ماذا قال ول ديورنت في كتاب قصة الحضارة عن الحضارة

لا بد أن أشير أن مترجم الكتاب استخدم كلمة مدنية يقصد بها أحيانا الحضارة وأحيانا المدنية بحسب السياق

يقول ديورنت

إن الثقافة لترتبط بالزراعة كما ترتبط المدنية بالمدينة، إن المدنية في وجه من وجوهها هي رقة المعاملة ،ورقة المعاملة هي ذلك الضرب من السلوك المهذب الذي هو في رأي أهل المدن- وهم الذينصاغوا حكمة المدنية- من خصائص المدينة وحدها، ذلك لأنه تتجمع فيالمدينة- حقاً أو باطلاً- ما ينتجه الريف من ثراء ومن نوابغ العقول؛ وكذلك يعملالاختراع وتعمل الصناعة على مضاعفة وسائل الراحة والترف والفراغ؛ وفي المدينةيتلاقى التجار حيث يتبادلون السلع والأفكار؛ وهاهنا حيث تتلاقى طرق التجارةفتتلاقح العقول، يُرهف الذكاء وتُستثار فيه قوته على الخَلق والإبداع، وكذلك فيالمدينة يُستغنى عن فئة من الناس فلا يُطلب إليهم صناعة الأشياء المادية، فتراهميتوفرون على إنتاج العلم والفلسفة والأدب والفن؛ نعم إن المدنية تبدأ في كوخالفلاح، لكنها لا تزدهر إلا في المدن




فليس هو الجنس العظيم الذي يصنع المدنية بلالمدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب، لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلقثقافته، والثقافة تخلق النمط الذي يصاغ عليه. ليست المدنية البريطانية وليدة الرجلالإنجليزي ولكنه هو صنيعتها، فإذا ما رأيته يحملها معه أينما ذهب ويرتدي حُلةالعشاء وهو في "تمبكتو"؛ فليس معنى ذلك أنه يخلق مدنيته هناك خلقاًجديداً، بل معناه أنه يبين حتى في الأصقاع النائية مدى سلطانها على نفسه. فلوتهيأت لجنس بشري آخر نفس الظروف المادية، ألفيت النتائج نفسها تتولد عنها، وهاهيذي اليابان في القرن العشرين تعيد تاريخ إنجلترا في القرن التاسع عشر، وإذنفالمدنية لا ترتبط بالجنس إلا بمعنى واحد، وهو أنها تجيء عادة بعد مرحلة يتم فيهاالتزاوج البطيء بين شتى العناصر، ذلك التزاوج الذي ينتهي تدريجياً إلى تكوين شعبمتجانس نسبيا


وما هذه العوامل المادية والبيولوجية إلا شروطلازمة لنشأة المدنية، لكن تلك العوامل نفسها لا تكوّن مدنية ولا تنشئها من عدم، إذلا بد أن يضاف إليها العوامل النفسية الدقيقة، فلا بد أن يسود الناس نظام سياسيمهما يبلغ ذلك النظام من الضعف حداً يدنو به من الفوضى، كما كانت الحال في فلورنسةوروما أيام النهضة. ثم لا بد للناس أن يشعروا شيئاً فشيئاً أنه لا حاجة بهم إلىتوقع الموت أو الضريبة عند كل منعطف في طريق حياتهم، ولا مندوحة كذلك


عن وحدة لغوية إلى حد ما لتكون بين الناس وسيلةلتبادل الأفكار. ثم لا مندوحة أيضاً عن قانون خلقي يربط بينهم عن طريق الكنيسة أوالأسرة أو المدرسة أو غيرها، حتى تكون هناك في لعبة الحياة قاعدة يرعاها اللاعبونويعترف بها حتى الخارجون عليها، وبهذا يطرد سلوك الناس بعض الشيء وينتظم، ويتخذ لههدفاً وحافزاً. وربما كان من الضروري كذلك أن يكون بين الناس بعض الاتفاق فيالعقائد الرئيسية وبعض الإيمان بما هو كائن وراء الطبيعة أو بما هو بمثابة المثلالأعلى المنشود، لأن ذلك يرفع الأخلاق من مرحلة توازن فيها بين نفع العمل وضررهإلى مرحلة الإخلاص للعمل ذاته، وهو كذلك يجعل حياتنا أشرف وأخصب على الرغم من قصرأمدها قبل أن يخطفها الموت. وأخيراً لابد من تربية- وأعني بها وسيلة تُتخذ- مهماتكن بدائية- لكي تنتقل الثقافة على مر الأجيال، فلابد أن نورث الناشئة تراثالقبيلة وروحها، فنورثهم نفعها ومعارفها وأخلاقها وتقاليدها وعلومها وفنونها، سواءكان ذلك التوريث عن طريق التقليد أو التعليم أو التلقين، وسواء في ذلك أن يكونالمربي هو الأب أو الأم أو المعلم أو القسيس، لأن هذا التراث إن هو إلا الأداةالأساسية التي تحول هؤلاء النشء من مرحلة الحيوان إلى طور الإنسان.



إذ المدنية ليست شيئاً مجبولاً في فطرةالإنسان، كلا ولا هي شيء يستعصي على الفناء؛ إنما هي شيء لا بد أن يكتسبه كل جيلمن الأجيال اكتساباً جديداً، فإذا ما حدث اضطراب خطير في عواملها الاقتصادية أو فيطرائق انتقالها من جيل إلى جيل فقد يكون عاملاً على فنائها. إن الإنسان ليختلف عنالحيوان في شيء واحد، وهو التربية، ونقصد بها الوسيلة التي تنتقل بها المدنية منجيل إلى جيل





"الهمجي" هو أيضاً متمدن بمعنى هاممن معاني المدنية، لأنه يُعنى بنقل تراث القبيلة إلى أبنائه- وما تراث القبيلة إلامجموعة الأنظمة والعادات الاقتصادية والسياسية والعقلية والخلقية، التي هذبتهاأثناء جهادها في سبيل الاحتفاظ بحياتها على هذه الأرض والاستمتاع بتلك الحياة، ومنالمستحيل في هذا الصدد أن نلتزم حدود العلم، لأننا حين نطلق على غيرنا من الناساسم "الهمج" أو "المتوحشين" فقد لا نعبر بمثل هذه الألفاظ عنحقيقة موضوعية قائمة، بل نعبر بها عن حبنا العارم لأنفسنا لا أكثر؛ وعن انقباضنفوسنا وانكماشها إذا ما ألقينا أنفسنا إزاء ضروب من السلوك تختلف عما ألفناه؛ فلاشك أننا نبخس من قيمة هاتيك الشعوب الساذجة التي تستطيع أن تعلمنا كثيراً جداً منالجود وحسن الخلق؛ فلو أننا أحصينا أسس المدنية ومقوماتها لوجدنا أن الأممالعُريانة قد أنشأتها أو أدركتها جميعاً إلا شيئاً واحداً، ولم تترك لنا شيئاًنضيفه سوى تهذيب تلك الأسس والمقومات لو استثنينا فن الكتابة، ومن يدري فلعلهمكذلك كانوا يوماً متحضرين ثم نفضوا عن أنفسهم تلك الحضارة لما لمسوه فيها من شقاءالنفس