
    وإذا دققنا و"شككنا" في هذه النزعة"الشكلية" نجدها ليست روحانية البتة، بقدر كونها موقف سياسي، فالعقل يشترط في حيثياته الحرية المطلقة في البحث والسؤال والاستفسار وكسر حاجز الخوف والقفز فوق المسلمات وخطوط السلطة الحمراء . كل ذلك يقرب من سبر غور محرمات، أملتها حِقِبٌ طويلة من الجمود والسكون. ويقود العقل دائما الى أن يتفكر الإنسان في خلق السماوات والأرض، واختلاف الألسنة والألوان والثقافات وظروف كل زمن وجيل. لذا فالخشية قائمة من قبول الآخر ونبذ العدوانية وما يتداعى من مطالبة بالقسطاس. وهكذا لجأ أباطرة الفتوى وتجار الفقه الديني إلى الاستعانة بكتب كهفيه لمحاصرة الفكر ï»؟ومخاصمة العقل، وتكبيل الحرية بقيود ، لإغراق الناس في عالم الصغائر والتفاهات وجاعلهم خانعين للاستبداد ومطواعين للطغاة.
    وإذ نلمس أن أول نافذة يفتحها العقل لدَى تحرره هي التسامح واعتبار الاختلافات بين الناس في الرؤى أمورا طبيعية ورحمة وليس نقمة على المبدأ الفرقاني (وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا)، بل يعتبر العقل أن من أولى واجباته في احترام ذلك المخلوق ،وأن محبة الله تتداعى الى محبة مخلوقاته، بما يستدعي الدفاع عن حرية فكره، كي يشذ عن منزلة الحيوان أمام الخالق .
    ومن أوائل الدعاة لقمع سلطة العقل واضطهاد أهل الكلام ومطاردة المعتزلة في التراث الإسلامي، كان أحمد بن حنبل (780 ـ 855 م)، وعاضده المتوكل العباسي ، بعدما أعتمد الأحاديث، نقلها وسندها فيصلا في الأحكام، وألغى سلطة الاجتهاد والإستباط ، بالرغم من أن ثمة الكثير من الأحاديث أتسم بالهزال وتناقض مع جوهر الدين نفسه، وأعترف الجميع بأن فيها مدسوس. والأمر برمته طبيعي، حتى لو صدقت نوايا جامعيها، بعدما جمع و دوّن بعد قرنين من الرسالة المحمدية. وحدث الجمع في شوط من الأرض يمتد بين الصين والأندلس ، وبغياب التواصل و"الإنترنت" كما في أيامنا.
    وتبع ابن حنبل الشيخ تقي الدين أحمد بن تيمية (1262-1327م) وتلميذه ابن قيم الجوزية ، ثم تبعهم في القرن الثامن عشر الشيخ محمد بن عبد الوهاب من ضمن دعوة للإصلاح الديني في نجد الجزيرة العربية، واعتبرت تباعاً مذهباً لدى البعض بما دعي (الوهابية) .
    ولا يخفى في هذه الشجون بأن ثمة جاسوس إنكليزي يدعى (مستر همفر)، ترك كتابا مثيرا للجدل بشأن العلاقات بين محمد بن عبد الوهاب والدعم الإنكليزي السري لحركته. فقد أوفدته وزارة المستعمرات البريطانية الى الجزيرة العربية عام 1710 فزار العراق وإيران والحجاز وتركيا، وأتصل بالشيخ كمسلم ،ووهبه جارية إنكليزية لعوب، سلبت تلابيبه بفنها، حتى تبع إغوائها، وتسنى تمرير الكثير من الإملاءات على الشيخ من خلال ابتزازه أوإغراءه، لذا نجد الكثير من الفتاوى تنأى عن المنطق اللبيب، ومنها مثلا تكفير كل المسلمين ووجوب قتالهم كما يجاهد المشركين. وأوجب إعادة ترديد الشهادة من أصحابه والتبرء من والديهم، كونهم ماتوا على ضلاله..الخ، وأعتبر أن ذبح المسلم أولى من بقاءه على مذاهب غير مذهبه ([8]).



    وأستمر الحال لدى عتاة هذا المذهب حتى آخرهم عبد العزيز بن باز أعتبر الشيعة والمتصوفة كفار وأستوجب قتلهم. ومن الطريف أنه أفتى قبل موته منذ أربعة أعوام بأن الأرض مسطحة وحرم على من يفتي بكرويتها!. وهنا نلفت النظر الى أن البابليين وربما السومريين قبلهم، قد أقروا بكروية الأرض قبله بأربعة آلاف عام وقسموا الوقت مثلما الدائرة على النظام الستيني الذي مازال العالم لم يستغني عنه أو يستبدله، لاشتراكهم بالتدوير، وثمة نصوص قرآنية تؤكد تكور الأرض ومعطيات حديثة صورت ذلك، لكن أبن باز ألغى العقل وأملاه على أتباعه. ولنتصور في تلك الشجون أي مستوى يمكن أن يصله وعي الإنسان بسبب الانغلاق وتخلف الخطاب الديني ؟.
