حين نقرأ هذه القصة التي وردت في كتاب زبدة حلب نعرف حجم الإخلاص الذي كان عليه قادة هذه الأمة ، ونعرف لماذا علت الأمة



لما بلغ عمر بن الخطاب ما فعل خالدٌ في فتح قنّسرين وحلب، قال: أمّر خالدٌ نفسه! يرحم الله أبا بكر هو كان أمير المسلمين من جهة أبي بكر على الشام. فلما ولي عمر عزله، وولى أبا عبيدة. ثم ولاّه عمر على قنّسرين، فأدرب خالدٌ وعياض بن غنمٍ أول مدربة كانت في الإسلام، سنة 16 هـ. ورجع خالدٌ فأتته الإمارة من عمر على قنّسرين، فأقام خالدٌ أميراً من تحت يد أبي عبيدة عليها، إلى أن أغزى هرقل أهل مصر في البحر وخرج على أبي عبيدة بحمص بعد رجوعه من فتح حلب، فاستمدّ أبو عبيدة خالداً فأمدّه ممّن معه، ولم يخلف أحداً. فكفر أهل قنّسرين بعده، وبايعوا هرقل، وكان أكفر من هناك تنوخ. واشتور المسلمون فأجمعوا على الخندقة والكتاب إلى عمر بذلك. وأشار خالدٌ بالمناجزة فخالفوه وخندقوا، وكتبوا إلى عمر واستصرخوه. وجاء الروم بمددهم، فنزلوا على المسلمين وحصروهم. وبلغت أمداد الجزيرة ثلاثين ألفاً سوى أمداد قنسرين من تنوخ وغيرهم. فنالوا من المسلمين كلّ منال. وكتب عمر إلى سعد ابن أبي وقاص يخبره بذلك، ويأمره أن يبثّ المسلمين في الجزيرة ليشغلهم عن أهل حمص وأمدّه عمر بالقعقاع بن عمرو فتوغّلوا في الجزيرة، فبلغ الروم فتقوّضوا عن حمص إلى مدائنهم.


وندم أهل قنّسرين، وراسلوا خالداً، فأرسل إليهم: لو أنّ الأمر إليّ ما باليت بكم، كثرتم أم قللتم، لكنّي في سلطان غيري. قال: فإن كنتم صادقين فانفشوا كما نفش أهل الجزيرة. فساموا سائر تنوخ ذلك فأجابوا، وأرسلوا إلى خالد: إن ذلك إليك، إن شئت فعلنا وإن شئت أن تخرج علينا فننهزم بالروم. فقال: بل أقيموا، فإذا خرجنا فانهزموا بهم. فلما علم أبو عبيدة والمسلمون بذلك. قالوا: اخرج بنا وخالد ساكت. فقال أبو عبيدة: مالك يا خالد لا تتكلم؟ فقال: قد عرفت الذي عليه رأيي، فلم تسمع من كلامي. قال: فتكلّم. فإني أسمع منك وأطيع، فأشار بلقائهم. فخرج المسلمون والتقوهم، فانهزم أهل قنسرين والروم معهم، فاحتوى المسلمون على الروم، فلم يفلت منهم أحدٌ. وما زال خالدٌ على إمارة قنسرين حتى أدرب خالدٌ وعياضٌ سنة 17.
وبعد رجوعهما من الجابية رجع عمر إلى المدينة. فأصابا أموالاً عظيمةً، وقفل خالدٌ سالماً غانماً، وبلغ الناس ما أصابوا في تلك الصائفة، وقسم خالدٌ فيها ما أصاب لنفسه، فانتجعه رجال من أهل الآفاق وكان الأشعث ابن قيس ممّن انتجع خالداً بقنسرين، فأجازه بعشرة آلاف درهمٍ.
وكان عمر لا يخفى عليه شيءٌ في عمله، فكتب إليه من العراق بخروج من خرج منها، ومن الشام بجائزة من أجيز فيها، فدعا البريد. وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيل خالداً ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته، حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث؛ أمن ماله؟ أم مما أصابه، فإن زعم أنّها ممّا أصابه فقد أقرّ بخيانةٍ، وإن زعم أنّها من ماله فقد أسرف واعزله على كلّ حال. وضمّ إليك عمله.
فكتب أبو عيبدة إلى خالدٍ فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فقال: يا خالد أمن مالك أجزت بعشرة آلافٍ، أم مما أصبته؟ فلم يتكلم حتى أكثر عليه وأبو عبيدة ساكتٌ لا يقول شيئاً، فقام بلالٌ إليه، فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا. ثم تناول عمامته، فنقضها، لا يمنعه سمعاً وطاعةً. ووضع قلنسوته، ثمّ أقامه فعقله بعمامته، ثم قال: ما تقول؟ أمن مالك؟ أم ممّا أصبته؟ قال: لا، بل من مالي. فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عمّمه بيده. ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخّم ونكرم موالينا. وأقام خالدٌ متحيراً، لا يدري أمعزولٌ أم غير معزولٍ. وجعل أبو عبيدة يكرمه ويدّه مفخماً ويخيّره، حتى إذا طال على عمر أن يقدم ظنّ الذي قد كان. فكتب إليه بالوصول.
فأتى خالد أبا عبيدة فقال: رحمك اله ما أردت بالذي صنعت كتمتني أمراً كنت أحبّ أن أعلمه قبل اليوم. فقال أبو عبيدة: إني والله ما كنت لأروعك، ما وجدت من ذلك بدّاً، وقد علمت أنّ ذلك عملٌ. وودّعهم، وقال خالدٌ: إنّ عمر ولاّني الشام حتى إذا ألقى بوانيه صار بثنيّةً وعسلا عزلني واستعمل غيري.
وتحمّل وأقبل إلى حمص، فخطبهم وودعهم. وسار إلى المدينة حتى قدم على عمر فشكاه. وقال: لقد شكوتك للمسلمين، وبالله إنّك في أمري غير مجمل يا عمر. فقال عمر: من أين هذا الثّراء؟. فقال: من الأنفال والسّهمان. فقال: ما زاد على الستّين ألفاً فلك ثم شاطره على ما في يده، وقوّم عروضه، فخرجت عليه عشرون ألفاً فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد والله إنك لعليّ الكريم، وإنك إليّ الحبيب، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيءٍ. ثم إنّه عوّضه بعد ذلك عمّا أخذه منه.