العبودية والرق - د راغب السرجاني



العبودية قبل بعثة الرسول
الرسول وعتق العبيديُثير البعض شبهة أن رسول الله يُرَغِّبْ في مِلْكِ اليمين، وقد أقرَّ رسول الله عندما سمح لجنوده باسترقاق مَنْ يُؤْسَرَ في الحرب.


والحقيقة التي لا جدال فيها أنَّ رسول الله يُعْتَبَر المحرِّر الأوَّل للعبيد؛ وقبل الحديث عن جهد الرسول في تحرير العبيد لا بُدَّ أن نعرف مدى ترسخ هذا الأمر في الجزيرة العربية وفي العالم قبل مبعث رسول الله ، لنعلم أنه لم يكن من الممكن أبدًا أن يصدر رسول الله قانونًا مفاجئًا يمنع به شيئًا انتشر لهذه الدرجة ولعدة قرون.


ففي الجزيرة العربية: ما فَتِئَت الحرب تشتعل بين حين وآخر بين القبائل العربية بدافع العصبية والقَبَليَّة، ومما لا شَكّ فيه أنّه كان لهذه الحروب المستمرَّة نتائج وَبِيلَة على الفريق المنهزم؛ وذلك لما يترتّب على الهزيمة من سبي النساء والذريَّة والرجال إن قُدِر عليهم، وقد يتم قتلهم، أو استرقاقهم وبيعهم عبيدًا، ولم يكن هناك ما يُسَمَّى بالمنِّ عليهم أو إطلاق سراحهم دون مقابل، وكانت الحروب تمثل أَحَدَ الروافد الأساسيَّة لتجارة العبيد التي كانت إحدى دعامات الاقتصاد في الجزيرة العربية.


أمَّا الدولة الرومانية فلم يكن العبيد فيها بأفضل حال لدرجة أن الفيلسوف أفلاطون نفسه صاحب فكرة المدينة الفاضلة كان يرى أنه يجب ألا يُعطَى العبيدُ حقَّ المواطنة.


أما الدولة الفارسية فكان المجتمع مقسمًا إلى سبع طبقات أدناهم عامة الشعب، وهم أكثر من 90% من مجموع سكان فارس، ومنهم العمال والفلاحين والجنود والعبيد، وهؤلاء ليس لهم حقوق بالمرة، لدرجة أنهم كانوا يربطون في المعارك بالسلاسل؛ كما فعلوا في موقعة الأُبلَّة[1] أولى المواقع الإسلامية في فارس بقيادة خالد بن الوليد .


خطوات الرسول نحو إلغاء العبودية
هكذا كانت مشكلة العبودية قبل الإسلام، وعندما جاء رسول الله برسالة الإسلام الخاتمة وضع مبدأين مهمَّيْن لإلغاء العبوديَّة والرقِّ، هما: تضييق الروافد التي كانت تمدُّه وتُغَذِّيه وتضمن له البقاء، وتوسيع المنافذ التي تؤدِّي إلى العتق والتحرُّر.


وكانت سيرة رسول الله خير تطبيق لهذين المبدأين؛ حيث بدأ رسول الله حثَّ المجتمع الإسلامي الناشئ على تحرير العبيد واعدًا إيَّاهم بالجزاء العظيم في الآخرة، فعن أبي هريرة عن رسول الله أنه قال: "مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْ أَعْضَائِهِ مِنَ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ"[2].


كما حثَّ رسول الله على عتق العبيد تكفيرًا عن أي ذنب يأتيه الإنسان؛ وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم، فالذنوب لا تنقطع، وكل ابن آدم خطَّاء، فيقول : "أَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا كَانَ فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ امْرَأَتَيْنِ مُسْلِمَتَيْنِ كَانَتَا فَكَاكَهُ مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُمَا عُضْوًا مِنْهُ، وَأَيُّمَا امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتِ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كَانَتْ فَكَاكَهَا مِنَ النَّارِ؛ يُجْزِئُ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهَا"[3]. وكان الرسول القدوة في ذلك؛ حين أعتق مَنْ عنده من العبيد.


وصايا رسول الله بالعبيد
بل وكانت وصاياه الإنسانيَّة بالعبيد مِفتاحًا من مفاتيح تأهيل المجتمع لتقَبُّل تحريرهم وعتقهم، فحضَّ رسول الله أوَّلاً على المعاملة الحسنة لهم، حتى لو كان ذلك في الألفاظ والتعبيرات، فترى الرسول يقول: "لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي. كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلاَمِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي"[4]. بل وأوجب الرسول إطعامهم وإلباسهم من نفس طعام ولباس أهل البيت، وألاَّ يُكَلَّفوا ما لا يطيقون، فيَرْوِي جابرُ بن عبد الله فيقول: كان النبي يوصي بالمملوكين خيرًا، ويقول: "أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِنْ لَبُوسِكُمْ، وَلا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللهِ "[5]. وغير ذلك من الحقوق التي جَعَلَتْ من العبد كائنًا إنسانيًّا له كرامة لا يجوز الاعتداء عليها.