    وفي تلك الشجون ، لا يفوت اللبيب أن (يشك) في ظاهرة اضمحلال كل الدعوات الإصلاحية في الإسلام المعاصر، والتي ظهرت بوادرها منذ حركة محمد بن عبد الوهاب، وتصاعدت في نهايات القرن التاسع عشر وبواكير القرن العشرين من قبيل دعوات جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة وقاسم أمين وعبد الرحمن الكواكبي في الشام ومصر والعراق، والشيخ شامل في القوقاس والسنوسي في ليبيا وعبد الحميد بن باديس في الجزائر والمغرب الإسلامي ومحمد علي جناح ومحمد إقبال وأبو الحسن المودودي ودعاة الجامعة الإسلامية في الهند . كل هؤلاء سعوا الى إصلاح الدين من خلال الوسطية وسطوة العقل ونقد السلطات . لكن حوربت وهمشت تلك التوجهات، وأسدل عليها ستار النسيان بعد حين، ولم تثمر عن حركة إصلاح سياسية واجتماعية ملموسة، على عكس حركة أبن عبد الوهاب التي أسس لها دولة ونصاب حضاري ودعم عالمي ودعاية .
    وفي تتبع أحداث التاريخ نجد أن الإنكليز طفقوا يبحثون عن آثار عبد العزيز بن عبدالرحمن بن سعود المولود والمنسي في الكويت ، كونه وريث الدولة السعودية الأولى التي سقطت على يد إبراهيم بن محمد علي باشا والي مصر في أواسط القرن التاسع عشر. لقد بُعث في طموحه الروح ، وزود بالخبراء والمستشارين مثل فيليبي ، وحتى المس كرترد بيل، التي كنّوها العراقيون بعد ذلك بـ(الخاتون) ، وكانت قريبة منه حتى في مخدعه، والقصة ذو شجون، وترد فاضحة في مذكراتها ورسائلها .
    وبالنتيجة أسس الغربيون دولة السعودية الجديدة ، وبورك لهم توحيد الجزيرة العربية ، وكان مرسوم لها أن تكون دولة سلفية من الجوهر، وسكت المتشدقون بالديمقراطية في الغرب على أمر إلغائها وقمع كل التوجهات الوسطية للإصلاح ، وغضوا الطرف عن شطبها للمذاهب الأخرى في الجزيرة العربية كالشيعة والمالكية والشافعية والزيدية والإسماعيلية ، ناهيكم عن التصوف، ولا نريد أن نماحك الأفكار والتيارات والتجمعات السياسية التي قمعت دون هوادة. الأهم في تلك الحيثيات الإسلامية هو السيطرة على الحجاز والمواقع المقدسة، ثم مساندة تصدير التوجه السلفي شرقا الى آسيا المجاورة . ومن الغريب أن تلك الأصقاع مكثت مترعة بالفلسفة الروحانية البوذية والهندوسية والتاوية والكونفوشيوسية في ثابتها الثقافي، وعرف عنها توجهها المسالم المتسامح. وتمخض الأمر تباعاً لنموذج إسلامي أسيوي ، سلفي الطابع عنيف الممارسة، ومتوحش الطبع، تجسد في طالبان والحركات السلفية في باكستان وكشمير وآسيا الوسطى .


    (( خارطة العالم والأرض المكورة (( ديكارت الفرنسي))
    عند البابليين منذ 4000عام ))


    العراقيون ومذاهب العقل
    ثمة الكثير من الإشارات التاريخية التي تصف العراقيين أهل جدل وعقل ، ويقر الإمام الشافعي ذلك حينما وسمهم بـ (أصحاب الرأي) ونعتهم بـ(أصحاب أبى حنيفة النعمان بن ثابت) الذي دعي مذهبه (مذهب أهل العراق)، وأقر بأن تسميتهم جاءت بسبب عنايتهم بتحصيل وجه القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار . ونجد أن الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي العراقي (699-767م) ، يؤكد نزعته العقلية وقبوله بالرأي المخالف حينما يقر: (علمنا هذا رأى أحسن ما قدرنا عليه فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى ولنا ما رأينا . وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهاداً ويخالفونه في الحكم الاجتهادي والمسائل التي خالفوه فيها . وتحدث اختلافات كثيرة بين الفرقاء على الفروع ولهم فيها تصانيف وعليها مناظرات وقد بلغت النهاية في مناهج الظنون حتى كأنهم قد أشرفوا على القطع واليقين وليس يلزم من ذلك تكفير ولا تضليل بل كل مجتهد مصيب) .
    وثمة مفارقة تاريخية جديرة بالعناية ، فعلى خلاف أبن عبد الوهاب الذي نشأ في بيئة بدوية عربية، فان أبن حنبل كان فارسياً وتولد في مرو في أواسط آسيا وقدم الى بغداد يافعاً، وابن تيمية وابن قيم الجوزية كرديان من عفرين من شمال سورية، وأن ثمة حركة سلفية نشأت في المنطقة الكردية في العراق (ملا كريكوار ورهطه) ، بما يعني أن تلك النزعة مرتبطة بالطبيعة البشرية أكثر من البيئات الاجتماعية والطبيعية.