ثم ترتقي وصاياه لتنقل المجتمع إلى مرحلة التحرُّر الواقعي، فجعل عقوبة تعذيبهم وضربهم العتق والتحرُّر، فيُرْوَى أن عبد الله بن عمر كان قد ضرب غلامًا له، فدعاه فرأى بظهره أثرًا، فقال له: أوجعتُك؟ قال: لا. قال: فأنت عتيق. قال: ثمَّ أخذ شيئًا من الأرض، فقال: ما لي فيه من الأجر ما يزن هذا، إنِّي سمعتُ رسول الله يقول: "مَنْ ضَرَبَ غُلاَمًا لَهُ حَدًّا لَمْ يَأْتِهِ، أَوْ لَطَمَهُ؛ فَإِنَّ كَفَّارَتَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ"[6].


وجعل رسول الله أيضًا التلفُّظ بالعتق من العبارات التي لا تحتمل إلاَّ التنفيذ الفوري، فقال : "ثَلاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ: الطَّلاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعِتَاقُ"[7].


كما جعله الشرعُ وسيلة من وسائل التكفير عن الخطايا والآثام، مثل وجوب العتق بسبب القتل الخطأ، وكذلك الحنث في اليمين، والظِّهَار، والإفطار في رمضان عمدًا، وغير ذلك، ثم جاءت سيرته خير تطبيق لهدي الشرع، فعن أبي هريرة أنه قال: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ ، فقال: هلكتُ يا رسول الله. قال: "وَمَا أَهْلَكَكَ؟". قال: وقعتُ على امرأتي في رمضان. قال: "هَلْ تَجِدُ مَا تُعْتِقُ رَقَبَةً؟". قال: لا. قال: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟". قال: لا. قال: "فَهَلْ تَجِدُ مَا تُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا؟". قال: لا. قال: ثمَّ جلس، فَأُتِيَ النَّبِيُّ بِعَرَقٍ[8] فِيهِ تَمْرٌ. فقال: "تَصَدَّقْ بِهَذَا". قَالَ: أَفْقَرَ مِنَّا؟! فَمَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا[9] أَهْلُ بَيْتٍ أَحْوَجُ إِلَيْهِ مِنَّا. فَضَحِكَ النَّبِيُّ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: "اذْهَبْ فَأَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"[10].


بل وأكثر من ذلك؛ حيث جعل عتقهم من مصارف الزكاة؛ لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60]. ولننظر ماذا فعل رسول الله مع سلمان الفارسي؛ لندرك عظمة تطبيقه لهذا المبدأ الإسلامي، فها هو ذا سلمان الفارسي يُعْلِنُ إسلامه أمام النبي ، فيقول له : "اذْهَبْ فَاشْتَرِ نَفْسَكَ". فيقول سلمان الفارسي: فَانْطَلَقْتُ إلى سيِّدي، فقلتُ: بِعْنِي نَفْسِي؟ قال: نعم، على أن تُنْبِتَ لي مائةَ نخلةٍ، فإذا أنْبَتَتْ جئني بوزن نواةٍ من ذَهَبٍ. فَأَتَيْتُ رسول الله ، فأخبرتُه، فقال لي رسول الله : "اشْتَرِ نَفْسَكَ بِالَّذِي سَأَلَكَ، وَائْتِنِي بِدَلْوٍ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ الَّذِي كُنْتَ تَسْقِي مِنْهَا ذَلِكَ النَّخْلَ". قال: فدعا لي رسول الله فيها، ثمَّ سَقَيْتُهَا، فَوَاللهِ لَقَدْ غَرَسْتُ مِائَةَ نَخْلَةٍ، فَمَا غادَرَتْ مِنْهَا نَخْلَةٌ إِلاَّ نَبَتَتْ، فَأَتَيْتُ رسول اللَّه ، فأخبرتُه أنَّ النَّخل قَدْ نَبَتْنَ، فَأَعْطَانِي قِطْعَةً مِنْ ذَهَبٍ، فَانْطَلَقْتُ بِهَا فَوَضَعْتُهَا فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوَضَعَ فِي الْجَانِبِ الآخَرِ نَوَاةً، فَوَاللهِ مَا اسْتَقَلَّتِ قِطْعَةُ الذَّهَب مِنَ الأَرْضِ، قال: وجئت رسول الله فأَعْتَقَنِي[11].


ومكَّن الإسلامُ العبيد من استعادة حُرِّيَّتهم بالمكاتبة، وهي أن يُمْنَح العبدُ حُرِّيَّته مقابل مبلغ من المال يتَّفق عليه مع سيِّده، وأوجب أيضًا إعانته؛ لأن الأصل هو الحرِّيَّة، أمَّا العبوديَّة فطارئة، فكان الرسول القدوة في ذلك؛ حيث أدَّى عن جُوَيْرِيَة بنت الحارث ما كُوتبت عليه وتزوَّجها، فلمَّا سمع المسلمون بزواجه منها أعتقوا ما بأيديهم من السبي، وقالوا: أصهار رسول الله . فأُعتق بسببها مائة أهل بيت من بني المصطلق[12].