    وبالرغم من تلك القاعدة لكننا نلمس اختلافاً في البيئة العراقية ، فقد لفض العراقيون دائما التوجهات السلفية، على عكس التشيع مثلاً ، الذي وجد طريقه الى البنية الفكرية لأهله، وتوائم مع الروحية العراقية الباكية الشاكية واللائمة للذات والمتأملة في الوجود والحاثة على التواضع والزهد. لكن الأهم من ذلك أن التشيع تبنى الاجتهاد وأستند على سلطة العقل (الشكوكي) كأحد مقومات الفقه المذهبي، وبنت عليه الحوزة مناهجها ودروسها ، وثمة الكثير من الطروحات التي تذهب الى أن الفكر المعتزلي أخترق التشيع في الصميم ومكث فيه.


    (( هنا مكثت الأعراف الفكرية العراقية ))

    وهنا يجدر الإشارة الى أن جل القبائل التي نزحت من الجزيرة العربية، مكثت على مذاهبها، لكنها تشيعت بعد جيلين أو ثلاث، حينما توائمت عقليتهم مع البيئة العراقية، ويورد هذه المعلومة شيخ سني يدعى فصيح الحيدري في كتاب قديم عنوانه (عنوان المجد في تاريخ البصرة وبغداد ونجد) المدون حوالي عام 1870، مقدراً تلك الطفرة بحوالي قرنين ،هي الفترة التي تشيع خلالها الكثير من القبائل العربية المهاجرة .
    وهكذا لم تنتشر الدعوة الوهابية في العراق ، بينما انتشرت في الخليج والجزيرة المجاورتين. ولم يستسيغها حتى عتاة التسنن العراقي، مثل الشيخ أبو الثناء محمود الألوسي البغدادي (1803-1854م) ، حينما تهكم عليهم في جلساته وخطبه. ومن المعروف عنه أن حلقاته وجماعته شملت الشيعة وأهل التصوف على حد سواء، ولم يؤمها السلفيون. وثمة مفارقة تدعوا للتمحيص هو عدم شيوع حركة الأخوان المسلمين أو دعوات الإسلام السياسي في البيئة الاجتماعية العراقية ، أو حتى الحركة القومية العروبية، إلا قسراً ومن خلال الانقلاب السياسي الذي كرسها وختمها بالبعث وسقوطه الذي لم يأسف عليه إلا ثلة. على عكس التربة الخصبة التي وجدتها الشيوعية الإلحادية منذ العشرينات والوجودية عند بعض النخب في الستينات من القرن العشرين .
    كل ذلك وغيره يدعونا الى فتح الباب على دراسة العقلية العراقية من خلال معطياتها الذاتية، وعلى واقعها ومحكها، وليس كما يتمناه كل منا. وهنا ننأى عن تطبيق أو"ترهيم" حلول المجتمعات الأخرى عليها، حتى لو كانت صحيحة، لكنها لذاتها وخصوصيتها، وأن الاستفادة منها كوسيلة وينحصر في باب المنهجية والعمق البحثي، وخلافه فأننا نحاكي من ينقل البدوي الهابط من خيمته وسط حماد الأرض ويلبسه طقم "سموكن" باريسي، ويسكنه قصرا هابسبوركيا. وهذا يعني أن الإنسان نتاج بيئاته الثلاث الجوية والأرضية والاجتماعية، وأن قسره على غيرها يتداعى الى تشويهات مرضّية والعياذ بالله. وأن النزعة للدونية ،وإستساغة التبعية ، لمسناها من التجربة حصراً عن الشعوب التي قسرت على حلول خارجية بعيدة عن فطرتها.
    قرأت بحثاً متميزا بصدد "الكشف عن مواهب الطلاب وصقلها إبداعيًًّا" والذي يبين أن نسبة المبدعين الموهوبين من الأطفال من سن الولادة إلى السنة الخامسة من أعمارهم يبلغ نحو 90%، وعندما يصل الأطفـال إلى سن السابعة تنخفض نسبة المبدعين منهم إلى أن تصل إلى 10%، وما أن يصــلوا إلى السنة الثامنة حتى تصير النسبة 2% فقط، مما يشير إلى أن أنظمة التعليم والأعـراف الاجتماعية تعمل عملها في إجهاض المواهب وطمس معالمـها ، وبالعكس فأنها قادرة على الحفاظ عليها بل وتطويرها وتنميتها. ويتذكر جلنا في الستينات قصة العبقري عادل شعلان وخياله بالرياضيات ، والذي لم يجد له في منظومة العراق التعليمية التي تركها "ساطع" لنا، محل ومن يأخذ بيده، فأنحسر وتداعى الى كاتب وصولات في أحد المستوصفات الحكومية، وطواه النسيان .



    وهنا ننبه الى ضرورة ممارسة إصلاح جوهري على منظومة العراق التربوية ، التي ينقصها الكثير، وتحتاج الى علماء أكفاء لبحثها والبت في حيثياتها، والأجدر الإطلاع على تجارب الدنيا وموائمتها مع الخصوصية العراقية .حيث نجد أن إيطاليا تحسن من أداء المنظومة التعليمية لديها كل ستة أشهر، والسويد دائبة البحث يومياً عن الارتقاء بعقل الطفل والنشأ والشباب، من خلال الملاحظة التحليلية، والبحث المعمق واعتماد التفسيرات التطبيقية، من خلال آليات تشويقية تعتمد اللعب والمتعة واحترام ومسايرة النزق الطفولي لتوصيل جملة الأفكار المقصودة. والأهم في تلك الشجون أن نرسم خطة رصينة لتدريس الفلسفة ولاسيما في موضوعات المنطق والأخلاق للصفوف الأولى والجمال وتاريخ الفلسفة للصفوف المتأخرة ، بأساليب مبسطة ،وغير قسرية أوإملائية (دكتيه أو دكتاتوريه). والعراق مقبل على محو مرحلة مقيتة كان رموزها عفلق وطلفاح وصدام ثم الإحتلال ورموزه، ورهط ممن لم يعوا قيمة مكانهم ولا مكانتهم ، فهبطو وأهبطوا الى الدرك الأدنى جذوة التطلع العراقي .