ورغَّب رسول الله في عِتق الأَمَةِ وتزوُّجها، فيُروى عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله : "أَيُّمَا رَجُلٍ كَانَتْ عِنْدَهُ وَلِيدَةٌ فَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، وَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَجْرَانِ"[13]. لذلك نجد رسول الله يعتق السيدة صفيَّة بنت حُيَيِّ بن أخطب، ويجعل عتقها صداقها[14].


الاسترقاق في الحرب
العبيد والرقأمَّا الاسترقاق عن طريق الحرب التي يثيرها أعداء الإسلام فقد ضيَّق النبي مدخل الاسترقاق عن طريق الحرب فوضع نظامًا للأسرى لم يُعرف من قبل إلاَّ في الإسلام؛ فاشترط لاعتبار الأسرى أرقَّاء أن يَضْرِب الإمامُ عليهم الرقَّ، وقبل أن يضرب الإمام عليهم الرقَّ يمكن أن تتمَّ نحوهم التصرُّفات التالية: تبادل الأسرى؛ وذلك بِرَدِّ عدد من الأسرى مقابل عدد من أسرى المسلمين، أو قَبُول الفداء؛ وذلك بإطلاقهم نظير مقابل مادِّيٍّ أو أدبي كما فعل في أسرى بدر؛ فأطلق بعضهم مقابل مال، وجعل إطلاق بعضهم نظير تعليمهم لبعض المسلمين القراءة والكتابة.


رغم أن الاسترقاق في الحرب كان عرفًا عامًا في كل الحروب، فكان الأعداء يسترقون المسلمين إذا وقعوا في أسرهم، لقد حدث ذلك مثلاً مع زيد بن الدثنة وكذلك مع خبيب بن عدي [15]، ولو لم يقابل الإسلام أعدائه بمثل ما يفعلوه لاجترءوا عليه، ومع ذلك فالإسلام يقبل أن تتفق كل الأطراف المتصارعة على عدم الاسترقاق، فلا تفعله في نظير ألا يفعلوهم كذلك.


وهكذا كان الإسلام في قضية تحرير العبيد حكيمًا ومتوازنًا في تشريعه، فبقدر ما ضيَّق منافذ الاسترقاق بقدر ما وسَّع منافذ التحرير بأسلوب متدرِّج يناسب الواقع الذي ظهر فيه الإسلام.


د. راغب السرجاني


[1] الأُبُلَّة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة، وقد سار إليها خالد بن الوليد، والتقى بالفرس في موقعة تسمى ذات السلاسل وانتصر المسلمون وكان عددهم 18 ألف مجاهد على ستين ألف فارسي. انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 1/43.


[2] البخاري: كتاب كفارات الأيمان، باب قول الله تعالى: "أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ" (6337)، ومسلم: كتاب العتق، باب فضل العتق (1509).


[3] مسلم: كتاب العتق، باب فضل العتق (1509)، والترمذي عن أبي أمامة (1547) واللفظ له، وابن ماجه (2522).


[4] البخاري عن أبي هريرة: كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق وقوله: عبدي وأَمَتي (2414)، ومسلم: كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظ العبد والأَمَة (2249).


[5] مسلم: كتاب الأيمان، باب إطعام المملوك مما يأكل... (1661)، وأحمد (21521)، والبخاري: الأدب المفرد 1/76 واللفظ له.


[6] مسلم: كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده (1657)، وأحمد (5051).


[7] مسند الحارث (503)، رواه البيهقي عن عمر بن الخطاب موقوفًا 7/341، وذكر ابن الملقن أنه بهذا اللفظ غريب، ابن الملقن: خلاصة البدر المنير 2/220، وقال ابن حجر العسقلاني: باللفظ المذكور... وهو رواية عبد الرحمن بن حبيب بن أردك وهو مختلف فيه، قال النسائي: منكر الحديث، ووثقه غيره، فهو على هذا حسن. انظر: التلخيص الحبير 3/209، 210.


[8] العَرَق: المكتل والجراب والوعاء المنسوج من الخوص. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة عرق 10/240.


[9] لابتيها: أي المدينة، ويعني حرَّتَيْها من جانبيها وهي الأرض التي قد ألبستها حجارةٌ سود. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة لوب 1/745.


[10] البخاري: كتاب كفارات الأيمان، باب من أعان المعسر في الكفارة (2460)، ومسلم: كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان... (1111) واللفظ له.


[11] الحاكم: (6544) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد والمعاني قريبة من الإسناد الأول. والطبراني: المعجم الكبير (6073) واللفظ له، وقال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه عبد الله بن عبد القدوس التميمي ضعفه أحمد والجمهور ووثقه ابن حبان وقال: ربما أغرب، وبقية رجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/316.


[12] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد 11/210، والسهيلي: الروض الأنف 4/18، وابن كثير: السيرة النبوية 3/303.


[13] البخاري: كتاب النكاح، باب اتخاذ السراري... (4795).


[14] البخاري: كتاب المغازي، باب غزوة خيبر (3965)، ومسلم: كتاب النكاح، باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها (1365).


[15] ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة 2/263.






عن قصة الإسلام