    1 جاك دريدا 1930 الجزائر-2004 باريس. يهودي فرنسي من أصل جزائري.ومكث يردد بأنه لا يعرف أن كان جزائريا أم فرنسيا، بالرغم من حنينه للجزائر وحي (الابيار) الذي ولد فيه،بعدما أجبر على مغادرته بعد الاستقلال عام 1962،و صنف من جماعات المستوطنين (الأقدام السوداء (لابي نوار La pied noir) ،بالرغم من أنه كان ينتقد الاستعمار الفرنسي للجزائر.
    2 جاء ذلك وصفا لمحاضرة حضرها المؤرخ العراقي الدكتور سيار الجميل،الذي تبنى أفكاره لحقبة،وفكك بها هيكل.
    [3] وديع النونو- كتاب إسلام عفلق- دمشق
    [4] شغل نابت بلقاسم وزارة الثقافة ،وطبع القرآن في الجزائر، وتبنى مشروع التعريب بالجزائر وتحمس له ،بالرغم من أنه بربري،وسعى لمشروع تنويري إسلامي لاقومي ولاسلفي، لكنه أجهض مثله مثل الكثير من المشاريع النهضوية في الجزائر.
    [5] الإمام أبو حامد الغزالي- المنقذ من الظلال.
    [6] (ص661 سنة 1886 (Heuzey- Revue politique et literature.يوردها بابلون أرنست في الآثار الشرقية ترجمة مارون عيسى الخوري طرابلس-لبنان 1989
    [7] يورد إبن أبي الحديد المعتزليمقوله للإمام علي يذكر بها أن اصل قريش من العراق وأنهم (نبط من كوثى السواد).
    [8] ثمة قراءة للكتاب والكاتب في مقال منشور في مجلة روز اليوسف العدد 4075 الصادرة بتاريخ 21-7 2006- صفحة 16-القاهرة
    رد مع اقتباس  
     

  7. #7  
    المدير العام الصورة الرمزية طارق شفيق حقي
    تاريخ التسجيل
    Dec 2003
    الدولة
    سورية
    المشاركات
    13,619
    مقالات المدونة
    174
    معدل تقييم المستوى
    10
    رأي ابن خلدون عند الحصريللأستاذ محمد سليم الرشدان- 1 -كتب الأستاذ أبو خلدون (ساطع الحصري بك) في العددين (819 و820) من الرسالة الزاهرة، بحثاً قيماً أورده جواباً على سؤال تقدم به إليه الأستاذ الكبير (صاحب الرسالة) وكأن مؤداه: (هل الشقاق طبع في العرب؟). وقد تطرق الأستاذ الحصري في جوابه إلى الحديث عن ابن خلدون وعن رأيه في العرب الذي جاء في مقدمة تاريخه. ثم تدرج من خلال ذلك إلى الحديث عن كتابه (دراسات عن مقدمة ابن خلدون) واستشهد من هذه الدراسات (نموذجين من البراهين المسرودة فيها). كان أحدهما من القسم الأول عن المقدمة، والثاني من القسم الأخير منها.فأغراني حديث الأستاذ هناك أن أصطحب (دراساته) تلك، لأجعلها شغل فراغي في المصيف الذي جنحت إليه، فكانت خير مشغلة، وكانت نعم الرفيق. وهأنذا أتقدم بهذه الكلمة المتواضعة، تعليقاً على هامش تلك (الدراسات) فأقول:لقد كان الوازع الذي حفز الأستاذ الحصري لإصدار هذا الكتاب - كما أحسست من دراسته - أنه معجب بابن خلدون إعجاباً جعله يتكنى باسمه، ولذلك يدافع عنه في رد هذا المأخذ الذي أخذه الناس عليه من رأيه (في العرب). ولقد حاول جهد طاقته أن يظهره بمظهر الحدب الشفيق، وأن يلبس أقواله زخرفاً يخضد معه كثيراً من هذه الأشواك التي يلمسها (ناتئة وخازة) كلُّ من ينصرف إلى دراسة آراء هذا المؤرخ الفاضل في الأمة العربية منذ أقدم أزمانها إلى أيامه.وإنك لتجد الأستاذ الحصري في (دراساته) يبذل غاية الجهد في هذا السبيل. فهو لا يدع حجة تلوح له من قريب أو بعيد إلا ساقها فيستشهد بنص يورده كاتب فرنسي. كما يشير إلى آخر يورده كاتب تركي. ويقبل بعد هذا كلام المؤرخ يستقرئه حيناً، ويحمله فوق ما يحتمل أحايين. ثم لا يقف عند هذا الحد، بل يلجأ إلى كلام تواطأت عليه العامة، فيدو حوله طويلاً حتى يكاد يبرزه بين معظم هذه السطور التي أعدها للدفاع عن ابن خلدون. وهاأنذا أسوق للقارئ الكريم طرفاً من دفاعه، وأظهر مبلغ تساوقه مع الحقيقة، مستشهداً - ما وسعني المقام - في استجلاء ما أشكل وأنبهم، بكلام المؤرخ نفسه كما أورده في مقدمته.يقول الأستاذ الحصري عن كلمة العرب عند ابن خلدون ما يلي: (إن كلمة العرب في مقدمة ابن خلدون من الكلمات التي ولدت أغرب الالتباسات وأنتجت أسوأ النتائج. ذلك لأن ابن خلدون استعمل الكلمة المذكورة بمعنى البدو والأعراب، خلافاً للمعنى الذي نفهمه منها الآن، كما تبين من الدلائل والقرائن الكثيرة المنبثة في جميع أقسام المقدمة).ويتحدث بعد هذا طويلاً عن دحضه أقوال لكثير ممن تحاملوا على ابن خلدون بسبب خطئهم في فهم ما يقصده من كلمة (العرب) ومن هؤلاء - على حد تعبيره - مدير المعارف العراقية الذي دعا إلى (حرق كتبه ونبش قبره باسم القومية، زاعماً أنه من الكافرين بالعروبة. . .).ثم يورد بعد ذلك ما يذكره علماء اللغة في تعريف كلمتي (العرب والأعراب) فيعقب عليه بقوله: (يظهر من ذلك أن مدلول كلمة العرب تطور تطوراً كبيراً خلال أدوار التاريخ. ويمكننا أن نعين اتجاه هذا التطور بالصفات الثلاث التالية:أولاً: كان مدلول كلمة العرب يختص بالبدو وحدهم.ثانياً: صار يشمل هذا المدلول من يسكن المدن والأمصار من غير أن يقطع صلاته بالبادية. . .ثالثاً: (وهنا موضع الشاهد) صار يشمل مدلول كلمة العرب سكنة الأمصار أيضاً، بقطع النظر عن صلاتهم بالبادية، أو رجوع نسبهم إلى البادية. . .).وهكذا يحدد الحصري مدلول هذه الكلمة في صفات ثلاث تطورات - كما يقول - مع أدوار التاريخ. ودعني أيُها القارئ الكريم أوقف بك عند كلُّ واحد منهم، مبتدئاً - حسب الترتيب الذي سار عليه - بالأولى حيث يقول: (كان مدلول كلمة العرب يختص بالبدو وحدهم. .) و (كان) هذه تحتمل من الإمكان ما نعيدها معه إلى إبان صدر الإسلام وما قبله، حيث جعلها الأستاذ بداية التطور خلال أدوار التاريخ. ولو تسائلنا على ضوء هذا التحديد، عما إذا ورد في القرآن الكريم - وهو قاموس العربية - ما يؤيد قول الحصري! لألفينا الجواب بأن القرآن الكريم لم يخصص كلمة (العرب) للبدو، وإنما خصص لهم غيرها حين يقول: (الأعراب أشد كفراً ونفاقاً. . .) و (وقالت الأعراب آمنا. . .). وهذا النبي صلوات الله عليه يقول: (ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى. . .) وما أظنه يقصد بالعربي (هنا) من كان مقيماً في البادية دون سواه! وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول يوم السقيفة: (نحن المهاجرون، أول الناس إسلاماً وأكرمهم أحساباً. . . وأكثر الناس ولادة في العرب. . .) وهو يقصد بالعرب أهل (مكة). وهي حاضرة الجزيرة يومذاك.وبما أن الأستاذ الحصري لم يحدد زمناً يربط به تطور مدلول هذه الكلمة، فالاعتراض عليه لا يتجاوز حد الافتراض. ولذلك فإننا نقف بهذا الذي أوردناه إلى جانب أول وصف لمدلول هذه الكلمة عنده، ثم نترك للقارئ الكريم الحكم عليها. . وننتقل إلى الصفة الثانية فنجده يقول فيها: (صار يشمل هذا المدلول من يسكن المدن والأمصار من غير أن يقطع ِصلاتة بالبادية. .) ولا أظنه يقف ابن خلدون عند هذا التعريف. وإنه لو فعل ذلك لأقام الدليل بنفسه على بطلان ما يقوله في دفاعه عنه. ولأثبت عندئذ أن ابن خلدون إنما قصد أهل الأمصار من العرب بقوله، وهو عكس ما يريده ويبتغيه. . إذن فلم يبقِ أمامنا غير التعريف الثالث، وهو الذي يقول فيه: أن مدلول كلمة العرب (صار يشمل. . سكنة الأمصار بقطع النظر عن صلاتهم بالبادية. .) وفي هذا الوصف ثالثة الأثافي! فهو إن كان قد تطور خلال أدوار التاريخ، فلابد من أن يكون قد عاصر ابن خلدون أو تقدم عنه أو جاء بعده. فإن كانت الأولى أو الثانية، فقد جعل قوله حجة عليه، ولن تبقِ هنالك حاجة لإقامة برهان. وإن كانت الثالثة، فقد أنطق ابن خلدون بالغيب، وجعله يتحدث بلسان الزمن قبل أن يجيء. وهيهات أن يكون ذلك كذلك؟!وإليك أيُها القارئ ما يجيبنا به الأستاذ على كلُّ ما تقدم حين بقول: (ومما تجب ملاحظته أن هذا التطور لم يكن تاماً ولا قاطعاً. . لأن الطور الأول لا يزال مستمراً في استعمال العوام. . فقد تعود الناس في جميع البلاد العربية استعمال كلمة (العرب) بمعنى البدوي والفلاح. . .).ولا أدري كيف (تطور تطوراً كبيراً خلال أدوار التاريخ) ثم نجد تطوره بعد ذلك (لم يكن تاماً ولا قاطعاً)!! بل يستمر الطور الأول منه في استعمال العوام إلى يوم الناس هذا!! وإنه ليلذ لي أن أتساءل في هذا المقام: لماذا لم يظهر مثل هذا الالتباس في مدلول كلمة العرب على أقلام المؤرخين ممن سبق ابن خلدون أو تأخر عنه؟! ولماذا لم يظهر كذلك في شعر الشعراء ممن تقدموه أو عاصروه، ما دام هذا هو مدلول الكلمة منذ طورها الأول الذي كان في بداية أدوار التاريخ؟!ويورد الحصري بعد ذلك - تأييداً لابن خلدون - مثلاً شعبياً كثيراً ما تلوكه ألسنة العامة من أهل الحواضر، فيوردونه شاهداً على فساد ذوق البدوي، وهو قولهم: (الكل عند العرب صابون. . .) وأشهد لقد سمعته كثيراً ولكن بتحريف بسيط، فذكرني بـ (غير عزيز!)، وأعاد للنفس ذكريات مفزعة من الماضي الرهيب الذي توالى على الأمة العربية فصبرت عليه صبر الجبال. . . أجل لقد سمعت هذا القول كما سمعه الحصري فذكرني بشيء غاب عنه تذكره، ذكرني بذلك الاستعباد الطويل الذي تقلبت هذه الأمة بشتى مطارفه، يوم كان العربي في حاضرته يضطر - كارهاً أو مختاراً - أن يتشبه بذلك المتسلط القاهر فيحاكيه في عجمته، ويماثله في بزته. يوم كان العلج في عنجهيته يقف أمام هؤلاء الأعراب الذين يردون الحواضر، فيتأذى بصره المترف برؤية شقائهم البادي من فتوق أسمالهم، فلا يجد شيمته يحقرهم بها، فتوصل إلى قرارة نفسه الرضوان، أكثر من أن يردد على ملأ منهم قائلاً: (عرب! عرب!).وإن كنت في ريب من ذلك فسل من شئت: هل عسيت إن شاكسك رجل من أهل هذه الدساكر حتى بلغ منك ما تكره ثم أردت أن تثار لنفسك منه، فهل رأيتك تغمغم بأكثر من أن تقول له: (فلاح! فلاح!) إلا أن هذه قرينة تلك، وكلتاهما مما خلفته لنا عصور الاستعباد الطويل، وتلقفناه عن أفواه أولئك المستعبدين، بعد أن يورد الأستاذ الحصري هذا الشاهد يعلق عليه طويلاً ويتحدث عن مبلغ تفشيه بين العامة في شتى الأقطار، وهذا أمر سلمنا له به، ولعل في ردنا عليه الكفاية، ثم ينتقل الاستشهاد بأقوال كبار المؤرخين والباحثين، ملتمساً في ذلك ما يقوله شاهداً على صواب ما يورد. وإنني أتناول واحداً من هذه الأقوال الكثيرة، فاتخذه شاهداً على عكس ما يقول، وأؤكد له أن (الثعالبي والفالي وابن السكيت وابن الأثير) وغيرهم ممن استشهد بهم، لم يخرجوا قيد أنملة عما تآلف عليه الناس منذ أقدم الأزمنة إلى اليوم. إنهم حين لا يفرقون بين باد وحاضر يقولون: (عرباً) وإذا ما أرادوا أهل البادية دون سواهم قالوا: (أعرابياً) أو (بدوياً). وهذا نص يورده الأستاذ يؤيدني على ذلك، وهو قوله: (وأننا نجد في المثل السائر. . لابن الأثير. . ما يلي: (فإن قيل إن ذلك البدوي كان له طبعاً وخليقة. . . فالجواب على ذلك أني أقول: إن سلمت إليك أن الشعر والخطابة كانا للعرب بالطبع والفطرة فماذا نقول فيمن جاء بعدهم من مشاعر وخطيب.أرأيت كيف يقفك عند قوله: (البدري) حين أراده قبل أن يهجر باديته، ثم يطلقها بعد ذلك حين لا يريد مثل هذا التحديد؟!وليت شعري كيف يرتضي الأستاذ الحصري أن (يحصر) مثل العدد الوافر من كرام المؤرخين، وأن (يحصر) نفسه أيضاً في حدود هذه الدائرة الضيقة حين يؤكد أنهم أرادوا جميعاً بقولهم (العرب) أهل البادية فقط؟! وبماذا سموا إذن - الله أبوهم - أهل الحواضر من عرب الشام والحجاز ومصر والعراق والمغرب والأندلس؟! هل قالوا حاضري أم حضري أم كيف؟! لقد توقعت أن أجد للأستاذ قولا مثل هذا، فكنت أجد منه مولجاً للاعتراض، ولكنه لم يفعل بل ترك الأمر غامضاً ملتبسا! وأن الأستاذ الحصري بعد ذلك يتحدث عن ابن خلدون بما يؤكد (ما ذهبت إليه) غاية التأكيد. وذلك حين يقول: (لم يستعمل ابن خلدون في المقدمة كلمة (الأعراب) و (الأعراب)، إلا قليلا جداً. فإنه قد استعمل كلمة (العرب) أو (العربي) في نحو (330) موضعاً، في حين أنه لم يستعمل كلمة (الأعراب والأعرابي) إلا في بضعة مواضع. . .)هو ذاك! لأن الرجل أراد أن يسير على نهج زمانه، وهو منهج كلُّ زمان من أزمان العربية، لذلك يطلق كلمته العرب على كلُّ عربي من غير ما تخصيص، ويخص أهل البادية - حين يريد أن يميزهم عن سواهم - بقوله: (الأعراب). وهذا القرآن الكريم - وكان وما يزال (قراناً عربياً غير ذي عوج) - وقف عند هذا التحديد بعينه، وسار الناس بعد ذلك على منهاجه.و (أرى) أبن خلدون ما تجاوز ذلك إلى سواه. .ويأخذ الأستاذ الحصري بعد هذا ي اقتباس الشواهد من المقدمة، للتدليل على ما ذهب إليه، فيقول: (لنبدأ من الفصل الذي يتضمن أقسى الأحكام وأعنف الحملات على (العرب). فلنلاحظ الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون: (أن العرب إذا ما تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب)، ولننعم النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل وتأييد رأيه هذا: (فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب. . . فالحجر مثلاً إنما حاجتهم إليه لنصبه أثافي للقدر، فينقلونه من المباني ويخرجونها عليه. . . والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم. . .) ومن البديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الذين يعيشون تحت الخيام، فلا مجال للشك في أن ابن خلدون عندما كتب هذه العبارات لم يفكر قط بأهل دمشق أو القاهرة. . . بل إنما قصد أعراب البادية وحدهم. . .).والذي أقوله، ويقوله ذلك الفصل بعينه، يغاير ما أورده الأستاذ الحصري، ويؤكد أن ابن خلدون أراد البدو وغير البدو، وأقول بتعبير آخر: إنه أراد للعرب على اختلاف مشاربهم. وتبين ذلك من قوله الذي يكمل به ذلك الفصل بعينه. فهو يقول بعد الكلام الذي استشهد به الحصري (مباشرة) ما يلي: (فهم متنافسون في الرئاسة، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام، فيفسد العمران وينتقض، وأنظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان، كيف تقوض عمرانه وأقفر ساكنه، فاليمن قراهم خراب، وعراق العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك وأفريقية والمغرب). فهل نتبين من ذلك كله أنهم البدو فقط؟! وإذا كان الذين عمروا اليمن والشام والعراق وأفريقية والمغرب هم (البدو)، فمن هم (العرب) إذن؟! ثم يخطو الأستاذ الحصري بعد ذلك خطوة لا تخلو من تعسف، وهي أنه يصدر بحكم مبرم مؤداه أن ابن خلدون لم يقصد بقوله (العرب) في سائر فصول المقدمة غير (البدو)، ولم يتجاوز ذلك إلى غيره قط. فيورد هذا بأن يقول: (إن ابن خلدون لم يستعمل كلمة (العرب) بمعنى البدو في فصول الباب التي ذكرتها فحسب، بل استعملها على نفس المنوال في فصول الأبواب الأخرى أيضاً).وهكذا يجعلنا الأستاذ في حل، لنلتمس ما يناقض دفاعه (في سائر الفصول)، بعد أن أكد - كما رأيت - أن ابن خلدون لم يقصد بقوله (العرب) في سائر الفصول سوى البدو وليس غير! ويستشهد بعد هذا ببعض كلام ابن خلدون مقدماً له بما يأتي: (يوجد في الباب الرابع أيضاً فصل خاص بالعرب، وهو الفصل الذي يقرر: (أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب إلا في الأقل). ثم يأتي على ذكر ما قاله ابن خلدون عن العرب في هذا الباب فيقول: (والعرب إنما يراعون مراعي إبلهم خاصة، ولا يبالون بالماء طلب أو خبث. . . ولا يسألون عن زكاء المزارع والمنابث والأهوية، لأن الرياح إنما تخبث مع القرار والسكنى وكثرة الفضلات).ويعلق على ما سلف بما يلي: (يظهر من ذلك بكل وضوح أن العرب المقصودين في هذا الفصل هم البدو الذين يعيشون في القفار ولا يوجد في هذا الفصل كلمة واحدة تنطبق على أهل الأمصار).وفي هذا المقام أيضاً استشهد من الفصل عينه، مؤكداً أن في هذا الفصل أكثر من (كلمة واحدة) تنطبق على العرب الأولين الذين خرجوا من الحجاز واليمن، من مكة والمدينة والطائف وصنعاء وظفار وغيرها (وهي أمصار كلها!) بل خرجوا جميعاً من مدرسة محمد (ص) بعد أن قذف في قلوبهم هذا الإيمان الراسخ، فإذا هم يعلمون الحضارة لأهل الحضارة.أجل، تنطبق على هؤلاء بعينهم، ويتضح ذلك مباشرة بعد آخر كلمة يوردها الأستاذ الحصري في النص الذي استشهد به من كلام ابن خلدون، وذلك حين يقول: (وأنظر لما اختطفوا الكوفة والبصرة والقيروان، فقد كانت مواطنها غير طبيعية للقرار، ولم تكن في وسط الأمم فيعمرها الناس).ألا ترى - يا أخي القارئ - صدق ما أشرت إليه من خلال هذا النص الذي (بُتر) أوله ليؤدي معنى غير معناه الذي أراده له صاحبه؟! وهل اختط الكوفة والبصرة والقيروان إلا رجال أفذاذ من أقران (عمر ومعاوية وابن العاص) وغيرهم ممن ساسوا البدو والحضر فأحكموا السياسة؟!ثم يتدرج الأستاذ الحصري بعد كلام طويل إلى قوله: (ومما يزيد الأمر وضوحاً وقطيعة أن ابن خلدون يعود إلى هذه القضية (أي أن العرب بمعنى البدو) في بحث العلوم أيضاً، إذ يقول بعد أن يشبه العلوم بالصنائع: (وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر، وأن العرب أبعد الناس عنها، وصارت العلوم لذلك حضرية، وبعد العرب عنها وعن سوقها). . . يلاحظ أن ابن خلدون يذكر هنا كلمة (العرب) مرتين مقابلا لكلمة (الحضر) بشكل لا يترك مجالا للشك في أنه يقصد منها (البدو).والذي أقوله: إن كلام ابن خلدون لا يدع مجالا للشك فيما يقصد. ويوضح لنا كلمات تلي (ما استشهد به الأستاذ الحصري) ما يقصده من الكلمتين (العرب والحضر). وهأنذا أورد قوله ليتضح وجه الصواب: (والحضر لذلك العهد هم العجم أو من هم في معناهم من الموالي الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف).أرأيت كيف كان يقصد بقوله (الحضر) غير العرب، وأن العرب لديه هم العرب سواء سكنوا البادية أم الحاضرة؟!ولما كان المقام لا يتسع لمناقشة جميع الشواهد التي أوردها الأستاذ الحصري من كلام ابن خلدون، لذلك أكتفي بهذا المقدار الذي أوردته منها، ملمحاً إلى أن جميع ما جاء في هذا الصدد لا يعدو ما ذكرته في مكانته من الحقيقة. وحسبك - في كشف الغطاء عنه - أن تواصل قراءة تلك النصوص في المقدمة عينها لينطق لك ذلك الكلام (المبتور) بأن ابن خلدون إنما عني بقوله (العرب)، العرب الذين يعرفهم الناس منذ خلق الله العرب في الناس!وأما الكاتب الفرنسي الذي أشرت إليه في بداية هذه الكلمة وقلت إن الأستاذ الحصري استشهد به، فهو الأستاذ (العرباني) البارون (دوسلان)، وقد ترجم مقدمة ابن خلدون إلى الفرنسية قبل ثمانين عاماً، وقال فيها عن مدلول كلمته العرب عند ابن خلدون عند ابن خلدون ما يلي:وترجمة ذلك: (أن عرب ابن خلدون هم الأعراب. .). كما أن الكاتب التركي الذي أشار إليه الأستاذ الحصري هو المؤرخ (جودت باشا). وقد ترجم كلمة عرب - كما يقول الأستاذ في (دراساته) اعتماداً على ما فهم من كلام ابن خلدون، فأثبتها: (في مواضع كثيرة على شكل (قبائل عرب). .).ومن هنا (أكاد) أجزم بأن الأستاذ الحصري إنما جاءنا بهذا الرأي الجديد نقلاً عن هذين الكاتبين. وإنني لا أجد تعليلاً (لوهمهما) هذا إلا أنهما أبصرا في بعض المواضع اقتران كلمة العرب بالإبل والخيام فحسبما أن عرب ابن خلدون ليسوا سوى أهل البادية من الأعراب. غير أن الحقيقة التي لا تغيب عن باحث هي أن ابن خلدون لم يكن يدقق في التمييز بين أهل البادية وأهل الحاضرة من العرب، فكان يسميهم جميعاً (عرباً) على أنه كان يستعمل كلمة (الأعراب) أو (البدو) حين يريد أن يحصر مدلول كلامه في حدود معينة. وهذه الحقيقة مشاهدة في مقدمته، وظهورها أعم وأبين في دراسات الأستاذ الحصري عن ابن خلدون، وذلك حين يحصى عدد ما أورد ابن خلدون من كلا التعبيرين فيقول أنه ذكر العرب (كذا) مرة، وذكر الأعراب (كذا) مرة. وقد ذكر ذلك وعلقت عليه في خلال ما أسلفت.(البقية في العدد القادم)محمد سليم الرشدانماجستير في الآداب واللغات السامية
    رد مع اقتباس  
     

المواضيع المتشابهه

  1. دور ساطع الحصري في ترسيخ الطائفية في العراق
    بواسطة طارق شفيق حقي في المنتدى فسيفساء المربد
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 22/10/2014, 05:06 PM
ضوابط المشاركة
  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •